هل تريدون الدين كيمياء؟ إذاً ألغوا الاستنباط وطبقوا الاستقراء

خالد منتصر في الخميس ٢٧ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

العلم هو ما تعلمناه حول كيفية عدم خداع أنفسنا»، هذا هو تعريف الفيزيائى ريتشارد فاينمان للعلم. إذاً العلم هو سبيلك الوحيد لعدم خداع نفسك. ودقة وتميز وتفرد هذا السبيل والاحتفاظ به كحائط صد ضد الخدع والأوهام والهلاوس والضلالات، مصدره منهجه وليس سطوته أو سلطته الناتجة عن التخويف والترهيب والوعد والوعيد. والإلحاح من جانب رجل الدين على أن الدين تخصص محظور علينا الاقتراب منه -كما كتبنا وفنّدنا من قبل- ليس إلا إلحاحاً وإصراراً على السلطة والمكانة والهيبة والبيزنس والاحتكار الدائم لصك الحقيقة الذى هو فى جيب رجل الدين فقط، وتصريح دخول الجنة الذى يُخرجه من كُمّ جلبابه كالساحر عندما يخرج الأرنب من القبعة، بشرط أن تسلمه قيادك ولا تفكر إلا من خلال مخه فقط.

الدين والكيمياء مختلفان فى المنهج، الدين والفيزياء كل منهما له أسلوب فى عرض وإثبات الحقيقة. معنى الصدق هنا غير هناك، ما يقوله رجل الدين يقوله منتظراً التسليم والإذعان، لكن ما يقوله رجل العلم ينتظر النقد والتفنيد. الأول يغضب من اعتراضك لأنه وكيل السماء، الثانى يفرح بانتقادك لأنه باحث عن الحقيقة واعتراضك سيجعل مشواره إليها أقصر وطريقه إليها أيسر وأكثر دقة وانضباطاً. هو صراع بين روح القياس والاستنباط التى هى عماد الدين وأساسه، ومنهج الاستقراء الذى هو عماد العلم التجريبى وأساسه. إذا حاولنا تقريب المسألة أكثر، الدين فيه شبه كبير من الرياضيات mathematics، أو بتشبيه أكثر دقة وتقريباً للأذهان، الدين مثل تمارين الهندسة، فلو تذكرت تمارين الهندسة التى كنت تدرسها فى المرحلة الإعدادية، كان التمرين يأتى لك بشكل مثلث مثلاً وفيه زاويتان معروفتان وعليك أن تستنتج الزاوية الثالثة، هذه معطيات ثابتة لن تستطيع أنت كطالب أو مُتلقٍّ أن تغير فيها، لن تستطيع أن تعترض على ما كتبه المعلم، وتقول: أنت قد أعطيتنى زاوية حادة خمسين درجة أريدها ستين درجة أو سبعين درجة، فأنت قد أخذت المعطيات وعليك فقط الحل والبرهان، وأقصى شىء تستطيع فعله هو أن تعمل عملاً يساعدك على الحل، ولكن فى إطار التمرين الهندسى والمعطيات الممنوحة والطريق الذى وضعك فيه المدرس. إذاً أنت فى التمرين الرياضى أو الهندسى تقيس وتستنبط، وكل مجهودك فى مسألة الهندسة هو العراك الفكرى لإثبات المعطى والممنوح والمنزَّل من قبَل السلطة الأعلى وهى المعلم الذى يتم تغييره واستبداله فى الدين بالفقيه والشيخ والملا والكاهن والحاخام، لكنك فى العلم التجريبى تبدأ من ملاحظاتك أنت أو تبنى على ملاحظات من قبلك، ولكن بعد تفنيدها، تنظر إلى تلك الملاحظات الماضوية بروح النقد والشك ابتداء، ولا يتسرب إليك لمجرد لحظة إحساس رعب أو تقديس أو خوف من تغيير أو فزع من اعتراض أو تشكيك، وهذا الفزع من نقد الماضى وأساطين الماضى واعتبارهم أنصاف آلهة ليس فى الدين فقط، فقد ظل العامة قروناً مؤمنين بأن أسنان الرجل أكثر عدداً من أسنان المرأة لمجرد أن أرسطو قد قال ذلك، ولم يجرؤ أحد على فتح فم زوجته لعد أسنانها، وإن حدث وتجاسر زوج وفتح فم زوجته بنية معرفة عدد الأسنان ووجدها مساوية لعدد أسنانه فسيقول فوراً: من المؤكد أننى على خطأ، فأرسطو لا يمكن أن يخطئ، ومن أنا حتى أطاول قامة أرسطو! نفس الفزاعة التى يشهرونها فى وجه كل من يحاول الاجتهاد والخروج عن القطيع، يصرخون فى وجهه: «من أنت أيها الفسل حتى تطاول وتتطاول على أسيادك وتاج رأسك من الفقهاء ورجال الدين»؟!

