من وحي الدولة المدنية

سامح عسكر في الثلاثاء ٠٥ - يونيو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

حين تعرض الإسلاميون لمفهوم الحكم لم يجدوا نصوصا دينية تؤيد مزاعمهم حول أحقيتهم في المُلك، ذلك لأن النص الديني القرآني والروائي القديم فصل بين مفهوم الأمة وبين مفهوم السلطة، فأعطى الحكم للأمة، ونصح بالنقد للسلطة..عدا أن نصوصا موازية للنقد السلطوي أمرت بطاعة الحاكم منفصلة تماما عن حق الأمة الإلهي في الحكم زمن الرسول.

بمعنى أن كل شئون السياسة في القرآن كانت لها زمن محدد انتهى بوفاة الرسول وهي ما يطلق عليها اصطلاحا ب "دولة الإسلام"..أو.."دولة الرسول في المدينة"..وحقها التشريعي باعتبار الوحي قائما ومصير الدعوة في خطر، ولأن الأديان تقوم وتنطفئ بالسياسة كان لزاما على الإسلام أن يتناول نشأة الدعوة بمنظور سياسي لغرض البقاء، وبالتالي أصبح مفهوم الدولة الديني له هدف واحد هو حماية الدين من الخصوم..تصبح بعدها مفاهيم الحكم دنيوية بعد انقطاع الوحي

لكن في زمن الفتنة الكبرى يبدو أن الصحابة لم يؤمنوا بانقطاع الوحي عنهم، فزعموا أن الحق الإلهي معهم، وافترق المسلمون كلُ يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك..حتى توارثنا هذا الإيمان بتجليات داعش والقاعدة والإخوان..وهم آخر عنقود خلط الدين بالسياسة الذي بدأ منذ الفتنة الكبرى وعانى المسلمون منه الويلات..

كذلك فالتاريخ الإسلامي فارغ من أي تنظير سياسي على أسس فلسفية أو حتى روائية، بيد أن مسائل الحكم تركت تماما لمصلحة الحاكم فحسب، فإذا كان الحاكم قويا يخدمه فقهاء البلاط بنصوص الطاعة، وإذا كان ضعيفا يخدمون خصومه الأقوياء بنصوص الثورة..وهكذا تاريخ المسلمين منذ العصر الأموي، مركزية النص فيه لمصالح الأقوياء، ومن تلك المركزية اشتق مفهوم "طاعة الحاكم المتغلب"..الذي انتشر تقريبا لدى كل جماعات وفرق المسلمين دون استثناء

أستثني كتاب .."الأحكام السلطانية"..للمواردي، وهو كتاب يناقش طرق الحكم برؤية مثالية أثرت على قراءه وظنوا أن ما سطره المواردي قابلا للتطبيق، فشروط الإمامة والقضاء فيه غير قابلة للتحقق ناهيك عن تبنيه الحكم وفقا للنظرية السنية القاضية بطهارة النسب القرشي، وحين نظر الإسلاميون حديثا في هذه الكتب وهذا التراث بالكامل اكتسبوا طرقه في المثال والفراغ الفكري والبعد عن روح العصر ومتناول الإنسان الحديث، وقد أثر بالتبعية عليهم بحيث جعل كل من يتناول السياسة بمنظور ديني هو (مواردي آخر) معزول عن الحياه بأكملها..

من هنا حدث التصادم بين الفكر الديني والفكر المدني، فالأخير أكثر حداثة وتعاطيا مع مشكلات العصر الحقيقية، ومنه اشتق مفهوم.."الدولة المدنية"..ويُقصد به التعاطي مع المواطن وفقا لمبادئ الحريات والمواطنة، أي دولة (محايدة) لا ترى مواطنيها بمناظير الدين والعرق والجنس أو الطبقات بغرض توفير حياة كريمة وآمنة وعادلة للمواطنين تحقق أحد غايات الإنسان الكبرى وهي السعادة، ولشدة تشابه هذا التعريف مع مبادئ العلمنة تم اعتبار أن لفظ الدولة المدنية في ذاته يعني العلمانية، ولتشابه الدولة العلمانية مع الدولة اللادينية فانعكس ذلك على سمعة الدولة المدنية خصوصا عند العرب..

وهنا يجب توضيح قاعدة مهمة: وهي أن تعريف الدولة الأصيل بالكيان المحدد جغرافيا وسياسيا يبرز الفارق بينها وبين الأفكار والرؤى، فالدولة كيان قصده الإنسان لمنفعته، أي كل ما تمثله الدولة من مؤسسات ونقابات ووزارات ومنشآت هي في الحقيقة أشياء (مستهلكة) عرفها الإنسان لتسيير شئونه الخاصة، بينما الأفكار –ومنها الدين بالطبع- هي قناعات بشرية خاصة منفصلة تماما عن مبدأ المصلحة في الدولة، وعن تكوين منشآتها الخدمية، وبالتالي يصبح الخلط بين الدين والدولة هو كالمثال الشهير.."لا يختلط الزيت بالماء"..إذ اختلفت هويات كلا المفهومين ووصلنا بهما لتعريفين لا يمتان لبعضهما بصلة..

