اضمحلال العلاقة بين السعودية وكندا

سامح عسكر في السبت ١١ - أغسطس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ 3 أيام والأزمة بين كندا والسعودية مشتعلة، بدأتها الخارجية الكندية بالتعليق على اعتقال سمر بدوي أخت الناشط السعودي الحقوقي "رائف بدوي" ثم بعدها بأيام تعليق السفارة الكندية في الرياض على أوضاع حقوق الإنسان والاعتقالات التعسفية لمواطنين على الرأي وسجنهم بلا محاكمات أو حتى تهم واضحة تكشف للعالم ماذا يجري في المملكة..

ردت السعودية بطرد السفير الكندي في الرياض واستدعاء سفيرها في أوتاوا فيما أسمته "تدخلا خارجيا سلبيا في حقوق السيادة لدولة مستقلة" ورغم أن هذا التبرير كان غير مقنع خصوصا مع نقد الولايات المتحدة لحقوق الإنسان في السعودية، وكذلك وتدخل الرياض في شئون دول أخرى كسوريا وإيران والعراق والبحرين ولبنان واليمن، أي أن السعودية في حقيقة الأمر متهمة بكل اتهام وجهته لكندا..مع ذلك أصرت المملكة على رفع ذلك التبرير دون النظر للامعقوليته كونه لا يصلح دليل معتمد يبرئ ساحة المملكة من "دوافع الهجوم على كندا"

فالعقل بدهيا سيرد أن تلك المبالغة في ردود الأفعال بمجرد تصريح ناقد على تويتر يشي بأسباب أخرى غير معلنة، اجتهد البعض بتفسيرها على أنه تحالف أمريكي سعودي ضد كندا التي خاض زعيميها منذ أيام حربا كلاميا، ولكن السؤال الحاسم: ما وجه الإفادة للمملكة في استعداء كندا بهذا الشكل خصوصا وأنهم حلفاء عمليا في أكثر من ملف كسوريا والعراق، علاوة على مبيعات الأسلحة الكندية للجيش السعودي ، مما يعني أن كندا لا تخاصم السياسة السعودية الخارجية بل تطلق تصريحات تتفق - وفق تصريحاتها مؤخرا- أنها من صميم الشخصية الكندية ومبادئ الدولة العليا بالدفاع عن حقوق الإنسان في العالم..وبالأخص ممن تربطهم مع كندا علاقات صداقة.

وهذا يعني احتمالية تحرك السعودية بشكل غير مستقل ضد كندا، أي جاءت لها الأوامر الأمريكية بفعل ذلك، ولكن هل ترامب يضحي بأكبر حليف أمريكي له سياسيا واقتصاديا..علاوة على الجوار الجغرافي بدولة في الشرق الأوسط تبعد عنه آلاف الأميال؟..وهل فهم قادة كندا تلك الرسالة لو صحت؟ ..وهل لذلك علاقة بضغوط اقتصادية أمريكية على كندا أراد ترامب إجبار الكنديين فيها على التنازل؟

لم تكتفي السعودية بقطع العلاقات السياسية بل قطعت علاقاتها الاقتصادية مع كندا، فأوقفت خطوط الطيران والبعثات الدراسية والعلاج الطبي..كذلك أوقفت شراء محاصيل كندية كالقمح والشعير في مجمل تبادل تجاري سنوي حوالي 4 مليار دولار، وهو رقم ليس ضخما بالحد الذي يجبر الكنديين على التراجع، فالناتج المحلي الكندي قارب على 2 تريليون دولار مما يجعلها وفق مصاف الدول الكبرى اقتصاديا، حوالي مركزين الثامن أو العاشر وفق بعض الإحصائيات، والأسئلة المشروعة حينها: ما أهمية الإجراءات السعودية الاقتصادية في إحداث ضغط على كندا؟..ومن المتضرر الحقيقي من وقف بعثات التعليم والعلاج؟

يبقى عاملين اثنين يصلحان ورقة ضغط سعودية على كندا وهما "النفط والسلاح" فمؤخرا عقد البلدان اتفاقية تسليم سلاح كندي للجيش السعودي بمقدار 11 مليار دولار، علاوة على استيراد كندا للنفط السعودي، ولكن في نفس الوقت هما ليس أوراق قوة بالمعنى المعروف ، ففي ظني أن البدائل الكندية للنفط السعودية متوفرة ، بل سيخصم ذلك من حصة إنتاج المملكة في أوبك، مما يعني أن وقف تصدير النفط السعودي إلى كندا هو خسارة للسعودية قبل أن يكون خسارة لكندا، علاوة أن قيود بيع السلاح العالمي للسعودية باتت كثيرة جدا مع جرائمها في اليمن ، خصوصا بعد جريمة قتل 40 طفل يمني في صعدة مؤخرا..مما يعني أن استبدال السلاح الكندي بسلاح دولة أخرى هو عملية محفوفة بالمخاطر لاحتمالية رفض تلك الدولة أو تعرضها لضغوط محلية أو خارجية.

