المسلم و عقدة الحروب الصليبية

مولود مدي في الجمعة ٢٩ - يونيو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

سبب كتابتي لهذا الموضوع, ليس من أجل سرد التاريخ فحسب, فهناك المئات من الكتب و المقالات التي تحدثت عن مجريات الحروب الصليبية ونتائجها على العالم الإسلامي و العالم الغربي.. بل لأن العقل المسلم بالذات لا يزال مشدودا الى أفكار الماضي, بحيث يقيس كل شيء عليه و المشكلة أنه يرى أن الوقائع تسير وفق قانون خطّي لا يتغيّر و بالتالي لا فرق عنده بين الماضي و الحاضر, فرغم أن مصطلح "الحروب الصليبية" أصبح لا يذكر الا عند من يهتم بالتاريخ, فإن العقل المسلم لايزال يتوهم أنه يعيش " الحرب الصليبية العاشرة", ولايزال يعتقد بأن صراعات الحاضر لاتزال تحمل صبغة "دينية ", وما عليه إلا أن يرد الصاع صاعين و يعلن الحرب على كل فكر يخالف الإسلام, و يعلن الكراهية و البغضاء على المخالف, ( وسأبين أن حتى الحروب الصليبية نفسها في عصر بلغ فيه التطرف الديني عند المسلمين أو المسيحيين أوجّه لم تكن ذات صبغة دينية بل وظفت الدين لتبريرها ).. 

السبب الأول الذي قاد الى هذه الحروب (وعددها تسعة) هو أن أوروبا بعد أن انتهت من حروبها الداخلية أو من غزوات الفايكنجز و المجريين و السلاف, و بعد أن تمّ تحوّلها الى المسيحية, انتعشت فيها التجارة, وزادت حركة المال وبالضبط في غرب أوروبا, لكن كانت أمام مشكلة سيطرة المسلمين على أهم المناطق الاستراتيجية و المنافذ البحرية, يعني أن معظم المواد الأولية التي تحتاجها أوروبا سواء كانت من أجل صناعتها أو احتياجات شعوبها كالتوابل مثلا هي بيد المسلمين, وبالتالي من أجل تلبية حاجات أوروبا لا بد من مستعمرات, وبتعبير أخر لابد من إنهاء الحكم الإسلامي في بلدان أسيا و إفريقيا و كسر احتكاره للمنافذ المائية, وفي ذلك الوقت لم يكتشف الأوروبيين طرق و منافذ مائية جديدة و لم تبدأ بعد حركة الكشوفات الجغرافية بحثا عن أراضي جديدة تقع خارج نطاق السيطرة الإسلامية وهذا يفسّر اختيار الأوروبيين لحل السيف و استخدام القوة ضد المسلمين منذ البداية. 

أما السبب الثاني, فكان بتلاقي مصالح ألكسوس الأول الحاكم البيزنطي المهدد من طرف السلاجقة أو أجداد العثمانيين مع مصالح البابا أوربان الثاني في روما, و اللذان أرادا توحيد الكنيسة البيزنطية و الكنيسة الرومانية, لأن هذا الانقسام لن يستفيد منه الا أعدائهم المسلمون الذين لن يتورعوا في محوهم من الوجود, يعني أن هذا الانقسام سيمنع من توحد البيزنطيين مع الكاثوليكيين ضد المسلمين, إذن لن يضطروا للمحاربة على جبهتين.


لا يمكن أن ننسى أيضا الأحداث التي أقنعت الأوروبيين بأن الأندلس و العبّاسيين في مرحلة ضعف على جميع المستويات, وبالتالي يتوجب الانقضاض عليهم فورا, فهذه الحملات تزامنت مع طرد الإسبان للمسلمين من الأندلس, و سقوط مدينة "طليطة الإسبانية, إضافة الى طردهم أيضا من جزيرة صقلّية, وأصبح وجود الخليفة العبّاسي في العرش لا معنى له. 

يمكن أن يقول قائل أن محاربة الإسلام كان هدفا لهؤلاء أحببنا ام كرهنا, و أنا أقول أن الحملات الصليبية كان هدفها أيضا محاربة البابا لمخالفيه، فقد جاء الصليبيون من شمال فرنسا إلى جنوبها لكى يقاتلوا الهراطقة المسيحيين الألبيجنسيين نسبة الى جبال الألب. فمنذ نهاية القرن الحادي عشر بدأت بوادر المقاومة ضد الكنيسة البابوية في روما وسيطرتها على شئون الحياة الأوربية، وعند نهاية القرن الثاني عشر ذاعت الأفكار التي ينشرها المصلح المسيحي يواخيم الفلورى, وقد لاقت أفكاره الدينية الذيوع بسرعة ملحوظة. وسار يواخيم على نهج المصلح سان برنار الذي زعم أن العالم قد دخل عصر المسيح الدجال الذي يسبق قيام القيامة. وعلى حين أكتفى سان برنار بإدانة كبار الأساقفة على اعتبار أنهم أسرى الشيطان، فإن يواخيم جعل البابوية نفسها هي المسيح الدجال. وقلب بذلك حق وراثة بابا روما للمسيح رأساً على عقب. وحاز شعبية واسعة لدى جميع الفرق المخالفة، ونتج عن أفكاره هذه أن ظهرت عصبة جمعت حولها عدداً ضخماً من الأتباع في جنوب فرنسا تدعى الكارتاريون هددت سلطان البابوية. 


