أضواء على الليبرالية

مولود مدي في السبت ٠٢ - يونيو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

المفكرين العرب عندما يتحدّثون عن الليبرالية فأغلبيتهم يأتي بطرح يبعث على التثاؤب بسبب الكلاسيكية المفرطة في عرض معنى الليبرالية و تطبيقاتها على الواقع, و أحيانا يتجاهلون النقد الذي يتعرض له هذا المذهب, كما أن خلط المصطلحات ببعضها و غموض الألفاظ أدى الى ضبابية طرح الليبراليين العرب مما جعلهم فريسة سهلة للتيار الديني الذي شوّه المفهوم و بالتالي ضَعُف الموقف الليبرالي أمام الشعوب العربية و التي لازالت رهينة الفكر الديني القروسطي.. 

وفي هذا المقال لن أتكلم عن الليبرالية و تعريفها بطريقة السرد, ولن أحاول تغليب إيديولوجيا على أخرى لأنني أرفض ان تمنعني أي أيديولوجية مهما كانت من حرية التفكير و أن أعتبر أفكارها فوقية و أعلامها أناس لا يمكن مناقشتهم و نقدهم, بل الهدف هو عرض أبعاد هذا الفكر بسلبياته و إيجابياته لنرى ماذا يمكن أن يقدّمه لمجتمعاتنا المتخلّفة.


يتّفق الفلاسفة أن مصطلح “الحرية ” هو مصطلح غامض عجزت كل المذاهب الفلسفية على شرحه بطريقة واضحة, وبالتالي فمن المنطقي أن لا يكون المصدر الأول للفكر الليبرالي مصدرا فلسفيا بحتا, بل إقتصاديا أي أن الحرية الإقتصادية كانت هي الاساس في قيام هذا الفكر, وتلخصها مقولة (دعه يعمل دعه يمر) التي أعلنها أدم سميث الذي ناصر عدم تدخل الدولة في الأوضاع الاقتصادية, ورفض وضع القيود على المانيفاكتورات, أو الحواجز وفرض الضرائب على التجارة من قبلها، و بالعموم في الليبرالية يتم الإعتقاد بأن تقدم الإنسانية سيكون بتقدم العلم والاقتصاد، مما سيجبر السياسة على التطور، و هذا لا يأتي الا بحماية حرية الفرد قبل كل شيء. 

لكن ما يعاب على هذا الموقف هو ربط تحقيق المصلحة بإبعاد الدولة من التدخل في نشاط المجتمع, لأنه شهدنا تجارب العديد من البلدان التي ركبت قطار التنمية الاقتصادية ولحقت بالدول المتقدمة (كاليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين..) أن تدخل الدولة في تأطير عملية التنمية والاستثمار العمومي في المشاريع الصناعية الكبرى والمهيكلة، وتمويل البحث العلمي وضمان تطبيق مخرجاته في مجالات الاقتصاد المختلفة كان عاملا حاسما في تحفيز النمو والتقدم الاقتصادي.
ولم يكن تدخل الدولة إذن بذلك السوء الذي تصفه الليبرالية ويعتقده الليبراليون. لأنه يكفي أن تتوفر عناصر الإدارة الرشيدة والرؤية السياسية السليمة، والإرادة الحقيقية حتى تتمكن الدولة من الاضطلاع بدور إيجابي ومكمل بجانب القطاع الخاص في الدفع بعجلة الاقتصاد إلى الأمام.

ومن هنا تم إبتكار نموذج أخر من نماذج الليبرالية وهو ما يطلق عليه, " الليبرالية الإجتماعية " التي هي في الحقيقة قريبة مما يسمى بـ " الإشتراكية الديموقراطية " فكلاهما يحتل موقعًا وسطًا بين الرأسمالية والاشتراكية كأتجاه ثالث ، لكن الفرق الرئيسي في القيم هو أن الليبرالية الأجتماعية تؤكد أكثر على حرية الفرد كقيمة عليا وبذلك ترفض تقييد الحريات الفردية رفضًا شديدًا، بينما تركز الاشتراكية التقدمية على حكم الأغلبية و تهمل بعض الحريات الفردية, وهذا النموذج نراه في الدول الإسكندنافية كفنلندا و السويد و النرويج.. 