ولكن ما الذى يميز الطريقة العلمية حتى يتحقق بها كلام «فاينمان» بأنها ضد الخديعة؟

ببساطة لكى نصل إلى قانون علمى لا بد أن نمر بثلاث مراحل:

- ملاحظة حقائق ذات دلالة.

- الوصول إلى فرض يفسر تلك الحقائق.

- استنباط نتائج من الفرض يمكن اختبارها.

بعد تلك المراحل الثلاث إذا تبين صحة تلك النتائج تم قبول الفرض «مؤقتاً» على أنه فرض صحيح. أعيدها مرة أخرى، وأرجو منكم تكرارها معى ووضع ألف خط تحت هذه الكلمة المهمة فى المنهج العلمى «مؤقتاً». ومن مميزاته أيضاً أنه يبدأ من ملاحظة الخاص ليصل إلى العام، وقوة المنهج الاستقرائى -أو بتعبير أدق اختلافه- هو أن الاستقراء علاقة صاعدة induction مكانها المعمل وقراءة الطبيعة، ونستطيع أن نطلق عليها informal sciences «علوماً إخبارية»، أما القياس والاستنباط فهما علاقة هابطة deduction مكانها ومجالها الكتب، ونستطيع أن نطلق عليها formal sciences «العلوم الصورية» مثل المنطق والرياضيات، فأنا فى القياس أكتب عن كتب ومن كتب وهوامش على الكتب وهوامش على الهوامش، ويصير لقبى «الحافظ» الذى نراه يتردد كثيراً فى تمجيد علمائنا المسلمين. ومن مظاهر تميز المنهج الاستقرائى التعميم أو محاولة التعميم المؤقتة أيضاً كما نبهنا من قبل، تعميم جاذبية نيوتن، والذى جاء بعده أينشتاين بتعميم يتجاوز المادة إلى محيط الطاقة والضوء، أما الخطأ المحتمل الذى ينتقد البعض العلم فيه ويسخرون قائلين «خطأ محتمل وتعتبرونه قوة، إنه مظهر ضعف بالطبع»، وهذا الاستنتاج من العقول التى تربت على الفاشية استنتاج مبنى على النظرة الإذعانية الانسحاقية لذوى الهوى السلفى فى التفكير، ذلك لأن الخطأ المحتمل يجعل العالم دائماً فى حالة شك وتساؤل وبحث عن الأجود والأدق والأقرب إلى الحقيقة، وأيضاً من باب الوهم وخداع النفس ومحاولات رجال الدين التقليل من شأن العلم قولهم: «شوفوا يا أهل العلم، ألا تخجلون من أن كتاب كذا فى الحديث أو الفقه ظل صحيحاً طيلة ألف سنة لا يقترب منه شخص بتغيير حرف أو انتقاد عبارة وأنت تغير مرجعك الطبى كل خمس سنوات»، أرد على سخريته بأننى فخور بتغيير مرجعى كل سنة وليس كل خمس سنوات، لأن هذا هو مصدر قوة منهج العلم الذى أتبناه وأعتنقه، وفخور أيضاً بأن كل من انتقد مرجعى الطبى حصل على جائزة نوبل وكانت المكافأة ميدالية، بينما كل من انتقد مرجعك الدينى حصل على حكم إعدام وكانت المكافأة هى رأسه المقطوع! العالم لا يقول مثل رجل الدين «أنا الحق»، بل يقول أنا مجرد مرحلة فى طريق الحق، أنا مجرد طوبة فى مبنى الحقيقة، الساعة لم تكفنى والمتر لم يُشبع شهيتى فى القياس فبحثت عما هو أدق فجاءت الدقيقة ثم الثانية فالفمتو ثانية، وجاء السنتيمتر ثم الملليمتر ثم الميكرون.... إلخ. العالم يقول أنا قليل الحقائق كثير الأسئلة والاستنتاجات، أنا أسعى إلى التجريد، فكلما زاد التجريد زادت انتصارات العلم كما يقول برتراند راسل، فالفلاح الذى يعرف قمح حقله بتفاصيل تفاصيله أفقر من تاجر البورصة الذى لا يعرف القمح إلا مجرداً على شاشة الأسعار، ولأن العلم يحمل فى نواته سر خلوده وانتصاره، ألا وهو إمكانية وقابلية المساءلة والمحاكمة، ولأنه لا حصانة دبلوماسية تمنعنا من تلك المساءلة، لذلك فهو يتطور لأنه يحتضن علامة الاستفهام ويحض على الشك ويرحب بالنقد بل لا يعيش إلا فى حقل النقد وخيمة أوكسجينه.

اجمالي القراءات 3752