النشر فى مجلة روز اليوسف المصرية . من ف 1 من كتاب : (جهادنا ضد الوهابية )

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٦ - يناير - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

النشر فى مجلة روز اليوسف المصرية .  من ف 1 من كتاب : (جهادنا ضد الوهابية )

 مقدمة :

1 ـ  النشر فى الأهالى أتاح الى التعرف بالكاتب والمؤرخ الناصرى الاستاذ عبد الله إمام ، توفى عام  2003 عن 77 عاما .  وهو اصلا من محافظة الشرقية التى أنتمى اليها . تشاركنا فى بغض الوهابية وشيوخها فى مصر ، وقال إنه يحلو له أن يفتح التليفزيون على برنامج الشيخ الشعراوى ، ثم يقفل الصوت ، ويستمتع برؤية حركات الشعراوى البهلوانية  وهو بلا صوت . وحين صدرت جريدة العربى الناصرى أتاح لى النشر فيها مرات عديدة .

2 ـ النشر فى الأهالى ايضا أتاح لى النشر فى روز اليوسف فى وقت رواجها . جاء النشر فى روز اليوسف أيضا عن طريق الاستاذة إقبال بركة ، الكاتبة والأديبة ، والصحفية فى صباح الخير وروز اليوسف والناشطة فى مجال حقوق المرأة . وقد نشرت عنى تحقيقا صحفيا فى (صباح الخير ) ورأست مجلة (حواء ) ونشرت لى فيها سلسلة ( حواء بين سطور التاريخ ) قمت فيها بإعادة التأريخ للمسلمين من خلال دور المرأة ( المنسى ) فى قصور الخلفاء . وبعد توقف هذه السلسلة فى مجلة ( حواء ) إستأنفت إصدارها فى مجلة ( سطور)، وهى مجلة شهرية ثقافية رفيعة المستوى كانت تصدرها الدكتورة فاطمة نصر . ومنها الى مجلة ( الانسان والتطور ) التى يصدرها د يحيى الرخاوى ، والذى نشر لى عدة أبحاث ، قمت بإعادة نشرها فى موقعنا . كما سبق نشر بعض ما سبق نشره فى مجلتى سطور و ( حواء ) .

3 ـ فى فترة ازدهار نسبى للصحافة المصرية كانت مجلة روز اليوسف رائدة فى التنوير و مطاردة الفساد .قادها وقتئذ الكاتب النابه عادل حمودة و معه فريق من الشباب اليبرالى فى مقدمتهم ابراهيم عيسى. أوسعت لى روز اليوسف نافذة لنشر مقالاتى ، فكنت أنشر فيها كل بضعة أشهر مقالا على قدر احتمال المجلة الليبرالية لآرائى وأفكارى. وفى شهر رمضان فى احدى سنوات التسعينيات نشرت لى أربع مقالات متتابعة فيما أذكر. وأكتسبت روزاليوسف الكثير من الاحترام ، وكان ما تكتبه يصبح قضية الأسبوع أو الشهر أو العام. ، ولكن ما لبثت أن فقدت كل هذا الاحترام حين تم عزل رئيس تحريرها الاستاذ محمدالتهامى وابعاد عادل حمودة وابراهيم عيسى، وجىء بصحفى حكومى ليتولى رئاستها فانحط بروزاليوسف وبتاريخها وسمعتها الى الحضيض.
واكب النشر فى روز اليوسف حين كان نائب رئيس تحريرها الاستاذ عادل حمودة ، ومعه كوكبة من شباب الصحفيين منهم ابراهيم عيسى ووائل الابراشى وعبد الله كمال . انتهى رواج روز اليوسف بخروج عادل حمودة وابراهيم عيسى والابراشى ، وتحولها الى صحيفة حكومية برئاسة تحرير محمد عبد المنعم ، ومساعده عبد الله كمال .

4 ـ كنت أزور روز اليوسف نادرا ، والأغلب أن مقالاتى المكتوبة بخط اليد كان يحملها ابنى الشريف منصور الى مكتب الاستاذ عادل حمودة . وبسبب أننى لا أحتفظ بنسخة مما أكتب فقد كتبت لهم بحثا عن نقد اسطورة المعراج ـ أتعبنى تعقب رواياته فى كتب السُنّة والحديث ـ ورأى الاستاذ عادل حمودة أن وقت نشره قد مضى فلم ينشره . وضاع هذا البحث ، وليس لدى الان وقت لاعادة كتابته . وأحيانا كان يطلب منى الاستاذ عادل حمودة أن اكتب فى موضوع معين ، فألبّى الطلب . وبهذا الطريق نشرت لى روز اليوسف بحثا عن أن النبى محمدا عليه السلام هو الذى كتب القرآن بيده ، وأثار هذا المقال صخبا وردّ عليه أحد الشيوخ فرددت عليه . وهناك مقالات كتبتها لهم أخرى مثل ( نكاح الشياطين لنساء المسلمين ) . وكتبت لروز اليوسف موضوعات ( جذّابة ) ساعدت فى زيادة توزيعها ـ حسبما أعتقد ـ عن خرافات الصوفية وانحلالهم الخلقى و حفلات الجنس الجماعى فى التراث وفقه الجنس ، بالاضافة الى مقالات غاية فى الجدية ،

5 ـ كنت ـ ولا أزال ـ معجبا بالاسلوب الأدبى لعادل حمودة وابراهيم عيسى ، وسعدت بالتعرف بهما . وعندما أصدر ابراهيم عيسى صحيفة الدستور دعانى لأن أكتب فيها أربعة مقالات عن الخلفاء الراشدين الأربعة لتغطى أسابيع شهر رمضان . سلمته مقالا عن ابى بكر ونشره ، وساءنى أنه نشر مقالا هزيلا فى نفس الصفحة لبعض الصحفيين عن أبى بكر. ومع ذلك سلمته مقالا تاليا عن ( المسكوت عنه من تاريخ عمر فى الفكر السُّنى ) وأعددت المقال الثالث عن ( عثمان : رجل قتله عصره ). رفض ابراهيم عيسى نشر كل المقال الخاص بعمر ، والسبب واضح . وعندما نشرته فى موقعنا بعدها بأكثر من عشر سنوات إنهالت علىّ الشتائم ولا تزال . وإحتفالا بإصدار العدد 100 من الدستور ، أقام ابراهيم عيسى محاكمة لأشهر خمسة شخصيات من مجالات مختلفة ، وهذا فى جلسة علنية كان القاضى فيها السفير حسين أحمد أمين ، ويأتى شخص يدافع عن الشخصية وآخر يهاجمه . هذه الشخصيات  هى : عادل إمام فى التمثيل وكمال الشاذلى فى الحياة الحزبية ومحمد حسنين هيكل فى الكتابة الصحفية ، ونجيب محفوظ فى الأدب ، وكان متولى الشعراوى فى الكتابة الدينية ، وكنت أنا الذى أتولى الاتهام ، وتولى الشيخ منصور الرفاعى عبيد وكيل الأزهر الدفاع ، وكانت جلسة الشعراوى هى الأسخن . ونشرت الدستور وقائع المحاكمة وهجومى على الشعراوى فيها . وكان أن قدم ابنه بلاغا ضدى مصمما على سجنى ، وكان يتولى ـ بلا إستحقاق ـ مجمع البحوث الاسلامية . وتوسطت أمن الدولة فحققت معى تحقيقا شكليا لتهدى الشعراوى وابنه . ومنشور هنا مقال عن هذا .

6 ـ النشر فى روز اليوسف حقق لى رواجا لم تيسره جريدة أخرى . ووعدنى عادل حمودة بأن يتيح لى النشر فى مشروع جريدته ـ يومئذ ـ الفجر . ولم يحقق وعده . وكان قد أخبرنى أنه يتعرض لهجوم القراء بسبب سماحه بالنشر لى فى روز اليوسف . وهو صادق فعلا ، بدليل انه ـ وبكل جُرأة ـ نشر لى مقالا أتعرض فيه لشيخ الأزهر ـ محمد سيد طنطاوى ـ حين هاجم الشيخ الشيعى المسجون وقتها ـ حسن شحاته . وقد لقى حسن شحاته وثلاثة من أصدقائه القتل سحلا فى رئاسة مرسى .

8 ـ أنشر هنا نماذج لمقالات نشرتها لى روز اليوسف ، ونموذجا آخر لمقال لم تنشره لى روز اليوسف .

ونبدأ بالمعركة الصحفية فى روز اليوسف حول : أن النبى محمدا عليه السلام كان يقرأ ويكتب وهو الذى كتب القرآن بيده .   

لمحة عنها :
1 ـ المستشرق الفرنسى جاك بيرك كان مشهورا بصداقته لشيوخ الأزهر. هذا المستشرق ترجم القرآن للفرنسية ، ثم كتب بحثا بالفرنسية بعنوان ( اعادة قراءة القرآن ) طالب فيه باعادة كتابة المصحف وفق ترتيب النزول . وردد نفس الهراء القائل بأن القرآن كان يكتبه الصحابة على الرقاع والجلود ، وذلك بحضرة النبى محمد الذى كان لا يقرأ ولا يكتب . لم يستطع أحد من أصدقاء جاك بيرك فى الأزهر أن يفند دعواه فى اعادة كتابة القرآن وتغيير مواضيع آياته. قام الدكتور وائل غالى شكرى بترجمة هذا الكتاب الى العربية ، وطلب منى الناشر أن أكتب مقدمة للكتاب أرد فيها على المؤلف المستشرق جاك بيرك . كتبت ـ متطوعا ـ مقدمة الكتاب ، محللا ومنتقدا منهج جاك بيرك فى دعواه ، ورددت عليها . وفى أساس الرد أثبت خطأ الزعم الذى قاله علماء التراث بأن النبى محمدا عليه السلام لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ، وأن هناك من كتب الوحى .لأنه بناء على هذا الزعم الباطل بنى جاك بيرك دعواه ، بل على أساس هذا الزعم الباطل يتأسس الطعن فى القرآن ، وهذا الطعن فى القرآن بدأه علماء التراث أنفسهم فيما يعرف " بعلوم القرآن " وفقا لما كتبه الباقلانى والسيوطى وغيرهما. ولو قرأ مسلم بعض صفحات مما يعرف بعلوم القرآن وصدق الروايات والأساطير التى فيها خرج مكذبا للقرآن شاكّا فى كل آياته وسوره.

2 ـ باختصار فان اكذوبة أن محمدا عليه السلام لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب وأن هناك كتبة للوحى  ـ هذه الاسطورة الكاذبة هى أساس الطعن فى القرآن. ثم جاء جاك بيرك وقال اذا كان القرآن مكتوبا بهذا الترتيب غير المنطقى بيد كتبة الوحى فلماذا لا نعيد كتابته بترتيب موضوعى أو حسب السنين.

3 ـ  رددت عليه وتم نشر الكتاب عن طريق دار النديم للنشر فى أواسط التسعينيات. فى حينه كتب الكاتب الصحفى حسين جبيل فى الأهرام المسائى مشيدا بالفكرة الجديدة التى أتيت بها ، وقوة الاستشهادات التى تؤيد أن النبى محمدا عليه السلام كان يكتب ويقرأ وأنه هو الذى كتب القرآن بنفسه. ومع ذلك فلم يسمع أحد بالموضوع ، ومرّ الحدث بدون جدل أو تعليق، الى أن أعادت روز اليوسف القصة فثار الجدل ، واحتدم النقاش ، وأصبحت معركة فكرية امتدت من روز اليوسف الى صحف المتطرفين والاخوان ، حيث كتب المتطرفون ومنهم الشيخ سيدعسكر أمين مجمع البحوث وقتها يحكم بتكفيرى بسبب هذه القضية. لم أرد عليهم الى أن طلبت منى روز اليوسف الرد فرددت.
 طلبت منى روز اليوسف كتابة تعليق على من يقول باعادة كتابة المصحف لتنطبق كتابة القرآن مع الكتابة العربية العادية، فوجدتها فرصة لتنشر لى روز اليوسف ـ بنفوذها الواسع وتوزيعها الضخم ـ ما سبق وأن كتبته من قبل فى مقدمة كتاب " اعادة قراءة القرآن " والذى لم يلتفت له أحد . بادرت بارسال ملخص المقدمة المشار اليها فى مقال صغير وفق ما تسمح به مساحة النشر فشر فى روز اليوسف.
4 ـ وصدرالمقال فى روز اليوسف بتاريخ 21/10/96-عدد(3567) صفحات : 74/75/76
ونشرت روز اليوسف ما يلى مقدمة لمقالى قالت فيها:(  فى عام 1971 نشرت مجلة الهلال دراسة للدكتور احمد حسين الصاوى طالب فيها بصراحة بضرورة تغيير رسم المصحف وقال وقتها : إن هذه مشكلة ملحة جدا ، إذ لا يقبل عاقل أن(ترسم ) بعض كلمات المصحف بخلاف ما تعلمه قراء العربية من هجاء وإملاء ، وحين قرأنا المقال مرة اخرى طلبنا من الدكتور احمد صبحى منصور وهو عالم درس فى الأزهر، وكان يدرس فى جامعته ، أن يوافينا برأيه . حين طلبنا منه أن يكتب مقالا حول هذا فاجأنا بقنبلة من نوع مختلف حول ما نؤمن به جميعا ، وهو ان نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كان يقرأ و يكتب وهو كاتب القرآن. ومعه أدلة ، ونحن ننشر ونطرح الأمر للجدل)
5 ـ أعيد هنا الآن نشر المقال كما هو، ثم أذكر ما حدث بعد نشره:

( هل كان النبى عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب.. ؟)

أولا :

1 ـ  إذا اراد شخص أن يطعن فى القرآن فعليه بكتب التراث . خصوصا ما يعرف منها بعلوم القرآن . فإذا قرأ بضع صفحات وصدّق ما قرأ خرج متشككا فى آيات القرآن وسوره وكتابته وكل شئ. وقد وفرت تلك الروايات التراثية الفرصة العظمى للمستشرقين فى كل إتهاماتهم للقرآن ، وآخرهم المستشرق الفرنسى جاك بيرك . فى كتابه :(إعادة قراءة القرآن  ) .
اما إذا اردت ان تعرف الحق من القرآن عن القرآن فلتقرأ معنا بعين نقديه ما يلى:المشهور فى كتب التراث ان النبى محمدا (ص ) كان لا يقرأ و لا يكتب وانه استعان بمن يكتب له الوحى ،وان احد كتبة الوحى ارتد . ذلك كله يوحى بالشك فى تدوين القرآن ، ولكن الاخطر فى تلك الرويات هو ما قالوه عن جمع عثمان للمصحف ، وتأثر هذا الجمع بالفتن السياسية التى صاحبت خلافة عثمان ، ثم أراء أخرى تنسب للحجاج بن يوسف تغيير بعض الكلمات فى القرآن .. فأين الحق فى هذا كله ؟!
2 ـ موقف شيوخنا الابرار غاية العجب، فهم يدافعون عن التراث وما يسمى بعلوم القرأن بكل ما فيها من طعن في القرآن وفي خاتم النبيين (ص) ،ولا يجرءون على مناقشتها وتوضيح خطورتها ، ثم اذا تصدى مفكر مسلم لمناقشة هذه الروايات البشريه اتهموه بالكفر وإنكار السنه . فاذا قام بعض المفكرين بنقل هذه الرويات والاعتماد عليها اتهموه بالطعن في القرأن ،مع انه ينقل من التراث "المقدس"الذي يتركونه لينفجر في عقائد الناس وعقولهم.
3 ـ دعونا نسأل اولا:
3 / 1 : هل صحيح أن النبي محمد(ص) كان لا يعرف القراءة والكتابه ؟ وهل صحيح انه عهد لأصحابه بكتابة القرأن فكتبوه حسبما تيسر على اوراق الشجر، وعلى الحجر وعلى الرقاع ؟ وهل صحيح انه ظل كذلك حتى جمعه ابو بكر الجمع الاول من أفواه الصحابه، ومن على الوراق والاحجار والرقاع؟ ثم جمعه عثمان الجمع الأخير....؟؟!!!
3 / 2 : هل يعقل أن يكون النبي محمد(ص)الذى كانت معجزته القرأن لا يقرأ ولا يكتب؟ .! ذلك القرآن الذي هو معجزةعقلية لكل البشر في كل زمان ومكان، هل يعقل ألا يستطيع تدوينها فيترك ذلك لاصحابه ؟
3 / 3 : وهل يعقل ان يكون النبي محمد (ص)لا يعرف القراءة والكتابة وهو الذي كان يتاجر للسيدة خديجة في الشام ،فكيف يكون الوكيل التجاري لايعرف القراءة والكتابة وهو يتعامل مع أهل الشام المشهورين بمهارتهم ودهائهم التجاري؟ لا يعقل طبعا.

