استشراء غلاء المعيشة في المغرب
حملة المقاطعة في الميزان وحتمية الإقتصاد

عبد الغاني بوشوار في الثلاثاء ٠٥ - يونيو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 

حملة المقاطعة في الميزان وحتمية الإقتصاد

لقد لجأ بعض المغاربة في الآونة الأخيرة إلى التعبير عن استيائهم وغضبهم من الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية والسياسية باحتجاج نذير في تاريخ المغرب وذلك بتفادي شراء بعض السلع والبضاع والدعوة إلى مقاطعتها لغلاء أسعارها والثراء الفاحش لمسويقيها على حساب جيوب المغاربة عموما.

من بين البضائع المستهدفة بالدرجة الأولى المياه المعلبة لشركة محتكرة لهذه المادة الحيوية والتي استحوذت على السوق المغربية وتصدرها إلى البلدان أخرى، ومنها الألبان ومشتقاتها لشركة أجنبية (فرنسية) سيطرت على نصيب الأسد في السوق المغربية.  ومن هذه البضائع المستهدفة بالمقاطعة أيضا، المحروقات النفطية التي تسوقها شركة إفريقيا التي لها نفوذ وتواجد كبير في سوق المحروقات، مع احتكار فاضح لبعض أنواع مشتقاتها وجهات التزويد.

لقد استجاب بعض المغاربة لنداءات ومطالبات بعض أصوات مغاربة الداخل ومغاربة الخارج، وإن كانت أصوات مغاربة الخارج مدوية بشكل ملفت في كثرة الفديوهات المنتشرة في مواقع التواصل الإجتماعي المختلفة قد يصفها البعض بالمتطرفة ونابعة من المعارضين الذين يتمتعون بحرية التعبير في البلدان التي يقيمون فيها ويبالغون في انتقاذ الأوضاع في المغرب ويحرضون المغاربة على العصيان، بل ذهب بعضهم إلى المناداة بالثورة وإسقاط النظام. لكن هذا شأن آخر ذو عواقب كارثية على استقرار المجتمع المغربي.وتلك المناداة نابعة من حرية التعبير في بلدان الإقامة بلا خوف من الزرواطة وقمع السلطات. 

إن بعض المغاربة، وبالخصوص سكان المدن والأثرياء والذين يملكون قدرات شرائية وعقلية للتفكر والفهم ويستطيعون إدراك بعض نتائج الإنجازات العلمية الحديثة ويهتمون بصحة أجسامهم، إن هؤلاء لا بد أن يستحضروا بعض الحقائق العلمية التي لا غبار عليها وفيها منفعة لصحتهم. فالمياه والألبان والمحروقات النفطنية تحتوي على مواد مضرة تسبب عددا من الأمراض. فقبل وضعها في ميزان المقاطعة، لا بد من كشف وبيان التحاليل المعدنية لمكوناتها لإقناع المقاطعين ببعض أضرارها ويطمئنوا لسلامة قرارهم.

المياه

فالمياه المعلبة بكل أنواعها تحتوي على معادن وأملاح مختلفة بنسب معينة، بعضها مذكور على القناني بالأسماء ونسب التركيز ، على أن التأكيد من دقة المعلومات يضل مفتوحا للتساؤل نظرا لملكية الشركات المسوقة في أيادي ذوي النفوذ والراسماليين  والشركات الأجنبية مثل "كوكاكولا"، ونظرا أيضا لعدم المراقبة الصارمة والمحاسبة الجدية من قبل الجهات المختصة التي تتغاضى عن التجاوزات التي تنتهكها هذه الشركات.

