من إمامة الصلاة الى العزلة فى العصر الأموى

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٨ - نوفمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 من إمامة الصلاة الى العزلة فى العصر الأموى  

 إمامة الصلاة فى مجال الإستغلال السياسى :

1 ـ جعلوا أكبر مسوغات الإمامة السياسية لأبى بكر خليفة بعد النبى محمد عليه السلام أنه كان إمام المسلمين فى الصلاة ، ومن ذلك الوقت إرتبطت إمامة الصلاة بالقوامة السياسية ، وأصبح من مهام الأمير والوالى أن يؤم الناس فى الصلاة ، بحيث أن جبارا مثل الحجاج كان يؤم بقية الصحابة فى المدينة ومكة .

2 ـ وكانت إمامة الصلاة وجاهة إجتماعية . نفهم هذا مما جاء عن رجل مجهول من ذرية عبد مناف " جد النبى محمد وجد الأمويين " ، إسمه نافع بن جبير ــ كان مشهورا بالإستكبار والغرور ــ جلس خلف العلاء بن عبدالرحمن العلقمى وهو يقرىء الناس فى المسجد ، وقال للناس : " أتدرون لم جلست إليكم ؟ " قالوا : " جلست لتسمع ". قال : " لا ولكنى جلست إليكم لأتواضع  إلى الله بالجلوس إليكم . " . وقدم نافع رجلا ليصلى إماما وقال له : " أتدرى لم قدمتك ؟ " قال : " قدمتنى لأصلى بكم " ، قال : " لا ولكنى قدمتك لأتواضع إلى الله بالصلاة خلفك " ( الطبقات الكبرى 5، 153 ) ومات نافع هذا فى العصر الأموى عاه 99 هـــ . هذايعطى لمحة عامة عن موقع الصلاة وإمامة الصلاة فى الحياة الإجتماعية والسياسية .

3 ومن الطريف أنه قبيل موقعة الجمل وفد طلحة والزبير مع عائشة إلى البصرة مغاضبين لعلى بن أبى طالب فى خلافته ، فاستولوا على بيت المال فى البصرة . وحضر وقت الصلاة فتدافع كل من طلحة والزبير ليصلى كلا منها إماما بالناس فإذا صلى إماما بالناس كان هو القائد وكان رفيقه تابعا له ، واستمر تدافع  طلحةوالزبير حتى كاد وقت الصلاة أن ينتهى ، ثم اصطلحا على إقتراح عائشة أن يصلى عبد الله بن الزبير صلاة ومحمد بن طلحة صلاة الأخرى،  وفى أول صلاة اختلفا فيمن يبدأ بالإمامة فذهب ابن الزبير ليؤم الناس فأخّره ابن طلحة ، وذهب ابن طلحة يتقدم للصلاة فأخره ابن الزبير ، وأخيرا اقترعا فخرجت القرعة لمحمد بن طلحة فتقدم وأمّ الناس فى الصلاة وقرأ فيها " سأل سائل بعذاب واقع " . هذا ما يرويه ابن سعد فى :( الطبقات الكبرى 5، 39 ) . وانهزم طلحة والزبير فى موقعة الجمل ومات فى الموقعة كلاهما وعشرة آلاف من المسلمين والصحابة وكان من بين القتلى الشاب محمد بن طلحة وكان شابا ورعا اشتهر بلقب السجاد وبأنه من أطول الناس فى الصلاة ، إلا أن أباه طلحة أرغمه على الخروج معه إلى الجمل ( الطبقات الكبرى 5/ 39 ).  وبعد موقعة الجمل جاءت موقعة صفين بين ( على ومعاوية ) وكانت تمهيدا لزوال خلافة على وقيام الدولة الأموية .