ولأن أحد مبادئ الدولة المدنية أمر بإطلاق الحريات أصبح مفهوم الاستبداد والدكتاتورية يتعارض مع المدنية، وهذا فصل آخر من فصول الخلاف مع الجماعات الإسلامية، فهم يظنون أن رفع شعار.."دولة مدنية بمرجعية إسلامية"..يحقق لهم مبدأ التمدن ..وهو غير صحيح، فالمرجعية التي وُضِعَت في الشعار تعني أن من يخالفها أصبح عدوا شريرا يجب إقصاؤه من الحياة العامة، ليس هذا فقط بل من يخالف تفسير الحاكم لتلك المرجعية يصبح بنفس الصورة، وهنا الملمح الاستبدادي في دولة الجماعات المُضاف لما سبق ذكره عن فراغ وجاهلية المواردي السياسية.

كذلك فالحكم العسكري - وفقا لهذا التعريف- ليس حكما مدنيا، بل شكل من أشكال القمع السياسي التي تتعامل معه الدولة المدنية بمنظور حقوقي بعيدا عن موضوع الأهلية المشاع، فمبجرد ما يظهر حاكم مستبد ويصبح أهلا للمنصب –عند مؤيديه- يعتبره الأنصار عادلا..ومن يعارضه فهم يعارضون هذا العدل أصلا..!..وهذه من آفات الاستبداد.."الأحادية الفكرية –الفاشية –الإقصاء والتهميش"..ناهيك عن الفساد والإهمال والفشل المرافق غالبا لكل المستبدين بالحكم حديثا.

ورغم أن الحكم العسكري لا يتعرض في الغالب لحرية العقيدة..لكن استبداده إذا شمله ضعفا في الاقتصاد وعُزلة شعبية يضطر معها العسكري للتحالف مع رجل الدين كغطاء شعبي له يحميه من دعاة الثورات والانقلابات، وهنا الطلاق البائن بين الحكم العسكري والدولة المدنية، فعلاوة على استبداده السياسي يسقط في وحل قمع الحريات ليُصادر أبسط حقوق الإنسان في الرأي والعقيدة والتعبير، بل تصل أحيانا للأزياء والسلوكيات الخاصة كما حدث قديما في القرون الوسطى.

وهنا ضرورة وجود مجتمع متسامح لتحقق الدولة المدنية، أو على الأقل لا تعدم الشعوب دعاة التسامح للحفاظ على البقية الباقية من الحب والإنسانية كما في أفكار الشيخ.."جودت سعيد"..صاحب الأفكار الدينية، لكن سلامه الروحي دفعه لتبني خط تنويري في تفسير النصوص الدينية حتى وُصِف ب.."غاندي العرب" ففي كتابه .."الدين والقرآن"..يقول: " الدين لا يجوز نشره بالقوة والإكراه ، والدين هو تفسير الكون ، أي الوجود كله بما فيه الإنسان . وعلاقة الإنسان بالوجود وبالناس الآخرين هي المبدأ والمنتهى"..كلمة تذكرني بحكم الإمام علي بن أبي طالب في نهج البلاغة، أو المنسوبة له حسب الطاعنين في نسب الكتاب، ولكن المتأمل في كلام النهج وجودت لا يشك برهة في انسجام هذا الكلام مع الدولة المدنية العادلة.

وقد أسس دعاة التسامح من أبناء الخط الديني تيارا مدنيا يفسر النصوص بطريقة حقوقية مدنية كما عند محمد شحرور والدكتور العوا، فالأخير من دعاة الليبرالية وفيديوهاته على اليوتيوب يحاول فيها التوفيق بين الإسلام والحريات، أما شحرور بتفريقه بين النبوة والرسالة امتلك مفاتيح التعامل مع نصوص القرآن بحرفية أكثر تماشيا مع اتجاهات الإنسان الحديث في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأذكر أن لشحرور رأي شهير يقول بأن الدولة العلمانية لا تتعارض مع مبادئ وتشريعات الإسلام، إذ أنها تكفل الحق لأبنائها بحرية العقائد والرأي ..وبالتالي حرية التعبير عنها بممارسة الشعائر، وفصله ذلك بين النبوة والرسالة دفعه للتفريق ضمنا بين خطاب الأمة وخطاب السلطة، فرأى أن خطاب النبوة في الحقيقة هو خطاب سلطة، بينما الرسول هو خطاب أمة..وعليه فنحن مأمورين باتباع خطاب الرسالة لانقضاء السلطة بعد موت النبي.

