مصر بين المرض والاحتضار

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٣ - يوليو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مصر بين المرض والاحتضار

أولا : من ذكريات الطفولة :( مصر المريضة فى الخمسينيات )

1 ـ لم يكن السّد العالى موجودا. كان الطمى ( الغرين ) القادم من الحبشة ( إثيوبيا ) يقوم سنويا بتجديد التربة المصرية وبتطهير مجرى النيل من أى تلوث . معظم التلوث كان يأتى من صرف المجارى فى النيل . وكان عدد المصريين قليلا يزيد على العشرين مليونا ، معظمهم قابعون فى الأرياف تاركين القاهرة والمدن الكبرى نظيفة لطيفة هادئة قليلة السكان. لم يعرف الفلاح المصرى المبيدات ولا الكيماويات ولا الأسمدة الصناعية . كانوا يجمعون روث المواشى  ليستخدم وقودا وسمادا عضويا . كانت الأرض عفية قوية  والهواء نظيفا نقيا ، والماء طاهرا غنيا . بالتربة القوية الغنية وبالماء النقى الطهور كان النبات والمزروعات غذاءا وشفاءا ، وكانت الحيوانات والطيور لذيذة الطعم ، ومثلها منتجات الألبان والبيض . وبهذا الغذاء الطبيعى تمتع المصرى وخصوصا الفلاحين . كانت النقود قليلة وعزيزة ، والأسعار رخيصة. معظم الخضروات كانت فى الريف بلا ثمن، منها الملوخية والبامية والقرع ( الكوسة ) والباذنجان والخيار والقثاء . كانوا يزرعونها على حواف المحاصيل الأخرى ويتهادون بها إذ لا ثمن لها.

2 ـ كان سعر فدان الأرض حوالى عشرين جنيها ، وكانت المُتعة الكبرى للفلاح أن يشرب (قنينية قازوزة ) ( زجاجة مياه غازية بيضاء ). كان ثمنها ( تعريفة / معدن ) أى خمسة مليمات. القرش كان عشرة مليمات ، والجنيه مائة قرش. والجنيه الذهب كان ثمنه حوالى 98 قرشا. وحين جلا الإنجليز عن مصر كانوا مدينين لمصر ب 55 مليون جنيه بالإضافة الى الرصيد الذهبى المصرى ، والذى بموجبه كان مكتوبا على الجنيه المصرى ـ وقتها ــ  تعهدا بدفع قيمته ذهبا .

3 ـ كان الفلاح المصرى يعانى من الظلم وأشده إيلاما كان التعذيب فى مركز الشرطة. وقد تعود عليه قدرا مكتوبا لا مهرب منه . كما تعود أن يكون جوفه مرتعا لديدان شتى من البلهارسيا والانكلستوما والاسكارس ، وكان يعانى من أمراض خطيرة لم يكن العلم بها كافيا مثل السرطانات المختلفة وأمراض الكبد والمثانة والمرىء، وأصبح (بعضها ) فى الستينيات مشهورا حين اُبتلى ( ببعضها )المطرب عبد الحليم حافظ ، وهو من قرية ريفية من محافظة الشرقية. عرف ( بعض ) الناس بمعاناة الفلاحين المصريين من ( بعض ) الأمراض المتوطنة المتأصلة فيهم من عهد الفراعنة. عرف الفلاح المصرى كيف يتعايش معها ، وكان بعضهم يتغلب عليها. أذكر مقالة لطبيب مصرى فى الستينيات إستغرب من حالة فلاح مصرى تهتك كبده ثم نمت أنسجته من جديد ، وتم شفاؤه بلا دواء .  

4 ـ لم يكن الوعى موجودا فى الريف المصرى ، خصوصا الوعى الطبى . لم يكن هناك أطباء كثيرون ولا صيدليات كثيرة . ولم يكن الفلاح المصرى يلجأ للطبيب إلا قليلا ، وربما قبيل الموت . متوسط العُمر لم يكن مرتفعا ، ولكن الفلاح المصرى كان أكثر صحّة من أحفاده اليوم . إستفاد من قدرة جسده على مقاومة الأمراض ، وقويت مناعته الطبيعية ، وتحمّل الألم ـ سواء من التعذيب أو من المرض  ــ وتغلب عليها بالرضى ومواويل الصبر .!. أتذكر كلمة قالها جار لنا زوجته من عائلتنا . عاش طيلة حياته يعمل بالأجرة ، أى لم يكن يملك أرضا. لا يملك سوى عافيته وصحته. فى عنفوان صحته كان يتندر قائلا : ( نفسى أنام عيّان أتقلب وأتوجّع ، ويقدمون لى قنينية القازوزة فأرفضها ).