إضافة إلى هذا، فإن مصادر ومنابع هذه المياه مشكوك في صحة أصلها والعيون التي تسحب منها، فمثلا عين سيدي علي جافة منذ زمن، والعلامات التجارية المستعملة تخدع المواطن بارتباطها بدغدغة الشعور الديني وقداسة الأسماء  والألقاب الراسخة في قيم  الذاكرة المغربية، ولم يتساءل أحد عن شرعية وحق استعمالها كعلامة تجارية. إضافة إلى هذا، فإن وساءل الإعلام المحترمة لم تنبه المستهلكين لهذه الأمور وأهملت تنويرهم بمصادر ومكوينات وأضرار هذه المياه، ناهيك عن التركيز على أسعارها مقارنة بمثيلاتها في الدول المتقدمة، إذ كيف يعقل أن يدفع المغاربة أثمانا باهضة عن المادة المتوفرة بكثرة في بلدهم وهم ليسوا في صحاري الجزيرة العربية التي  نجد فيها أسعار المياه أقل من سعرها في السوق المغربية. وهذا في منضور رواتب وأجور المغاربة التي لا ترقى إلى ضمان معيشة كريمة نسبيا بالمقارنة مع الأجور في المجتمعات التي تحترم نفسها وتنعم بموارد طبيعية هائلة. لقد قالت وزيرة مغربية بأن المغربي يكفيه 20 درهم في اليوم، ولو اقتى قنينة ماء 5 لتر لأسرته، فسوف يحتاج إلى 10 أو 12,5 درهم ولن يبقى له ما يشتري به العدس لإطعام أهله. وعبرت وزيرة أخرى عن راتبها "بجوج فرنك" (إثنين فرنك) ونسيت أن تشير أن هذا الدخل يضعها في خانة الرواتب العالية وطبقة الأغنياء.

يتبادر إلى الذهن تساؤل معقول في هذا السياق، ألا وهو: ماذا كان المغاربة يشربون قبل بروز كل هذه الشركات في الاسواق المغربية واحتكارها لهذه المادة الحيوية التي تنزف جيوبهم؟هل كانوا يموتون عطشا ويتذمرون بدون وجود المياه المعلبة على موائدهم؟ المغاربة عباقرة ويحسنون تدبيرشؤونهم المعاشية غاية الإحسان ولا أدل عن ذلك من تعاملهم مع بيئتهم وتنظيمهم للمياه سواء في أنشطتهم الزراعية وفي جميع أحوالهم. فلقد كان أجدادنا يهتمون بتوفير المياه إلى كل المخلوقات فحفروا الآبار والمطامير والخزانات ووضعوا الخوابي والأواني الفخارية في الطرقات والأزقة وبنوا قنوات وجروا المياه إلى الدور والمساجد والدروب والحارات وكل هذا بالمجان لشعورهم بضرورة توفير هذه المادة الحيوية للحياة. ولا تعد ولا تحصى المناسبات التي أدلى فيها كاتب هذه السطور دلوه لجلب الماء للأسرة من الحنفيات والأبار العمومية ولقاء الجميلات المحتشمات. يضاف إلى هذا "الكراب" الذي يتجول بقربة ماء يسقي العطشان ويقبل رحمة الوالدين وما يجود به الذي روى عطشه. وللممعلومة، هناك حملة عالمية للمطالبة بجعل كل المياه الباطنية وعلى سطح الأرض منفعة عامة لكل البشرية مما قد يقود إلى توفيرها مجانا لأنها ملك لكل البشر لا للشركات ولا حتى الأفراد. وسوف يعرض هذا المشروع الإنساني على الأمم المتحدة للبث فيه عما قريب. ومن سخرية الأمور أن المغرب لديه وزارة للمياه للعناية وتدبير هذه المادة الحيوية، ومع هذا يشتكي كثير من الناس من ققدان مياه الشرب في عدد من مناطق مغربنا الغالي والغني  ناهيك عن شكاوي الفلاحين وحاجتهم الملحة لسقي مزارعهم ومواشيهم.