4 ـ ثم ناتي للقرأن بعد العقل. إن القرأن الكريم يؤكد على أن النبي محمدا (ص) كان يقرأ ويكتب.
4 / 1 : فأول ما نزل للقرأن هو امر إلهي :(اقرأ)، والله تعالي لا يأمره بالقراءة إلا إذا كان قارئا .ولانتصورعقلأ ان يقول له ربه : (اقرأ) فيرفض قائلأ : (ما انا بقارئ).  كما لا نتصور عقلا ان يكون ذلك الراوي لتلك الرواية حاضرا مع النبي محمد(ص) حين نزلت عليه الآية، وحتى لو حضر فكيف يسمع حوار الوحي.إذن هي رواية ملفقة.
4 / 2 : والقرآن يؤكد على ان النبى محمدا (ص) كان يقرأ القرآن من صحف مكتوب فيها القرآن :( رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً ) "البينة 2" اى كان يتلو بنفسه من صحف ،وليس من أوراق الشجر او الاحجار او الرقاع.
4 / 3 : والقرآن يؤكد على ان النبى محمدا (ص) قبل البعثة كان لا يتلو كتبا سماوية ،وكان لا يخطها أو يكتبها ، فلما اصبح نبيا تعلم القرأة والكتابة ، واصبح يتلو القرآن ويكتب آياته ،يقول تعالى :( وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ "العنكبوت 48".
4 / 4 : ويقول تعالى عن مشركى مكة واتهامهم للقرآن بانه " أساطير الاولين " : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ).. " الفرقان 5" ، ويهمنا هنا ان المشركين اعترفوا بان النبى محمدا(ص) كان هو الذى يكتب القرآن بيده، وان أصحابه كانوا لا يكتبون القرآن ، وإنما كان دورهم فى تملية النبى (ص) فقط إذا ارادوا نسخ بعض السور ليقرأوها ، وكانوا يملون عليه من نسخة أخرى ، وكان ذلك يحد ث بكرة واصيلا فى الصباح والمساء ، أى أنه ليس هناك كتبة للوحى كما زعموا.
4 / 5 : بل إن هناك ايات عديده تؤكد كلها ان النبى محمدا كان استاذا للمؤمنين، يتصرف معهم كما يتصرف الاستاذ الذى يعلم التلاميذ القرآن، يتلوه عليهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة(البقره 129،151، ال عمران77،الجمعه 2).
ثانيا
1 ـ ولكن القرآن يصفه بانه (أمى)أى لا يعرف القراءه والكتابه ، وهذا هو مفهوم (الأمى) فى التراث.
2 ـ ولكن مفهوم (الأمى)و (الأميين)فى القرآن يعنى الذين لم ينزل عليهم كتاب سماوى سابق.

2 / 1 : فاليهود والنصارى هم اهل الكتاب او الذين أوتواالكتاب. وغيرهم من سكان الجزيره العربيه هم (أميون)، أى لم يأتهم كتاب سماوى قبل القرآن ، وبهذا كان يميز القرآن بين اهل الكتاب العرب وبقيه العرب الذين لم يكونوا يهودا أو نصارى، واقرأ فى ذلك قوله تعالى :( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ )و(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )....(ال عمران20، 75 )....(فالأميون) أي العرب الذين لم يأتهم كتاب سماوى فى مقابل اهل الكتاب العرب ،وخصوصا ان مصطلح(عربي ) لم يات فى القرآن وصفا لاهل الجزيرة العربية اولبعضهم دون الاخر،إذ كانوا جميعا عربا، وإنما جاء وصفا للسان العربى الذى يتكلمون به ، ونزل به القرآن .

2 / 2 : إذا كان الطريق الوحيد فى التمييز هو وصف بعضهم بانهم اهل كتاب ووصف الاخرين بانهم "أميون".

2 / 3 : بل وصف القرآن بعض الذين يقرأون ويكتبون من اليهود بأنهم "أميون" حيث كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يزعمون انه من عند الله .. فقال أنهم "أميون" لانهم جهلوا بالكتاب السماوى فاصبحوا كباقى العرب الذين لم يأتهم كتاب سماوى: ( البقرة 78 : 79 ) ، والخلاصة ان كلمة "أمى" لا تعنى الجهل بالقرءة والكتابة ، وإنما تعنى غير اليهود والنصارى.
2 / 4 : المهم أن نفهم القرآن بمصطلحاته هو ، وليس بمصطلحات التراث ، والمهم أيضا ان وصف النبى محمد (ص) بالامى يعنى الذى لم ينزل عليه كتاب من قبل القرآن ، مثل قومه الأميين.
ثالثا
1 ـ نفهم مما سبق انه ليس هناك كتبة للوحى ، بل هناك كاتب وحيد للوحى هو محمد (ص) نفسه، وهو وحده المؤتمن على كتابة القرآن .

2 ـ والسؤال الهام هو: لماذا ؟.لأن للقرآن الكريم نوعية خاصة من الكتابة ، وهذه الكتابة القرآنية لا تزال حتى الان مختلفة عن الكتابة العربية العادية ، وهى ما يعرف الان بالرسم العثمانى نسبة الى الخليفة الثالث عثمان بن عفان .

3 ـ والذى حدث ان النبى (ص) اتم بنفسه كتابة وجمع القرآن وترتيبه فى نسخة اصلية ، ومات (ًص) تاركا هذه النسخة لدى أم المؤمنيين حفصة. وكانت تلك النسخة الاصلية مرجعا للتلاوة ،وفى عهد أبى بكر قام بنسخ -اى كتابة- أول مصحف. فالذى فعله أبو بكر ثم عثمان هو نسخ المصحف من النسخة القرآنية الاصلية المكتوبة بخط النبى (ص) وليس كتابة او جمع القرآن.

4 ـ بل ان كلمة "مصحف" ليست من مصطلحات القرآن ، هو اصطلاح نبت بعد النبى (ص) ليدل على الحصول على نسخة من القرآن تتكون من "صحف القرآن بين دفتين " فيكون ذلك مصحفا، وذلك ما فعله أبو بكر و الصحابة خلال الفترة الاولى قبل الفتنة الكبرى.

5 ـ وفى عهد عثمان توطدت الفتوحات وانتقل القرآن بالمصاحف الى تلك البلاد بعيدا عن المدينة ،وحدث خلط فى نقل المصاحف حيث نقلوا بعضها بالكتابة العربية العادية المخالفة لنوعية الكتابة القرآنية. وكان حتما ان تختلف القراءة وان يختلف المسلمون، ولذلك اسرع عثمان فجمع المصاحف المخالفة واحرقها وألزم الناسخين بنقل النص القرآنى بالكتابة القرآنية الفريدة.ولا زال ذلك مرعيا حتى الان ، وهو ما يعرف بالرسم العثمانى نسبة الى عثمان.
6 ـ ونعود الى نفس السؤال:
لماذا كان النبى (ص) هو الوحيد الذى كتب القرآن ، ولماذا يكتب القرآن بهذه الكيفية المختلفة عن الكتابة العربية العادية ؟
نعود الى الآية الكريمة التى عرضت لاستهزاء المشركين بالنبى ، وهو يكتب القرآن بنفسه يمليه عليه اصحابه : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ).. " الفرقان 5")، وياتى الرد من الله تعالى بإشارة غير متوقعة :( قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا) الفرقان 6)، أى فالقرآن ليس اساطير الاولين ، بل إن الله تعالى الذى انزله هو الذى ( يعلم السر فى السماوات والارض )، وهو تعالى الذى ادخر سرا فى نوعية الكتابة القرآنية ليكون أحد مظاهر الاعجاز فى عصور ستأتى فيما بعد.

7 ـ ونعطى بعض الامثلة السريعة :

7 / 1 : ان هناك سرا فى ان كلمة واحدة مثل "الايكة" تكتب بطريقتين مختلفتين ، ففى سورة (الحجر:78) ، وسورة (ق:4) تكتب هكذا (الأَيْكَةِ ) ، وفى سورة (الشعراء:176 ) ، وسورة (ص: 13) تكتب هكذا (لئيكة) .

7 / 2 :  وكلمة( إذن) تكتي احيانا (إذن) واحيانا (إذا)  
7 / 3 : والالف تحذف من بعض الكلمات ويعوض عنها بالف صغيرة مرسومة مثل : ( الرحمن ، السموات) ، وتبقى الألف فى كلمات اخرى (الناس ) ، ( السيارة) ، واحيانا تاتى نفس الكلمة بألف مثبتة احيانا ، ومحذوفة الالف احيانا مثل كلمة (تبارك) و(تبرك  ) 
8 ـ ولا شك ان هناك قواعد سرية للكتابة القرآنية ، ولكن لم يكشف عنها النقاب بعد ، لانها مرتبطة بأعجاز عددى ورقمى بدأت ملامحه تظهر ، وستتوالى الاكتشافات مع دخول العالم فى عصر ثورة المعلومات حيث تصبح الارقام هى اللغة العالمية السائدة بالكمبيوتر، وحيث تتضح وتتأكد علاقة الكتابة القرآنية وحروفها بالارقام ، وحيث يتأكد الغرب المتقدم الذى لا يؤمن الا بالعلم المادى ان الذى انزل القرآن لا يمكن ان يكون سوى خالق السماوات والارض ، والذى يعلم السر فى السماوات والارض ، وحيث يتأكد من يعبدون التراث ان ذلك التراث أساء للقرآن الكريم حين كتب عنه هذه الروايات.
رابعا:
ومما يبعث على الفخر أن المصريين هم اول من فتح الباب فى اكتشاف الإعجاز العددى للقرآن. ذلك الإعجاز الذى يرتبط إرتباطا وثيقا بنوعية الكتابة الفريدة للقرآن.
1 ـ بدأ ذلك الدكتور عبد الرزاق نوفل فى كتابه: ( الإعجاز العددى فى القرآن الكريم) ودار كتابه حول التناسق الغريب بين كلمات القرآن . فمثلا كلمة (الدنيا)وكلمة( الآخرة)كل منهما تكرر فى القرآن (115) مرة
 2 ـ ومن خلال الكمبيوتر إكتشف الدكتور رشاد خليفة إعجاز الرقم (19) فى كلمات وحروف وآيات القرآن . والعلاقات المعقدة بينها . وكان ذلك الإعجاز الذى اكتشفه فوق تحمل إمكاناته العقلية فإدعى النبوة ، ولقى مصرعه. وكنت شاهدا على طرف من حكايته.
3 ـ  وتلقف منه الراية مصرى مقيم فى كندا وهو الاستاذ محمد مصطفى صادق . وأجرى ابحاثه حول الرقم (7) فى القرآن . وعثر على نتائج غريبة فى تناسق الحروف والكلمات فى الكتابة القرآنية.
4 ـ ثم إختار الأستاذ مراد الخولى –المصرى المقيم فى كندا ـ نهجا آخر فى كشف الإعجاز فى الكتابة القرآنية . هو حساب قيمة الكلمة القرآنية عدديا طبقا لعلم الحرف . حيث يكون لكل حرف قيمة عددية . ووصل إلى نتائج مذهلة .. وربط احيانا بين هذه النتائج والأعجازات المتصلة بالرقم (19) والرقم (7 ).  والواضح أن البحث لا يزال فى بداية الطريق .. وأن الإعجاز العلمى للكتابة القرآنية يستلزم المزيد من الجهد ، وسيكون حديث الدنيا فى القرن الواحد والعشرين .. والله تعالى اعلم.)
انتهى المقال.

1 ـ ولكن بدأت الضجة فى صحف المتطرفين ومجلاتهم ، منها ما كان حزبيا ومنها ما كان حكوميا ، وتعدى الأمر الى المساجد ، وتفنن الجميع فى الهجوم والتكفير والالحاح على أن هناك مؤامرة دفعتنى الى هذا القول للنيل من معجزة القرآن. كلام لا يقوله الا المجانين، والعادة انه حينما يتحكم التعصب يقدم العقل اجازة مفتوحة. لم يسأل أحدهم نفسه من منا الذى يدافع عن القرآن ؟ أنا بهذا المقال أم هم بغوغائيتهم وجهلهم وصراخهم وغبائهم المصنوع محليا وتراثيا؟ . كالعادة لم أرد. وحتى لو أرسلت ردا الى تلك الصحف فلن تنشره، بل قد تنشر الرد على ردى دون أن تنشر ردى نفسه كما فعلت جريدة الوفد حين كان يهيمن عليها جمال بدوى .