الصلاة والعزلة :

1 ـ ولأن الدولة الأموية استخدمت الصلاة و المساجد ميدانا للأعلام والحرب الفكرية ، ولأن خصومها واجهوها بنفس السلاح مستخدمين الصلاة و المساجد والقصص والخطب و الأحاديث والروايات فإن ارتياد المعارضين للمساجد و الانخراط فى انشطتها كان بمثابة الدخول فى معترك حربي. فجواسيس الدولة الأموية يخترقون حلقات القصص وينتشرون فى المساجد يستمعون الى الخطب و الأحاديث، والولاه الجبابرة مثل زياد ابن ابيه والحجاج ابن يوسف وخالد القسري يقتلون من يشكون فى امرهم ، واشهرهم الحجاج الذى كان يقتل بمجرد الشك او الظن. ومن هنا عرف بعضهم العزلة واجتناب المساجد . وبعضهم توسط واعتدل . ويحتاج الأمر توضيحا. ونحن هنا نتحدث – ليس عن العوام- ولكن عن الفقهاء او القرّاء بمصطلح العصر . وكانوا القادة الفكريين للمعارضة السياسية و الحربية للدولة الأموية.

2 ـ المعضلة فى الموضوع ان الدولة الأموية كانت ترتاب ايضا فيمن ينقطع عن ارتياد المساجد ولا تثق الا فيمن يصلى خلف ولاتها. وهذه معضلة واجهت حتى اولئك الذين عملوا قضاة فى خدمة الدولة مع عدم رضاهم عن تعسفها و ظلمها. فالقاضى زرارة بن اوفى الحرشي كان يصلي فى منزله الظهر و العصر – وقت عمله الرسمي- ثم يأتي الحجاج ليصلي خلفه الجمعة (تاريخ ابن سعد 7/109) وهو بذلك يتبع حديثا اخترعه بعضهم ونسبه الى النبي محمد عليه السلام ، الحديث يضع حلا لتلك المشكلة، فيقول "انه ستجئ امراء تشغلهم اشياء يؤخرون الصلاة حتى لا يصلوا الصلاة الى وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها ، فقالوا : يارسول الله ، ثم نصلى معه ؟ قال نعم" ( تاريخ ابن سعد 7/ 2/ 125) ومعلوم ان النبي محمد عليه السلام لا يعلم الغيب و ليس له أمر يتكلم فيه ، ولكن تكاثرت أحاديث الغيبيات وراج نسبتها للنبي محمد لتعلق عما حدث فى العصور التالية بعد وفاة النبي محمد عليه السلام.

3 ـ ومن الناحية السياسية كانت الدولة الاموية محتاجة الى مراقبة المعارضة الفكرية . فثورات الخوارج كانت تشب فى كل حين ، وهناك ثورات أخرى يقوم بها العلويون و الشيعة ، و الموالى فى العراق وفارس و البربر فى شمال أفريقيا و الاقباط فى مصر . ولكن كان العدد الأكبر هم من العرب الخوارج المستميتين فى حربهم ضد الدولة الأموية . وكانت قسوة الأمويين فى مجابهة الثورات تضيف اليها الكثير من الأعداء ، خصوصا بعد قتل الحسين وآله فى كربلاء ، وانتهاك حرمة المدينة وحصار مكة وحرق الكعبة. وكان واضحا ان قسما كبيرا من العاملين فى الدولة لا يتورعون عن الخروج عليها اذا وجدوا لذلك سبيلا ، والدليل على ذلك ما يسمى بفتنة ابن الأشعث ، القائد الأموى الذى كان يغزو فى الشرق الأسيوي باسم الأمويون مرسلا من الحجاج ، وكان عامة جيشه من العراقيين الناقمين على الأمويين . واختلف ابن الأشعث مع الحجاج فى موضوع بسيط ، ورد عليه الحجاج بغلظة كعادته فإنتهزها القادة العراقيون العاملون مع ابن الأشعث ومازالوا بابن الأشعث حتى أقنعوه بأن يستدير بالجيش ويعود الى العراق ليقاتل الحجاج ، وكانت موقعة دير الجماجم التى انتصر فيها الأمويون بصعوبة ، والتى أسرف فيها الحجاج فى قتل الأسرى من الجيش المهزوم حتى بنى منها اهرامات من الجماجم . وكان سعيد بن جبير من حرّض ابن الأشعث على الخروج على الحجاج ، وقد فر و اختفى ، ومازال الحجاج يبحث عنه حتى عثر عليه وقتله.

