لماذا يفشل العرب في ادارة الأزمات

مولود مدي في الأربعاء ٢٨ - مارس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

من دون أدنى شك، يمكننا الاستنتاج من خلال استقراء العديد من الأزمات التي مرت بها المنطقة العربية، أن ما يميز كيفية التعامل مع تلك الأزمات هو الفشل نتيجة اجتماع الحماقة مع سوء التصرّف في وقت واحد. الخطأ لا تتحمله الأنظمة العربية فحسب، بل وحتى شعوبها التي تسكت عن ممارسات أنظمتها وغياب ثقافة المحاسبة في عقلها، فعندما أصبح نقد الأنظمة والسلطات في المجتمعات الحديثة هو من أحد أبرز قيمها، أصبحت عندنا مرادفة للمؤامرة وكل شيء سيئ، فمن جانب الأنظمة نجد أن:

الأنظمة العربية عبارة عن مؤسسات تمارس حكمًا على الطريقة الفرعونية، الذي لا علاقة له بمنطق العصر والتطور والحداثة بجميع مناحيها العلمية والمعرفية والسياسية (التي آلت إليها تجارب البشر في الحكم الديمقراطي المدني الدستوري)، ولا مكان فيها (في تلك النظم) لأيّ منهجية تفكير علمية رصينة، ولا صوت فيها سوى لصوت الماضي والسلف ولغة العنف والدم. وكأن قدر العرب هو أن يكون دومًا في سدّة الحكم والقرار حثالة البشر والأغبياء الذين لا نظرة لهم ولا أي معرفة بأساليب إدارة الدولة الحديثة.

وحتى المسؤولين الذين يروجون لأنفسهم على أنهم حملة ثقافة الديمقراطية والحداثة لأنهم درسوا في الغرب واحتكوا بشعوبه وكانوا في قلب الممارسة الديمقراطية/ العلمانية، ظهروا في الأخير أنهم لم ينتفعوا حقًّا بما تعلّموه ورأوه هناك، ومن الواضح أنهم قد ظنوا بمجرد الحديث عن السياسة، والتمشدق بمصطلحات الحداثة قد أصبحوا سياسيين لا يشق لهم غبار، ولم يفهموا أن المجتمعات الغربية التي درسوا وتعلموا بينها، متّسقة مع نفسها ومع أفكارها، وإلا كيف نفسّر خروج الكثير من الوزراء العرب ومثقّفيهم ليدافعوا عن الاستبداد ويخيّرون الشعوب بينه وبين تطرف الإسلاميين، وكيف يعقل أن ترى مسؤولًا حكوميًّا «حلمي النمنم وزير الثقافة في مصر نموذجًا» يدّعي الإيمان بحقوق الإنسان والحرية، ثم يصطف مع المؤسسات الدينية العربية «الأزهر مثالًا».

حتى سياسات حكّام الدول العربية تجاه الجيران، تعتمد على ردود الفعل والانفعال وليس على المصلحة المتبادلة، وهي بعيدة كل البعد عن التفكير بعيد المدى، فالحاكم العربي تقوده عاطفته وونزعاته وأهواؤه وليست هناك أي رقابة على أفعاله وتصرّفه بسلطاته، لا توجد لديه أدنى نظرة استراتيجية، ولا يبذل أي جهد في فهم الواقع، أو محاولة وضع نظرة للمستقبل، والطامة الكبرى تهوّره في صناعة الأعداء، وكأن السياسة الحكيمة عنده في اكتساب الأعداء وليس الحلفاء. تعامل السعودية مع قطر هو أحسن مثال، فمنذ أن مسك الأمير محمد بن سلمان بزمام الأمور، وبدأ يعلن نيته في مقاومة «المد الإيراني» وتوعّده بنقل المعركة إلى شوارع طهران، تبين أنه بمجرد خلاف مع جارته قطر، صنع من ذلك أزمة دفعت بقطر مضطرة إلى حضن إيران، فهل هذه سياسة حكيمة أن تدفع بحلفائك وأقربائك إلى حضن أعدائك؟