2 ـ فوجئت بعدها بالصديق عادل حمودة يتصل بى ليلا يخبرنى أن ردا على مقالى جاء من عميد احدى الكليات الاقليمية بجامعة الأزهر، وانه ـ أى عادل حمودة ـ يريد نشر هذا الرد من ذلك الشيخ مشفوعا بردى أنا أيضا عليه. وأن فرصتى الوحيدة فى الرد عليه هو أن أقرأ رد ذلك الشيخ وأكتب الرد فى نفس الليلة وأرسله صباحا ليلحق الطبع. أرسلت ابنى على عجل الى روز اليوسف فجاء بنسخة من المقال، وسهرت الليل حتى كتبت الرد عليه ، وفى الصباح الباكر كان ردى جاهزا أمام عادل حمودة الذى بادر بنشر مقال الشيخ ومقالى متجاورين. وكان هناك ردّ آخر بذىء لا يستحق الرد عليه فتجاهلته عقابا لصاحبه ، وهذه هى طريقتى فى تأديب السفهاء .. وما أكثرهم فى هذا الزمن الردىء .
 ملاحظة : أرسلت لى روز اليوسف مقال "الدكتور العميد محمد جبل " بكامله وكان طويلا ، ولكنهم عند نشر مقاله لاحظت أنهم حذفوا بعض أجزائه ـ ربما لضيق المساحة ـ ونشروا ردى على المقال بالكامل ، ومنه الرد على بعض ما حذفوه من المقال المذكور.
3 ـ وبتاريخ 18 /11/96 ، وفى عدد [3571 ] نشرت روز اليوسف فى صفحاتها : 54_55_56_57_58
ما يلى
( خلافات أزهرية فى قضية فقهية
هل كان النبى (ص) يقرأ ويكتب ؟ )

وقالت روز اليوسف : ( نشرنا مقالا للدكتور احمد صبحى منصور نفى فيه أن النبى صلى الله عليه وسلم كان أميا ..وقال انه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ويكتب وأن (الأمى) لفظ لم يكن يطلق على من لا يعرف القراءة والكتابة ..وقد وصلنا ردان حول هذا الموضوع ننشرهما وننشر تعليقا للدكتور احمد صبحى منصور.)

رد الدكتور محمد جبل :

العناوين : ( النبى محمد لم يكتب القرآن . كلمة(أمى) معناها فى كتب التفسير .. لا يقرأ ويكتب . حين قال النبى( ما أنا بقارئ).. لم يكن يرفض امر الله . هذه النظرية فبركة وخيانة للعلم والناشئة والأمة ) بقلم د. محمد جبل .

( نشر فى عدد21/10/96، من روز اليوسف بحث للدكتور احمد صبحى منصوريقرر فيه أن النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) كان يقرأ ويكتب ، وأن وصف النبى محمد بأنه(أمى) معناه أنه ليس من أهل الكتاب الذين هم اليهود والنصارى
وقد إحتج د.احمد صبحى منصور لرأيه المذكور بأدلة عقلية من ناحية ، وبآيات من القرآن من ناحية أخرى، كما أنه ابدى رأيا فى فى محتويات التراث فى مجال علوم القرآن.
وهذه مناقشة علمية للبحث المذكور:
اولا
وصف القرآن الكريم النبى محمد(صلى الله عليه وسلم) بأنه النبى الأمى فى آيتين فقال فى الأولى :(... ورحمتى وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الذكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل ... )(الأعراف 156_ 157)وقال فى الأخرى (... فآمنوا بالله ورسوله النبى الأمى ...)(الأعراف 158). والمرجع هو بيان المعنى اللغوى لأى كلمة فى اللغة العربية . ولا مجال للإجتهاد فى المعنى اللغوى إلا فى حدود تحرير التعبير عن ذلك المعنى أى تدقيقه.
والمرجع فى بيان المعنى المراد بألكلمة القرآنية هوكتب تفسير القرآن، وهو مجال للإجتهاد لمن توافرت فيه الأهلية والأدلة ، وبشرط الإلتزام بإطار المعنى اللغوى . وهو إطار واسع يشمل المجاز والكناية ودليل الخطاب الخ ..والالتزام بإطار المعنى اللغوى ضرورى تماما . لأن التحلل منه يلغى اساس التفاهم الذى هو وظيفة اللغة . وإذ بدا تعارض بين نص محترم (مقدس أو تشريعى ) فالواجب الأول هو الإجتهاد لدفع التعارض الظاهر .وبيان أنه لا حقيقة له . وهذه أمور ليست ـ أو لا ينبغى ـ محل خلاف بين اهل العلم.
وقد أجمعت المعاجم العربية القديمة التى ذكرت لفظ ( أمى ) (لسان العرب وتاج العروس ومفردات القرآن والقاموس ومقاييس اللغة والمصباح ) . على معنى لفظ (الأمى) هو ( الذى لا يكتب) وأضافت الثلاثة الأولى(و لا يقرأ من كتاب )أو (لا يقرأ المكتوب) وسنبين قيمة هذه الإضافة بعد قليل.
أما كتب التفسير فقدى أجمعت ايضا على أن معنى الأمية عدم معرفة الكتابة ( تنظر تفسير الطبرى ,, وتحقيق شاكر’’ 2/259 و282 وابن عطية( ط قطر) 1/363 والزمخشرى( دار المعرفة) 1/78 والقرطبى( دار الكتاب)7/289 وأبى حيان 4/403 وابن كثير ، مكتبة التراث الإسلامى 1/116 ) وقد اضاف ابن عطية( ولا يقرأ فى كتاب ) وعبارة القرطبى لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها ’’ أى قراءة الكتابة ’’ وهى اضافة توضيحية قيمة . ولكن يمكن الإستغناء عنها . لأن الفيصل فى الأمية من عدمها هو معرفة الرموز الخطية للكلام (الحروف وتركيباتها، وممارسة رسم هذه الرموز بألخط . فمن عرف الرموز ومارس رسمها فليس أميا ، وهو يستطيع قراءتها عادة. ومن لم يعرف الرموز ولم يمارس رسمها ولم يمارس رسمها فهو أمى وهو لا يستطيع قراءة الرموز حينئذ، ومع ذلك فالأضافة المذكورة جيدة لأنها تضيف توضيحا يجنب اللبس الذى يظهر فى عبارة الطبرى 2/257. والفخر الرازى فى تفسيره (ط الغد العربى) 7/306 . حيث عرف الأميين بأنهم الذين ’’ الذين لا يكتبون ولا يقرأون ’’ هكذا دون أن يقولوا ’’ ولا يقرأون المكتوب ’’ - مما يوهم أن مجرد القاء الكلام المحفوظ عن ظهر قلب مثلا هو من القراءة التى تتنافى مع وصف الأمية . وهذا غير صحيح
والأساس اللغوى لذلك التحريرهو أن كلمة’ الأمى ’هى على صيغة النسب إلى ’ الأم ’ والأم هنا معناها أصل الشئ ومبتدؤه. جاء فى لسان العرب ’ ام كل شئ اصله ..’ . ومن ذلك الأم: الوالدة لأنها مبدأ الولد (فتح البارى الحلبى 9/222 ) .أى المصدر الظاهر لوجوده فى عالم الأفراد . فالأمى هو انسان على أصل خلقته ومبتدئها كما ولد .. وهو على الفطرة ولم يكتسب مهارة تكسر هذه الفطرية وتنهيها . والكتابة هى اهم المهارات الصناعية والكتابة هى أهم المهارات التى تخص الإنسان وتنهى فطريته أى اميته . ومما يشهد لهذا التحرير تفسير – الرسول صلى الله عليه وسلم – الأمية ’’إننا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ’’ صحيح البخارى ط الشعب 3/53 ’’ ولم يذكر القراءة . ومعنى هذا الحديث اننا لا نفتقر فى عبادتنا ومواقيتها الى إلى كتاب (أى كتابة) ولا حساب( تفسير ابن كثير1/116 ) فالأمية هى عدم معرفة الكتابة ولا قراءة المكتوب . والقراءة التى تنافى الأمية هى القراءة مطالعة من صحيفة أو كتاب . أى قراءة المكتوب
والخلاصة أن هناك إجماعا فى المعاجم العربية وكتب التفسير التى ذكرناها – بإستسناء عبارتى الطبرى والفخر الرازى المذكورتين – على معنى الأمى وهو: الذى لا يكتب ولا يقرأ المكتوب
ثانيا
فى مقابل لفظ (الأمى) فى وصف النبى – صلى الله عليه وسلم – بأنه لا يكتب ولا يقرأ المكتوب جاءت الفاظ فى بعض الآيات القرآنية يوهم ظاهرها أن النبى صلى الله عليه وسلم يكتب ويقرأ ويتلوا صحفا- مما يتعارض مع التفسير المذكور. وهذه الألفاظ الموهمة هى التى إعتمد عليها د.صبحى فى إدعائه ان – صلى الله عليه وسلم كان كان يكتب ويقرأ المكتوب ، وأن لفظ (أمى ) إنما يعنى( الذى ليس من اهل الكتاب ) الذين هم اليهود (اهل التوراة ) والنصارى (اهل الأنجيل) . وسنقف الآن على الألفاظ الموهمة التى إعتمد عليها د. صبحى.
1 ـ  القراءة .. فى قوله تعالى – فى أول مانزل (( إقرأ باسم ربك..)) اول سورة العلق . يقول د. صبحى ( إن الله لا يأمر نبيه بألقراء إلا إذا كان قارئا) . ويقول : (ولا نتصور عقلا أ، يقول له ربه إقرأ ، فيرفض قائلا ما أنا بقارئ ، كما لا نتصور عقلا أن يكون ذلك الراوى لتلك الرواية حاضرا مع النبى – صلى الله عليه وسلم – حين نزلت عليه الآية ، وحتى لو حضرفكيف يسمع حوار الوحى ، إذن هى رواية ملفقة ) هذا كلام د. احمد ، وهذه الفقرة من كلامه مزدحمة بإلأخطاء.
 أ‌) فالمعنى الأصلى الدقيق للقراءة هو حفظ المادة المقروءة أى وعيها فى القلب . لأن التعبير بالقراءة مشتق من قول العرب عن الناقة أو الشاة بأنها (قرأت ) أى حملت جنينا فى بطنها . ويقولون قرأت النجوم أى غابت( فى جوف الأفق ) وأقرأت الحية أى اجتمع سمها فى مقره فى جوف بدنها ( لسان ا لعرب ,قرأ, . وثلاثة كتب فى الأضاد 1/6 ) ففى كل هذه الأمثلة تعبير عن مادة تدخل فى الجوف الباطن. وهكذا المعنى الأصلى للقراءة . وقد جاء هذا الإستعمال الأصلى للقراءة فى القرآن الكريم فى قوله تعالى (( سنقرئك فلا تنسى )) حيث اجمع المفسرون على أن هذه الآية وعد من الله أن يجعل نبيه يحفظ القرآن فلا ينساه
ثم إن القراءة تستعمل فى فرعين لذلك المعنى الأصلى أحدهما : مطالعة الكلام المكتوب – من حيث ان تلك المطالعة هى رافد تكون الكلام المقروء ومعانيه فى القلب . فاستعمل اللفظ فى سبب المعنى الأصلى
وثانيهما القراءة بمعنى أن ينطق بلسان ماهو مختزن فى قلبه . فاستعمل لفظ الأصل للتعبير عن المسبب عنه وقد جاء الإستعمالان فى القرآن الكريم ، فمن قراءة المكتوب (( حتى تنزل علينا كتابا نقرأه )). الإسرء /93 –فهذا صريح فى القراءة مطالعة من كتاب . ومن القراءة بمعنى الإلقاء دون مطالعة من كتاب قوله تعالى (( فإذا قرأنه فإتبع قرآنه )) فهنا لا يحتمل أبدا أن تكون( قرأناه ) معناه طالعناه من كتاب . تعالى الله عن ذلك 
والآن فإن د.صبحى يظن أن للقراءة معنى واحدا هو مطالعة كلام مكتوب . وفسر به قوله تعالى :(إقرأ بإسم ربك) وهذا غلط والصواب معناها - إقرأ القرآن باسم ربك أى مستعينا أو مبتدئا هذا الأمر به – تفسير ابن عطية15/58 والفخر دار الباز 23/ 14-15 . والقرطبى 20/ 119 . وابى حيان 8/492 . وأبى السعود )- أى ليعه قلبك أو ليحفظه بأمر الله ، كما قال تعالى (( سنقرئك فلا تنسى )) فالآية الكريمة إفتتاح لنزول القرآن على قلب النبى – صلى الله عليه وسلم – (( نزل به الروح الأمين على قلبك ...)) الشعراء 194 .وفى البقرة 97 ((فإنه نزله على قلبك ... )) وهو إفتتاح مصحوب بإعداد قلبه الشريف لوعى ما ينزل عليه بمعونة الله تعالى .ومن اجل ذلك كرر الأمر إقرأ ثلاث مرات.
وقد بينا من قبل أن القراءة التى تنافى الأمية هى القراءة مطالعة لمكتوب .والأمر هنا ليس فيه مطالعة لمكتوب حسب الروايات الصحيحة.
ب‌) أما عبارة الرسول( ما أنا بقارئ ). فليست رفضا – ولا يعقل أن يرفض بشر أمر ملك من السماء –وإنما هى بهذه الصيغة نفى أى انا الرسول – صلى الله عليه وسلم – يخبر عن نفسه أنه ليس لديه ما يقرأه أو ما يعيه ويلقيه كما أنه لا يقدر أن يقرأ مطالعة , وهناك عبارة اخرى للرواية وهى ماذا أقرأ أو كيف أقرأ .. [فتح البارى مصطفى الحلبى 1/ 26 ] فهذا إستفهام واضح المناسبة.
 ج) أما كلام د.صبحى عن راوى حديث بدأ الوحى هذا وانه لم يكن حاضرا وحتى لو كان حاضرا فكيف يسمع .وأن الرواية ملفقة . فهو كلام جزافى سوقى إذ لم يقل أحد على الأطلاق أنه كان هناك راو حضر المقابلة بين النبى صلى الله عليه وجبريل . ثم روى ماحصل . وإنما الذى أخبر عن الذى حدث فى هذا اللقاء الخطير هو النبى نفسه- صلى الله عليه وسلم- حدث به عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها وهى روته بألفاظه –صلى الله عليه وسلم- ففى صحيح البخارى 1/3 ( فجاءه الملك فقال إقرأ قال ما أنا بقارئ . قال أى النبى فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى : فقال إقرأ قلت ما أنا بقارئ فأخذنى ...) الخ .. فالرواية صحيحة تماما وقد سبق بيان معنى (إقرأ) فيها . حسب ما اسلفناه.
2 ـ  التلاوة : يستند د. صبحى فى إدعائه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكتب ويقرأ المكتوب إلى قوله تعالى( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) البينة 2. كما إحتج بقوله تعالى ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لإرتاب المبطلون ) العنكبوت 48.
1 ـ  التلاوة لها فى اللغة معنيان .أحدهما إلقاء الكلام والنطق به أى دون مطالعة من صحيفة – كما جاء فى لسان العرب( تلا ) حيث قال فى قوله تعالى ( وإتبعوا ماتتلو الشياطين على ملك سليمان ..) البقرة 102.قال عطاء إى ماتحدث وتقص وقيل ما تتكلم به كقولك فلان يتلو كتاب الله أى يقرأه ويتكلم به . أى أنا إستعمال تلا هنا يرادف الإستعمال الفرعى الأخير لكلمة إقرأ حسب ما اسلفنا ه. وقد جاء هذا الاستعمال فى القرآن الكريم كثيرا جدا . لكن أوضح ما جاء من ذلك واقطعه للجدل ما اسند فيه فعل التلاوة الى الله عز وجل مثل: ( نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق )" القصص3" ، ( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) "البقرة 252" وآيات اخرى ، إذ لا يستطيع احد ان يزعم ان الله عز وجل يتلو من صحيفة ، والاستعمال الثانى للتلاوة هو القراءة من كتاب او صحيفة –وهذا الاستعمال يرادف استعمال القراءة بالمعنى الفرعى الاول الذى اسلفناه . وقد جاء فى القرآن الكريم : (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها) " أل عمران 93" . والان فإن المفسرين فسروا قوله تعالى ( رسول الله يتلو صحفا مطهرة)بانه يقرأما تتضمن الصحف من المكتوب :اى يلقى عن ظهر قلب ما صار صحفا لانه انزل من قبل ودون اى يعيد قراءته ، او ما يصير صحفا بعد ان يسمعه الكتبه ويدونوه . وعبارة الفخر " انه اذا تلا مثل المسطور فى تلك الصحف كان تاليا ما فيها " ( ينظر تفسير الفخر 16/574 والقرطبى 2/142 وايضا تفسير ابن عطية 15/528) . وتفسير ذلك ان النبى (ص) كان مكلفا ان يتلو على الناس للهداية والتذكير فى كل موقف يناسب ذلك .وقد جاء التعبير عن هذا التكليف فى قوله تعالى على لسان رسوله : ( وأمرت ان اكون من المسلمين . وان اتلو القرآن ) " النمل 91/92"-
فهذه الآية (يتلو صحفا) ليس فيها دليل مكتوب على ان البنى كان يقرأ المكتوب.
اما الآية الثانية وهى ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ) "العنكبوت48)" واحتجاج د. صبحى بهذه الآية قائم على اساس ان عبارة "من قبله" اى من قبل نزول القرآن عليه (ص) تعطى ان الرسول اصبح - بعد نزول القرآن عليه- يتلو من كتاب ويخط اى ان الاحتجاج هنا هو احتجاج بما يسمى دليل الخطاب او مفهوم المخالفة . وبصرف النظر عن عدم اعتداد كثير من الائمة بمفهوم المخالفة ، فإن الذين قبلوا الاحتجاج به وضعوا لذلك شروطا منها ان لا يعارضه ما هو ارجح منه (إرشاد الفحول للشوكانى 179) ، وهذا عارضته الاخبار المستفيضةباستمرارأميته (ص).
2 ـ  اكتتب : استدل د. صبحى ايضا على ان الرسول (ًص) كان يكتب بقوله تعالى حاكيا ادعاء الكفار ( وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا )"الفرقان5" حيث ظن د. صبحى ان اكتتب معناها كتب ، ثم صور الامر كان النبى (ص)يجلس بين أصحابه ليكتب لكل منهم نسخة من القرآن وهم يملونه ما كتب . واسف ان اقول ان هذا تصور قمىء جدا بناه د. صبحى على غلطة فى فهم الفعل اكتتب ، والكفار اذكى من ان يدعوا ادعاء يسهل كشف زيفه لان الذين كانوا يكتبون فى ذلك العصرالجاهلى كانوا معدودين مشهورين ولم يكن محمد منهم . والصواب ان الفعل اكتتب على صيغة افتعل ، وهذه الصيغة قد تستعمل للطلب كما يقال اقتصد فلان اى طلب او كلف من يقصده . وكذلك احتجم اى طلب او امر من يحجمه: وهذا المعنى يسميه الصرفيون التصرف والطلب والاجتهاد ( كتاب سيبويه : تح هارون 4/74).
3 ـ والمقصود بالاجتهاد هنا بذل الجهد لتحصيل الفعل . وعبر بعض الصرفيين عن هذا المعنى بالتسبب. الخلاصة ان معنى الآية هو ان الكفارقالوا عن القرآن انه اساطير الاولين اى هو كلام مما سطره القدماء فى كتب او صحف. وان النبى صلى الله عليه وسلم كلف من يكتب له نسخة من تلك الاساطير ثم انه كلف او استأجر من يمليها عليه اى يقرأها عليه صباحا ومساء ليحفظها ثم يقول انها اوحيت اليه . هذا هو ادعاء الكفار وإذا فمعنى "اكتتب" هنا هو طلب من يكتب له فهو يدل على الامية لا على الكتابة كما ادعى د.صبحى.
بنى د. صبحى على ادعائه ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المكتوب أدعاء اخر هو انه لم يكن هناك كتبة للوحى . وأنما كان النبى هو الذى يكتب الوحى بنفسه . وهذا تسور على حقائق ثابته تاريخيا: فان امر كتبة الوحى للنبى صلى الله عليه وسلم ثابت ومشهور . جاء فى صحيح البخارى ( ط الشعب 6/225 ) قال ابو بكر ( لزيد ابن ثابت ) انك رجل شاب عاقل لا نتهمك . وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ...) وفيه( 6/226 – 227 ) باب كاتب النبى صلى الله عليه وسلم عن البراء بن عازب – وهو صحابى قال : لما نزلت ( لا يستوى القاعدون من المؤمنيين غير أولى الضرر والمجاهدين فى سبيل الله ) (" النساء 95" قال النبى صلى الله عليه وسلم ( ادعى لى زيدا وليجىء باللوح والدواة والكتف او الكتف والدواة )...الخ وفيه (5/60) فجاءه زيد ومعه الدواة واللوح او الكتف فقال اكتب ..) الخ ( اللوح : كل مسطح عريض من العظم او الخشب . وكانوا يكتبون على عظم الكتف لعرضه ) فهذه الاخبار والتفاصيل قاطعة بوجود كتبة للوحى منهم زيد بن ثابت . ومنهم الخلفاء الاربعة وأبى بن كعب والزبير بن العوام .. ( واكثر من 15 منهم عبد الله بن سرح الذى كان يكتب الوحى ثم ارتد ثم عاد الى الاسلام يوم فتح مكة – وأنما خص زيد بن ثابت بلقب كاتب النبى صلى الله عليه وسلم لانه كان اكثر الجميع ممارسة لكتابة الوحى ( ينظر فتح البارى "الحلبى" 10/396).
د- ذكر د. صبحى ان استعانة النبى صلى الله عليه وسلم بمن يكتب له الوحى – دون ان يتولى ذلك بنفسه . وان ارتداد احد كتاب الوحى – كل ذلك يوحى بالشك فى تدوين القرآن – على ما قال د . صبحى ، واقول إن الرؤساء والكبار والقادة فى كل زمان كانوا – ومازالوا – يستعينون بافراد يثقون فى أمانتهم ويختارون بعناية شديدة ، والقاعدة ان هؤلاء الافراد يلتزمون ( مثلا هل افشى سر توقيت حرب العاشر من رمضان ؟ . او سر توقيت تاميم قناة السويس ؟ وهناك الاف من الامثلة ) ، ثم ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحفظ القرآن بمجرد تنزيله عليه,قال تعالى ( سنقرئك فلا تنسى) "الاعلى 6" ، ( إن علينا جمعه وقرآناه)..( إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وكان صلى الله عليه وسلم يتلوه على الصحابة من حفظه لا من صحف ، وإنما كان تسجيله كتابة إلهاما من الله ليكون إحدى وسائل تحقيق نزوله استمرت نحو ثلاثة وعشرين سنة ، فكان يكتب فى صحف متفرقة لانه ما زالت تتنزل منه آيات الى ما قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأيام ( فتح البارى 9/272) ، وكان جبريل يحدد للرسول (ص) السورة والترتيب الذى توضع فيه الآيات الجديدة . ( ينظر تفسير القرطبى 1/61 و 3/375).ثم انه عند جمع القرآن فى مصحف فى عهد ابى بكر اعتمد فى ذلك سندان: الحفظ والخط ، " قال ابو بكر لعمر وزيد : اقعدوا على باب المسجد ، فمن جاءكما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه ( كتاب المصاحف لابن ابى داود12) قال ابن حجر : وكان المراد بالشاهدين الحفظ والكتاب ( يعنى الكتابة) .او المراد انها شاهدان من الرجال يشهدان على ان ذلك المكتوب كتب بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فتح البارى 10/388).
ثانيا : 1- كلام د. صبحى عن التراث خلاصته ان به روايات تثير الشبهات ، واذا سلمنا بهذا جدلا فإن التصرف العلمى هو ان نقرأ ونتدبر ونمحص ونستخلص الحقائق الصحيحة ونقدم للناشئة هذه الخلاصات ، وندع الروايات كما هى يدرسها القادرون على التمحيص والاستخلاص ، اما ما يريده د. صبحى وهو بناء صور للحقائق تكون ملساء خالية من كل ما يثير شبهة ، وتستمد من تصوراتنا لذلك فهذا هو عين التزييف ( والفبركة) والخيانة للعلم وللناشئة وللامة والبناء القائم على صخور خشنة خير الف مرة من بناء مملس الظاهر باطنه كئيب مهيل.
ب- كلام د.صبحى عن اسرار الرسم القرآنى ، وعن علاقته بالارقام بعضه له معنى ، والبعض الاخر متاهات غريبة جن بسسبها د. رشاد خليفه – كما قال د. صبحى . والقرآن كتاب دين وتشريع – وهذه رسالته للناس عامة ، أما الالغازالرياضية فهى –ان صحت – لاهلها من الخاصة ، ويمكن تكلفها وتقليدها ، والقرآن الكريم معجز لا يقلد
أستاذ أصول اللغة والعميد السابق لكلية اللغة العربية بالمنصورة – جامعة الازهر 