لكن يظل الفكر الديني العربي في أزمة مع الدولة المدنية من جهة تأثر المتدينين الآن بالغزو الوهابي، ولضعف شوكة رواد التنوير، وشيوع استبداد الحكام العرب بما يُضعِف آمال المصلحين من إنجاز حقوقي يعيد للعرب إنسانيتهم بعد فقدانها وظهور توحشهم في عصر الثورات والحروب المذهبية الحالي، ويبدو أن للأمر جذر (هووي) من الهوية، ويعني أن شعوب الشرق الأوسط بالخصوص من فرط تخلفها لقرون بدءا من العصر المملوكي حتى الآن اكتسبوا هوية أقرب لأصحاب الفتنة الكبرى حتى شاع بينهم الفرز العقائدي والسياسي بما يؤثر بالطبع على نشوء ثلاثي التابو المقدس (الدين –والجنس –والسياسة)..المشاع الآن حتى تناولته السينما على استحياء.

ولما لا وفكرة الخلافة الإسلامية هي المهيمنة على اتجاهات العرب في تعاطيهم مع السياسة، وهي فكرة لها من الأحادية الفكرية ما يكفي لصناعة أعتى الدكتاتوريات، فترى رئيس مصر يقول في بحث قديم له أن السياسة في الشرق الأوسط لا يجري فهمها بعيدا عن مفهوم الخلافة، ليس انتقاصا من الشعوب ولكن ميلا لمعرفة طباع المحكومين والتعامل معهم كيفما يريدون، والأمر به بعد ميكافيللي يقضي على الدولة المدنية التي حَلِمَ بها المصريون بعد إنجاز ثورتين من أعظم ثوراتهم في التاريخ الحديث.

القضية ليست قضية إنجاز حقيقي أو وهمي للسلطة، بل مشاعر سلبية وتعارض مصالح من طرق الإدارة المستبدة والفاشلة، بينما الدولة المدنية تجسد التغيير والسير إلى الإمام توازيا مع تطور المجتمع الثقافي، فهناك ثمة رابط بين تطور المجتمع ثقافيا وبين طرق التعاطي السلطوي معه، بيد أن الاستبداد يفشل في مواكبة هذا التطور وفهمه ويظل دائما متأخرا يرى الناس بطريقة رجعية، فإذا جمع الاستبداد رؤية دينية متشددة وقتها يعود المجتمع بطريقة أسرع وأسرع حتى ينفصل تماما عن العالم..وأقلها المحيط الخارجي.

لشهيد الفكر الدكتور.."فرج فودة"..كتاب.."قبل السقوط"..عام 1985 آراء جريئة فند فيها أفكار المتطرفين ورد على التراثيين بطريقة حرفية حتى أدى ذلك لمهاجمته شخصيا، وقد حكى في مقدمة كتابه الآخر.."حوار حول العلمانية"..بعض من آثار تلك المعارك منها ما حدث من الشيخ صلاح أبو إسماعيل الذي اتهمه بإباحة الزنا..هكذا عقول المتطرفين لا يتسع صدرها للتفكر ويرون أي محاولة لتفسير النصوص بطريقة جديدة هي دعوة للانحلال والتحرر من كل قيود الأخلاق والدين.

ما فعله صلاح أبو إسماعيل مع الدكتور فرج هو ضريبة أي دعوة للتمدن، لأن الدولة المدنية هي في حقيقتها فهم للكون والعالم الخارج عن إطار الذات، وقد حاول فودة تقريب هذه الحقيقة لأذهان الناس ومنها على سبيل المثال إنكاره قصة.."حكمت فعدلت فنمت فأمنت ياعمر"..وشرح للناس كيف أن العدل لا يلزمه الأمن بالضرورة، فعمر نفسه مات مقتولا، وأمثاله في التاريخ الحديث غاندي ومالكوم إكس، وعلى النقيض جبابرة كموسوليني وصدام حسين والقذافي وبينوشيه، حكموا عشرات السنين آمنين رغم ظلمهم، ربما أن الدعوة للعدل تتصادم مع هوى المتعصبين المتشبعين بالأحادية الفكرية وبالتالي أي عدالة معهم تعني حق الآخر منهم، وهي إهانة شخصية لا تغتفر تستوجب بالنسبة لهم عقاب المخالفين.

