عن الغياب

نهاد حداد في الخميس ١٠ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

عن غيابي سألني احد الإخوة الفلسطينيين ، وأجبت ولا أذكر حتى أنني أجبت، وغالبا ان إجابتي كانت ان مشاغل الحياة كثيرة، وفي هذا الكثير من الصحة، لكن الحقيقة انني مسافرة . مسافرة في اعماق ذاتي ، في دواخلي . في محبسي. في سجني الأبدي ! 
يذكر أن أبا العلاء المعري كان يسمى رهين المحبسين. فحبسه الأول هو عاهة البصر وقد كان ضريرا! والمحبس الثاني كان حبسا إراديا وقد اختار عدم الخروج من بيته لمدة اربعين عاما حتى مات ! لكنه عن نفسه قال، بأنه رهين الثلاثة محابس ، والأخير هو جسمه الذي لم يختره ، وسيظل حبيسا فيه حتى النهاية ! 
نسبية هي اختياراتنا حسب جنسنا وعرقنا وديننا واجسادنا ! 
بمجرد ان نفتح اعيننا على هذه الحياة، تقل نسبة اختياراتنا بشكل مذهل ! ولا يمكننا آن نختار من الآشياء إلا ماهو متاح حولنا ، نلبس ثيابا حسب مقاييس اجسادنا ، تتحرك خطواتنا حسب طول او قصر قاماتنا، نتحرك ضمن خارطة حُددت من قبل لنا ، نعبد الاله الذي وجدنا عليه اباءنا! ولا نختار إلا ضمن ماهو متاح أصلا ويوما ما، سنُعاقب على اختياراتنا التي تناسبت طرديا مع امكانيانتا المتاحة المحدودة تلك . 
ماذا لو اننا خرجنا من أجسادنا تلك وراقبناها من بعيد، تماما كما تصور بعض الافلام الامريكية خروج الروح من الجسد في غرفة العمليات في انتظار العودة الى الجسد في حال نجاح الجراحة او مغادرتها بلا رجعة في حالة الفشل ! 
وهذا ما اخترت فعله ! 
اخترت ان ابدأ من جديد! ان انسلخ عن جسدي وان اضعه امامي لأعري عوراته ، لأرى نفسي كما قد أراها يوم القيامة عارية الا من اعمالها ! 
رحلتي هاته ، لا أعرف إلى أين ستنقلني، ولكنني سأنزل في أعماقي لاجتثاث ما يمكن اجتثاثه ، والحفاظ على ما يستحق الحفاظ عليه ، أو على ما أظن أنه يستحق ! 
علمتني الحياة أن الناس لا يتغيرون بمجرد رغبتهم في التغيير، وأنك لا يمكن أن تغير أحدا بمجرد اقناعه انه قد زل او أخطأ، تماما كالمقامر ! هو يعرف أنه مخطئ، وأنه يهدر آمواله وأموال أهله ، ويستيقظ كل صباح وهو يحلف بأغلظ  أيمانه أنه سيتخلى عن تلك المخاطرات، لكنه سرعان مايجد رجليه تجرانه إلى نفس المكان الذي أقسم أنه لن يعود إليه ! 
يقضي الإنسان حياته في الموعظة ، وأظن أن ملايين الكتب التي كُتبت عبر التاريخ قد حملت من الحكمة والذكاء احيانا ما قد يغنينا اليوم عن الكتابة، ومع ذلك، مازال الإنسان يرتكب نفس الحماقات، ويخضع لنفس الأهواء. 
تعبت وتعب الصوت مني والكلمات، وما زلنا كما نحن تحت رحمة من لا رحمة له، وفي قبضة من لا عقل له ، وفي رفقة من لا عهد له ! 
كلما حاولت اجتثاث هذا التخلف وجدت جذوره ضاربة في الاعماق ، وكلما كونت رأيا وجدت له ألف عمامة ولحية مخالفة ! 
احيانا أطل على موقع أهل القرآن فأقرأ مقالات الدكتور احمد منصور فأتعجب من صبره ! أتعجب من رباطة جأشه وعزيمته التي لاتثبط! وأنا من تحس بالتعب واليأس ! 
أحيانا ، يجب ان نخجل من تعبنا مع اننا لم نحقق شيئا ! 
ما أصعب المثابرة وأهون التخلي عن الاشياء ! فالتاريخ فعلا لا يصنعه إلا العظماء ! فلا عجب إن لم يحتفظ التاريخ إلا ببعض الأسماء ! 
اجمالي القراءات 5282