بعدها نشرت روزاليوسف ردى على هذا الرد.

( الدكتورأحمد صبحي منصور يرد:
القرآن فوق تفسيره
النبى (ص) كان يقرأ ويكتب وهو الذى دون القرآن
كتب التراث متناقضة والذين يستخدمون التراث متناقضون 
النبى(ص) قال:( هلموا اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده)
1 ـ  ذكرتنى ردود الافعال على مقالى الذى يؤكد ان النبى (ص) كان يقرأ ويكتب وانه كتب القرآن بنفسه ، باللهجة التى ثارت فى الاندلس بعد ما اعلنه الفقيه أبو الوليد الباجى (403-474)هجرية أن النبى محمدا (ص) كان يقرأويكتب ، فثار عليه الفقيه ابوبكر بن الصائغ واتهمه بالكفر ، واشتعلت مأذن الاندلس وقتها بتكفير الفقيه الباجى ، وهجوه بالقصائد.
كأن التاريخ يعيد نفسه ، فهذا عميد لإحدى الكليات يكررالكلام المعروف المعتاد ، ولا ينسى ان يتطاول علينا فيقول :"ان هذا تصور قمىء جدا بناه د.صبحى على غلطة فى فهم الفعل اكتتب" ويقول :" ما يريده د. صبحى وهو بناء صور للحقائق تكون ملساء خالية من كل ما يثير الشبهة ..فهذا هو عين التزييف والفبركة والخيانة للعلم وللناشئة وللامة " اى اننا نقدم تصورا قميئا جدا ، وهو عين التزييف والخيانة ..فهل هذا الاسلوب فى الحوار يتفق مع آداب الاسلام وأخلاق العلماء؟!
2 ـ ومع اننى لا أهتم كثيرا بالرد على الخصوم فى الرأى ، الا اننى أجدها فرصة لتوضيح الفارق بين منهجين فى التفكير الاصولى: منهجى الذى اسير عليه وهو الاجتهاد بالتعامل المباشر مع القرآن العظيم بعد دراسة متعمقة للتراث بكل محاسنه ومساوئه وتناقضاته ، والمنهج الاخر الذى لا يرى القرآن إلا من خلال المشهور والمتداول من كتب التراث المشهورة ، وأذا تعارض القرآن مع رواية تراثية وأقوال للائمة فما يقوله التراث هو الصحيح . لأن القرآن عندهم( حمّال أوجه ).. ولو أنصفوا لعرفوا ان القرآن الكريم" كتاب احكمت آياته "، وان لا مجال فيه للعوج والاختلاف ،وانه "لا بأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "، وانه لا يمكن ـ على حد قولهم ـ ان يوجد تعارض بين ظواهر الأيات طالما نفهم القرآن من خلال القرآن وبمصطلحات القرآن نفسه وليس من خلال التراث ، وان التراث هو الذى لا يوجد فيه حد أقصى لتناقضاته ، وكل طالب فى الازهر قد اصيب رأسه بصداع مزمن من تكرار الكلمة المأثورة "اختلف فيها العلماء".
3 ـ والأستاذ العميد اوضح المنهج الذى يسير عليه حين قال : إن المرجع فى بيان المعنى هو معاجم اللغة العربية ، والمرجع فى بيان المراد للكلمة القرآنية هو كتب التفسير . أى بدون المعاجم اللغوية وروايات التراث لا نستطيع فهم القرآن.
ولن نرد على ذلك بالأيات القرآنية التى تؤكد ان القرآن "كتاب مبين "وأن آياته " بينات" ، اى واضحات المعنى ،ولن نردد ما أكده رب العزة الذى جعل القرآن ذاته " أحسن تفسيرا " ، ولن نستشهد بما قاله ابن كثير فى مقدمة تفسيره من ان أحسن التفسير ان القرآن يفسر بعضه بعضا، ولن نلفت الاذهان الى ان كلمة " تفسير" ذاتها تحوى أهانة للقرآن الواضح المبين ، لان الكتاب الغامض الذى يحوى لوغاريتمات هو وحده الذى يحتاج الى تفسير ، ولن ننبه الى انه ليس مما يليق برب العزة أن ينزل علينا كتابا عسيرا الفهم الى درجة يحتاج معها الى أطنان التفاسير البشرية المختلفة والمتناقضة
لن نرد بهذه الحقائق وغيرها ، ولكن نكتفى بهذه الملاحظات:
1
ـ لكى تفهم القرآن لابد أن تتدبره وتتعقله من خلاله هو ، وبمفاهيمه هو ، وخصوصا أن القرآن لم ترد فيه إحالة إلى شروح أخرى تعين على فهمه.
2 ـ إن المعاجم اللغوية قد تم تدوينها بعد القرآن بقرون ، وهى خير دليل على أن اللغة العربية كائن متحرك تختلف فيها معانى الألفاظ من عصر لأخر ، ومن مكان لأخر ، ولولا القرآن الكريم لاندثرت اللغة العربية كما أندثرت الآرامية قبلها ، وكما اندثرت السريانية واللاتينية بعدها حيث تحولت اللهجات الناتجة عنها الى لغات مكتلمة،
المهم أنه لا يجوز أشتراط فهم القرآن بمعاجم لغوية كانت ترصد حركة اللغة حتى عصرها ، ولذلك فإننا نجد عجبا حين نرجع إليها فى عصرنا ، ولعل الأستاذ العميد لا يعرف أن كلمة(عميد ) ظلت حتى العصر العباسى تعنى(المريض حبا )، وفى ذلك يقول الشاعر :" وإنى من حبها لعميد.." ، ويقول الفيروز آبادى ، فى معنى كلمة عميد " هدّه العشق" اى أمرضه العشق ..فهل نحاسب ذلك العميد بمعاجم اللغة العربية طبقا لمنهجه ونطلب له الشفاء من العشق؟.
3
ـ  إن مصطلحات القرآن تختلف عن مصطلحات المسلمين التى نبتت فى عصور لاحقة طبقا لحركة اللغة ، والامثلة كثيرة ، ليس فقط فى كلمة "الامى" و"الاميين" ، ولكن أيضا كلمات مثل "حد" ، "حدود" التى تعنى فى القرآن الحق المشروع ، وهى عندنا تعنى العقوبة ، وكلمة "السنة" التى تعنى فى القرآن (الشرع الإلهى ) أو " المنهاج الإلهى " وجعلنا لها معنى اخر ، وكلمة "التعزير" التى تعنى فى القرآن التقديس والمناصرة والتكريم . وتعنى عندنا الاهانة ..الخ.. فكيف نفهم القرآن بغير مصطلحاته هو ؟!
4
ـ  أما ان يكون التراث بتفاسيره ورواياته هو المرجع فى بيان القرآن، فالتراث هو مجال تخصصنا ، وهو كما قلنا ملىء بالتناقض حتى فى هذه القضية، ونعطى للأستاذ العميد ما يؤكد له من التراث ان النبى كان يقرأ ويكتب، يروى الطبرى فى تاريخه ( 2/300: 301) ، حديث نزول جبريل بالوحى يقول : "فجاءنى وانا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال : اقرأ فقلت ما اقرأ.."، الى ان يقول : فقرأته .."، اى انه يقرأ من الكتاب.
وفى تاريخ الطبرى ايضا عن اشتداد مرض الموت بالنبى ، وذلك مذكور فى البخارى (3/91 حاشية السندى .مكتبة زهران) أنهم اختصموا عند النبى ، وهو يحتضر ، فقال لهم : "هلموا أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ..فاختلف اهل البيت واختصموا ، منهم من يقول : قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما اكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله (ص) قوموا ، قال ابن عباس : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب .."، اى انه حسبما تؤكد روايات التراث انه كان يكتب.
ولكن المشكلة ان روايات التراث تتناقض حتى فى الموضوع الواحد ،وهذا ما يجعلنى فى الابحاث الخاصة بالقرآن الكريم والرسول الكريم لا اعول عليها كثيرا اكتفاء بالقرآن ، وصدق الله العظيم (ومن اصدق من الله حديثا).
والطريف ان ابن هشام فى روايته عن صلح الحديبية وكتابته يقول: "فبينا رسول الله (ص) يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو.."، ثم يقول : " فلما فرغ من الكتاب أشهد على الصلح رجالا .."،ثم يناقض نفسه فى اخر الرواية فيقول عن على بن ابى طالب انه "كان كاتب الصحيفة".
ومن الطبيعى فى هذا التناقض ان نحتكم الى القرآن الكريم ..وقد احتكمنا إليه .. وهذا هو منهجنا ، ومانرجو ان نلقى الله تعالى عليه.
5 ـ اما منهج العميد فهو اعلاء مفاهيم التراث فوق القرأن وآياته البينات ، وهو يقول بجراة هائلة على كتاب الله " جاءت الفاظ فى بعض الايات القرآنية يوهم ظاهرها ان النبى (ص) يكتب ويقرأ ويتلو صحفا .. مما يتعارض مع التفسير المذكور ، وهذه الالفاظ الموهمة هى التى اعتمد عليها د. صبحى فى ادعائه .."، اى ان الفاظ القرآن العظيم "موهمة" اى تفيد الوهم ،اي ليست محكمة ،وأن لها ظاهرأ يجلب ذلك الوهم ، اى ليست محكمة ، اما الباطن فيها فعلمه عند أهل الباطن، أي أئمة التراث ، وبالتالي فإنه إذا تعارضت هذه الألفاظ القرآنيه مع مفاهيم التراث ،فهي (موهمه)، ولابد من إخضاعها للتراث . وإذا كانت مفاهيم التراث ورواياته متعارضة،واذا كان فهم القرآن من خلال التراث يجعله (حمال أوجه) ويجعله متعارضا ، فإن الاستاذ العميد ينصح بالاجتهاد لدفع هذاالتعارض ،فكيف أنتهى به اجتهاده؟