وما سبب مطالبة الليبرالية بالإبعاد التام لتدخل الدولة, الا الإيمان بتلك الفكرة الطوباوية القائلة بأن المجتمع المثالي هو المجتمع الذي تتضاءل فيه سلطة الحكومة بأكبر قدر ممكن ،وعن طريق الانضباط الاجتماعي ، تتشكل الحياة المدنية بطريقة تجعل من وجود أي سلطة غير ضروري، حيث المواطن لن يعاني أي عائق لحريته ، باستثناء ما هو ضروري لضمان الآخرين المساواة في الحرية.
لكن هذا لا يعني أن موقف الليبراليين من الحرية غامض أيضا, بل يجب أن لا يضر سلوك الفرد حريات الأخر.. فأن تكون مؤمنا أو ملحدا, خلوقا أو منحل أخلاقيا فذاك شأنك و ذلك لا يعكس إلا صورتك, لكن أن تؤذي بتفسخك الأخلاقي الآخرين، بأن تثمل وتقود السيارة، أو تتحرش بفتاة في الشارع مثلاً، فذاك لا يعود شأنك, وبالمختصر المفيد, أنت حرّ مالم تضر.

وليس هناك دلالة على الجهل بتاريخ الفكر الإنساني, إلا عندما يدّعي أحد أن الليبرالية تعني " الحرية المطلقة", فالإنسان البدائي كان مطلق الحرية في "حالة الطبيعة", و كانت هذه المطلقية تعني القتل و الدمار من دون ضابط, لكن عندما أدرك حاجته الى الإتحاد مع أقرانه إختار أن يتنازل عن بعض من حريته لصالح ذلك المجتمع التي تحكمه سلطة عليا, وهذا ما يسمى بـ"العقد الإجتماعي" .. إن ما يخسره الفرد بموجب العقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقه غير المحدود في كل شيء؛ لكن ما يكسبه هو الحرية المدنية و حق إمتلاك ما يريد بطريقة قانونية لا تضر مجتمعه, فما معنى أن تزايد على الليبراليين و أن تتهمم في أخلاقهم بمجرد خلطك بين الحرية الطبيعية التي تنازل عنها البشر منذ عشرات القرون و بين الحرية المدنية التي تعبّر عن إرادة المجتمع و التي هي أساس الليبرالية؟. 

أحد الأخطاء الشائعة هو دمج الليبرالية مع الديمقراطية. المفهومين ليسا مترادفين في الحقيقة وبل لم يكونا متوافقين في البداية. فمنذ عهد الإغريق القدماء ، كانت “الديمقراطية” تعني “حكم الشعب”. فسر البعض ذلك ليعني المشاركة السياسية المباشرة من قبل جميع المواطنين الذكور. وقد اعتبرها الآخرون بمثابة نظام تمثيلي قائم على حق التصويت لجميع المواطنين الذكور. في كلتا الحالتين، في القرن التاسع عشر ، كانت غالبية الليبراليين معادية لفكرة الديمقراطية نفسها ، التي ارتبطت بها الفوضى وحكم الغوغاء و الدهماء. فمن الصعب العثور على ليبرالي متحمس للديمقراطية خلال ذروة ما يسمى في كثير من الأحيان (الليبرالية الكلاسيكية).

الكثير ممن يستشهد بمؤسسي الليبرالية كـ توماس هوبز أو بنثام, نسوا أن هؤلاء لم يكونوا ديمقراطيين, لكن ذلك لم يمنعهم من الوصول الى نفس النتيجة على إختلاف المنطلقات وهي أن أساس الليبرالية تعني الإختيار و الحرية, هوبز على سبيل المثال كان سلطوي النزعة سياسياً، ولكن فلسفته الاجتماعية بنيت على الإختيار الحر، كانت منطلقة من حق الحرية والاختيار الأولي. وبنثام كان نفعي النزعة، ولكن ذلك كان نابعاً أيضاً من قراءته لدوافع السلوك الإنساني (الفردي) الأولى، وكانت الحرية والاختيار هي النتيجة التي وصل إليها في النهاية.


السبب الرئيسي الذي جعل فلاسفة للفكر الليبرالي يرفضون حكم الشعب في البداية, هي الثورة الفرنسية التي أظهرت لهم أن الجمهور غير مستعد تمامًا للحقوق السياسية. كان الناس جاهلين وغير عقلانيين وعرضة للعنف و مستعدين للممارسة الإرهاب, لقد أثبتت شعبية الإمبراطور نابليون بونابرت لهم بشكل لا لبس فيه ، أن المواطنين الفرنسيين كانوا يميلون بشكل غير صحي إلى الحكام الاستبداديين وكانوا عرضة للدعاية وفريسة للدكتاتوريين و خطابات الديماغوجيين. و لهذا تم اختراع كلمات جديدة لتبرأة نظامه الديموقراطي الزائف, بوصفه بأنه “استبداد ديمقراطي” لأنه تم إضفاء الشرعية عليه مراراً من قبل الاستفتاء على أساس حق الاقتراع العام للذكور.