5 ـ كانت أثمن هدية يتلقاها المريض على فراش الإختضار هى ( قنينية القازوزة ). أتذكر ــ وكل هذا من ذكريات الطفولة فى قريتى :أبوحريز مركز كفرصقر محافظة الشرقية ) أن بعضهم كان على فراش الإحتضار ، وحوله أهله كالعادة ينتظروت موته فى سكون. صحا من الغيبوبة وطلب أن يشرب قنينية قازوزة . قيل له :( غالى والطلب رخيص ) . إنطلق إبنه الى الدكان ودفع  (تعريفة / معدن / خمسة مليمات ) . فتحها لأبيه وقدمها له. كان الأب قد مات. إنطلق الصُّراخ . كل هذا الصُّراخ لم يمنع الإبن من إعادة قفل زجاجة المياه الغازية وإرجاعها للدكان لكى يستعيد الثمن.!

6 ـ كان الفلاح يظل أحيانا قعيد المرض فى بيته مستلقيا عدة سنوات ، صابرا لا يرى الطبيب ولا يراه الطبيب الى أن يموت ، دون أن يعرف أحد تشخيص مرضه . حين يقترب من النهاية يقولون ( فلان متأخّر ) ، اى على فراش الإحتضار . عندها يجتمع حوله اقرب الناس اليه من الزوجة والأولاد وابناء العم . يجلسون ساكتين ، يرقبونه فى صمت ، يسمعونه يهذى ، قد ينادى أمه وأباه ، قد يتكلم كلاما مفهوما وبألسنة غير معروفة ، وقد يتعوج لسانه ويتحشرج . وقد يصحو قليلا صحوة الموت . ثم إذا مات فعلا إنطلق الصراخ ، ودقت طبلة المنادى تعلن وفاته ، ويدخل أهله فى مراسم الدفن وتشييع الجنازة و( حفلات العزاء ) بما فيها من موائد وزيارات المجاملة من زوار من البلاد القادمة ، يأتون الى المضيفة حيث يساهم أهل البلد فى إرسال موائد باللحوم والطيور لإكرام الضيوف، وتجامل النسوة أهل الميت بالصراخ عليه ، و ( كله سلف ودين ) . ثم لا يلبث أن ينسوا كل شىء الى أن يأتى فقيد جديد .

7 ـ مات أبى الشيخ منصور محمد على فى الخامسة والأربعين عام 1963 . ظل يعانى من سرطان المثانة عشر سنوات . لم يكن يعتقد فى جدوى التداوى ، وكانت لديه قدرة على الصبر وتحمل الألم . ظل فى إحتضار حوالى اسبوع فقد فيه الاحساس بالألم . كان يفيق أحيانا من الغيبوبة وحوله أهله فيقوم بوعظهم وتذكيرهم بالموت واليوم الآخر . عند تشييع جنازته إمتلأت قرية أبوحريز بآلاف الناس من القرى المجاورة . كان هذا عنوانا على الأصالة . كان أبى فقيرا كريم الأخلاق شيخا واعظا معلما للقرآن . حفظ الناس له هذا فكانت جنازته حفل تكريم له ، كان هذا فى عصر لا يزال فى الناس بقية خير.! لو كان التقدير الشعبى للشخص متمحورا على ثروته ما إهتم أحد بجنازة والدى يرحمه الله جل وعلا.!

ثانيا : الآن : ظهر الفساد فى البر والبحر

1 ـ تحت الاستبداد والقهر والتعذيب قام عبد الناصر بإصلاحات جزئية ومظهرية ، ثم توارت فى عصر السادات ، ثم أجهز عليها مبارك الذى قام بتجريف مصر من كل خير ، ولأن الناس على دين ملوكهم فقد قام المصريون بتجريف أخلاقهم فإنحطّت ، تفتّحت الشهية للإستهلاك بما أضاع القناعة والرضا ، وحلّ محلها التنافس والحسد . أصبح المال هو القيمة المعبرة عن الشرف ، ليس مهما من أين يأتى ، المهم أن يأتى ، وهو لا يأتى إلا بالفساد ، وحكومة مبارك تحترف الفساد . سقط مبارك بعد ثلاثين عاما فخلفه العسكر الذين لم يجدوا شيئا تركه لهم مبارك ليبيعوه فأخذوا يبيعون مصر أنقاضا.

