أسرار قوم نوح
هناك عدة أمور تشد الانتباه لما وردنا عن قوم نوحٍ عليه السلام أضعها بين أيديكم :
1 - لم يكن نوح عليه السلام هو النبّي الأوحد في قومه بل كان معه عددٌ آخر من الأنبياء و الرسل في نفس الفترة التي عايشها , علماً بأن فترة تواجده بين قومه بلغت 950 عاماً - تلك هي فترة تواجده معهم قبل الطوفان و ليست مدة حياته - , و لا ندري كم عاش بعدها عليه السلام :
( كذبت قوم نوح المرسلين ) 105 الشعراء .
( وقوم نوح لما كذبوا الرسل اغرقناهم وجعلناهم للناس اية واعتدنا للظالمين عذابا اليما ) 37 الفرقان .
( ولقد ارسلنا نوحا الى قومه فلبث فيهم الف سنة الا خمسين عاما فاخذهم الطوفان وهم ظالمون ) 14 العنكبوت .
2 - إرسال نوح عليه السلام هو بمثابة الإنذار الأخير , أي أنه عليه السلام قد بُعث و أمرَ من أجل الإعلان بأن عذاب الله آتٍ و قريب , فقد صدر الأمر الإلهي بذلك , فكانت مهمته التبليغ بهذا الأمر و صناعة الفلك التي سينقَذ بها المؤمنون من قومه , أما بقية الخلق فسيهلكون جميعاً , و لكن إن استجاب أحدٌ منهم لهذا الإنذار و آمن متأخراً , كان بإمكانه النجاة و إتاحة المجال له ليعبد الله جل وعلا كي يغفر له ما قد سلف :
( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) 1 نوح .
( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) 4 نوح .
3 - قوم نوح عليه السلام كان لهم أصناماً يعبدونها من دون الله جل وعلا , و في نفس الوقت كانت هناك خمسة أمور تسيطر و تهيمن عليهم و يخافون من سطوتها ( ود , سواع , يغوث , يعوق , نسر ) .
( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) 23 نوح .
4 - قوم نوح عليه السلام كانوا يفرون من دعوة نوحٍ لهم حين ينذرهم بها , و الفرار لا يعني مجرد الهرب فقط , بل هو مشروط ٌ بالخوف و الرجاء , أي أن الفرار هو الهروب المصحوب بالخوف و الطمع , فكانوا يفرون من الحق إلى الباطل ظناً منهم بأن الباطل سيحميهم , فكان فرارهم هذا مرتبطا بخوفهم من الباطل و طمعاً بما لديه من عناصر قوة , و لذا كانوا يرفضون مجرد السماع لنوحٍ عليه السلام :
( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا ) 6 نوح .
( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ) 7 نوح .
5 - قوم نوح عليه السلام كانوا على دراية بخمسة أمور أيضاً , و لربما بعض تلك الأمور كانت تخص زمانهم قبل الطوفان :
( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) 14 نوح
( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) 15 نوح
( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ) 16 نوح
( وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ) 17-18 نوح
( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا ) 19-20 نوح
فهل تلك الأمور الخمس تماثل الأمور الخمس التي كان قوم نوح عليه السلام يخافون من سطوتها و المتمثلة بكلٍ من ( ود – سواع – يغوث – يعوق – نسر ) .
6 - تلك الأمور الخمس ( أو الواقع المختلف , أو النمط الكوني المختلف إن صح التعبير) يقابلها أيضاً خمسة أمور تتعلق بالخالق جل وعلا , يطمأن بها نوحٌ قومه كي لا يخافوا من سطوة ما يخافون منه :
( يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا ) 11-12 نوح ( ينزل عليهم المطر – يمدهم بالأموال – يمدهم بالبنين – يجعل لهم الجنات – يجعل لهم الأنهار ) , أي أن الخالق جل وعلا وحده المهيمن على تلك الأمور , و هو وحده المتصرف بها و ليس ( ود و لا سواع و لا يغوث و لا يعوق و لا نسر ) .
7 - من الواضح بأن هؤلاء القوم لم يستجيبوا لتلك التطمينات و الضمانات , و استمروا خاضعين بإرادتهم متخوفين من هيمنة و سطوة كلٌ من ( ود , سواع , يغوث , يعوق , نسر ) , و لم يتخلوا عنهم :
( قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا ) 21 نوح , و هنا بيان و توضيح بأن كلٌ من ( ود , سواع , يغوث , يعوق , نسر ) كانوا هم المتبعين مع التأكيد بأن هؤلاء الخمس مرتبطين بالمال و الولد و مهيمنين على ذلك , فخسر قوم نوح الهدايه و ضلوا عن الحق .
8 - تلك الأمور الخمس كانت السبب و الدافع للضلال و الخطيئة :
( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا ) 25 نوح .
9 - الناجين من قوم نوح , أي من كان على متن الفلك جاء وصفهم بأنهم خلائف , و تلك إشارة واضحة بأن ما بعد الطوفان ليس كما قبله , وهذا يعتبر مؤشراً لتحول جوهري قادم , تماماً كما جاء آدم عليه السلام خلفاً لمن قبله على الأرض :
( فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ) 73 يونس .
10 - لا نجد بأن قوم نوحٍ قد عملوا على إيذاءه أو اضطهاده أو محاولة قتله أو طرده كباقي الرسل , و كل ما نجده هو ما يتعلق بتكذيبهم له بأن الأمر الإلهي قد صدر , و الطوفان آتٍ لا محالة , كما نجد بأن قومه هم من كانوا يفرون من أمامه , هذا و نجد أيضاً تهديداً له عليه السلام بالرجم إن لم يتوقف عن قوله و إنذاره و تهديدهم بالطوفان :
( قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) 32 هود .
( قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ) 116 الشعراء .
11 - إن صحت تلك التأملات فهذا يشير بأن النظام الكوني قد تغير بعد حادثة الطوفان , أي أن الطوفان كان نقطةٌ فاصلة , فما بعد الطوفان ليس كما قبله فيما يخص النظام الكوني و نسق الحياة البشرية بشكلٍ خاص :
( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) 133 الأنعام .