أصول نظرية التطور

مولود مدي في الأربعاء ٢٣ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

في غضون فترة تقل عن 500 عام، استطاع التطبيق الحثيث للمنهج العلمي القائم على الاستدلال من التجربة والملاحظة، دون المرور على سلطة دينية أو حكومية، أن يغيّر بالكامل من نظرتنا لأصولنا وعلاقتنا بالكون، وبالإضافة إلى ما اتسمت به النظرة الجديدة التي أتاحها العلم من إبهار حقيقي، فقد كان لهذه النظرة أثر ضخم على الفلسفة والدين، فالنتائج التي توصّل إليها العلم قضت بأن البشر نتاج لقوى موضوعية، كما تقدّم الأفكار التطوّرية مجموعة من العمليات الطبيعية التي يمكنها تفسير التنوّع الشاسع للأنواع الحيّة، والخصائص التي تجعلها متكيّفة بهذه الدرجة الطيّبة مع بيئتها دون اللجوء لحجج التدخل الغيبي، وهذا ما جعل نظرية التطوّر من أكثر المواضيع العلمية إثارة للجدل.

 

التفكير في أصل الأنواع لم يظهر عندما نشر داروين أشهر نظرية في العصر الحديث والمسمّاة بنظرية التطور، بل حاول علماء البيولوجيا البحث في أصل الأنواع قبل داروين الذي استعان بأعمال العلماء السابقين حول هذا الموضوع لكي يقوم بإكمال بحثه ويضع بصمته الخاصة عليه، وقبل نشر داروين لنظريته ونتائجه كان العلماء على انقسام بشأن هذا الموضوع إلى قسمين؛ قسم يفترض أن كل الكائنات الحيّة قد نشأت وتطوّرت بمعزل عن الكائنات الأخرى، والقسم الأخر يؤيّد الطرح الذي يقول إن الكائنات الحيّة الحالية قد مرّت بطفرات وتغييرات جينية أدّت إلى تطوّرها إلى ما هي عليه اليوم، وأول دراسة حقيقية علمية أيّدت هذا الاتّجاه هي نشر العالم «لامارك» لكتابيه، الأول في عام 1809 «الفلسفة الحيوانية» والثاني في عام 1815 «التاريخ الطبيعي للحيوانات اللافقارية»، وبيّن في هذه الكتب أن جميع الكائنات الحيّة هي منحدرة من كائنات أخرى، كما بيّن أن هذه التغييرات هي نتاج قوانين صارمة تحكمها وليست نتاج معجزة أو صدفة، وهذه التغييرات الجينية لا تأتي من فراغ أيضًا، بل تلعب الظروف الطبيعية دورًا في هذه التغييرات لتجعل الكائن الحيّ يتكيّف مع الطبيعة التي يعيش فيها، وقبل أن ينشر «لامارك» نتائج بحثه، كان العالم «غوفروي سانت هيلير» في عام 1795 قد شكّ أن ما نسمّيه «الأنواع» أو الكائنات مختلفة التركيب الجيني قد انحدرت من أصل واحد ثمّ انقسمت إلى عدة كائنات ثم إلى عدّة سلالات.

 

الدكتور ويلز في عام 1813 يقترح مذكّرة تحمل عنوان «امرأة ذات بشرة بيضاء وبعض أجزاء تلك البشرة تشبه بشرة رجل أسود» ثم نشره في كتاب بعد ذلك في عام 1818، ويقرّ في هذين المؤلفين مبدأ «الانتقاء الطبيعي» ولأول مرة يتم تأييد هذا الطرح من طرف العلماء، لكنه لم يطبّق هذا المبدأ إلا على الإنسان فقط ولم يعممه على الكائنات الأخرى، لكنّه لاحظ ملاحظة مهمة وهي أن السود وبعض الكائنات يستطيعون تجنّب بعض الأمراض المنتشرة في المناطق الاستوائية، كما لاحظ أن حتى المزارعين في هذه المناطق يتّبعون طريقة لتحسين أنواع الحيوانات التي يربّونها وهي الانتقاء، ثم استنتج من أبحاثه نتيجة مهمّة وهي أن الطبيعة تساهم في إنتاج تنوّعات بشرية تتأقلم مع المحيط الذي تعيش فيه، ومن هذه التنوعات الحاصلة عن طريق طفرات جينية من استطاع مقاومة الأمراض المنتشرة في مناطق أفريقيا الوسطى، ثم بدأ بالتكاثر في الوقت الذي كانت الأنواع الأخرى في طريقها إلى النهاية ليس فقط لأنها لم تستطع مواجهة الطبيعة، بل وفشلت أيضًا في مواجهة جيرانها الذين يتكاثرون بسرعة وبتعبير آخر كان البقاء للأقوى.