الألبان ومشتقاتها

أما قضية الألبان(الحليب) ومشتقاتها، فقبل الحديث عن جودتها وأثمانها الباهضة في أسواق المغرب، فمن الضروري إبراز بعض الدلائل العلمية الثابتة والتي تنذرنا بمضارها لما يربو على خمسة وسبعين في المأة على الأقل من البشرإستنادا على دراسات علمية التي أثبتت ارتباطا وثيقا بين استهلاكها وبين أمراض السرطان والأوعية الدموية وأمراض القلب، والسمنة وهشاشة العظام وغيرها. وقد نصحت اختصاصية التغذية علياء المؤيد:بالتقليل من تناول الألبان ومشتقاتها  وتناول البدائل الغذائية الأخرى مثل حليب اللوز والصوجا، وأوضحت "أن تناول الألبان يزيد من إنتاج المخاط في الجسم ويُثير حالات الحساسية والتحسس ما قد يُفاقم حالات الربو والإكزيما ويؤدي إلى تكرار الإصابة بالتهاب الجيوب الأنفية، بالإضافة إلى عدم تحمل بعض الأطفال للاكتوز وما ينجم عنه من أعراض."

فحليب البقر خاص بصغارها ومنفعة كبيرة لنموهم في سن مبكرة بخلاف صغار بني البشرالذين يحتاجون إلى سنوات ليتم نموهم، فاللبن مفيد لصغار البقروقليل الفائدة لبني الإنسان.ويمكن التأكد من هذا بالبحث في الإنترنت بكل سهولة بفضل ذكاء السيد "كوكل" وخبثه. وهنا يطرح السؤال نفسه: ماذا سيحدث لو صام المغاربة عن تناول هذه الألبان وماذا كان المغاربة يشربون قبل انتشار الشركات المسوقة لها في الأسواق المغربية بأسعار باهضة؟

لقد كان سكان البوادي الذين يملكون الأبقارالوطنية، قبل إغرائهم بشراء الأبقار الأوربية الباهضة الثمن، يكتفون بما تجود به البقرة المغربية من الحليب ويستخرجون منه الزبدة والسمن والمخيض لاستهلاكهم اليومي وإكرام الضيوف ويوزعون المخيض بالمجان على من يحتاجة كانت له بقرة او لم لم تكن.وحتى في الحالات التي يذهب فيها إلى السوق بمنتوجه، فإن أسعاره للزبدة والسمن لا تتجاوزما تيسر وفي حدود المعقول. ما زال كاتب هذه السطور يتذكر أيام الطفولة التي كان يوصل فيها قنينة مليئة بحليب بقرة خالته في شهر رمضان إلى أسرة موظف في مدينة تزنيت، وكم كانت فرحته عندما تتكرم ربة البيت بمده ببعض قطع حلوى "الشبكاكية" لشكره على القيام بهذه المهمة.وعلى العموم، فإن كثيرا من المغاربة لم يدمنوا على استهلاك الألبان والقهوه لا في رمضان ولا غير رمضان وكانت الأمراض قليلة مقارنة بانتشارها في الوقت الراهن. فالعبرة،إذن، هي التقليل من استعمال الألبان ومشتقاتها ومقاطعة كل الشركات المسوقة لها، بل نظرا للأمراض التي تسببها ونظرا لعدم الجدية في مراقبة جودتها، الإمتناع عن استهلاكها  واستيرادها فيفوز المواطن بصحة جسده وتوفير دراهمه لشراء حاجياته الضرورية.

النخب المسيطرة على كل شيء لا يعنيها كل هذا، فستسعى جاهدة بكل الوساءل لفرض قوتها ووجودها وتحكمها في كل السلع والبضائع وأسعارها لتزيد من ثرواتها ورفاهيتها، باستنزاف جيوب المغاربة الذين أدمنوا على استهلاك سلعها ولم يتفطنوا إلى جشعها وقهرها إلا حديثا.