ليس هناك ليبرالية نسخة بالكربون في كل مجتمع, لأنها تتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع الذي يتبناها ، تتكيف الليبرالية حسب ظروف كل مجتمع، وتختلف من مجتمع غربي متحرر إلى مجتمع شرقي محافظ, فإن الأنظمة الليبرالية في كل أصقاع المعمورة تختلف وتتفق هنا عن هناك بقدر اتفاق واختلاف القوانين؛ فالليبرالية في أمريكا – مثلا – تختلف عنها في فرنسا أو بريطانيا، وهذه الاختلافات تكون تبعا لاختلاف القوانين وطبيعة كل مجتمع و بيئته المعينة.


لكن ما يهمنا في عرضنا المختصر هو أن الليبرالية, موضوعها و إهتمامها الأول هو الإنسان وواقعه, ومن هذا الإنسان وحوله تدور فلسفة الحياة برمتها، وتنبثق القيم التي تحدد الفكر والسلوك معاً و بالتالي هي من احد فروع العلمانية, و هذا لايعني أنها تهمل الدين أو تحاول إقصائه, كما يزعم التيّار الديني, لأنه هناك فرق بين فكر يدعوا إقصاء الدين من حياة الإنسان و ليبرالية أسّسها أصلا متديّنون كجون لوك و التي هدفها تحرير الإنسان من أي سلطة خارجية و أهمها سلطة رجال الدين... 

يزايد الفكر التيّار الديني على الفكر الليبرالي بحجة أنه نشأ خارج فضاء الدين, وهذا القول لا معنى له أصلا, وهو لا يصلح الا للقطيع ممن لا يعرف طبيعة الفكر الديني الذي يتّبعه قبل الفكر الإنساني الذي يدخل في حيزه الفكر الليبرالي, فحتى الفكر الديني الإسلامي يحمل أفكارا إجتهادية و أحكام شرعية لم يأتي بها الإسلام, تبعا لمصالح الناس ومنافعهم, فالصحيح هو أن نقول أن الليبرالية تهتم بالمجال الدنيوي أما المجال الروحاني فقد تركته للدين.. و هذا أمر طبيعي فالأفكار لا تتكون تلقائيا دون التأثر بالواقع, فليس هناك تصوّر طاهر عف نقي للأفكار و للمعاني و الأهداف, فالإدراك الخالص من كل تأثير واقعي لشيء محدد هو خرافة.

يعني أن حيلة المتأسلمين المعروفة برمي كل فكر يخالفهم بتهمة معاداته للدين لمجرد نشأته خارج الدين لا تنطلي إلا على السذج الذين لا يعرفون أن الدين ينقسم إلى ثوابت و متغيرات, و المتغيرات هي محور الفكر الإنساني, و هكذا لا معنى أن تخرج علينا لتقول بان العلمانية باطلة و هي رجس من عمل الشيطان لمجرد أنها تهتم بالشأن الدنيوي و أصلا دينك مبني على ثوابت لا تمسها العلمانية بل تحميها و متغيرات تجعلها فوق طاولة البحث و المناقشةّ!. 

كما أن هناك سؤال كثيرا ما يكرره من يبحث في الليبرالية وهو “هل الإسلام يتصادم مع الليبرالية؟”, الإجابة هي منذ متى كانت الليبرالية دينا حتى نقارنها بالإسلام؟, هل يصح أن تقارن بين عقيدة وفكر إنساني؟, و حتى لو كانت المقارنة صحيحة, فهذا لايعني إلا أن المجتمعات التي عرفت الليبرالية إستطاعت الوصول الى غاية الإسلام الأولى وهي تحرير الإنسان و تحقيق اقصى درجات العدالة الإجتماعية دون أن تعرف الإسلام, إذن أليست هذه المقارنة هي ظلم للإسلام نفسه؟!.

إن صدام الليبرالية هو مع الكهنوت الذي يريد تحويل العقد الإجتماعي بين الحاكم والمحكوم إلى عقد يكون فيه رجل الدين، أو الكاهن، بمثابة وسيط بين الله والإنسان, و هذا يخالف المبدأ الليبرالي الذي يعلن بكل وضوح أن لا وصاية لإنسان على إنسان, إن هذا الإعلان الصارم هو الذي يجعل المتأسلمين عموما يقفون بشراسة ضد الليبرالية، لأنها ترفض تسلطهم و وصايتهم على عقل الأخر ومقدراته رغم تبجّحهم بأن الإسلام يرفض الكهنوت, لكنهم على مايبدو إما أنهم لا يفهمون معنى الكهنوت أم يمارسون التقية أسوة بأعدائهم أو منافسيهم في السيطرة على رقاب الناس "الرافضة"!..

اجمالي القراءات 4067