6 ـ إن منهج العميد التراثى قد اوقعه فى التناقض مع نفسه
6 / 1 : فهو يقول بثقه شديدة " أجمعت كتب التفسير على ان معنى الامية عدم معرفة الكتابة"، ثم يقول فيما بعد ان بعض المفسرين "قالوا فعلا بان الأميين تعنى غير اهل الكتاب "،فكيف يكون هناك إجماع إذا على ان الأميين هم الذين لا يعرفون القرأءة والكتابة؟!
6 / 2 : ومع انه يؤكد ذلك الاجماع على ان النبى (ص) كان أميا بمعنى لا يقرأ ولا يكتب ، ومع انه يتعجب من رأينا بانه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ ويكتب ، فيقول :" لم يقل بذلك اى من المفسرين طوال اثنى عشر قرنا من الزمان"إلا انه يناقض نفسه فيقول : ان هناك من قال بان النبى (ص) عرف القرأءة والكتابة بعد ان نزل عليه القرآن ، وانهم احتجوا بقوله تعالى : ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك )، وانهم احتجوا بنفس الاية التى احتج بها د .صبحى "، اى ان الاستاذ العميد اجتهد بمنطق التراث وتناقضه فتناقض مع نفسه.
7 ـ مع هذا يتطاول علينا الاستاذ العميد ويتهمنا بالتصور القمىء "جدا" لأننا غلطنا فى فهم الفعل "اكتتب" فى قوله تعالى : ( وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا ) .. وقد قلنا ان المشركين كانوا يمرون على النبى وهو يكتب القرآن بنفسه لاصحابه ،ويمليه عليه بعض اصحابه ، والعميد يرى ان معنى "اكتتب" اى طلب ان يكتبوها له ، فإذا كان النبى يطلب منهم ان يكتبوها له فمن كان يمليها عليه ؟ لأن العميد الفاضل نسى ان يكمل الآية (..اكتتبها فهى تملى عليه) ، والذى يملى عليه شىء لابد ان يكتبه بنفسه .. أليس كذلك؟!
8 ـ وقد اجهد العميد الفاضل نفسه لكى يؤكد من خلال اللغة ان كلمة "اكتتب" تعنى طلب ، وهو هنا يخلط بين اكتتب و"استكتتب " لان السين والتاء فى بداية الفعل الماضى هى التى تفيد الطلب ، تقول استقتل اى طلب القتل ، استمات اى طلب الموت ، استحضر ، استكتب..وهكذا.. أما اكتتب أو ما ياتى على وزن افتعل ، فالمشهور أنها تفيد التصرف والاجتهاد فى الفعل ، وقد ذكر هذين المعنيين المشهورين وتجاهلهما ، لأنهما لا يناسبان المفهوم القرآنى فى قوله تعالى : (اكتتبها) ، اى اجتهد وتصرف فى كتابتها المعجزة ، وقد اوضحنا فى مقالنا السابق ان هناك إعجازا سريا فى الكتابة القرآنية ، وهذا يفسر لنا بقاء الكتابة القرآنية الفريدة بخط النبى (ص) دليلا على ان القرآن محفوظ بقدرة رب العالمين.

9 ـ وبنفس الطريقة فى الانتقاء يقول العميد ان للقرأءة والكتابة معنيين : قراءة المكتوب وتلاوته ، وقراءة المحفوظ فى القلب وتلاوته ، وهو ينفى عن النبى ان يكون قارئا وتاليا للمكتوب فى القرآن ،ويبذل قصارى جهده فى تأويل هذه الآيات البينات حتى يخضع القرآن لروايات البشر ، وكان يكفيه قوله تعالى للنبى : " وما كنت تتلو قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك " ، اى ما كنت تقرأ كتابا سماويا قبل القرآن ، وما كنت تكتب بخطك كتابا سماويا قبل القرآن، ولكن بعد نزول القرآن عليك اصبحت تقرأ القرآن المكتوب ، وتكتتبه بيدك. وكان يكفيه ـ اى العميد لو اراد ـ ان يرجع الى سياق الآيات فى سورة العنكبوت ليتأكد ان المقصود بالكتاب هنا ليس اى كتاب ، وأنما الكتاب السماوى ، اى انه عليه الصلاة والسلام لم يقرأ كتبا سماوية قبل القرآن ولم يكتبها ولم يكن لديه علم بها ، وإن كان يعرف القراءة والكتابة ، فلما نزل عليه القرآن كتبه وقرأه.
10 ـ اخيرا..ومن خلال منهجنا فى فهم الفاظ القرآن العظيم من القرآن العزيز نفسه ،اثبتنا بالآيات القرآنية ان كلمة "أمى " تعنى غير اهل الكتاب من سكان الجزيرة العربية ، وكان منهم النبى ، ولا تعنى الجهل بالقراءة والكتابة ،واثبتنا ان النبى كان يقرأ ويكتب ، وانه الذى كتب القرآن بيده تلك الكتابة الفريدة التى يحفظ الله تعالى بها كتابه حتى الان ، فوق كل تحريف ، وقلنا ان فى هذه الكتابة سرا عدديا ورقميا بدأت الابحاث تتجه اليه ،وسيكون الاعجاز القرآنى للعصر القادم ، وقلنا ان ما فعله ابو بكر وعثمان هو جمع المصحف ،وليس القرآن ، وذلك من خلال النسخة الاصلية المكتوبة بخط النبى ،والتزم عثمان بهذا الرسم العثمانى . وان كلمة المصحف مصطلح جاء بعد النبى.
11 ـ وما دفعنا الى هذا الاجتهاد هو ذلك الطعن فى القرآن اعتمادا على روايات التراث التى تتهم النبى (ص) بالجهل بالقراءة والكتابة ، والتى تجعل كتابة القرآن عملية بدائية فوضوية ، وكلها تناقض ما جاء فى القرآن من ان جمعه وكتابته كانت بوحى تماما ، كما تكفل رب العزة بان يكون بيان القرآن فى داخل القرآن (إن علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم ان علينا بيانه ).."القيامة 17" .
ولكن يبدو ان بعض الناس لا يؤرقه الطعن فى القرآن ،ولكن يؤرقه الطعن فى بعض الروايات التى يتخذها المستشرقون وسيلة للنيل من القرآن ،ولا بأس فى ذلك فكل منا قد أختار طريقه). 
انتهى المقال.

ونعيد التذكير به .. للتأكيد على حقيقتين
ألأول : لا يزال أغلبية الفكر الدينى لدى المتطرفين محصورا ومحاصرا بأئمة العصور الوسطى دون تجديد ، فلا ينظرون للقرآن الكريم الا من خلال ما قاله أعداؤه الحقيقيون من أئمةالتراث فى العصور الوسطى ، ولذا فلا يزالون ضد أى تجديد أو تفكير مستقل..
الثانى : انهم ينشرون القرآن مكتوبا على الاترنت بطريقة كتابة حديثة مخالفة للرسم العثمانى المعتمد مما يفقد القرآن الكريم اعجازه العددى وسر كتابته الفريدة التى تحوى سرا لم نكتشفه بعد.وهذا يدخل أيضا فى دائرة العداء للقرآن الكريم الذى بدأه أئمتهم التراثيون..
نقول ذلك للتوضيح ، والله تعالى المستعان

مقال : نكاح الشياطين لنساء المسلمين.

العناوين : ( المصيبة والرد عليها .. بعد أن أفتي رئيس محكمة أمن الدولة العليا به . روزاليوسف – 3 -3 – 1997 . الدكتور أحمد صبحي منصور يكتب :

نكاح الشياطين لنساء المسلمين.

عناوين : (  في عصور الإحباط تنتشر روايات المس الشيطاني وأطفال العفاريت .  الشياطين هم من يروجون أحاديث النبي ( ص ) عن الجن والملائكة والخرافة فهي مدسوسة ! . فتأوي الإمام محمد عبده أكدت أن النبي ( ص ) لا يعلم الغيب )

المقال :

1 ـ ونحن نثرثر بأهمية التأهب العلمي والفكري للحاق بالقرن القادم , ومواكبة ثورة المعلومات والاتصالات والأرقام , فاجأتنا قضية " عبدة الشيطان " لتقوم بتعريتنا دينيا وفكريا واجتماعيا .. فقد أثبتت لنا أننا تقدمنا إلى الخلف مائة عام بالضبط .. أي أننا كنا في أواخر القرن التاسع عشر مؤهلين فعلا لأن نلحق بالقرن العشرين , فأصبحنا في أواخر القرن العشرين غير مؤهلين لأن نلحق بالقرن التاسع عشر . وبالطبع هذا كلام نظري يستوجب الدليل ..  وإليكم الدليل في صورة عرض تاريخي فكري سريع .

2 ـ في أواخر القرن التاسع عشر كتب الإمام محمد عبده في تفسير سورة البقرة، ينفي عن النبي محمد صلي الله علية وسلم العلم بالغيب، ويؤكد ذلك من خلال الآيات القرآنية التي تعلن وتؤكد أن النبي صلي الله علية وسلم لا يعلم الغيب، ومعني ذلك أن كل الأحاديث المنسوبة للنبي صلي الله علية وسلم في الكلام عن غيوب المستقبل والآخرة وأحوالها، وعن عوالم الجن والشياطين والملائكة ، كلها لم يقلها النبي صلي الله علية وسلم .. لأنه لا يعلم الغيب . وما كتبة الإمام محمد عبده في تفسيره " المنار " ، يتفق مع منهجه الفكري في اعتبار كل الأحاديث مجرد أحاديث آحاد تفيد الظن ، ولا تفيد اليقين ، ولا يؤخذ بها في أمور الاعتقاد ,  ومنها السمعيات أو الغيبيات ، وهو منهج أ كثرية المحققين في الحديث ، خصوصا في عصور ا لأجتهاد ، وكانت حركة الإمام  محمد عبده في أواخر القرن الماضي عودة بالفكر الإسلامي  إلي  عصر الاجتهاد ، ليواكب التقدم العلمي المتزايد " وقتها " !!

3 ـ ولكن حركة الاجتهاد التي قام بها محمد عبده صادرها وأجهضها تلميذه رشيد رضا ، إذ حولها إلي حركة فكرية سلفية ، ثم تحولت الحركة الفكرية السلفية إلي حركة سلفية  سياسية تطمح  للوصول إلي الحكم ، وذلك علي يد الشيخ حسن البنا تلميذ الشيخ رشيد رضا ، والدليل علي تذكر رشيد رضا وخيا نته  لفكر أستاذه الأمام محمد عبده  نراه  في تفسير المنار نفسه ، فالشيخ  رشيد رضا يؤكد في مقدمة  تفسير المنار أن الإمام محمد عبده  توقف في التفسير عند آية (126) من  سورة النساء ، فقام  رشيد رضا باستكمال الكتاب ، وهنا نجد التناقض بين تفسير الإمام ، وتفسير تلميذه ، وخصوصا  في موضوع علم النبي صلي الله علية وسلم  بالغيب ، ذلك الذي ينفيه  محمد عبده  مستدلا بآيات  القرآن  ، ثم  يؤكده  رشيد رضا مستدلا بأحاديث  كاذبة ، وكل ذلك في نفس الكتاب.

