الذكر والاسوة ....وايات القتال الجزء الاول

حسام علم الدين في الجمعة ١٢ - يوليو - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

الذكر

 معنى الذكر في القران بشكل عام  يعنى التذكر او استحضار امرا معلوما في الماضى وهو بهذا المعنى إستٌخدِم في القران بمعنى الرسالة كاملة رسالة الله الى البشر التى يذكر بها عباده على مر الازمان فالقران ذكر - والتوراة ذكر-  والانجيل ذكر  ........ذكر واحد ورسالة واحدة وان اختلفت لغاتها وشرائعها ومنهاجها (وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي اليهم فاسالوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون* بالبينات والزبر وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون) واهل الذكر هنا هم اهل الرسالات  والذكر الذي انزل على محمد عليه السلام  هنا هو رسالة الله في القران

 واستخدمت كلمة الذكر في القران ايضا بمعانى اضيق وان كانت تدور حول المعنى العام فباتت تطلق عن الكل ( الرسالة ) وعن الجزء مثل ( التذكير بقدرة الله سبحانه وتعالى   – خبر الاقوام السابقة – نوع من العبادة ذكر الله -  العبرة والعظة وتلفظ (ذكري )  .... الى آخره )    وللتوضيح  سنعرض للمعنيان الاول والثانى

 اولا : استخدام الذكر  بمعنى التذكير بقدرة الله  

استخدم معنى الذكر في القران بمعنى التذكير بقدرة الله سبحانه وتعالى فبدا كأنه  استحضار حقيقة  الله وقدرته  خالق الناس والسماوات والارض وكافة اشكال الحياة القادر والقوي  وهى الحقيقة التى تكمن داخل نفوس البشر منذ خلقهم و(الذكر ) هنا  ما هو الا استحضا ر لهذه الحقيقة مثل  قوله تعالى ( قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُون) ( .لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ)

فالقران يفترض ان حقيقة الله معروفة للبشر جميعا من قبل خلقهم فقال تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) وحين يتغافل الناس او المجتمعات في زمن ما عن هذه الحقيقة  سواء بتغطيتها بمعنى الكفر او بتحريفها بمعنى الاشراك يستلزم ذلك تذكير الناس بالحقيقة بحقيقة الله سبحانه وتعالى المعلوم سلفا لبنى ادم وذلك بذكر  صفاته وقدرته وتأثيره في الحياة التى يعيشونها

 ثانيا : استخدام الذكر بمعنى خبر الانبياء والقوم السابقين

استخدمت كلمة  الذكر في القران بمعنى  خبر  الاقوام السابقة واخبارهم فوردت بلفظ ذكر (ويسالونك عن ذي القرنين قل ساتلو عليكم منه ذكرا) (ذكر رحمة ربك عبده زكريا)  او بلفظ اذكر ( واذكر في الكتاب مريم ) ( واذكر في الكتاب موسي ) واذكر في الكتاب ابراهيم ) وغيرها

وخبر الاقوام السابقين والانبياء لم يكن الغرض منه سرد تاريخهم  ولكن عرض قصصهم فيما يتعلق بالحقيقة السابقة من وحدانية الله وحقيقة خلقه للكون او بمعنى اخر هو كيف تعامل البشر في حقبة زمنية ما مع الحقيقة الالهية  التى ذٌكروا بها وكيف تفاعلوا معها  فهو بمثابة تاريخ التوحيد لو جاز لنا التعبير ولكن بمفهوم عام ومجرد  بل هذا الذكر يؤكد ان قضية توحيد الاله في كل الازمان كانت واحدة في منطق الايمان ومنطق الكفر فالمؤمنين آمنوا بالله وحده لا شريك له بفطرتهم السليمة بينما الكفار كذبوا بدعاوي كثيرة كلها تتشابه مع بعضها عبر الازمان ومنها ان الله لم يرسل بشر كرسل ان هؤلاء الرسل ما هم الا كذابين او مجانين و انهم لم يألفوا ذلك في ابائهم الاولين ان ما يقوله الانبياء من بعث وحساب ما هو الا اساطير الاولين ولماذا لا يتواصل الله معنا مباشرة او يعطينا علامة على وجوده  وان الحياة الدنيا هى الحياة التى نراها ولا غير  وغيرها من المبررات (المؤمنون25و  37 و 38 ) ( الملك 9 )( الفرقان 7و8و9 )   ويقول الله عن الكفر ان هذا منطقهم وان حججهم متشابهه على مر العصور  فيقول (  وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) البقرة

وهذا النوع من الذكر قد انزله الله في القران لسببين

السبب الاول هو تثبيت الرسول في دعوته الى الله تعالى

والسبب الثانى هو ذكري وموعظة للمؤمنين

(  كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ سورة هود )

فذكر خبر الاقوا م السابقة كان الغرض منه تثبيت النبي محمد عليه السلام ليعلم ما قاسي الانبياء في دعوتهم وما تحقق لهم من نصر فيعينه ذلك على الصبر في المواجهة  هو وكل من يدعو الى الله بعد ذلك كما ان سرد خبر الاقدمين فيه من  العبرة والعظة للمؤمنين كثيرا  مثل ان يتضح لهم  اتفاق الناس على مر العصور في الاختبار ما بين الايمان والكفر