على جانب آخر أرى أمامي لوحة مرسومة بدقة تقول أن السعودية تفقد بمعدل حليف أو اثنين كل عام، والأغرب أن هذا الفقدان يتحول بسرعة كبيرة جدا إلى عداء ضاري وشرس مثلما حدث بين قطر والسعودية، وبالتالي ففي نهاية اللوحة يسقط النمر السعودي جريحا بخريطة جغرافية هزيلة، فمن الذي يمد يده للمملكة في عز محنتها وهي ترفع شارة العداء لكل من يخالفها أو حتى ينتقد سلوكياتها العدوانية ضد دول الجوار..

إقليميا أصبحت السعودية محاصَرة بنفوذ إيراني طاغي بطرد جماعاتها من سوريا والعراق، وحصار وإضعاف حلفائها في لبنان، علاوة على تحالف قطري إيراني تركي يمثل ورقة ضغط كبيرة في غرب الخليج، إضافة لأوراق أخرى يُمكن أن تستخدم وقت الحسم كالحركة الشعبية الشيعية في كُلا من "البحرين والأحساء" إضافة لما يمثله الحوثي من ضغط عسكري وقبلي في الجنوب، وإذا اعتبرنا مصر بهذا المقياس حليف سعودي فهي في نفس الوقت "جبهة استنزاف" للمملكة برئيسها الذي يصر على عدم تقديم تنازلات سواء بإرسال جنود إلى اليمن أو إعلان الحرب المذهبية كما يخطط لها بن سلمان بإنشاء حلف "سني طائفي" أطلق عليه " التحالف الإسلامي العسكري"..

وعن كندا فهي دولة ليبرالية تملك قوة ناعمة حقوقية متمددة في أكثر بلاد العالم، فحقوق الإنسان لدى كندا ليست فقط مبدأ ..بل (ورقة قوة وضغط) لا يمكن التخلي عنها، وتمثل أيضا شرعية شعبية لترودو رئيس وزرائها ، وهذا يفسر تصريح الخارجية الكندية برفض التراجع عن تصريحاتها واستمرارها في الدفاع عن حقوق الإنسان في أي بلد تراه وفقا للمبدأ الإنساني الذي يحكم الكنديين منذ عقود..

هنا أستغرب حملة إعلامية سعودية لتشويه ملف حقوق الإنسان في كندا وفقا لقاعدة "المعاملة بالمثل" لأنه يمثل ضمنيا اعتراف المملكة بارتكاب جرائم حقوق إنسان، علاوة أنها مجرد "اتهامات مرسلة" غير مدعومة بتحقيقات دولية وحقوقية لعوامل عدة أشهرها نفوذ كندا العالمي في مجال حقوق الإنسان وإنجازاتها الكبيرة في هذا الشأن نظرا لأن الدولة تحوي عدة طوائف وعرقيات كانت تعاني من مشاكل تهميش في السابق كالهنود الحمر، لكن الكنديين يعترفون بهذه المشكلات ويحاولون علاجها بتشريعات إنسانية توازي تشريعاتهم في الحقوق الأخرى كالتعبير والرأي والتصويت والأطفال والاقتصاد والهوية الجنسية وغيرها

مبعث استغرابي أن كندا تعترف بأن لديها بعض مشكلات حقوق إنسان كأي دولة في العالم وتعمل على علاجها، فالمعروف أن هذا الجانب الحقوقي يمثل مشكلة بشرية تتعلق بجوانب الثقافة والدخل والتمثيل السياسي وغيرها، أما السعودية فهي تنكر كل الاتهامات الموجهة إليها..بل لا تحاول علاج أي من تلك المشكلات خصوصا مشاكل التعبير والرأي والمرأة والتمثيل الشعبي وحق المواطنين في التصويت وإدارة بلادهم والاستفادة من ثرواتهم، بينما ثروة السعودية محصورة كليا في أيدي الأمراء وعناصر الأسرة المالكة، وهذا يمثل أحد أبشع أوجه الظلم في العالم باحتكار أفراد بعينهم (السلطة والثروة) وبإضافة تحالف آل سعود مع رجال الدين، أصبح الملك في السعودية يحتكر كل شئ (السلطة والثروة والدين) أي مالك حصري لشئون الشعب الدينية والدنيوية لا ينازعه في هذا المُلك أحد، مما يعيد للأذهان طريقة حكم الدول في القرون الوسطى التي كان فيه الحاكم "شبه إله"..