حتى أن سوء التصرّف لم تسلم منه الشعوب العربية، انظروا فقط إلى ما سمّي بـ«الثورات العربية»، لقد نهض العرب ضد الاستبداد، ونادوا بالحرية، والعدالة الاجتماعية، والقضاء على البطالة، وجملة من المطالب التي ظهرت في بادئ الأمر على أنها مطالب غير متحزّبة، ولا تنتمي إلى أي تيّار سياسي/ ديني معيّن، وفي الأخير ظهرت المعارضة العربية في تونس ومصر وسوريا بمظهر الأنظمة الاستبدادية الإقصائي الفاشي نفسه، وقد أبدت استعدادها على تكرار ممارسات الأنظمة نفسها التي نادت بإسقاطها؛ بل وأضافت الشرعية الدينية على حكمها مثلما حدث في مصر، بحيث أعلن الإخوان نيتهم في تشكيل نظام حكم يختزل كل السلطات بيد الرئيس في إعلان سمي بـ«الإعلان الدستوري»، والعزم على تطبيق فكر الإخوان المعادي للتعددية الدينية بتكفير الأقباط والتحريض على الشيعة.

أما في سوريا فحدّث ولا حرج، فقد استعملت المعارضة هناك أسلوب نظام الأسد نفسه في المحافظة على الحكم، وهو المحاصصة الطائفية، وطيلة سبع سنوات، تحوّلت سوريا إلى معقل لتطبيق كل الأفكار المذهبية المتطرفة الحمقاء، ومرتعًا خصبًا لملايين التفاسير من أقوال الفقهاء والأئمة في حشد طاقة الشباب من مختلف الطوائف حتى تم «ملشنة» سوريا، ولأن بشار الأسد علوي المذهب نظرت المعارضة السورية والإخوان إليه بوصفه شيعيًّا يريد نشر التشيع، ونسوا أن زوجته سنّية في الأساس. وكما استعان نظام الأسد بالروس والإيرانيين لحمايته، استدعت المعارضة الأمريكان إلى سوريا وفتحوا باب التطوع في جيشها لكل أجنبي لا علاقة له بسوريا، من الخليج وشمال أفريقيا ودول آسيا الوسطى والذين شكّلوا في ما بعد جيش مقاتلي تنظيم داعش.

ثم الشعوب العربية هي من أكثر شعوب العالم انغلاقًا وعزلة، فكانت النتيجة ميلًا هذه المجتمعات نحو التشدد والجهل وطغيان نزعة الجبرية والاستسلام للأمر الواقع، ورغم هذا التقوقع نحو الداخل، فلم يمنع هذا الأمر المجتمعات العربية من العداء لنفسها ولأقرب المقرّبين إليها، ولهذا تنحصر أغلبية الأزمات بين الدول العربية نفسها التي تشترك فيما بينها في الدين واللغة وحتى الثقافة والتاريخ، حتى أنني شخصيًّا عندما أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي لم يسبق وأن مر علي يومًا من دون أن أرى وابلًا من الشتائم المتبادلة بين السنّة والشيعة، وبين السعوديين والقطريين… وهلم جرا.