4 ـ وفي سياق دعوة الشيخ حسن البنا السياسة وانتشارها , انتشر في إطارها الفكر السلفي , وجاءت الثورة فأجهضت حركة الإخوان سياسيا , ولكن تسامحت مع أيدلوجيتها الدينية السلفية , ومع ذلك فإن بصيصا من مدرسة الإمام محمد عبده انطلق يضيء جنبات الأزهر خلال مشيخة الإمام الشيخ شلتوت في عهد عبد الناصر , وفيما يخص موضوعنا, فقد كتب الشيخ شلتوت في مقدمة الفتاوى المنشور سنة 1959 عن موضوع الجن والشياطين بمنهج تقدمي عقلاني , وإن كان أقل وضوحا من الإمام محمد عبده , الذي سبقه بأكثر من نصف قرن .. ( لاحظوا التقدم إلى الخلف ) . فقد قال الشيخ شلتوت أن صلة الجن والشياطين بالإنسان لا تتعدى الوسوسة والتزيين للشر , أما ما عدا ذلك فكله أوهام , وجعل من الأوهام ظهورهم للإنسان العادي بصورتهم الأصلية أو بغيرها , ودخولهم جسم الإنسان , والتزاوج بينهم وبين الإنسان , واستخدامهم في جلب الخير أو دفع الشر .. وأكد الشيخ شلتوت على أن هذه الأوهام خارج المصادر الشرعية القطعية اليقينية. وباستحياء شديد يناسب التراجع أو التقدم للخلف أشار الشيخ شلتوت إلى الأحاديث التي تثبت هذه الأوهام عن رؤية الجن والشياطين والتعامل معهم , فقال أنها حكايات جعل منها الفقهاء مادة للتدريب على تطبيق الأحكام الفقهية , ولا يصح أن تكون دليلا أو شبه دليل على الوقوع والتحقق , ثم قال : " فلنتركهم على سنتهم يفترضون , ومردنا إلى القرآن الكريم " .

5 ـ وكان المفترض أن يبني الشيخ شلتوت على فكر أستاذه محمد عبده , ولكن المناخ تراجع ، وعلا الصوت السلفي ، فاضطر الشيخ شلتوت , وهو شيخ الأزهر أن يعالج الموضوع  بدبلوماسية , ولم يضع النقاط على الحروف , وعذره أنه كانت له تجربة سابقة في المعاناة مع الشيوخ , أجاركم الله !! 

6 ـ ولكن هذا البصيص الضئيل من الاستنارة أطاح به النفوذ السلفي الذي عاد في عصر السادات ، وانتشر عبر قطار النفط السريع إلى عقول وقلوب الناس، فأصبح الفكر السلفي هو الممثل للإسلام مع أنه كان في عصور الاجتهاد يسمى بالحشوية ، أي الذين يحشون عقولهم بأوهام وخرافات لا تصمد أمام العقل , فيضطرون لصياغتها في أحاديث حتى تتحصن من النقد والانتقاد .

7 ـ وفي عصر الفكر السلفي , فوجئنا بعبادة الشيطان . أو عبدة الشيطان , وكتب كثيرون في الموضوع , ولكن أبرز ما يعبر عن مأساتنا الفكرية السلفية هو ما كتبه قاض فاضل في صحيفة قومية كبرى .

يقول في لهجة الواثق : " وقد يتزوج الشيطان من نساء الإنس , وهي حقيقة لا مراء فيها , ولا جدال , ويؤكدها قول الحق سبحانه وتعالى : ( وشاركهم في الأموال والأولاد ) الإسراء 64 , وكثيرا ما ينكح الشيطان المرآة من الإنس , ويكون ذلك إذا أتاها زوجها وهي حائض , فقد قال ابن عباس : إن الشيطان يسبقه إليها فتحمل منه , ولهذا نهى الحق سبحانه الرجل من مباشرة امرأته وهي في هذه الحالة , فقال ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) .. البقرة 222 , وكذلك ينكحها الشيطان إذا أتاها زوجها دون غطاء يستر عورتها , كما ينكحها إذا أتاها زوجها قبل أن يستعيذ بالله , فقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ( إذا جامع الرجل زوجته ولم يسم انطوى الشيطان إلى إحليله فجامع معه ) , والمولود في كل هذه الحالات هو في حقيقته ابن الشيطان , وليس أبن هذا الزوج المخدوع , الذي تسمى باسمه في شهادة الميلاد زورا وبهتانا .. وأولاد الشيطان من نساء الإنس هم المخنثون , أي الشواذ جنسيا , كما قال ابن عباس . ولهذا فأنه ليس غريبا أو مستغربا  أن يميل هؤلاء المخنثون إلي والدهم الحقيقي وهو الشيطان ، فيحبونه إلي درجة التقديس ، ويعتبرونه  القدوة  و المثل الأعلى لهم.. ومن شابه أباه فما ظلم ..أ.هـ .)

8 ـ وهكذا تقدمنا أو تراجعنا إلي الخلف مائة عام .. وحاولنا بتفسيرات مغلوطة وأحاديث كاذبة ـ  لم يقلها النبي صلي الله عليه وسلم ــ أن نثبت أوهاما لا أصل لها في الإسلام ، ولا في القرآن ، ولم يعرفها عصر النبي صلي الله عليه وسلم ، وضاع كل الاجتهاد الذي ساد في القرنين الثاني والثالث..كما ضاع اجتهاد محمد عبده ، ومحمود شلتوت،وكل عام وأنتم بخير..!!

9 ـ إن ما قاله القاضي الفا ضل عن علاقة الشيطان بالأنس يستند إلي أحاديث فيها أن النبي  صلي الله عليه وسلم يتكلم عن الغيب ، وذلك يخالف  القرآن الذي يؤكد علي أن  النبي لا يعلم الغيب ، وليس له أن يتحدث فيه ، كما  استند  إلى آيات قرآنية  تتحدث في سياق آخر ، فقد استدل علي زواج الشيطان بالنساء بآية " وشاركهم في الأموال والأولاد " ، وجعل المشاركة  زواجا، ولو أتبع نهج القرآن ومفاهيمه ومصطلحاته , لأدرك أن علاقة  الشيطان بالإنسان  تدور في إطار  الوسوسة والهمز والتزيين والنزغ،أي الإضلال والإيقاع  في الشر بالتأثير علي الإنسان ونفسه .. دون جسده . أما علي المستوي الجسدي المادي ، فليست هناك أدني علاقة بين الإنسان والشيطان ، فالله تعالي يقول لنا " إنه يراكم هو وقبيله  من حيث لا ترونهم " (الأعراف 27) ،أي هو يرانا ونحن لا نراه ، وذلك يعني اختلاف  المستوي الوجودي بيننا وبينه، وهذا يعني أنه من عالم الغيب ، أي العالم الذي يغيب عن عالمنا  المادي  وحواسنا الجسد ية ، وبالتالي فأي اتصال جسدي  مستحيل بين العالمين  ، وكل ما هناك هو غواية  يقوم بها علي المستوي النفسي ، والنفس كائن برزخي ينتمي إلي نفس عالم الغيب ، ومن الممكن  النجاة  من كيد الشيطان ووسوسته وشروره بالاستعاذة بالله تعالي منه.. وكفي الله المؤمنين القتال !!.. لذلك فأن الله تعالي يقول عن كيد الشيطان ( إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) " النساء 76 ".

10 ـ ونعود إلى الكاتب الذي يستدل بتحريم القرآن مباشرة الزوجة في الحيض , وهو يربط هذا بنكاح الشيطان المشترك مع الزوج لزوجته حين الحيض , ويؤسس تحريم القرآن للمباشرة في الحيض على هذا السبب , وهذا لا يتفق مع منطق الآية وسياقها , ومقصدها التشريعي , وذلك يبدو في قوله تعالى ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) . فالتحريم لان المحيض أذى , ويجب امتناع المباشرة وقت نزول هذا الأذى وحلوله بالمرآة. فأين موقع الشيطان هنا ؟ ..

11 ـ كما نتذكر أن السياق القرآني في الحديث عن الشيطان قد حوى كل شيء يخص الشيطان وعلاقته بالبشر وغير البشر , سواء في القصص القرآني أو في التشريع القرآني , وذلك في أطار أن علاقته بنا لا تتعدى الإضلال النفسي , وأنه لا يمكن أن نراه , وأن كيده بنا ضعيف , ويمكن النجاة منه بالاستعاذة بالله تعالى مباشرة . وغير ذلك أوهام لا وجود لها إلا في خيالات بعض الناس وتراثهم , وهذا يدخل بنا على رؤية قرآنية وسسيولوجية لقضية عبدة الشيطان .  

12 ـ ونعطي أمثلة لبعض أنشطة الشيطان المسيطرة على حياتنا الدينية :

12 / 1 : فالضريح المقدس هو مجرد بناء من تراب وطين وأسمنت وزجاج ورمل وأخشاب , وتحتها رفات ميت , ومواد البناء هذه ندوسها بأقدامنا , ومع ذلك تصبح مقدسة نركع أمامها ونخشع .. والسبب أنها تقوم فوق رفات رجل صالح , أو يقال أنه كذلك .. مع أننا لو فوجئنا برفات ذلك الرجل ينتصب أمامنا من الضريح لولينا الفرار .. إذا فأين عقولنا حين نقف خاشعين عابدين أمام الضريح المقدس ؟ الإجابة أن الشيطان هو الذي أقنعنا بالأوهام والأساطير .. إذن فتلك الأضرحة التي لا تختلف عن أي بناء أخر إنما هي من صنع الشيطان ، هو بالطبع لم يصنع مواد البناء ، ولم يقم بالبناء ، وإنما هو الذي أقنعنا بأن تلك المواد الطينية والخشبية تستحق التأليه والتقديس .. كل ذلك يوجزه قوله تعالى لنا ( يأيها الذين أمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) " المائدة 90 " فالأنصاب هي القبور المنصوبة للتقديس أي الأضرحة ، والله تعالى يحذر المؤمنين من عبادتها ، ويأمر باجتنابها .. ومع ذلك فالمؤمنون عليها يعكفون .. ولا يزالون .. أليس هذا عبادة الشيطان ؟ 

12 / 2 : وهذه الأحاديث التي لم يقلها النبي صلي الله عليه وسلم ، والتي تخالف القرآن  وسنة الله تعالي ورسوله ، من الذي وسوس للناس بها ؟ القرآن يسميها وحيا شيطانيا  " الشعراء 221 " ، والله تعالي يجعل أصحاب تلك  الأحاديث أعداء للنبي ، ويصف في دقة بالغة أولئك الناس ، ويدعو للاحتكام للقرآن في شأنهم " الأنعام 112 : 116 " ومع ذلك فإن أ كثرية  الناس يتبعون تلك الأحاديث المخالفة للقرآن .. وهم علي ذلك قائمون ..أليس هذا عبادة للشيطان؟

12 / 3 : - ويتعاظم دور الشيطان في الإضلال عندما يسود الاحتراف الديني والتدين المظهري السطحي ، خصوصا في عصور الإحباط السياسي  والاجتماعي ، حينئذ ترى علامات التدين منتشرة على الوجوه في اللحى والنقاب والجلباب والمساجد والقباب ، وتجد في نفس الوقت مظاهر الفساد والانحلال والشعور بالتفوق الديني والاستعلاء العقائدي ، وكل ذلك يرتبط بالتكفير والتعصب والجمود والتقليد .  حينئذ يبحث الناس عن فتوى لكل بديهية ، وعن استدلال ديني لكل تحرك وتصرف .. وتتقافز فتاوى التحريم ، لتحرم ما أحل الله ، وعن طريق الترهيب والتكفير يرتدى الوعاظ زى الاجتهاد ، ويفتون بكل شئ بدءا من نقل الأعضاء  إلي الطب والتداوى. هنا تتربع سيطرة الشيطان ، وهنا أيضا يتحول المفهوم  القرآني عن " المس الشيطاني " من معني الغواية  والإضلال إلي حكاية أخري مؤداها أن الشيطان يلبس الأجساد ، فيحدث بها المرض ، أو يتزوج النساء وينجب أطفالا من العفاريت .. وهنا أخيرا .. تسود الخرافة بعد أن ارتدت زى الدين .وتتم عبادة الشيطان الكاملة ، فإذا سقط بعض الشباب في تقليد الغرب في مجونه الغربي جاءت  التحليلات من نفس الثقافة تسمي ذلك تزاوجا بإبليس  ، وإنجابا منه ، وامتزاجا عضويا به ، مع أنه لا فارق نوعيا بين المس الشيطاني في مفهوم أهل الاحتراف الديني ، وبين عبادة الشيطان  لدى أهل الغرب العلماني ، اللهم إلا أن الغرب العلماني أكثر صراحة وأقل نفاقا . 

13 ـ ولكن ما الذي أوجد لدينا هذا التنوع في عبادة الشيطان  ؟ هنا ندخل علي الظروف الاجتماعية الاقتصادية .. في عصرنا الراهن أصبح واحد في المائة من المصريين يملكون 99% من الثروة ، وبدأت الطبقة الوسطي في التآكل والتلاشي ،  والتعليم الذي كان في عهد عبد الناصر طريقا لصعود الطبقة الدنيا إلي الطبقة المتوسطة  ، ومن الطبقة المتوسطة  للعليا  ، انتهي دوره الآن  في تذويب الفوارق بين الطبقات ، لان الوصول للطبقة العليا أصبح  محكوما بالعلاقات بين الثروة والسلطة  ، وما نتج عن ذلك من فساد إداري وسياسي واقتصادي  ، نتج عنة اختلال المعايير وارتفاع الأسوار أمام الطامعين للارتقاء ، إلا من خلال ثقوب يصنعها الفساد بمعرفته وقوانينه  .

14 ـ وهذه الفجوة الهائلة بين أغلبية عظمى لاتملك  ، وأقلية ضئيلة تملك وتحكم أدى إلي اتجاه  الشباب  اليائس المقهور إلي التطرف والتدين المغلوط  ، خصوصا من استشراء الفكر السلفي ، وقيامه ممثلا للإسلام خلال أجهزة الدولة  ، ولهذا أصيبت الأغلبية بثقافة المس الشيطاني ، وخرافات الجن والعفاريت . أما الشباب الآخر ، فقد كانت له معاناته المختلفة ، فالآباء مشغولون باقتناص كل ما يمكن اقتناصه ، وبالتناحر والتفاخر ، وليس لديهم وقت لرعاية الأبناء  ، ويعرضون هذا القصور بالإغداق عليهم بالأموال ، وحتى لو أعطوا  الأولاد اهتماما  ، فأولئك الآباء ليسوا قدوة صالحة للأبناء , وليس المال الذي يرتع فيه الأبناء  مالا حلالا يثمر في هداية الذرية  . ثم إن هذا الشباب  الذي يعاني من الوفرة وتوفر كماليات الكماليات ويعاني من الفراغ والملل  من ممارسة كل المتع ولا يقلق علي مستقبل ، هذا الشباب الذي يعاني من الانفصام التام بينه وبين مجتمعه الكبير ووطنه ،بل وأسرته الغائبة عنه لابد له من مجال يدفن فيه معاناته . ومن الطبيعي أن تتكفل الحضارة الغربية ومنجزاتها بتوفير الوسائل التي تمتص وقته وحياته ، وتصل به إلي نوع آخر من الانتحار النفسي والجسدي  ، لا يختلف كثيرا عن صرعى المس الشيطاني .