بالعموم, الحجة الشهيرة " استرداد القدس من الكفّار المسلمين " كانت أخر اهتمامات الأوروبيين , فهي كانت صالحة ليستهلكها البسطاء و المغفلين الذي صدّقوا الكنيسة التي ربطت غفران الخطايا بالاشتراك في هذه الحملات و بذبح المسلمين أعداء الله و المسيح, بينما الحكّام الأوروبيين كان هدفهم قتال الطوائف التي تعارض سلطة الكنيسة و استعمار المشرق, بدليل أن كثيرا من الحملات استهدفت إحتلال مناطق غير مقدسة وهو ما سمي بإقامة الدول اللاتينية في المشرق, يعني تثبيت مسمار غربي في المنطقة الإسلامية يضمن المصالح الغربية, ويمنع أي فرصة استقرار هناك حتى يتسنى للغرب نهب مقدرات المنطقة(وهي الفكرة التي قام عليها الكيان الصهيوني وهذا السبب الرئيسي لدعم الدول الغربية له), ومن أمثلة هذه الدول اللاتينية نذكر أنطاكيا, الموصل, دمشق. 

لكن هل استهدف الأوروبيون القدس منذ البداية بحجة أنها ارض مقدسة أنها هدف حملتهم؟ في الحقيقة لا, فحجة أن تدمير المسلمين لكنيسة القيامة في تبرير الحملات الصليبية, مردودة, فعندما أمر الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله بتدمير كنيسة القيامة هناك اضطهادات أخرى تعرض لها المسيحيون المشرقيون في مصر، وبلاد الشام والعراق منذ عهد الخليفة العباسي التاسع المتوكل على الله الذي اضطهد مجملا إلى جانب المسيحيين واليهود جميع من يخالفه في المذهب الشافعي. وفي عام (1039) سمح خلفه للإمبراطورية البيزنطية بإعادة بناء كنيسة القيامة. وسمح بالحج في الأراضي المقدسة قبل وبعد إعادة بناء كنيسة القيامة.

السبب الحقيقي هو صراع المسلمين أنفسهم على القدس, فقبل الحملة الأولى على القدس (1095-1099), كان ثمة هناك صراع بين السنة المتمركزين في الشام و الشيعة الفاطميين في مصر, وكان الفاطميين قد انتزعوا القدس لمدة سنة, وهذا لا يبين أن سبب نجاح الحملة الأولى هو تقاتل المسلمين على إدارة القدس مما جعلهم في حالة انقسام, فلا عجب أن تكون هذه الحملة الأنجح من باقي الحملات بسبب الاختيار التكتيكي الموفق, و لا غرو أن تكون القدس الهدف المباشر لضربات الأوروبين لأنها كانت منقسمة و محل نزاع على خلاف المناطق الإسلامية الأخرى. 


دموية هذه الحملات هي أمر لا يمكن مناقشته وهذا أمر طبيعي لا يمكن تفاديه في أي صراع عسكري, وغالبا ما يحمّل الطرف الإسلامي مسؤولية جرائم الحرب هذه للطرف الغربي, لكنه نسي أنه هو أيضا ارتكب جرائم حرب لا تقل فظاعة عن التي ارتكبها الصليبيون ففي عام 1146 تم غزو مدينة الرها على يد الأتراك (الرها منطقة واسعة تقع بين نهر الفرات ونهر دجلة). و تم قتل جميع السكان أو بيعهم في سوق النخاسة, و بعد أن كانت في يد الصليبيين, تم تحريرها على يد عماد الدين زنكي, وهذا كان أبرز حدث للحملة الثانية. 

لا يمكن أن نتحدث عن الحملات الصليبية دون أن نغفل عن ذكر اسم (صلاح الدين الايوبي), خليفة أسد الدين شيركوه السنّي الذي كان وزيرا للحاكم الفاطمي في مصر, يرى المسلمون صلاح الدين بطلا ومحررا وقائدا عسكريا عبقريا, وهذا أمر لا يمكن نكرانه لانه القائد المسلم الوحيد الذي فهم أن سبب تمدد الصليبيين هو تفريقهم لصفوف المسلمين و التحالف مع بعضهم ضد الأخر, فبدأ بلعب نفس اللعبة و عندما عرف أن المصالح التجارية هي التي تحركهم, قام باستمالة تجّار الدول الإيطالية و إغرائهم بالتجارة المربحة مع مصر, و قام بالإيقاع بين بيزنطة و روما. وفي الثاني من أكتوبر في 1187 قام بتحرير القدس من قبضة الصليبيين و هكذا إنتهت الحرب الصليبية الثالثة.