تنبيه: الألبان واللحوم

تنتج الألبان في المزارع التي يتم فيها أيضا تربية الحيوانات لإنتاج اللحوم وضرر استهلاك هاتين المادتين للصحة أمر بث فيه العلماء ومتخصصي التغذية بما لا مجال فيه للشك. وقد خلصت أشمل دراسة علمية حديثة نشرت في "مجلة ساينس" إلى أن تجنب اللحوم والألبان ومشتقاتها هوالوسيلة الوحيدة للحد من تدمير البيئة والتأثير السلبي على الأرض. تضيف الدراسة، التي شملت 119 دولة  و  40.000 مزرعة في العالم، بأن الإمتناع عن استهلاك اللحوم والألبان ومشتقاتها سيؤدي إلى انخفاض  مساحة الأراضي المخصصة للمزارع بأكثر من 75%  على الصعيد العالمي، أي ما يعادل مساحة الولايات المتحدة والصين وأوربا وأستراليا مجتمعة. وبينت الدراسة أن الألبان ومشتقاتها واللحوم معا لا تزود الإنسان إلا ب18% من الشعيرات الحرارية و37%  من البروتنات  نتيجة استغلال أغلبية 83 % من اأراضي الزراعية وتولد 60 % من انبعاثات غازات الإحتباس الحراري.*

يستنتج من كل هذا أن اجتناب اللحوم والألبان ومشتقاتها يساهم في المحافظة على البيئة وصحة الإنسان، فضلا على توفير الأموال التي تصرف عليها وتشجيع استهلاك المنتوجات البديلة المناسبة النافعة مما يبرر مقاطعتها والتقليل من استعمالها من المنضور العلمي والتفكير بجدية في التردد من شراء الأضاحي التي لا شك في أن أسعارها لن تكون في متناول معظم الأسر، ناهيك عن القضاء على ملايين الخرفان في يوم واحد مع العلم أن الشعيرة الدينية المرتبطة بعيد الأضحى ليست فرضا واجبا حسب أقوال بعض الفقهاء.

المحروقات والمشتقات النفطية

المحروقات أيضا من بعض البضائع التي طالتها المقاطعة وبالخصوص تلك التي تسوقها شركة افريقيا، وقبل اعتبارها من الزواية الإقتصادية وأسعارها الباهضة، ينبغي التذكير بمضارها على الصحة وتدميرها للبيئة.

لا يخفى على عموم بني البشر أن البترول ومشتقاته والمواد المصنعة منه كارثة على البيئة وتسبب أمراضا مزمنة كما تساهم في توسيع ثقب الأوزون الذي يحمي الأرض من الأشعة الشمسية المضرة للحياة.إن الغازات السامة ومخلفات المحروقات التي تنتج عن استهلاكها قد لوثت البيئة وقضت على أنواع من الكائنات الحيوانية والنباتية، فضلا عن عدد الأمراض التي يعاني منها بنو البشر في جميع أصقاع العالم. ولا أدل على ذلك من التوجهات العلمية العالمية الحديثة للتخلص منها نهائيا في المستقبل والإعتماد على الوسائل البديلة التي لا تؤذي الإنسان والبيئة. ولقد فرضت بعض الدول ضرائب وغرامات مالية على انبعاثات الغازات من المحركات التي تستهلك أنواع الوقود المختلفة. فألمانيا، مثلا، بلغت إيراداتها من ضرائب البترول خلال سنة 2017 حوالي 41 مليار يورو. واتخذت بعض الدول قرارات وحددت سنوات للقضاء نهائيا على استهلاك البترول في صناعاتها ووسائل النقل. وقد ظهرت في بعض البلدان معدات وسيارات تعمل بالكهرباء ومواد غير بترولية وغير ملوثة للبيئة.

وإذا نظرنا إلى اسهلاك المحروقات في المغرب من زاوية الأثمنة  والقوة الشرائية لدى المغاربة التي بنى عليها المغاربة مقاطعتهم لشركة افريقيا،فإن الأمر تشوبه تساؤلات عميقة. أولها احتكار وهيمنة الشركة المسوقة على السوق المغربية. يضاف إلى هذا الأرباح الخيالية التي تجنيها والتي أثارت حفيظة المستهلكين وتفقيرهم. فبالرغم من انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية حتى وصل في بعض الأوقات إلى ما دون 45 دولارا للبرميل، فإن أسعار وقود الديزل والبنزين والمشتقات النفطية الأخرى(مثلا، الكيروزين) غالية جدا بينما تعباع في الدول المجاورة بأسعار أقل ولا تتناسب مع مداخيل المغاربة الزهيدة، بل هي أغلى من أسعارها في بعض الدول الأوروبية التي ينعم أهلها بمداخيل تفوق أضعاف المرات ما يحصل عليه المواطن المغربي العادي الذي يعاني أكثر من نصف أهله من الفقر.

