مقدمة لسورة التوبة
مقدمة لسورة التوبة

أسامة قفيشة في الخميس ١٠ - مايو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة لسورة التوبة

هي سورةٌ لطالما أثارت الجدل الكبير بين الناس , و لطالما اعتبرها الجميع بأنها قد نزلت لتفتح الباب على مصراعيه في تشريع القتال , و اعتبروها بأنها قد نزلت بالسيف و القتل تمهيداً و تشريعاً للغزو الخارجي و الانطلاق في سبيل قطع رقاب العباد و إجبارهم في اعتناق الدين أو الجزية , ملقين خلف ظهورهم بأنه لا إكراه في الدين و لا إجبار فيه و يتناسون متجاهلين منكرين سبب السماح لهم بالقتال و هو الدفاع و من حرمته إن كان هدفه العلو في الأرض أو الفساد أو غير ذلك , و يتمسكون بالقتال حتى أصبح هدفهم الرئيس و الأول , فتراهم يعتدون و يظلمون و يقتلون باسم الدين و تحت راية الإسلام الذي هو دين السلم و السلام بين البشر جميعاً , و هذا هو أعلى و أعظم أنواع الشرك و أنجس أصناف البشر على الإطلاق و هم المشركون المعتدون .

بدايةً و قبل كل شيء أقول لكل من يدعي ذلك بأن يتق الله جل وعلا , و أدعوه من تفعيل عقله و لو بالأمر اليسير و ليتفكر ملياً في تلك السورة الكريمة , ليكتشف أنها سمّيت سورة ( التوبة ) , و لينظر ملياً ليرى أن السورة تعج بتلك الكلمة التي لولاها لكان القتل و سفك الدم حاضراً في كل يوم و في كل الساحات و الميادين ! و لولاها لما دخل أحدٌ منا الجنة !

فكيف و بكل وقاحة تغلقون هذا الباب بأيديكم و قد فتحه الله جل وعلا للبشر جميعاً و حثهم على دخوله !

و هل تستلزم التوبة أمراً غير العفو ! فما لكم كيف تحكمون ! و أين هي عقولكم !

فإن كانت سورة التوبة هي بمثابة النداء الأخير للبشرية فهي تدعوهم و بكل وضوح للتوبة عن الظلم و القتال كي يحفظوا حقهم في الحياة , و لاكتشفنا بكل سهولة و يسر بأن التوبة المذكورة هي توبة الظالم الذي يعتدي و يقتل لكي يتوب عن فعله و يتوقف عن ظلمه و اعتداءه و لا يعود لممارسته مجدداً , أي هي توبةٌ تتعلق بتوبة البشر بين بعضهم البعض كي يستقيم سلوكهم و يتوقفوا عن سفك الدماء , و لا يقصد بها الجانب الديني الروحاني بأن يتوب الناس لربهم لأن توبتهم تلك متروكةٌ لخيارهم و حريتهم في الإيمان الديني , و هو وحده جل وعلا يتوب على من تاب من ذنوبه و استغفر ربه و أصلح , و كلتا التوبتان تستلزمان الإقلاع و عدم التكرار حتى تعتبر توبة تستحق العفو , أمّا و إن تكرر الفعل مراتٍ و مرات و لم يتوقف فيسقط به مفهوم التوبة و يسقط معه مفهوم العفو .

حتى نفهم ما وردنا في سورة التوبة , علينا التخلص أولاً مما علق في أذهاننا من تراثنا القبيح , و لقد مهدت لهذا في سلسلة مقالاتي الأخيرة , فإن تعذر على أحدٍ أي أمر فعليه بالرجوع لما كتبته سابقاً في مقالات ( الخليفة – العلاقة بين أصناف البشر – ملامح القتال و تشريعاته 1 – ملامح القتال و تشريعاته 2 – الإسلام يعلن الحرب في وجه الكفرة – جيش الدولة الإسلامي – فتح مكة – المشركون – الوحي الموازي – قريش و المشركون و النّبي ) حتى لا نقع فيما وقع فيه الكثير .

و سأتوقف عند أبرز النقاط و أكثرها التباساً عند الناس و الواردة في سورة التوبة , و سأحاول جاهداً و إن طال المقال لعدة أجزاء من تناول كل آياتها راجياً من الله جل وعلا الهدايه و السداد و الأجر يوم الحساب و عليه الاتكال ,

و قبل البدء في تناول آيات سورة التوبة أكتب هذه المقدمة فلا بد لنا من استيعاب عدة أمور لتكن حاضرة في أذهاننا :

سورة التوبة تتحدث في المقام الأول عن وقائع و أحداث أمنية و سياسية خطيرة قد حصلت في ذاك الزمن , فجاءت لتضع الموازين بالحق و تعالج ما تم اختراقه و تضع حداً لكل من تجاوز الحد أو ينوي من تجاوزه و تحذره من هذا الفعل ,

سورة التوبة تتحدث عن مواثيق و معاهدات كانت قد اتفق عليها و لكن تم نقضها و الإخلال بها من خلال مؤامراتٍ سريه و مخططاتٍ خطيرة ,