و لأنها كما ذكرنا, لم تكن مجرد حروب دينية, و لأن الصفة الدينية لهذه الحروب باطلة بمجرد تحليل أسبابها و مجرياتها, فإننا نجد الحملات الصليبية التالية تتجه نحو المشرق العربي الإسلامي ووجهات أخرى لا علاقة لها بالدين من قريب ولا من بعيد, كانت مصر هي القوة الأساسية التي اعتمد عليها المسلمون للوقوف في وجه الغرب, و بالتالي اتجهت محاولات الغزو اليها كذلك, فكانت هي سبب الحملة الرابعة (1202-1204), و الحجة الظاهرية كانت إخضاع الأرثوذكس في مصر للبابا.

الحملات المتبقية لم تكن سوى عبارة عن غارات إنتقامية بعيد كل البعد عن هدف تحرير القدس, فالحملة الخامسة (1213-1221)و السابعة (1248-1254) كانت هدفها إنتزاع مدينتي دمياط و المنصورة في مصر و إنتهتا بالفشل الذريع, و الحملة السادسة (1228) قادها الإمبراطور الألماني فريديريك هوهنشتاوفن الثاني من دون مباركة الكنيسة لكنها عبارة عن تسوية سياسية ولم ترق لتكون حملة, أما الحملة الثامنة (1270) التي إنتهت في نفس العام, تم توجيهها الى تونس و كان الهدف منها أن ينتزع الصقلّيين حقوقا تجارية من أميرها, والحملة الأخيرة (1271-1272) قادها الأمير ادوارد وانهزمت على يد الظاهر بيبرس الذي هاجم إمارة طرابلس الصليبيه. 

النتيجة التي يمكن أن نخرج بها من قراءة هذه الحروب هي أن رغم العالم الإسلامي شهد بعض مظاهر التسامح الديني بين المسيحين و المسلمين و اليهود شريطة أن لا يصل الى حد التبشير بغير الإسلام, حتى أن هناك مصادر غربية تشهد بأن مسيحيي المشرق تعاونوا مع المسلمين على قدم وساق لصد المد الصليبي و أشهر هذه المصادر " الإنسكلوبيديا بريتانيكا ", نجد أن هذا التسامح اختفى تماما فيما بعد و أصبحت علاقة المسلم بغير المسلم كالهوة الواسعة التي لا يمكن تجاوزها, فخرج الى العلن فقهاء ومسلمين بنوا أسس التشريعات التي تحكم المسلم بغير المسلم متأثرين بنتائج الغزوات الصليبية و جعلوها مبنية على التقية الحربية, و أبرز هؤلاء الفقهاء ابن تيمية " الذي عايش أحداث هذه الغزوات. 

مشكلة الحركات الإسلامية التي تقول بأنها تريد محاربة الغرب و أجنداته, هي في تديينها للصراعات, إضافة الى استخدامها للتاريخ لتأييد وجهة نظرتها ولو كان ذلك التاريخ في الحقيقة لا يؤيد ما تقوله, و في قصة الحروب الصليبية أكبر مثال, و المشكلة أنهم يتغافلون أن صراعات البشر هي صراعات على السيطرة و النفوذ و السلطة, و قد يكون الدين مقحما في اللعبة لكنه ليس غاية الصراع, وهذا ما يفسّر تحمّس الإسلاموية لأطروحات صمويل هنتنغتون منظّر الإمبريالية الأمريكية و التي تقول بأن صراعات البشر القادمة ستكون حول الأديان و الهوية لأنها في نظرهم شهادة من العدو نفسه على صدف أفكارهم المتطرّفة و عسكرتهم للدين, بينما الرابح الأكبر لن يكون المسلمين الذين لم يعتبروا من التاريخ بل سيفتحون على أنفسهم باب الصراعات المذهبية الحمقاء و سيكونون أول الضحايا, في إطار إستراتيجية محكمة وضعت في المخابر الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة لإيجاد مبررات للإستيلاء على ثروات بلدان العالم الإسلامي بدعوى محاربة الإرهاب الذي يشجعه الغرب, لكن هذه المرة سيتطوّع الإسلاميين مشكورين لتكملة الخطة الامريكية.

وعموما هذه افة من يفكّر بالمضمون لا بالأسلوب, فالنوع الأول لديه أفكار مسبقة تشكل لديه حواجز وخطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها وهي أن الدين هو القضية الأولى و أن تاريخنا الإسلامي مقدّس طاهر لا عيب فيه كل شخصياته معصومة لا ينتقدها الا منافق قليل الإيمان و الدين فيصيغ كل أفكاره على ذلك المعيار , فمع أنه يقول بأن الغرب يريد محاربتنا للقضاء على ديننا و إحلال دين أو معتقد اخر غير الإسلام مكانه, تجده في نفس الوقت يتحدث عن قلّة إيمان شعوب الغرب و بعدها عن الدين و القيم الخ و مجملا, نتائج تفكيره معروفة مسبقا لأنه أخذ موقفا مسبقا من الغرب.. بينما من يفكر بالأسلوب , يرى بأن التاريخ يصيغه البشر ولا قداسة لأحد فيه ولن يحكم على وقائعه إلا من خلال تفكيك كل معطياته الى عدة عناصر ثم يتم إعادة تركيبها لكشف زيفها و الاخطاء المتعلقة بها.

اجمالي القراءات 4530