15 ـ  إذن تتجمع الخطوط  في النهاية إلي تأدية طقوس واحدة هي عبادة الشيطان  ، إما بصورة ضمنية  يمارسها أصحابها  وهم يحسبون  أنهم يحسنون صنعا ( الكهف 104) ، وأما بصورة واضحة صريحة لا تختلف هي الأخرى عن أقاويل بعض الصوفية في تمجيد إبليس  ، ولا تختلف عن طريقة اليزيد ية  في عبادته.

16 ـ وحتى تكتمل الصورة فإننا نختم بالقرآن ، وهو يحذرنا بعد أن حكي قصة هبوط آدم  ، ويقول تعالي لنا  " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما  أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما  ليريهما سوءاتهما إنه  يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون  " (الأعراف 27 ) . أي هناك موالاة بين الشيطان والذين لا يتبعون المنهج الإلهي ، ويوم القيامة سيقول لنا رب العزة ( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم . ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون )  " يس 60 " أي أن عبادة الشيطان مستمرة  في كل جيل .. وذلك  من خلال تقديس الأحجار  والبشر  ، ومن خلال الافتراء علي الله تعالي ورسوله  .. والعاصم من ذلك هو كتاب الله تعالي  المنزه عن كيد الشيطان في التحريف والتحوير .

17 ـ ولعلها تكون لحظة صدق نراجع فيها أنفسنا وعقائدنا .

أخيرا :

 نموذج من مقالات لم تنشرها روز اليوسف :

( محاكم التفتيش في تاريخ المسلمين : من القرن الأول  الهجري حتى نصر أبوزيد )

مقدمة لكل مقال :

1 ـ ارتبطت محاكم التفتيش للمفكرين بحقيقتين ، الأولى ـ أنها محاكمات في الفكر الديني وليس في الدين نفسه ،لأن الدين إيمان وعمل صالح ، والحكم فيه لله تعالى يوم القيامة ، وليس لأحد غيره ،  الثانية ـ أنها محاكمات لتصفية  حسابات سياسية ولتحقيق أهداف سياسية .

2 ـ واشتهرت أوربا العصور الوسطى بمحاكم التفتيش التي حملت لواءها الكنيسة ، وأفلح الغرب حين أوقف سلطان الكنيسة وفضح مظالم محاكم التفتيش ، ولهذا تطور وتقدم ، بينما لايزال تاريخ محاكم التفتيش في تراث المسلمين من ضمن المسكوت عنه والممنوع من الإقتراب منه ، لذلك يعيش الغرب الآن عصر ثورة المعلومات والتفكير ، بينما  لا زلنا نعيش عصر عذاب القبر والتكفير ..

3 ـ هيا بنا ندخل الممنوع ، فمن حق القارئ أن يعرف وأن يتقدم .

 المقال الأول :

كيف بدأت محاكم التفتيش في تاريخ المسلمين ؟.

* إنها تستلزم تيارات سياسية ومذاهب دينية، والتيار الديني الحاكم هو الذي يقوم بمحاكمة خصومه وتكفيره والتخلص منه با سم الدين .. وهذه المعطيات استقرت في القرن الثاني الهجري خصوصاً في بداية العصر العباسي الذي شهد موجة من محاكم التفتيش تحت اسم حركات الزندقة.ولكن قبلها كانت هناك محطات هامة نتوقف عندها .وأجرنا على الله..

* أخطر هذه المحطات هى النهاية الغامضة للصاحبي سعد بن عبادة زعيم الأنصار . المقتول في بلدة حوارين بالشام . وقد كان سعد بن عبادة مرشح الأنصار للخلافة في بيعة السقيفة . ولكن انتهت الأحداث ببيعة أبي بكر ، ورفض سعد بن عبادة مبايعته ، ورى الطبري في تاريخه أن عمر هدد سعد بن عبادة (تاريخ الطبري 3/522 ) وتولى عمر الخلافة ورفض سعد أيضاً مبايعته، وذكر المؤرخ ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/145) تهديد عمر لسعد إلى درجة أن سعد خاف على حياته في المدينة مسقط رأسه ، لذلك ترك أهله وهاجر إلى الشام ، وتكملة القصة نعرفها من المؤرخ البلاذري (أنساب الأشراف1/589) الذي يذكر مقتل سعد ابن عبادة في حوارين بالشام لأنه صمم على رفض البيعة لأي قرشي وأشيع أن الجن هى التي قتلت سعداً ، وقالت في اغتياله شعراً .

* هنا لا نجد محاكمة سياسية أو فكرية ، بل نرى مصلحة سياسية تحتم التخلص من زعيم الأنصار لتوطيد الخلافة القرشية ،هذاـ بالطبع ـ إذا صدقنا تلك الروايات التراثية الي لا نجد روايات أخرى تنفيها أوتنقضها ، ولكنها البداية الأولى في التخلص من الخصوم السياسيين، بدون محاكمة سياسية ، أو محاكمة فكرية تكفيرية للتمويه على الغرض السياسيى.

* وقبل أن نترك هذه المحطة نذكر بعض ملحقاتها التى أسالت الدماء دون قتل النفس ، أنفس المعارضين السياسيين ، وذلك ما حدث لمعارضى سياسة الخليفة عثمان بن عفان فوقع فريسة للإضطهاد بعض السابقين فى الأسلام مثل عمار بن ياسر وعبدالله بن مسعود وأبى ذر الغفارى وذلك الأضطهاد لم تصحبه محاكمات سياسية أو فكرية .

* وأول محاكمة سياسية صورية للمعارضة السياسية أجراها الوالي الأموي زياد ابن ابيه، والي معاوية على العراق ، وكان المتهم فيها حجر بن عدي وأصحابه، والسبب الحقيقي هو اعتراض حجر بن عدي وأصحابه على قيام الأمويين بسب الأمام  (علي) على المنابر في المساجد ، وكان والي الكوفة المغيرة بن أبى شعبة يتسامح مع حجر بن عدي إذا اعترض عليه في المسجد حين يبدأ في سب الإمام (علي) . فلما تولى بعده زياد ابن أبيه لم يحتمل اعتراضه على سب الإمام علي ، فاعتقله واستحضر شهودا مزورين ادعوا عليه انه قد خلع البيعة وأنه يعد للثورة على معاوية ، وبعث الوالي بحجر بن عدى  ورفاقه وشهود الزور الى دمشق حيث أمر معاوية بقتلهم 41 هـ .

* وكان حجر بن عدي ورفاقه أول ضحايا المحاكمات السياسية (الصورية) في تاريخ المسلمين ، وكان الوالي زياد ابن أبيه هو اول من بدأ هذه الوصمة ، وجاء بعده ابنه عبيد الله بن زياد والي الكوفة فكان يقتل خصومه السياسيين دون محاكمة صورية أو حقيقة ، وكان يمارس ذلك في سادية غريبة ، إذ يروى أن عروة بن حيدر التميمي جاء إليه في حلبة رهان على الخيل فوعظه وقرأ أمامه قوله تعالى  " أتبنون بكل ريع آية تعبثون ، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ، وإذا بطشتم بطشتم جبارين" فاخذه عبيد الله بن زياد فقطع يديه ورجليه ، ثم قال له كيف ترى ؟ فقال له عروة : أرى أنك أفسدت دنياي وأفسدت آخرتك !! فقتله ثم أرسل إلى ابنته فقتلها أيضاً . وعبيد الله بن زياد هذا هو الذي أرسل جيشاً لقتل الحسين بن علي وآله في كربلاء .. تلك المذبحة التي تشكل أحد الكوارث الثلاث في خلافة يزيد بن معاوية.

* واستخلاف يزيد بعهد من أبيه كانت اعلاناً صريحاً بتحول الخلافة الشورية إلى سلطان مستبد بالوراثة وحكم القوة ، وذلك التحول أدى إلى ثورة الحسين ومصرعه في كربلاء ، ومصرع الحسين أدى بدوره إلى ثورة المدينة وخلعها طاعة يزيد ، وبالتالي قيام معركة الحرة بين أهل المدينة وجيش الأمويين ، وانتهاك حرمة المدينة المنورة بعد هزيمة أهلها ، وما حدث للمدينة أدى إلى الكارثة الثالثة وهى انتهاك حرمة الكعبة وقتال أهل مكة وزعيمها عبدالله بن الزبير الذي أعلن الخلافة  ، وهذه الكوارث الثلاث  حدثت بالترتيب خلال السنوات التي حكم فيها يزيد (60 :64 هـ) وقد أدت  هذه الكوارث إلى خروج الحكم من الفرع السفياني الأموي وإعادة تأسيس الدولة الأموية على يد مروان بن الحكم وابنه عبدالملك بن مروان ، كما وصلت فيه القسوة الأموية إلى مداها في  التعامل مع المخالين في الرأى ، وبلغ الضحايا مئات الألوف ، وهذا المسرح الدامي جعل الدولة تواجه دعاية ضخمة من خصومها وضحاياها ، فاحتاجت إلى تبرير ديني يسوغ لها ما ترتكبه من مذابح ، وهنا بدأ التمهيد لاستغلال الفكر الديني في أغراض السياسة وذلك قبل اخترع حد الردة في العصر العباسي .

* لقد استأثرت مأساة الحسبن وآله في كربلاء باهتمام المؤرخين خصوصاً الشيعة ، حتى لقد غطت هذه المأساة على مأساة المدينة المنورة حبن اقتحمها جيش الأمويين بقيادة مسلم بن عقبة في 26 ذي الحجة سنة 63 هـ ، ويروي الإمام الزهري أن الجيش الأموي استباح المدينة المنورة ثلاث أيام بلياليها ، فقتل سبعة آلاف من الأشراف والصحابة وعشرة آلاف من بقية أهلها ، هذا بالإضافة إلى اغتصاب الحرائر من نسائها ، وذلك ما رددته كتب التاريخ كالطبري (4/372) وابن الأثير (3/10) ويقول المؤرخ ابن كثير أنه " حبلت ألف إمرأة في تلك الأيام  من غير زواج". تاريخ ابن كثير (8/372 ، 219) .

* وبعد مذبحة أهل المدينة توجه الجيش الأموي إلى مكة حيث حاصر الحرم بالمجانيق التي تقذف بالنار فأحرقت الكعبة ، ولم ينقذ أهل مؤقتاً إلا وصول الخبر بموت الخليفة يزيد بن معاوية واختلاف الأمويين على أنفسهم ، وبعد أن اتفقوا في مؤتمر الجابية على تولية مروان بن الحكم للخلافة أرسل الأمويين جيشاً آخر حاصر ابن الزبير وقتله سنة 73 هـ وكان قائد الأمويين هو الحجاج بن يوسف.

* وهذه القسوة المفرطة في سفك الدماء أوصلت الخلفاء الأمويين إلى غطرسة القوى التي تصادر الرأى السلمي ، وكان بعض الناس يجترئ على الخلفاء محتمياً بفضيلة الأمر بالتقوى فيقول للخليفة "اتق الله" وكان الخليفة ينصاع للقول حتى لاينطبق عليه قول الله تعالى " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم، فحسبه جهنم ولبئس المهاد: البقرة 206" واستنكف الخليفة عبدالملك بن مروان أن يقال له " اتق الله" فأعلن في المدينة سنة 75هـ ومن فوق منبر النبي تهديداً حاسماً لمن ينصحه بالتقوى ، وأنه لايعرف إلا لغة السيف فقال، "إني لن ُأداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف .. والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه" .

* أما ابنه الخليفة الوليد بن عبدالملك فقد خطب الجمعة وأطال في الخطبة حتى اصفرت الشمس فقام إليه رجل وقال له : إن الوقت لاينتظرك وإن الرب لا يعذرك"!! فقال له الوليد "صدقت ومن قال مثل مقالتك فلا ينبغي  له أن يقوم من مقامك ." وفهم الحرس مقصد الخليفة فقتلوا الرجل.!!

* وكان سعيد بن المسيب أكبر فقيه في العصر الأموي وشيخ التابعين في المدينة ، وقد أدرك مذبحة الحرة ونجا من القتل بمعجزة ، إذ ظل مختفياً في المسجد ، وكانت تجربة فظيعة أثرت في شخصيته وفي آرائه الفقهية ورواياته الحديثية ، وبرغم نسبه القرشي ومكانته العلمية فقد صاحبه الاضطهاد الأموي ، وكانت حياته معلقة على كلمة ينطق بها الخليفة إذا أراد، هذا مع اعتزاله السياسة وأهل الدولة . وقد ذكر ابن سعد في تاريخه الطبقات الكبرى (5/94ـ) كيف تعرض للضرب بالسياط ، وكيف كاد الخليفة الوليد أن يقتله لأنه استدعاه من المسجد فرفض المثول أمامه . وإذا كان هذا ما يحدث بشيخ قريش وأكبر علماء التابعين في زمنه فكيف بالآخرين.؟

* في ذلك الوقت "خلافة عبدالملك وابنه الوليد" لقى مئات الألوف من المسلمين حتفهم على يد الحجاج بن يوسف ، الذي كان يقتل الأبرياء بمجرد التهمة والظن، وكان يستبيح قتل الأسرى المسلمين الخارجين عليه ، وأكثر ضحاياه كانوا من الأبرياء المسالمين المتهمين ظلماً ، بدليل أنه عندما مات الحجاج سنة 95هـ وجدوا في سجونه ثلاثة وثلاثين ألف متهم بلا جريمة وكان السجين منهم يظل في السجن إلى أن يموت، وقد مات منهم في السجن خمسون ألف رجل وثلاثين ألف إمرأة ، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد، ولم يكن السجن إلا مجرد مقبرة ، الداخل فيه لايخرج منه إلا جثة هامدة ، ولأن دخول السجن والموت فيه أو الموت خارجه يحدث بسهولة لكل من يجرؤ على النقد . لذلك احتبست الآراء في الصدور وانزوى كل صاحب رأى في قعر بيته يخشى على حياته من إرهاب الحجاج .

* ولنأخذ مثلا على ذلك مما ذكره المؤرخ ابن سعد في الطبقات الكبرى في ترجمة فقيه الكوفة في عهد الحجاج ، وهو ابراهيم النخعي الذي عاش حياته في رعب من الحجاج حتى مات دون الخمسين سنة 96هـ ، بعد وفاة الحجاج ببضعة أشهر .

* لقد أرسل الحجاج شرطياً للقبض على ابراهيم النخعي ، وكان عنده في البيت صديقه ابراهيم التيمى، وقرع الشرطي الباب وهو يقول : أريد ابراهيم ،  فأسرع ابراهيم التميمي يقول للشرطي أنا ابراهيم ، وسار مع الشرطي للسجن وهو يعلم أن المقصود هو رفيقه ابراهيم النخعي، ولكن أراد أن يفدي بنفسه صديقه ، وظل ابراهيم التيمي في سجن الحجاج بدون محاكمة يقاسي العذاب ، وكان يعاني من ثقل السلاسل والجوع ، وحين جاءته أمه لتراه لم تستطع أن تتعرف عليه حتى خاطبها ، وظل في السجن إلى أن استراح بالموت .!! .