وما يزيد الأمور تعقيدًا هو رفض هذه الشعوب الخروج من هذه الأوضاع، بذريعة المحافظة، وأن طاعة الحاكم المستبد هو من الشريعة، وكأن الشريعة عند العرب مرادفة للاستبداد والظلم والتخلّف. ولم تتوقّف عند تغليف هذا الموقف المتصلّب بغلاف من الدين، بل ويروّجون لما تروّجه الأنظمة الاستبدادية العربية نفسه في أن المجتمعات العربية منفصلة عن الإنسانية وعن العالم، فعندما تحدّثهم عن العلمانية أو الديمقراطية وحقوق الإنسان قالوا لك إنها قيم غربية لا تليق بمجتمعات الشرق، رغم مسارعتهم في كل مرة على إثبات إنسانية الشريعة الإسلامية وعالميتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، ومحاولة صبغ كل منجزات الحداثة بصبغة إسلامية (الديمقراطية/ الشورى، الدستور/ القرآن، القانون/ الشريعة)، وهكذا لن تستطيع أن تحل هذه المعضلة سوى بالقول إن مجتمعاتنا «سكيزوفرينية»، فهي تخضع للاستبداد والظلم باسم المحافظة والدين، وفي المقابل تسوّق للدين وتظهره بمنظر تقدّمي تنويري يحارب الاستبداد والتخلّف واللا عدل.

يعجب البعض من هذا القول، ويعترض كيف استطاعت الشعوب العربية أن تتحرر من الاستعمار الغربي بمثل هذه العقلية المحافظة المتخلّفة؟ الجواب هو المد السلفي الوهابي أيام الثمانينيات، فبعد انهيار مصر بفعل هزيمتها
أمام دويلة الصهاينة، وذهاب دورها الريادي في الدول العربية وقواها الناعمة، ليختم السقوط بانهيار اليسار العربي فذهب العملاق ليحل محلّه من هو أقل منه، وهو دول الخليج وعلى رأسها السعودية، فبدأ تأثير المال الخليجي في الدول العربية ينشط مفعوله، والذي شجّع انتشار التيارات السلفية من طرف السعودية والتيارات الإخوانية من طرف قطر التي استدعت الموروث الفقهي وكتبه الصفراء، فبدأ تعد شعوب الدول العربية اليائسة بالخلافة وأستاذية العالم وتطبيق الشريعة، وبأن عصرها هو عصر الصحوة والعودة إلى الإسلام الصحيح من جهة، والهجوم على الحضارة المعاصرة وتكفير الحداثة والليبرالية وحقوق الإنسان، وتفسيق وتبديع أي شيء يمت للعصرية بصلة من جهة أخرى.

ولا يمكن أن نتجاهل أن حتى الأنظمة العربية تورّطت في دعم هذه الاتجاهات الإسلاموية في محاربتها للمثقّفين التنويريين والحركات التقدّمية، وكل من قد يساهم في زعزعة نظم الحكم الاستبدادية، وتنوير الشعوب العربية بمطالبها، فهل ننسى كيف فتح الرئيس الجزائري «الشاذلي بن جديد» المجال للإسلاميين وحتى للعائدين من أفغانستان في الثمانينيات لكي يواجه الاشتراكيين؟ وهل ننسى دعم السادات للإخوان في مواجهة الناصريين والذين فرّخوا جماعة الهجرة والتكفير؟ وهل ننسى دعم حافظ الأسد للإخوان السوريين الذين نشروا جهلهم في الأرياف السورية؟ وهل ننسى دعم السعودية لتيارات «الصحوة» التي نشرت التخلّف والطائفية في العالم بأسره، والآن اضطرت لكي تتخلص منها وتحاربها؟

الطريف في الموضوع هو أن حتى للغرب والأمريكان بالتحديد يد في انتشار هذه التيارات الإسلاموية، فعندما أرادوا إسلامًا
متطرفًا وشعوبًا إسلامية إرهابية شجّعوا هذه التيارات التي تحارب أعداءهم بالوكالة، والتي فرخّت جماعة طالبان، والجهاديين الأفغان، وتنظيم الزرقاوي وغيرهم، واليوم نراهم يشجّعون «إصلاحات» محمد بن سلمان في السعودية لكي يحوّلوا السعوديين والمسلمين إلى راقصين وراقصات. وهكذا بعد أن تمتعت الشعوب العربية بشيء من الحرية والثقافة والتعددية أيام الستينيات والسبعينيات، عادت إلى أشد أنواع الانغلاق والتعصب والاستبداد توحشًا.

اجمالي القراءات 3628