الاحتضار

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٥ - يوليو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

الاحتضار

أولا :

1 ـ عاش حياته أنانيا يرى الكون يدور حوله ، أنانيته جعلته مناعا للخير ، يرى أن الواجب أن يأخذ دون أن يعطى ، وأن يُسىء دون أن يُساء اليه. أنانيته جعلته بلا أصدقاء ، وجعلت أقاربه ينفضّون عنه ، حتى ولده الوحيد هاجر للغرب لأنه لم يطق طغيان أبيه ولم يرض عن خنوع أمّه له. زوجته هذه هى التى صبرت عليه وتحملته ، ولم تلق منه إلا الجحود وسوء المعاملة. كان أمامها إما أن تتركه وتتطلق ، ، وإما أن تتحمله وتصبر. صبرت حتى لا تكون مطلقة فى مجتمع يُسىء الظّن بالمطلقات ويحمّل المرأة مسئولية طلاقها متلمسا العذر للرجل . ثم إنها لا تريد أن تسىء لإبنها بأن تكون أُمُّه مطلقة تضطر للدفاع عن نفسها وأن تثبت براءتها. حاولت أن تجد مزايا فى زوجها ، ووجدت فيه أنه مستقيم فى حياته الزوجية لا ينظر للأخريات ، وأنه مستقيم فى عمله وأحواله المالية ، لا يأكل الحرام . عدا هذا فهو لا يُطاق ، متغطرس متكبر سليط اللسان فظُّ غليظ القلب ، يمكنه أن يهجرها شهورا حتى تستجديه .

2 ــ  سارت حياتها معه على هذا النحو ، قلّما تسمع منه كلمة حانية إلى أن فوجئت به يسقط ــ من عليائه ـ مريضا مُقعدا . فقد الأمل فى الشفاء ، وتعين عليه أن يعيش فى بيته ينتظر الموت . تبدّل نظرته لزوجته وهى الوحيدة التى يجدها بجانبه . كان يحتاج اليها فى قيامه وقعوده ونومه وذهابه لدورة المياه وتناوله الدواء.  محنة الشلل جعلته يرى زوجته ويتعرف عليها لأول مرة ، وجعلته يرى نفسه على حقيقتها . رأى أن زوجته نعمة تتحرك حوله فأساء معاملة النعمة. رأى نفسه قد كفرت بنعم أخرى كالصحة والمنصب والمال ، أضاع ثمرة هذه النعم بأنانيته وجحوده. ثم إبتلاه الله جل وعلا بالمرض فأفاق من غفلته . أخذ يُصلّى بادئا عهدا جديدا من التوبة المخلصة . بدأ يتكلم مع زوجته وكلما استمع اليها تعجب من عقلها وحكمتها ، وتعجب من نفسه كيف لم ير هذا الانسان الرائع فى زوجته من قبل. أخذ يستعيد ذكرياته معها من أول يوم ، يسجل ما يتذكرانه ، ويسترجع إهاناته لها ، ويعتذر لها عن كل ما قال وكل ما فعل . جاء دور الأهل والجيران والمعارف والزبائن الذين أساء اليهم . سجل من خلال ذاكرته أسماءهم ، وقرّر أن يعتذر لكل منهم على حدة . وكلهم قبلوا إعتذاره وغفروا له، تبرع بنصف ثروته سدادا لحقوق ذوى القربى . سمع إبنه بما حدث فرجع لأبيه ولأمه. فى ليلة إحتضاره كان يغمض عينيه سعيدا يمسك يد زوجته بيد ويد إبنه باليد الأخرى .

ثانيا :

1 ــ هذا شخص واحد ظلم حوالى خمسين شخصا ، ونسى عبادة الله جل وعلا ، ثم إبتلاه الله بالمرض فتذكر وتاب وأناب . ماذا عن المستبد الشرقى ؟

2 ــ هذا المستبد الشرقى ضحاياه بالملايين بسبب التعذيب والسجن ظلما والإفقار بالاضافة الى السلب والنهب والقتل . هل بإمكانه أن يسترضى كل ضحاياه ، وهل يجد وقتا لاسترضائهم جميعا على فرض ان لديهم الرغبة فى مسامحته ؟  . ومهما سرق من أموال هل يستطيع إحياء من قتلهم ؟ . السؤال الأهم : هل يمكن أن تكون له فعلا رغبة فى التوبة ؟  لا يمكن لأن شيطانه زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ، ولأن الكهنوت التابع له يؤكد له أنه على حق مهما فعل . لن توجد له الرغبة فى التوبة إلا عند الاحتضار . وعند الاحتضار لا تُجدى التوبة .!

