حكم الجنابة

عفاف صبري في الإثنين ٢١ - مايو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

"الجنابة"

موضوع اليوم ما كنت أتخيل أن يكون موضوع مقالة لي .. كان المفهوم الذي توارثناه حول هذا الموضوع وبالخصوص حول كلمة "الجنابة" لا يترك مجالا للبحث.. إلا أني وفي إحدى صلواتي مرت عليا آيات أثارت تساؤلاتي.. وكان وقعها على قلبي كما قال الله عز وجل :
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبّ&oh;َحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ(15) السجدة
يعني أقبلت على الآية مصدقة لكلام الله خاشعة وسبحت ربي وحمدته كثيرا.. وكما قال لنبيه ولنا جميعا:
مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2) طه على بركة الله نبدأ،
يقول الله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا(43) النساء
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6) المائدة
رسخ السلف من المتخلفين في عقول الناس مفهوم "الجنابة "( وهي كلمة دخيلة على القرآن)على أنه متعلق بالجنس.. وهناك من قال أنها تتعلق بالرجل والمرأة على حد سواء.. الحيض بالنسبة للمرأة والمني بالنسبة للرجل، وفي رواية أخرى .. قالوا أنها للرجل فقط .. فهو المعني بالشهوات حتى أنه لم يكتفي بالاشتهاء المرأة .. بل يشتهي الرجل كذلك كما كان شأن قوم لوط.. فقال فيهم الله:
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(55) النمل
وبقينا سنين بل قرون ونحن نشقى من أجل هذه المفاهيم المغلوطة.. لماذا نشقى؟؟ لأنه موضوع بات يسبب الإحراج ويدخل في صميم حرية الشخص ويمس بصفة مباشرة حياءه.. في حين أننا لو تمعنا في آخر الآيتين في الأعلى لوجدنا أن العلاقة الجنسية ذكرت فيما بعد وحكمها كحكم المريض والمسافر والقادم من الغائط..وهذا الأخير عندما يذهب إلى الغائط فهو يخرج سائلا ومادة صفتهما النجاسة..كان الأجدر إذا أن يكون الاغتسال لهؤلاء..أو أن ينسب مفهوم "الجنابة" لهم..لكن حكمهم بالنص القرآني تماما كحكم الممارسة الجنسية وهو: الوضوء فقط وإذا لم يجدوا ماءا فليتيمموا.
مفهوم الممارسة الجنسية نأخذه من " أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء".. يقول الذي أنار قلبي بنوره:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا(49) الأحزاب
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا(20) مريم
أصل الفعل هو "مس"، الاسم هو "المس" ، الفعل في الماضي مثل قول سيدنا أيوب .. وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83) الأنبياء
قول مريم "َلَمْ يَمْسَسْنِي" ، هذه صيغة أخرى للفعل تدل على الجزم القاطع بعدم حدوث الفعل.
لا يوجد أصل للكلمات التالية في القرآن "الملامسة"، "اللمس"،وفعل "لمس" لا أصل له في القرآن أيضا..وبالتالي فإن" لاَمَسْتُمُ النِّسَاء" هي الصيغة التي استعملها الخالق لفعل "مس" عند الأمر..( وهو أمر موجه للرجال)..لأن"مسستم" لا تقال ولا وجود لها في لغة القرآن.
فيكون معنى " لاَمَسْتُمُ النِّساء" إذا هو المباشرة الجنسية.. لأن الآية (49) في سورة الأحزاب بينت أن العدة لا تفرض إلا في حصول ذلك.
وهكذا يرفع الخالق العادل الحرج على عباده ولا يحرجهم بأمور فرضت على طبيعتهم الجسدية منذ خلقوا.
كلمة "جنبا" إذا هي حالة يكون عليها الإنسان تستوجب اغتساله.. وهي حالة تجعله غير قادر على الاقتراب من الصلاة والحضور بين يدي الله .. بعبارة أوضح هي تمنعه من إقامة حدود الله في الصلاة.
كيف يمكن لنا أن نفهم معنى هذه الكلمة؟؟؟؟
بالبحث في كتاب الله ودراسته وجدت أن هذه الكلمة ذكرت بنفس الشكل وبنفس الصيغة في قوله تعالى:
وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا(36) النساء " الْجَارِ الْجُنُبِ"؟ فهل لو كان المعنى السابق أي العلاقة الجنسية أو الحيض والمني صحيحا فهل نستطيع أن نفهم هذه الآية؟؟؟ التي يطالب فيها الله عباده بالإحسان إلى " الْجَارِالْجُنُبِ"..؟؟؟؟؟؟
هذا الجار هو في حالة تستوجب أن نحسن إليه.. وفي الآيات السابقة هذه الحالة تستوجب الغسل
فما معنى هذه الكلمة؟؟
هذه الآيات البينات تبين لنا أن الْجُنُبِ هو الذي لا تتوفر له المرافق الصحية الطبيعية الضرورية وهي أيضا حالة يختص بها كل واحد تكون طبيعة عمله تجعله يكون غير نضيف وفي حالة تستوجب الاغتسال.. مثل الحداد و الفحام والبحار....إلخ
لإقامة الصلاة يجب أن تتوفر مسألتان هامتان.. العقل الواعي في قوله:" لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ" والجسم النظيف في قوله عز وجل:" وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ".
عندما تتوفر هذه الشروط سيكون من السهل على الإنسان التواصل مع الله وفهم تعاليمه التي في كتابه القرآن..لأنه سيكون جاهزا متأهبا فكرا وجسدا للقاء ربه فيخر على الآيات ساجدا طائعا ولايخر عليها صما وعميانا كقوله تعالى:
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73) الفرقان لأن الصلاة لا تصلى فرادى فقط، فمن الآداب أن يكون الإنسان نظيفا عندما يذهبا إلى المسجد حتى لا يؤثر على الباقين فالبحار لو لم يطهر من هندامه ويغتسل.. فسوف يكون مصدر لرائحة غير طيبة تنفر الناس وتمنعهم من التركيز في الصلاة وأدائها على الوجه الأكمل..
في الآية (63) النساء ذكر الله أيضا " وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ" وهذه عبارة لا علاقة لها بكلمة" الْجُنُبِ"
حتى نفهم هذا المعنى يجب أن نعود لقوله تعالى:
أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ(56) الزمر
كلمة " جَنبِ اللَّهِ" ليس معنى حسي وإنما هو معنى فكري فاقترابنا من الله وعدم تفريطنا في جنبه يكون بتواصلنا معه من خلال الصلاة(تدبر الكتاب وفهم معانيه وأحكامه وإتباعنا لها واتخاذنا لدينه منهجا نحيى به حياة طيبة)..وهذا الذي فصله لنا رب العباد في القرآن.
وبالتالي فإن " وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ" هو الصاحب الذي اتبع معك نفس الطريق ونفس المنهج وهو دين الله.. سيكون هو من الذين يحصلون على الأولويات في الإحسان..مع الذين ذكروا في الآية.
بقيت مسألة أخيرة قد تثير تساؤلاتنا..يقول رب العزة:
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) القصص في الآية عدد (11) ذكرت كلمة " جُنُبٍ " فهل يا ترى معناها هو نفسه ما توصلنا إليه في الآيات أعلاه؟؟؟
الملاحظ أن الكلمة لم تذكر بنفس الصيغة رغم أن التشكيل هو نفسه ف"عن" دخلت على الكلمة لتغير معناها.. "عن" دخلت على الكلمة فأصبحت تدل على مكان..كقوله تعالى:
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ(15) سبأ
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ(35) إبراهيم وهكذا فالدلالة بهذه العبارة هي على الموقع الذي اختارته أخت موسى حتى تتبع ما يحدث لأخيها وتسمع أخباره كما أمرتها أمها..(" قُصِّيهِ " بمعنى اتبعي أثره، أما " فَبَصُرَتْ بِهِ " فمعناه أن تعلم أخباره ومايجري له كي تطمئنها).. صفة هذا الموقع هو أنه جنبها لفت الأنظار إليها ولذلك قال الله " وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ".. فلما علمت من اخباره أن الله قد حرم عليه المراضع.. تدخلت واقترحت عليهم بيت أبيها فيعود الرضيع إلى صدر أمه.. يقول الحق:
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(6) الروم
                                                                              صدق الله العظيم

اجمالي القراءات 139455