وسعيد بن جبير احد قادة الفقهاء فى البصرة و العراق ، وكان ندا للحسن البصري أكبر فقيه فى وقته . ويذكر ابن سعد انه لما كانت فتنة ابن الأشعث وحربه مع الحجاج بن يوسف ، انطلق عقبة بن عبد الغافر وابو الجوزاء وعبد الله بن غالب فى نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن البصري ، فقالوا : يا ابا سعيد ما تقول فى قتال هذا الطاغية الذى سفك الدم الحرام واخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل ؟ وذكروا من فعل الحجاج الكثير ، فقال الحسن البصري : أرى ان لا تقاتلوه فإنها ان تكون عقوبة من الله فما انتم برادي عقوبة الله بأسيافكم ، وان يكون بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. فخرجوا من عنده وهم يقولون : نطيع هذا العلج ( اى المولى الأعجمي) وهم قوم عرب ، وخرجوا الى ابن الأشعث يقاتلون معه فقتلوا جميعا (تاريخ ابن سعد 7/119).

لقد كانت سياسة الحسن البصري هي الاحتجاج القولى دون ان يتحرك ايجابيا بالثورة على الأمويون . .وكان اكبر المعارضين شهرة ونفوذا ، ومع ذلك فقد كان من خلال تحليل تاريخه – مسكونا بالخوف من الحجاج بن يوسف . وكان اذا قيل له : ألا تخرج ؟ يعني ألا تخرج مع الخوارج تاثرا ، يقول : ان الله انما يغير بالتوبة ولا يغير بالسبف " ( ابن سعد 7/119).

4 ـ على انه يمكن تقسيم العزلة الى أنواع ..

4 / 1 : عزلة تامة ، مثلما كان يفعل مطرف بن عبد الله ، وهو القائل "لبثت فى فتنة ابن الزبير تسع او سبع سنين ما أخبرت فيها بخبر ولا استخبرت فيها عن خبر" وقالوا عنه انه كان يلزم قعر بيته ولا يقرب لهم جمعة  ولا جماعة حتى تنجلى لهم عما انجلت . ( ابن سعد 7/103).

4 / 2 : وبعضهم كان يحضر الى المساجد ويصلى ، ولكن يبتعد عن المشاكل ويجتنب ما يدور فيها من اجاديث سياسية او لغط قد يؤدي الى مشاكل مع الأمويين ، وتلك هى سياسية الحسن البصري الذى كان لا يفارق مسجد البصرة ، يقوم الناس ويحضر حلقة علمه الكثيرون مع محافظته على عدم التورط فيما يدينه امام الحجاج. وقد قال الحسن البصري " احترسوا من الناس بسوء الظن " ( تاريخ ابن سعد 7/125) وهى نصيحة ثمينة مريرة لأتباعه ، حيث كانوا جواسيس الأمويون ينتشرون حوله فلابد من سوء الظن بالجميع . وهى الحالة العقلية التى تأسست عليها العلاقات الاجتماعية فى الدول الاستبدادية البوليسية والتى لا يزال فيها المحمديون اليوم . وكان على منهج الحسن البصري كثيرون من اتباعه ، منهم من قال ( جالست الحسن البصري اثني عشر سنة اصلى معه الصبح ثلاث سنين) ( تاريخ ابن سعد 7/2/1).

4 / 3 :وتفنن بعضهم فى الجمع بين العزلة والصلاة ، ومنهم ثابت البناني وكان عابدا مشهورا ، من أقاويله ( لا يكون العابد عابدا وان كان فيه خصلة من كل خير حتى يكون فيه هاتان الخصلتان : الصلاة و الصوم) . ونحن نشكر له انه لم يحول هذه المقالة الى حديث منسوب للنبي كما كان يفعل غيره . وثابت البناني الذى مات فى ولاية خالد القسري على العراق : ( كان كلما مر بمسجد دخل فصلى فيه ) ( ابن سعد 7/2/3) حتى يتجنب ارتباطه وبعضهم مثل ( صفوان ) سجن نفسه فى سرداب فى بيته معتكفا الناس ولكنه كان يخرج من هذا السرداب فى اوقات الصلاة فقط ( طبقات ابن سعد 7/107) ويعود الى سردابه. وقد دخل صفوان المسجد مرة فرأى قوما يتخاصمون فيه ، فقام عنهم وقال ( انما انتم حرب) ( طبقات ابن سعد 7/107 : 108).