سورة التوبة من أواخر ما تلاه الرسول عليه السلام من القرآن على مسامع من حوله ,

سورة التوبة جاءت بعد معاهدات و مواثيق دخول مكة ( فتح مكة ) المبرمة بين قريش و الدولة الإسلامية و التي سميت بمواثيق و معاهدات البيت الحرام , و التي كما علمنا أفضت بعدم السماح للنبي بإدارة مكة أو من بسط سيادة الدولة الإسلامية عليها و بقيت قريش على شركها شرط التزامها بحالة السلم و الأمن و التوقف عن اعتداءاتها على المسلمين و السماح لهم بحرية الدين و الدعوة و عودتهم لبيوتهم آمنين , و هذا واضحٌ شديد الوضوح كون النبي عليه السلام لم يقم فيها و قام بالعودة للمدينة , و تسمح للطرفين بحرية العبادة و الدعوة و الحركة و العمل ,

سورة التوبة تتطرق بالتذكير لما جرى في معركة العسرة و تذّكر الجميع بأن نصر الله جل وعلا لا يعتمد على العدد و تضرب لنا مثلا بما جرى في معركة حنين ,

سورة التوبة تدعو الجميع للالتفاف حول الرسول و الدفاع معه و تحذرهم من تبعات تركهم له و تخاذلهم في نصرته و تضرب لنا مثلاً يوم خروجه من مكة و كيف أن الله جل وعلا نصره و أيده في حين كان وحيداً , فتعيد لذاكرتنا تلك البداية و تعيدنا إلى المربع الأول و لهذا دلالات !

سورة التوبة تتحدث عما يجري في المدينة من مؤامرات داخلية و تبين هدفها و تكشفها أمام الجميع و تعلن بأن أصحابها هم أهل شركٍ و نفاقٍ و كفر , و هم كاذبون ظالمون ( مسجد الضرار ) .

و هنا علينا التذكير بأن دين الله جل وعلا هو سبيله و طريقه الذي أمر به , هذا الطريق سلمٌ و أمنٌ في الدنيا بين البشر و هذا ملزمٌ به جميع البشر لا مكان لحرية الاختيار فيه ( كي يفوز البشر في الدنيا ) , و إسلامٌ و إيمانٌ به رباً و ما يترتب عليه من واجبات و هذا خاضعٌ لحرية الاختيار لا إكراه و لا إجبار فيه ( كي يفوز البشر في الآخرة ) , هذا الدين بسبيله و طريقه الذي علينا عبوره يؤدي في نهاية المطاف لله جل وعلا تماما كسبيل الشيطان الموازي , حيث سيقف الجميع في نهاية هذا الدرب أمام الخالق جل وعلا ليرى الجميع نتيجة هذا الاختبار الذي تحتم عليهم اجتيازه , و وحدهم المشركون من سيخسر الدنيا بعدوانهم و تناحرهم فيها و هم أيضاً ممن سيخسر الآخرة بسبب شركهم و ظلمهم .

و في ختام هذه المقدمة لا يسعني سوى لفت الانتباه لعدم ذكر البسملة في بداية سورة التوبة كسائر السور القرآنية و ما أراه في ذلك هو :

أن القرآن الكريم هو كتاب هداية و إرشاد , و تبشير و إنذار , و هو كلامٌ يدعو الجميع للإيمان العملي و القلبي بالله جل وعلا , و يدعو جميع المشركين بالكف عن شركهم و العودة إلى سبيل الله الواحد الأحد و ترك أي سبيلٍ موازي له , لذا كانت كل سوره تبدأ بالبسملة لأنها مفتاح الدعوة لدين الله جل وعلا و مفتاح الدعوة للإسلام و هذا ما أجده حين بعث سليمان عليه السلام برسالته التي يدعو بها أهل سبأ للدخول في دين الله و يحثهم فيها على ترك شركهم و سجودهم للشمس ( إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ) فرسالة الدعوة لدخول الإسلام تبدأ بالبسملة دائماً , أما سورة التوبة فهي تدعو المشركين للكف عن سلوكهم العدائي الهدّام و التوبة منه و عدم ممارسة العدوان مجدداً و تحذر مما هم مقدمون على فعله و هدمه ,

فأنا أرى بأن سورة التوبة ما هي إلا بيانٌ و كشفٌ لمخطط الانقلاب الداخلي الذي تخطط له قريش مع حلفائها من المنافقين و المشركين و تعد له العدة منذ أن وقعت معاهدات فتح مكة , أي أنها بيانٌ لكشف هذا الانقلاب بكل ما تحمله الكلمة من معنى , و هكذا بيان لا أظن أنه من الممكن أو الطبيعي أن تبدأ تلاوته بالبسملة التي تتغمدها الرحمة و خصوصاً حين يكون هدف هذا الانقلاب هو هدم ما تم بناؤه و تأسيسه طيلة فترة حياة النبيّ عليه السلام و حرفه عن مساره .  

اجمالي القراءات 6852