3 ــ هناك حوالى ثلاثين فردا فى هذا العالم اليوم ، هم طُغاة مسئولون عن قتل وتشريد وتجويع وإفقار وتعذيب مئات الملايين . معظم هؤلاء الطغاة تجاوز الستين ، أى يعيش المرحلة الأخيرة من حياته ، وهو سادر فى ظلمه وطغيانه يرى نفسه على الحق . هو لا يعرف أن وقت إحتضاره قريب ، وهو لا يعرف أنه الآن متمتع بحريته يتصرف كيف يشاء ، ولكنه عند الاحتضار سيفقد حريته ، وسيظل فاقدا لحريته فيما بعد والى أبد الآبدين . رغم أنفه سيبعثه الله جل وعلا ، ورغم أنفه سيكون الحشر والعرض أمام الله الواحد القهار ، ورغم أنفه سيكون حسابه . كل هذا وهو فاقد لحريته. ثم رغم أنفه سيُلقى به فى النار. وسيظل فيها ــ رغم أنفه خالدا مخلدا ، لا خروج من النار ولا تخفيف من عذابها .

4 ــ أى مقابل سنوات فى حياته الدنيا أساء فيها إستعمال حريته فعصى وبغى وطغى سيفقد هذه الحرية عما قليل ثم سيكون مُجبرا على الموت وما بعد الموت ثم سيكون مجبرا على الخلود فى النار ..

5 ــ ليس هذا وعظا فى الهواء . جزء منه واقع عملى . نراه فى فراش الاحتضار ، حيث يكون الشخص أسير قدرة الرحمن لا يستطيع دفع الموت عن نفسه ولا يستطيع ذلك الأطباء ولا الأقارب ولا المشعوذون . جزء آخر واقع عملى حين نتذكر المستبدين الذين عايشنهاهم وماتوا . اين هم الان ؟ مجرد تراب وعظام نخرة . والمستبد الحالى ما وصل الى العرش إلا بعد موت من سبقه . وهو بغباء منقطع النظير يظن أنه خالد مخلد فى العرش ولن تأتيه لحظة الإحتضار ، ولكنه سيموت بعد لحظة الاحتضار ، ويأتى غبى آخر يكرر نفس الغباء ..!

 ثالثا

1 ـ عن موقف الاحتضار يقول جل وعلا : ( فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) : يعنى حين توشك النفس على مغادرة جسدها. ( وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ) :أى وحوله أهله وأقاربه . ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لّا تُبْصِرُونَ): يظنون انهم الأقرب اليه ، ولكنهم لا يرون ملائكة الموت التى تحادثه وتتكلم معه تبشره بالجنة او تضربه ( تضرب نفسه ) ركلا وصفعا وهى تبشره بالنار. ( فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) : هؤلاء الأقارب المحيطون بمن يعانى سكرات الموت هم أنفسهم ( مدينون ) للخالق جل وعلا بأنفسهم التى فى أجسادهم. وسيأتى الوقت الذى تخرج فيه أنفسهم وترجع ( الأمانة ) الى من خلقها جل وعلا. إذا كنا ــ نحن ــ مدينين بالنفس وحياتها للخالق جل وعلا هل نستطيع حماية من يحتضر من الموت ؟ . لذا يقول جل وعلا لنا :( تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

2 ــ مصير من يحتضر : إمّا أن يكون من أولياء الله المقربين فتبشره الملائكة بالراحة والنعمة وجنة نعيم : ( فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ( فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ). وإمّا أن يكون من أولياء الله التائبين أى من أصحاب اليمين فستحييهم ملائكة الموت :  ( وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) ( فَسَلامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ) . هما معا من أهل الجنة. الصنف الثالث قال عنه جل وعلا : ( وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) ( فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ) ( وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) . هذا موقف لا يشهده إلا من يلقى الاحتضار . وحين يلقاه لن يخبر به أحدا . ولكن الله جل وعلا أخبر به الأحياء كى يتعظوا . أخبر به حقا يقيني الحدوث ، قال جل وعلا :( إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة 83 ـ )

سبحان ربنا العظيم .!

أخيرا

1 ـ تخيل فلانا من زعماء العالم الثالث وهو بين يدى ملائكة الموت تصفعه وتركله . قال جل وعلا : (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ) الانفال 50  ) ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) محمد 27 )

2 ـ تخيل فلانا من أئمة الكهنوت وهو فى موقف الاحتضار ، يقول عنه رب العزة جل وعلا : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ) الانعام 93  ).

3 ـ تخيل نفسك فى موقف الاحتضار ترجو فرصة أخرى تعود بها الى الحياة لتعمل عملا صالحا.هذا هو ما حذّر منه رب العزة المؤمنين .قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ( وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ)( وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا  جَاءَ  أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المنافقون 9 : 11)

ودائما : صدق الله العظيم .

اجمالي القراءات 4603