هذا يعني أن الدولة المدنية لها شرط آخر غفل عنه الكثيرون وهو (العلم) فحق المعرفة يجب أن يكون مكفول وحماية المفكرين شرط دستوري هام لضمان التمدن ، وهذا يعني أن التمدن في حقيقته يتصادم مع الجهل، كنموذج المثال السابق والذي يعني أن تحقيق العدل من وجهة نظر شخصية نسبية كافٍ لتحقق الأمن، فإذا لم يتحقق على أمر الواقع صارت الفتن تجرى تباعا ظنا منهم أن خرقا لقوانين الطبيعة قد حدث، فالإنسان عموما يتفاعل مع الغرائب أكثر من الطبيعيات، وفي هذا النموذج المشار إليه في قصة عمر سيكون تفاعلا سلبيا يؤدي لعواقب نفسية وخيمة.

أي أن الدولة المدنية ليست فقط مصلحة للمتنورين المتسامحين بل مصلحة للجميع بمن فيهم المتعصبين والجهلة، فهي تحمي المتعصب من لوازم تعصبه، والجاهل من لوازم جهله، وتتناول الإنسان بما أنه إنسان وليس لأفكاره وقناعاته السلمية.

ونشر العلم مهمة إصلاحية بالأساس تشترك فيها السلطة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدني كالإعلام والنقابات والأحزاب، وهذا يعني أن غياب الإصلاح عن مفهوم السلطة يؤثر بالتبعية على باقي تلك المؤسسات فتعكف بين جدرانها معزولة عن التمدن وتعيش فقط بين أحلام وخيالات الماضي ..وتتحسر على الأمم المتمدنة والناجحة ، أما لو لم تكتف السلطة بمجرد غياب الإصلاح بل تهاجمه وتبطش بأصحابه هنا يتخلف المجتمع فورا ويسير بمعدل ثابت وسريع إلى الوراء، لذلك كان الدكتور فرج فودة يرى أن قضية الأقباط واضطهادهم طائفيا من السلطة والشعب لن تُحَلّ إلا ببرنامج إصلاحي يتناولهم كمواطنين لا ذميين.

ومن هذه القاعدة انطلقت في مشروعي لنقد الموروث منذ 6 سنوات باستغلال كافة الأدوات العصرية في السوشال ميديا، وأسست هاشتاك #نقد_الموروث الذي انتشر بسرعة كبيرة حتى بات علامة على تغير أفكار الشباب العربي وإيمانهم بضرورة المراجعة الفكرية للتراث، وكذلك بفيديوهات مرئية على قناتي في اليوتيوب تشرح بعض جوانب التراث من زاوية الإصلاح التي أشار إليها الدكتور فرج ودفع حياته ثمنا لها جزاءا له على تهديد مصالح المتطرفين والسلطة المهملة والفاشلة معا.

أخيرا: فارق بين المثال والواقع، الجميع يحلم برؤية مثالية لدولة ومجتمع آمن وعادل، لكن كلهم سيختلفون حول طريقة تطبيقها في الواقع، وهذا يعني أن الصراع بين الدولة المدنية ونقائضها كالدينية والعسكرية والمستبدة يظل إلى الأبد، وستظل المدنية متهمة دائما بالإلحاد والمروق عن الأديان في نظر أصحاب الدولة الدينية، وبالخيانة والعمالة في نظر أصحاب الحكم العسكري والمستبد، ذلك أن فكرة التمدن حقوقية بالأساس تراعي مسائل الحريات والمواطنة، أي هي وعاء يحوي بداخله كل مفاهيم العصر من اشتراكية ويسارية وليبرالية وعلمانية...إلخ بمن فيهم الإسلاميون أنفسهم، ولا تضع نفسها حكما على قناعات الناس بل طرف محايد راعٍ للنظام والقانون.

وفي تقديري أن عصر الميديا الحالي يساعد على تحقيق الدولة المدنية بشكل كبير، فالشرائط التي وُضِعَت لتحققها قديما كالتواصل والمعرفة تزيد الآن بشكل متسع، بحيث لم يعد العلماني بحاجة لاستخدام التقية كي يظهر معتقداته وطريقة تناوله لثنائية الدين والدولة، وأصبحت الجرأة على النقد والتأويل أكبر من ذي قبل، والاحتجاج بالقرآن على الشيوخ هو سمة العصر بعد فضح دينهم الأساسي بتقليد وعبادة أئمتهم بعيدا عن القرآن ومتطلبات العصر، واختفت هالات القداسة التي صنعت جول أجساد الكهنة، لكن تبقى المعضلة التاريخية أبدية وهي..عدم انسجام الدولة المدنية مع مصالح المستبدين.. حتى عانى منها مجتمع الاستنارة نفسه، ويبقى الصراع الأبدى بين التمدن والاستبداد هو عنوان كل الحروب والصراعات بين البشر.

اجمالي القراءات 4038