4 / 4 : وحاول بعضهم ان يبرر موقفه هذا دينيا عن طريق الوحي .. وهو ان لم ينسبه حديثا للنبي محمد عليه السلام ، فقد جعله مناما صاغه بطريقة مؤثرة مقنعة ، قال ميمون ابن شياه "تذاكروا عندي رجلا من هؤلاء السلاطين فوقعوا فيه ، ولم اذكر منه خيرا ولا شرا . فانقلبت الى بيتي فرقدت فرأيت فيما يرى النائم كأن بين يدي جيفة زنجي ميت منتفخ منتن ، وكأن قائما على رأسي يقول : كُل ، قلت : يا عبد الله ، ولماذا آكل ؟ قال : بما اغتبت عندك فلان . قلت : ما ذكرت منه خيرا ولا شرا . فقال لى ولكنك استمعت ورضيت " (تاريخ ابن سعد 7/111). وبالطبع فهذا المنام متأثر بقوله جل وعلا ( وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ ﴿١٢﴾ ) الحجرات ). وقد أجاد الصياغة فى استخدامه التنفير من حضور الاجتماعات السياسية فى المساجد والتى كانت تتخذ ضد الأمويين. ولكن نرى فيه تعصبا مقيتا ضد الأفارقة ، وهذا لا يليق بالمسلم لأنه تجاهل الآية التالية : (ي َا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿١٣﴾ الحجرات ) وقوله جل وعلا : (  وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ﴿٢٢﴾ الروم ).

4 / 5 : وقد كانت مشكلة ابى العالية الرياحي مع الحجاج ، هل يصلى معه او يترك الصلاة خلفه ؟  وهل يقبل الله تعالى صلاته تلك او تلك ،  يقول الرياحي انه صلى آخر جمعة خلف الحجاج ، ومات الحجاج بعدها . يقول عن تلك الصلاة الأخيرة " فعماه الله عني" ويقول " وقد صليت خلفه حتى خفت الله ، ولقد تركت الصلاة خلفه حتى لقد خفت الله" ( ابن سعد 7/83). وهي مشكلة حقيقية ان يكون الحاكم الظالم حاضرا فى قلب المؤمن الذى يصلى الى هذه الدرجة . لذلك لا نتعجب من مقالة عبد الله بن سعد من متأخرى الصحابة ، وقد عاش فى مصر وكان بيته قريبا من مسجد الفسطاط الا انه كان لا يصلي فيه الا الصلوات الخمس المكتوبة فقط ، ويقول "لأن اصلى فى بيتي أحب الى من أن أصلى فى المسجد الا ان تكون صلاة مكتوبة" ( ابن سعد 7/2/193).

5 ـ وكان ابن عون المتوفى سنة 151 هـ قد ادرك الدولتين الأموية والعباسية ، اى شهد سقوط دولة وقيام اخرى معادية لها، وهي اصعب الفترات السياسية فى النظم الاستبدادية ، الا انه عاش فى امن وسلام لأنه تصالح مع الدولة الأموية. يقول عنه ابن سعد ( كان لا يبكر الى الجمعة ذلك التبكير الذى يعرف ولا يؤخرها ، وكان أحب الأمور اليه اوسطها والاختلاط بالجماعة. وكان يغتسل الجمعة والعيدين ويتطيب للجمعة والعيدين ، ويرى ذلك سُنّة. وكان يلبس فى الجمعة والعيدين انظف ثيابه ، وكان يأتي يوم الجمعة ماشيا او راكبا . ولا يقيم بعد صلاة الجمعة . وكان فى شهر رمضان لا يزيد على المكتوبة فى الجماعة ، ثم يخلو فى بيته . وكان ربما امّنا ابن عون ، وربما قدم بعض بنيه ، وكان يصلى بأصحابه المغرب و العشاء ، وكان له مسجد فى داره يصلى فيها الصلوات كلها ومن حضر من اخوانه وولده . وكان له مؤذن مولى يقال له زيد . ويقيم مؤذنه مثنى ، ويقيم وترا وترا " (ابن سعد 7/2/26).

أخيرا

تطور الأمر فى العصر العباسى فتحولت العزلة الى طقس دينى عند الزهاد ، ثم عند الصوفية تأثرا بالرهبان فى أديرتهم ، والتفاصيل فى كتاباتنا فى موسوعة التصوف المملوكى. 

اجمالي القراءات 4016