لا شك بأن حملة مقاطعة منتوجات هذه الشركة قد أثرت سلبيا على أرباحها، إلا أن الأسعار لم تنخفض وما زال الإرتباك فيها ساري المفعول بمبرر تحرير الأسعار، وتجني شركات المحروقات الأخرى ثمرات المقاطعة بإقبال المستهلين عليها بالرغم من أن الأسعار هي هي، وهذا غير معقول لانعدام المنافسة وفائدة المستهلك من تخفيض السعر. فالمقاطعون لمنتوجات إفريقيا ما زالوا يدفعون ثمنا غاليا للمحروقات ولن يتحقق الهدف المنشود من القضاء على الفساد إلا بمقاطعة جميع الشركات التي تسوق هذه المادة الحيوية حتى تحاسب حسابا عسيرا عن أرباحها وتدفع الضرائب المفروضة عليها إلى خزانة الدولة ومحاسبة الحكومة عن كل المداخيل والضرائب المباشرة وغير المباشرة.

طبعا، إنه من الصعوبة بمكان الإستغناء كلياعن استهلاك المحروقات في الوقت الراهن، لكن التقليل والإقتصاد في استهلاكها أمر ممكن جدا إذا تخلى المغاربة عن الإسراف في اقتناء السيارات والطواف بها في شوارع المدن بدون هدف معين وإذا أقبلوا على استعمال المواصلات العمومية وعدم اللجوء إلى محطات بيع المحروقات إلا في الضرورة القصوى.

 النخب المسيطرة على الإقتصاد لا يهمها غلاء أسعار اي بضاعة، بل إن كثيرا منهم يتجنبون التسوق في البلاد ولا تؤثر عليهم الأثمنة الباهضة أصلا. فالمعنيون بالأسعار هم الطبقة المتوسطة التي تفقرها وتزيد من طحن الفقراء الذين يشكلون أغلبية المغاربة. قد يلجأ البعض إلى المشي للذهاب إلى العمل والتسوق وقضاء شؤونهم وسوف يتمتعون بهذه الرياضة المفيدة لصحتهم وينعمون بالمناظر وجمال مدنهم، وسيكتشفون ما كان مخفيا عن أنظارهم عند ركوبهم السيارات التي تلوث بيئتهم.

التغذية الذكية والمقاطعة في الميزان

على ضوء ما تقدم سرده، فإن حراك مقاطعة بعض المغاربة لبعض البضائع لم يصل بعد إلى الهدف المنشود للقضاء على الإحتكار والفساد الإقتصادي والسياسي في المجتمع ولم يساهم في تحسين الظروف المعيشية والحد من جشع النخب المستفيدة التي تدافع الحكومة القائمة عن مصالحها بدون هوادة. أولم تصدر تصريحات بذيئة من عدد من المسؤولين تصف المغاربة بالمداويخ والقطيع والخونة وهددوهم بالمتابعات القضائية والغرامات المالية والسجن؟ ولقد قالها صراحة وزير بأن الأمر لا يعنيه لأنه وزير ولا ينتمي إلى طبقة الشعب. يا لها من مهزلة ودرس للذين ما يزالون لم يفهموا ولم يدركوا ألاعيب ومراوغات الذين ينهبون خيراتهم ويستنزفون أرزاقهم.