يبقى موقف روسيا الغامض من الأزمة، لكن في تقديري أن روسيا لا يغلب عليها التحفظ كما يُعتقد، فهي تتعاطف مع السعودية بدعم إعلامي واضح من قناتها rt ظنا منهم أن هذا الهجوم السعودي موجه للاتحاد الأوروبي بالأساس أحد أبرز حلفاء كندا، وبغض النظر عن مدى استفادة المملكة التي لا تتضح لي..ولكن من مصلحة روسيا تفكيك جبهة الغرب كما نجحت في تقديم ترامب كعامل اشتعال لتفكيك تلك الجبهة، وها ترامب قد فعلها بفصل بلاده عن الاتحاد الأوروبي تجاريا ، وها هو يفصلها عن كندا تجاريا كمقدمة لفصل سياسي كامل يساعده في ذلك موقف ترامب من القدس والاتفاق النووي الإيراني.

أي في تقديري أن بوتين يستثمر في حقل الأزمة الكندية السعودية بطريقة "المستفيد في كل الأحوال" فلو انهزمت السعودية سيصب ذلك في صالح إيران أحد أقوى حلفائه في الشرق الأوسط ويزيد النفوذ الروسي أضعاف ما كان عليه باعتبار أن الرياض ثاني حليف لأمريكا في المنطقة بعد إسرائيل، أما لو انهزمت كندا سيتضرر الاتحاد الأوروبي مما يدفعه لإجراء مراجعة شاملة وجريئة لطبيعته وسياساته في المستقبل، ومن ضمنها بالطبع إعادة النظر في بقاء "حلف الناتو" ذلك الحلف الذي كان يجب حله بعد انهيار حلف وارسو، لكن بقاءه يمثل عند الروس دائما "نوايا شريرة" من الغرب تجاه الروس.

أخيرا: فالأزمة تمثل صراعا بين الأخلاق والغريزة، بين القيمة والمادة، لا يعني ذلك تصويرا شيطانيا أو ملائكيا لأحدهما، ولكن بالنظر لجوهر المشكلة فهي صراع قديم على الرأي بين طرفين يفكر كلاهما بطريقة مختلفة، وعليه فالوضع مرشح للتصاعد إذا تمسك كليهما بموقفه، وهذا يعني أن تلك الفترة تمثل "اضمحلال وانهيار عملي لعلاقة كلتا الدولتين ببعضيهما" وما ينهار يصعب بناؤه إلا على أسس جديدة، مما يطرح احتمالية تغير جذري في سلوك كلا الدولتين في المستقبل

حتى لو رحلت الأزمة بكل تداعياتها الآن، لكن آثارها ستبقى خصوصا في فجور بعض المعلقين السعوديين في الخصومة بمطالبتهم باستقلال مقاطعة "كيبك" الشرقية الكندية ذات الأصول واللغة الفرنسية، وبرغم أن سكان كيبك كاثوليك ووثنيين لكن لا أفهم سر انتشاء السعوديين بهم وهم خصوم للإسلام ولا يمثل استقلالهم أي مصلحة سعودية أو إسلامية ، بل ربما لو استقلوا يعلنون عداءا صريحا للمملكة بوصفها راعية إرهاب في العالم.

إنما أفهم دوافع تلك الدعوة بتسجيل موقف ضد رئيس حكومة كندا ليس أكثر، وإرسال إشارات أنه ومثلما للسعودية نقاط ضعف فكندا أيضا دولة ضعيفة، وهذا المنطق في المواجهة لا ينبئ بمصالحة جذرية في المستقبل إلا إذا تغيرت قواعد وأسس كلتا الدولتين أو أحدهما على الأقل، فبقاء الوضع كما هو عليه الآن يعني أنه مرشح لأحد احتمالين، الأول: عودة العلاقات لكن بتحفظ كندي وتربص أوروبي، الثاني: اشتعال الوضع أكثر بانضمام دول أوربية لكندا والضغط على حكومة الرياض لتغيير سياساتها في حقوق الإنسان، وربما نرى لأول مرة محاكمات دولية لقادة المملكة في لاهاي أو في أروقة مجالس العالم الأمنية والسياسية.

اجمالي القراءات 4072