كذلك ليفهم المؤمنين ان  الاختلافات بين الاقوام السابقة لم تكن في الاختبار بين الكفر والايمان  وانما كانت في الاسباب التى قادت كل منهم  الى الكفر او بمعنى اخر آفة كل مجتمع التى جعلته مجتمعا بعيدا عن الله مما استلزم ارسال الذكر ( بمعنى الرسالة )  لهذا المجتمع  على يد رسول لتذكيرهم بالحقيقة التى يعرفها البشر جميعا وهى حقيقة الله  فقد  تنوعت آفة كل مجتمع

- فمنهم من قادته القوة والاستكبار  الى الكفر ( عاد ) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ

- ومنهم من قاده الظلم الى الكفر ( قوم فرعون ) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

- ومنهم من قاده الانحلال الى الكفر  ( قوم لوط ) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ

- ومنهم من قاده الفساد الى الكفر  ( مدين ) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ - ومنهم من قاده الاعتداء الى الكفر وغيرها وهنا يتبين ان حقيقة الله هى نقيض تلك الآفات التي قادت اصحابها الى الكفر بالله مما استلزم تذكيرهم بحقيقة الله المتمثلة في نقيض آفاتهم من عدل وعفة وطهارة وسلام ..... الخ

 

وهذا الذكر الذي يعنى خبر الاقوام السابقة ينقسم الى قسمين

القسم الاول هو خبر الاقوام قبل بعثة النبي محمد عليه السلام وهو كما ذكرنا هدفه تثبيت الرسول وموعظة  وذكري للمؤمنين وفى هذا الامر نحن غير مأمورين بأخذ احكامنا او افعالنا من هذه القصص وذلك لاختلاف طبيعة الحياة آنذاك عن ما بعد بعثة النبي محمد عليه السلام  بل ان الغرض منها فقط كما قال الله تعالى هو الذكري والعظة فلا يمكننا مثلا ان نتخذ من موقف سليمان من ملكة سبأ مبدأ نسير على خطاه او حرب طالوت ضد جالوت لاننا لا نعلم تفاصيل الاحداث والاسباب لنستطيع ان نتأسي بها ولذلك قال الله لنا صراحة في اكثر من موضع وهو يخبرنا عن الذكر بمعنى  انباء الرسل والاقوام السابقة (  تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسالون عما كانوا يعملون) .

الاسوة

اما خبر قوم النبي محمد المعاصرين له فكان تفاعل هؤلاء القوم مع ما جاء به الرسول من القران  وما صار معه من قول وفعل وعمل فقال تعالى (لقد انزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم افلا تعقلون) اي خبركم لذلك  فإن احداث الرسول وقومه  ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز لاجل أن نتأسي بالرسول فيها فردود فعل الرسول وما قاله وما فعله من صواب وما نهاه الله من  افعال وردت  بالقران يجب علينا ان نتأسي به فيها  فيقول الله تعالى (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )ومفهوم التأسي معناه ان تتمسك بالمبدأ الذي تمسك به النبي بغض النظر عن تغير الوقائع في الزمان والمكان فالاسوة ليس معناها التقليد الحرفى ولكن معناها فهم العلة من الفعل والتمسك بتلك العلة

وقد وضح القران مفهوم التأسي في خطابه للمؤمنين من قوم محمد عليه السلام الذين عاصروه -  استثناء - ان يفعلوا مثل ما فعل ابراهيم عليه السلام وقومه حين واجهوا قومهم الكفار المعتدين وتبرؤا منهم وبغضوهم في الله نتيجة لعداءهم لله واعتداءهم علي المؤمنين وذلك في قوله تعالى(  قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)

ولان القران لم يعرض تفاصيل علاقة  المؤمنين بكفار قوم ابراهيم فالناظر للاية يعتقد ان الخلاف العقائدي هو سبب العداوة  ولان التأسي بقصة ابراهيم عليه السلام وقومه جاءت استثناء من القاعدة فقد شرح الله في الايات اللاحقة  ماذا يفعل المؤمنين بالتحديد فقال تعالى  (قَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ) عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ () لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ َولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ِانَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

وجاءت الآيات توضح ان سبب البغض والعداوة  للآخر المخالف لك في العقيدة  هو الاعتداء والاخراج من الديار والقتال  ليس ذلك وحسب ولكن ان توقف الاعتداء وزالت اسبابه جاز البر والتعايش رغم اختلاف العقيدة  بل هو الاساس  ولان قوم ابراهيم لم يتغيروا وكانوا معتدين حتى النهاية فجاءت عبارات الاية عند الحديث عن قوم ابراهيم  معبرة عن النتيجة النهائية وهى  الكفر لان اعتدائهم كان سبب كفرهم  بينما جاءت عبارات كيفية التأسي بقوم ابراهيم  مفصلة وواضحة ان الاختلاف العقيدي ليس مبررا للقتال ولكن القتال والاخراج القسري هو المبرر للدفاع والعداوة من المؤمنين وان توقف هذا الاعتداء والقتال يعيد العلاقة الطبيعية حتى في وجود الاختلاف العقيدي  بينما الكفر العقيدي هو امر موكول الى الله سبحانه وتعالى فقط دون غيره يعاقب عليه عباده لانهم كفروا به هو  ويحكم عليهم هو دون غيره من البشر  .

ولذلك نجد ان ذكر  قوم محمد عليه السلام كان دائما مقرون بظلم واعتداء قريش او اهل الكتاب على المؤمنين الامنين لذلك فإن قراءة آيات ذكر قوم محمد عليه السلام  يجب ان تقرأ كاملة حتى يمكن تدبرها بعيدا عن اجتزاء المعنى كما فعل التراثيون لتبرير ثقافة عصرهم من الاعتداء والسلب والنهب .

 

 

 

اجمالي القراءات 3870