* وأثرت تلك الحادثة على سلوك الفقيه العبقري الشاب ابراهيم النخعي  فسيطر عليه الرعب من الحجاج واستخفى في بيت صديقه أبي معشر تطارده مخاوفه ووساوسه من زبانية الأمويين . وحين اعتقد أن الحجاج قد تناساه ظهر وأخذ يقرئ دروسه في مسجد الكوفة إلا أن حذره لم يفارقه ، وقد قال له بعض أصدقائه يحذره من دخول المسجد " أتذهب إلا المسجد فيجلس إليك العريف والشرطي ؟" . فقال له النخعي " بل نجلس في المسجد فيجلس إلينا العريف والشرطي أحب من أن نعتزل فيرمينا الناس بالتهمة " أى كان يخلف من الأنزواء ويخاف أيضا من اظهار آرائه.  ولم يتخلص النخعي من الرعب إلا حين بشروه بموت الحجاج ، فسجد لله شكراً وبكى من الفرح .!! .

* ولم يكن الصحابة وذرية (على) وأهل مكة والمدينة فقط من ضحايا الأمويين ، بل انضم إليهم الأقباط والموالي في مصر والعراق وفارس، ولم تقتصر مظالم الأمويين على سفك الدماء بل شملت اضطهاد غير العرب وأكل أموالهم . ومن الطبيعي أن تتعاظم النقمة عليهم من خصومهم الكثيرين ، خصوصاً الشيعة والخوارج ، وقد تزعموا المقاومة العلنية والسرية ، وتحصنوا  بمقولات دينية ، وكان لابد للأمويين أن يردوا عليهم بثقافة دينية مضادة.

* في ذلك الوقت كانت الحركة الفكرية بسيطة وساذجة وأكثرها لم يعرف التدوين المنظم ، لذلك قبعت تلك المعارك الفكرية بين سطور التاريخ وعلى هامش المعارك الحربية بين الأمويين وأعدائهم حيث حجبها عن الأنظار ضجيج الصدام الحربي .

* وتلك المعارك الفكرية بين الأمويين وخصومهم دارت حول قضية أساسية وبسيطة ، هى الجبر والاختيار ، والقضاء والقدر ، تلك المشكلة الفكرية التي تلازم الفكر الانساني في كل العصور ، والتي يجد فيها الظالم تبريراً مناسباً لظلمه .. وكذلك فعل الأمويين ، إذ قامت دعايتهم على أساس أن الله تعالى هو الذي شاء أن يموت الحسين وآله قتلى في كربلاء ، وأن الله تعالى هو الذي شاء أن يقتل أهل المدينة في موقعة الحرة ، وأن مشيئته تعالى اقتضت أن تنتهك حرمة البيت الحرام ، وأن الاعتراض على ذلك إنما هو اعتراض مشيئة الرحمن وخروج على إرادته ، ومعناه أنه يحدث في ملك الله تعالى ما لايشاء وقوعه ، ومن يعتقد أن هناك ما يخرج عن قدر الله ومشيئته فقد خرج عن الإسلام واستحق القتل.

* وبدأت هذه الدعاية الأموية مبكراً وبعد كوارث قتل الحسين وانتهاك حرمة المدينة وحرمة البيت الحرام ، وبدأت أيضاً مقاومة هذه الدعاية الأموية في حينها ، وإن كنا لا نعرف الكثير عن هذا الصراع الفكري إلا من خلال ما نتج عنه من آثار خطيرة كادت تودي بالدولة الأموية بعد موت الخليفة يزيد بن معاوية . ذلك أن عمرو المقصوص كان معلماً لمعاوية ابن يزيد بن معاوية ومرشحاً للخلافة بعده , وقد تأثر هذا الشاب (معاوية بن يزيد) بشخصية عمرو المقصوص وأفكاره عن الحرية والمسئولية ، ومسئولية الانسان على ما يفعله . وبالتالي مسئولية الأمويين عن أعمالهم ، وقد استطاع عمرو المقصوص أن يصل بتأثيره على معاوية بن يزيد بن معاوية إلى درجة أنه اعتزل الخلافة بعد شهرين من موت والده يزيد ، وقال في خطاب اعتزاله ما يؤكد مسئولية أبيه يزيد وجده معاوية عن الفظائع التي حاقت بالمسلمين ، ويذكر المقدسي صاحب كتاب "البدء والتاريخ "(6/17) أن عمراً المقصوص هو الذي نصح الخليفة الشاب قائلاً :"إما أن تعتدل وإما أن تعتزل"  ولما تيقن الخليفة الجديد من عجزه عن الاصلاح بادر بالاعتزال بعد أن أعلن رأيه في مسئولية أبيه وجده ، ولم يتمسح مثل أهله بالقدر الإلهي . وأدى هذا الموقف إلى أن قام الأمويون بقتل الخليفة المعتزل معاوية ابن يزيد ، ثم طاردوا عمراً المقصوص حتى عثروا عليه فدفنوه حياً وقالوا له : " أنت أفسدته وعلمته" .!!

* وهذه هى النهاية المفجعة عمرو المقصوص داعية الإرادة الحرة ضد مذهب الجبرية للدولة الأموية . وقد أثرت على داعية آخر مشهور وهو الحسن البصري (22ـ 110 هـ) الذي كان يؤمن بالإرادة الحرة ولكنه كان يخشى من الجبروت الأموى خصوصاً وهو يعيش إلى جوار الحجاج بن يوسف جبار بني أمية. والحسن البصري كفقيه واعظ أدرك المساوئ الخلقية الذي أدى إليه مذهب الجبرية فى الانحلال الخلقى لأهل البصرة والكوفة ، إذ رأى بعضهم في التمسح بالمشيئة الإلهية والجبرية رخصة في ممارسة الفجور ، لذلك كان الحسن البصري يتشجع أحيانا ً فيعلن مسئولية الانسان عن أعماله ويحذر من نسبة الشر إلى الله تعالى ويستدل بقوله تعالى " ولايرضى لعباده الكفر" إلا ان الحسن البصري  كان يغلف آراءه بالوعظ الخلقي لناس وعصيانهم ، ويحذر من التصريح بالانكار السياسي على الأمويين.

* ولكن فقيها جريئاً نهض لما تقاعس عنه الحسن البصري ، وهو معبد بن خالد الجهني الذي أعلن كلمته المأثورة "لا قدر،والأمر أنف" فقد أشاع الأمويون ودعاتهم في المساجد أن معاصيهم وأعمالهم " تسير بقدر الله" فأعلن معبد أنه " لاقدر" أي لا دخل لقدر الله بهذه المعاصي ، وان أمور الأمويين تجري بالظلم والاكراه برغم أنوف المسلمين ، أى " والأمر أنف" .

*ـ وانتقل معبد إلى البصرة وقابل شيخها الحسن البصري وقال له : " يا أبا سعيد ، هؤلاء الملوك يسفكون دماء المؤمنين ويأخذون أموالهم ويقوولون  إنما تجري أعمالنا على قدر الله." فتشجع الحسن البصري  وقال مؤيداً له : كذب أعداء الله.

* وكي يثبت معبد رأيه في الإرادة الحرة فقد شارك مع المثقفين في ثورة محمد بن الأشعث على الحجاج بن يوسف ، وفشلت ثورة ابن الأشعث ، وانهزم في موقعة دير الجماجم ، وأسرف الحجاج في قتل الأسرى ، واستبقى منهم معبد بن خالد ليتلذذ بتعذيبه والسخرية من آرائه ، إذ كان يؤتى به إليه مقيداً ، فيضحك الحجاج ويقول له:  يا معبد ، كيف ترى ما قدره الله لك ؟ ما تقول فيما قسم الله لك ؟ فيقول له معبد : "يا حجاج خلِّ بيني وبين قسم الله وقدره ، فإن لم يكن لي قدر إلا هذا القيد رضيت به" أي أن إرادة الحجاج هى التي جعلته في القيود وليست إرادة الله . وفي مرة أخرى قال له : يا معبد ، أليس قيدك بقضاء الله ؟ فقال له معبد: "يا حجاج، ما رأيت أحداً قيدني غيرك فاطلق قيدي فإن أدخله قضاء الله رضيت به". ولما عجز الحجاج عن الرد عليه أمر بتعذيبه ، فظل تحت العذاب إلى أن مات سنة 83 هـ .

* وكالعادة أدى عنف الدولة إلى انتشار مذهب معبد الجهني بعد مقتله ، فتكاثر أصحاب مذهب "القدرية" نسبة لقول معبد "لاقدر والأمرأنف " وظهر زعيم آخر لهم داخل دمشق نفسها هو غيلان الدمشقى" الذي استفاد من الحكم العادل للخليفة عمر بن عبدالعزيز ، وكانت لهما مناقشات في موضوع حرية الإرادة  والقضاء والقدر، وساند غيلان الخليفة عمر بن عبدالعزيز في رد المظالم ، وكان يقف في سوق دمشق يبيع ما يصادره عمر بن عبدالعزيز من أموال وخزائن وأثاث نهبها الأمويون ، كان يبيعها لصالح بيت المال ، وهو ينادي في الناس "تعالوا إلى متاع الخونة ،تعالوا إلى متاع الظلمة ، تعالوا إلى متاع ما خلف الرسول في أمته بغير سنته وسيرته" وقد مر هشام بن عبدالملك به وهو ينادي هذا النداء وسمع ما يسوؤه فنذر إن تولى الخلافة ليقطعن يدي غيلان ورجليه .

* وعندما تولى هشام الخلافة هرب غيلان وصاحبه صالح إلى أرمينيا ، ودعا إلى الثورة على هشام وظلمه ، فاعتقله أعوان الأمويين ، وجئ  به إلى هشام  بدمشق ، فقال له هشام : "زعمت أن ما في الدنيا ليس هو عطاء من الله لنا " فقال غيلان:"أعوذ بجلال اله أن يأتمن الخونة أو أن يستخلف الفجار خلفاء" أى إن هشام يعتقد أن استيلائه على الملك والأموال إنما هو بقدر الله وعطائه ، أما غيلان فيرى أنه حاش لله أن يجعل الخونة أمناء له أو يجعل الفجار خلفاءه ، وإنما هى السطوة والقهر وإرادة البشر بالرضى بالظلم والخنوع له أو بالتخلص منه .

* وأراد هشام أن يفعل بغيلان مثلما كان يفعل الحجاج بمعبد الجهني ، إذ أمر بحبسه ليتسلى بحبسه ، ثم يقتله في النهاية بعد أن يسلط عليه أحد علماء الدولة ليرد عليه بفكر ديني مضاد . وكان الأمام الأوزاعي هو ذلك الفقيه الذي يتكلم باسم الأمويين ، وقد تناقشا مع غيلان في السجن ، ولم يستمر النقاش طويلاً ، إذ سرعان ما أفتى الأوزاعي للخليفة بتعذيب غيلان وقتله هو وصحابه صالح. فأمر هشام باخراجهما من السجن وقطع أيديهما وأرجلهما وجئ بهما إليه ليشفي غليله ، فقال لغيلان :"كيف ترى ما صنع بك ربك؟!!" يعني أن قضاء الله هو المسئول عما حلَ به ، فقال له غيلان :"لعن الله من فعل هذا بي !!" يعني لعن الخليفة لأنه المسئول عما حدث وليس الله تعالى!!.

* وأراد هشام أن يستبقيه في السجن حياً ليكون عبرة للناس ، بينما يجلس الأوزاعي في المسجد الأموي يقص الأحاديث التي تلعن القدرية وتحكم بقتلهم ، وكان النتيجة أن أصبح الناس يتوافدون على غيلان الدمشقي في السجن يستمعون إليه ، وكان فصيحاً مفوهاً صاحب تأثير هائل في الناس ، فأخذ يعظ الناس ويهاجم الأمويين ، فانقلبت الآية على هشام ، فقيل له :"قطعت يدي غيلان ورجليه وأطلقت لسانه فأبكى الناس ونبههم إلى ما كانوا عنه غافلين." فأسرع هشام فأرسل إليه  من يقطع لسانه ، فقيل له :"أخرج لسانك." فقال :" كلا ، لاأعينكم على نفسي" فكسروا فكيه واستخرجوا لسانه فقطعوه .. فمات .. رحمه الله تعالى!! ( التفاصيل في كتاب القاضي عبدالجبار:طبقات المعتزلة 330: 334 .)

* وقد انتشر مذهب غيلان في الحرية والثورة ضد الظًلمة ودحض  مقولتهم في التمسح بالمشيئة الإلهية وأصبح هذا خطراً على الدولة العباسية التي دمرت الدولة الأموية.

*ومن عجائب التاريخ أن الوالي العباسي عبدالله بن علي الذي هزم الأمويين في موقعة الزاب والذي أبادهم في الشام استخرج جثة الخليفة الأموي هشام وضربها بالسياط ثم أحرقها ونثرها في الهواء ، ومع ذلك فإن  ذلك الوالي العباسى نفسه هو الذي احتفى يالإمام الأوزاعي حين سارع الأوزاعي بتقديم خدماته للدولة الجديدة وتنكر لسادته الأمويين، فأفتى للعباسيين بشرعية قتل الأمويين ونهب أمواهم ..

ومن العجائب أيضاً أن الأوزاعي ظل متمتعاً بالجاه في الدولة الجديدة ، يروي لها الأحاديث ويصنع لها الفتاوي التي تلعن "القدرية" أي مذهب الحرية الفردية ومسئولية الحاكم على ظلمه .. ولهذا انتشرت الأحاديث المصنوعة التي تلعن غيلان الدمشقي ، ومنها حديث : " يكون في أمتي رجلان أحدهما وهب الله له الحكمة، والآخر "غيلان" فتنة على هذه الأمة أشد من فتنة الشيطان" وقد أورد الملطي هذا الحديث في كتابه "التنبيه والرد" .وهو حديث عجيب ، إذ يمدح اليهودي وهب بن منبه أكبر مصدر للإسرائيليات في تراث المسلمين ويذم غيلان الدمشقي أكبر داعية للحرية العقلية والسياسية في تراث المسلمين .والسبب واضح ، إن تركيع الناس للاستبداد الديني والسياسي يبدأ بتعليب العقل وتحييده عن طريق الفكر الديني الذي يسلب الدين أعظم ما فيه وهو التعقل والتبصر والتفكر .وهكذا فعل الأمويون والعباسيون مع دعاة التفكير العقلي ..

ولكن .. هل نسينا موضوع نصر أبوزيد.؟

لم يحدث .. وهى مجرد بداية .المقال القادم .. ـ مولد حد الردة في بداية الدولة العباسية . ).

كنت أجهز سلسلة مقالات تنتهى بمحاكمة نصر حامد أبى زيد . لم ينشر الاستاذ عادل حمودة هذا المقال .. فلم أكتب لهم المقال التالى . 

اجمالي القراءات 4786