 

إن من يبحث عن تاريخ الأرض يجد أن الحياة كانت بحرية في أوّل المطاف ولفترة طويلة جدًّا، وتمّ تفسير السبب من منظور تطوّري، ففي أول تاريخ الأرض، تظهر الأدلة الجيولوجية أنه كان هناك القليل من الأكسجين في الغلاف الجوّي، ومن ثمّ أدّى غياب الحماية من الإشعاع فوق البنفسجي بواسطة طبقة الأوزون التي هي تتكون أصلًا من الأكسجين إلى منع ظهور الحياة على البرّ أو حتى في المياه العذبة، وما أن تراكم مقدار كاف من الأكسجين نتيجة لنشاط التركيب الضوئي الذي قامت به أشكال البكتيريا والطحالب الخضراء المبكّرة حتى أزيل هذا العائق، وانفتح الباب أمام غزو البر، وهناك أدلة على وجود زيادة في الأكسجين في الحقبة الكمبرية للأرض، وهو الأمر الذي سمح بتطوّر حيوانات أكبر وأكثر تعقيدًا، إن الظاهرة المتكررة المتمثّلة في ظهور أشكال حياة متنوّعة ووفيرة متبوعة بانقراضها كما هو الحال عند الديناصورات مثلًا أو اختزال الكثير من الأنواع إلى أشكال قليلة العدد تصير منطقية أيضًا في ظل نظرية التطوّر، لذلك التنوّع السريع للمجموعات بعد استعمار نوع جديد، أو بعد انقراض مجموعة منافسة مهيمنة هو أمر متوقّع وفق مبادئ التطوّر.

 

القول إن الأنواع الحالية قد انحدرت من أنواع سابقة، لا يعني أن كل الكائنات قد حدث عليها تغيير، فقد نشر الدكتور شافهاوزن في عام 1853 وفيه يشرح التطور العضوي على الأرض، ويعتقد أن هناك كائنات صمدت وقتًا طويلًا وحافظت على خصائصها وشكلها، والبعض الآخر قد تعرّض لتغيير جيني مستمر إلى أن وصلت إلى الشكل الذي هو عليه الآن، إن فرضية حدوث طفرات جينية ساهمت في ظهور أنواع جديدة من الكائنات الحيّة، حملت معها أطروحة جديدة وهي وجود أوجه الشبه حتى بين أنواع الكائنات الحيّة الأكثر اختلافًا فيما بينها، بداية من التشابهات المرئية التي يمكن ملاحظتها إلى التشابهات التي لا يمكن رصدها مثل التركيب الوراثي للكائن الحيّ، وهذه التشابهات لها تفسير طبيعي مباشر يتمثّل في فكرة أن الكائنات الحيّة مرتبطة ببعضها البعض عن طريق عمليّة انحدار تطوّرية من أسلاف مشتركين.

 

إن من الدلائل القوّية التي تدافع عن نظرية التطوّر هي حقيقة أن جميع أنسجة الكائنات الحيّة تتألف من الوحدة نفسها وهي «الخليّة» ما عدا الفيروسات، إن الخليّة هي العنصر الأساسي في كل أجسام الكائنات الحيّة بداية من الخميرة والبكتيريا انتهاءً بالثدييات، والخلايا هي كالمصانع البالغة التعقيد، لكنّها فائقة الصغر تصنّع المواد الكيميائية والطاقة التي يحتاج إليها الجسم، وتنتج البنى الجسمانية مثل العظام.

 

تكشف دراسة التطوّر عن علاقتنا الوثيقة بالأنواع الأخرى التي تقطن كوكب الأرض، وإذا أردنا تجنّب كارثة عالمية، فمن الضروري أن تحترم هذه العلاقات، لقد كان بالإمكان تجنّب قدر كبير من المعاناة على مدار التاريخ البشري عن طريق الاحتكام إلى العقل، وإن كوارث القرن الحادي والعشرين إنما نتجت عن الفشل في التصرّف بعقلانية لا عن فشل العقلانية نفسها، ويظلّ الأمل الوحيد لمستقبل البشرية هو التطبيق الحكيم للفهم العلمي على العالم الذي نعيش فيه.

اجمالي القراءات 4431