2 ـ الفساد الأخلاقى أصبح الآن مصر له قوانينه ، ويمارسه أهله طقوسا دينية يعززها كهنوت الأزهر وشيوخ العسكر . بهذا الفساد إنتشر التلوث فى الماء والهواء والتربة . واكب هذا الآثار السلبية للسد العالى . أقامه عبد الناصر عملا دعائيا . كان سدّ إسوان فيه الكفاية وقد حمى مصر من كوارث الفيضانات وإنخفاض النيل . لكن عبد الناصر فى تعطّشه للزعامة أقام السد العالى دون حاجة اليه ودون إقامة مشروعات تقى مصر من سلبياته . ذكّرته أمريكا بالخطورة . تمادى بتأميم قناة السويس مع أنها ستعود لمصر مجانا بعد بضع سنوات. نتج عن هذا حرب 1956 وهزيمة مصر وضياع مؤقت لسيناء ثم عودتها منقوصة ، كما نتج عن هذا شعبية هائلة لعبد الناصر وبالأغانى والإعلام تحول الى إله فرعونى . كانت له بعض الميزات . الآن وصل العسكر بمصر الى الحضيض . التربة ملوثة بالمبيدات والكيماويات وبالتالى تلوث الأطعمة ، خصوصا مع الفساد والغش . النيل الذى كان يأتى قويا غنيا أصبح الآن يأتى ضعيفا واهنا أصفر اللون ملوثا يحمل الأمراض ، وتجرى فيه مجارى المصريين ليشربوها ، فى دورة متكررة . ثم ببناء سد النهضة الاثيوبى ستصبح مصر الآن على شفا مجاعة مائية .

2 ـ تكاثر خريجو الطب والصيدلة ، وتكاثرت العيادات والصيدليات ، وظهرت المستشفيات الاستثمارية ، وتكاثرت النقود ولكن بلا قيمة حقيقية ، فالأسعار ترتفع ما عدا سعر الانسان المصرى العادى ، والذى أصبح مملوكا للملأ المصرى الحاكم ( أسياد البلد ) . هؤلاء الأسياد وأتباعهم هم الذين يديرون الاقتصاد المصرى ، ومنه المستشفيات الاستثمارية . هى مستشفيات لا خلاق لها ، تتعيش على آلام المصريين . معظم المصريين مرضى بما يأكلون وبما يشربون وبما يتنفسون ، وايضا بما يبتلعون من دواء ، بعضه مشكوك فى صلاحيته .سمعت من أحد الأطباء قولا مشهورا : ( إذا ألقينا كل الدواء فى البحر فسينجو الانسان وسيمرض السمك ) هذا عن  خطورة الآثار الجانبية لكل دواء. تعود المصرى إستعمال الدواء بما يشبه الإدمان ، كما تعود الذهاب للطبيب عند أى وعكة طالما يقدر ماليا على ذلك.

3 ـ إنعكس هذا على حالة الاحتضار فإختلفت عما كان عليه المصرى فى الخمسينيات وما قبلها. وتكسب المستشفيات الاستثمارية من هذا التغيير الملايين كل يوم . فى التسعينيات زارنى فى بيتى أحد أقاربى  ومعه أمه المريضة. هى إبنة عمى ، وأبوه ابن عمتى. كانت الأم مريضة فى حالة ( متأخرة ) وقد عرضها على طبيب مشهور فطلب تحويلها الى مستشفى إستثمارى ، وعرف أن الأمر يتطلب أن يبيع أرضه كى يفى بعلاجها. قلت له : إرجع بأُمّك الى بيتها بكرامتها لتموت على فراشها ، ولا تفكر فى بيع قطعة الأرض التى تتعيش منها أنت وأولادك . أعرف شخصا عزيزا أصابته الأمراض من فرط إدمانه على الدواء بمناسبة ودون مناسبة. أصبح فى أواخر الاربعينيات من عمره يعانى من الكبد والكلى معا وتورم الساقين وتقيحهما ، ودون أى تأثير لأى علاج . أنفق معظم ثروته على المستشفيات الاستثمارية . قبيل موته بيوم واحد كانوا يقنعونه بعملية زرع كبد . كانت ستكلفه كل ما بقى له من مال . الى هذا الحد وصل فساد الضمير. الحال فى المستشفيات الحكومية أظلم وأضل سبيلا. رأيت على اليوتوب رجلا من الاسكندرية يصرخ لأن إبنه مات فى المستشفى ولكى يخرج بجثة ابنه ويحصل على تصريح بالدفن أرغموه على دفع آلاف الجنيهات. .!

4 ـ أنصح كل مريض يائس من الشفاء أن يقتدى بأجداده فى الخمسينيات ؛ أن يقبع فى بيته صابرا محتسبا راضيا بقضاء الله مستغفرا منيبا منتظرا قضاء الله جل وعلا .

أخيرا :

مصر كانت مريضة قبل ثورة العسكر . هى الآن تنام على فراش الإحتضار.!! 

اجمالي القراءات 5520