الدرس الذي يستوجب اسخلاصه من كل هذا، هو وجوب الإستعاد لتربية المغاربة أنفسهم بجدية على فضائل الوسطية في مأكلهم ومشربهم وملبسهم وفروجهم، وعلى العموم في أسلوب حياتهم المعاشية. فتربية النفس على الكفاف والعفاف وعدم الإسراف تحتمها الأوضاع المعاشية الراهنة للمحافظة على صحة الأجسام وتوفير الأموال. فالنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم، كما فال البصيري. والغريب في هذا السياق أن الصوم في رمضان لم يؤثر على الإقتصاد في النفقات على المعيشة بل زادت وتيرتها وزاد إقبال المستهلكين على المشتريات والمواد الغذائية كأنهم لم يذوقوا الطعام أبدا مع أن فترة السماح بالأكل لا تتجاوز ثمان ساعات مقارنة بالسماح بها طيلة الأشهر الأخرى. فالإسراف في الأكل في رمضان، لا مبرر له إذا عود الإنسان نفسه بالإكتفاء بما يقتل به الجوع كما نقول. ولا يتفطن كثير من الناس إلى الأضرار الصحية الناجمة عن تهافتهم على بعض الأطعمة  غالية الثمن من أسماك وتمور وحلويات ولحوم وألبان وبن وغيرها، وقد تقدم التلميح إلى أضرار اللحوم  والألبان ومشتقاها أما السكر الذي يبالغ المغاربة في استهلاكه في رمضان وغير رمضان، فإن العلماء يعتبرونه سما قاتلا إذ بينت الأبحاث العلمية أن ملعقة صغيرة منه فقط تقلص من مقاومة جهاز المناعة 50  % وتؤثر سلبيا على سلامة الجسم من الآفات.

فرصة الصوم فرصة ذهبية للإقتلاع عن التبذير ورياضة النفس على الزهذ والإكتفاء بقليل من الطعام ومقاطعة كل ما ليس ضروريا وخصوصا البضائع التي يحتكرها كبار التجار والشركات الجشعة. ومن هذا المنطلق توضع المقاطعة في ميزان العدالة والصواب. يضاف إلى هذا الإقبال على الخضروات والفواكه الموسمية التي ينتجها المغاربة والحمد لله على توفرها مع أن جشع السماسرة قد ساهم في غلاء أسعارها في بعض المدن. فالإقتصاد، ثم الإقتصاد واجتناب التبذير والإسراف ومحاربة الشهوات وكبح جماح البطون كلها تضع المقاطعة في ميزان لا يكلف الله الإنسان بما لا يطيقه جيبه. فالمنطق يستوجب الإمتناع عن شراء كل البضائع والسلع غير الضرورية وخصوصا المستوردة التي تدر أرباحا هائلة لمحتكري الأسواق المغربية.

الخاتمة

إن تنظيم الحياة الإجتماعية وتدبيرالشؤون المعاشية في المغرب لا بد أن تكون مبنية على العقلانية وعلى مبدإ إسناد الأمور والمسئوليات إلى الأكفاء من المواطنين والمواطنات ذوي التجربة الفعلية في إدارة شؤون العباد ويحبون وطنهم بصدق أكثر مما يحبون ترييش أعشاشهم وأعشاش المقربين منهم. فالنخب المسيطرة، على ما يبو من أعضاء الحكومة والبرلمانيين والإداريين الساميين في مؤسسات الدولة والأحزاب والنقابات وأصحاب الشركات الكبرى والتجار ما زالو ينطلقون في تصرفاتهم من عقلية "العاطفمالوقراطية" ويعتمدون على العاطفة والمال في اتخاذ القرارات التي ينتج عنها الفساد والمحسوبية والزبونية وتفقير المواطنين وتحميلهم ما لا طاقة لهم بها. فلا غرو أن يدعو المغاربة إلى المقاطعة وهم يدركون أن بلدهم ينعم بالخيرات التي يقل وجودها في البلدان الأخرى. وقد أضناهم قهر الخضوع لسياسة "التكليخولوجيا" وسياسة "الطحنمولوجيا"، وهم الآن ينتظرون بفارغ الصبر أن يتبع المسؤولون عن تدبير شؤونهم المعاشية اعتماد العقلانية واتباع سياسة " العتقمولوجيا" لينعموا بحياة كريمة وعيشة راضية مثل بقية الشعوب المطمئنة على نزاهة مدبري شؤونها. وفي ذلك فاليتنافس المتنافسون.

*انظر جريدة الكارديان 31 مايو 2018 .

الدكتور عبد الغاني بوشوار

اجمالي القراءات 863