رشا الحائرة بين الاستبداد المصري وأمريكا الجائرة
رشا الحائرة بين الاستبداد المصري وأمريكا الجائرة

سعد الدين ابراهيم في الأربعاء ١٦ - مايو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لحظة التسكع النادرة بشوارع القاهرة، في هذا الطور من كهولتي، تقدمت نحوي أنثى ممشوقة القوام، ووجه صارم الملامح، وبدون سابق إنذار، سألتني ما إذا كنت المدعو سعد الدين إبراهيم. فلما أشرت بالإيجاب أخبرتني أن حكومتنا اللعينة، أصدرت حكماً بالسجن أربع سنوات على أحد "المدونين" المصريين، وهو كريم ، ولما لم أكن أعرفها أو أعرف كريم، أو ملابسات القصة، فقد ترددت في إصدار رأي في الموضوع. سألتها هل تقصد بالحكومة اللعينة نظام الرئيس مبارك، أي السلطة التنفيذية، أم تقصد "القضاة"؟ اضطربت قليلاً، ثم قالت كلهم نفس الشيء، ومعهم أمريكا. سألتها وما دخل أمريكا في قرار حبس أحد المدونين المصريين، خاصة أن هناك آلاف المدونيين الأمريكيين الذين ينقدون جورج بوش وكل وزرائه وكل سياساتهم ليل نهار؟ قالت أليسوا هم الذين يدعمونه بملياري دولار سنوياً؟

عند هذه النقطة تجمع حولنا آخرون، أتضح أن بعضهم يعرفها، حيث أنها محررة في صحيفة الفجر، ومن معتادي التظاهر ودخول السجون. وشارك الجميع في النقاش الدائر، على ناصية مليئة بالمطاعم والمقاهي. واقترح بعضهم أن نجلس في "مقهى" لنستكمل النقاش. ولكن اثنان من النساء كنا يصحبنا أطفالهن، حيث كنا مساء الخميس، بداية عطلة نهاية الأسبوع، الذين أصروا على أن نجلس في احد مطاعم الوجبات السريعة "الأمريكية"، وحيث يفضلون الأيس كريم "الأمريكاني". وقد تمنعت أنا لعدة دقائق، لتسجيل موقف مبدئي ضد محلات الوجبات السريعة الأمريكية. فبدأ الأطفال يلحون "علشان خاطرنا يا عمو..." قلت للأطفال، لا مانع إذا طلبت أمهاتكم ذلك... وبالفعل تحول ضغط الأولاد من "عمو سعد" إلى أمهاتهم، بينما وقف الآباء يتفرجون في حياد مريب. وأخيراً قالت إحداهن، وهي أيضاً من معتادات التظاهر، ودخول السجون، لا فقط بسبب الاحتجاج على حكومتنا السيئة، ولكن أيضاً بسبب الاحتجاج على سياسات أمريكا "الإجرامية". وبمجرد استقرار هذا الجمع من الآباء والأمهات والأطفال والشباب في مقاعدهم بمطعم الوجبات الأمريكية السريعة، وبعد أن طلب كل منهم ما يشتهيه، سألني أحد الشباب وهو يلتهم الهامبورجر "الأمريكاني"، (طالب ثانوي في مدرسة الإبراهيمية)، "عمو يقولون أنك عميل لأمريكا، فهل هذا صحيح؟". أجبته مداعباً، نعم، ألم أستدرجكم إلى هذا المطعم "الأمريكي"، وأزين لكم فتنة الوقوع في فخ الهامبورجر والجيلاتي "الأمريكاني؟". صاحت أحد الأمهات في ابنها أن يصمت، حتى لا يغرق في التناقض أكثر وأكثر. وسألت سيدة أخرى محجبة "لماذا يريدون أن يغزونا ثقافياً؟. بادرتها بالسؤال عمن تقصده، فقالت على الفور "الأمريكان طبعاً"! قلت لماذا لا تسألينهم بنفسك، خاصة ونحن الآن في أحد المواقع الأمامية لغزوهم الثقافي، اقصد مدير مطعم الوجبات السريعة؟ ظنت السيدة أنني أسخر منها، فأكدت لها جدية الاقتراح. ولاحظت أنها ترتدي "بلوجين"، رغم حجاب الرأس.

فسألتها، لماذا ترتدي "البلوجين" وهو أمريكي الأصل؟ أجابت أنه مريح وأكثر "حشمة" من الفستان المودرن وأكثر "عملية" من الرداء الشرعي الطويل الفضفاض. سألتها إذا كانت قد اتخذت قرار اختيار هذه التشكيلة (حجاب + بلوجين) بإرادتها الحرة، فقالت بفخر "نعم، طبعاً" فسألت مداعباً "هل أنت متأكدة أنه لم يكن الوسواس الخناس الذي أغراك بذلك؟ فنهرتني بنظرة استنكار حادة، حيث لم تذهب معها المداعبة بعيداً. قلت لها إذا كنت قد اخترت بإرادتك الحرة ـ كما تقولين ـ فأين هو ذلك الغزو الثقافي. إن "الكوفية الفلسطينية" قد انتشرت بين طلبة الجامعات الأمريكية والأوروبية، وخاصة المعارضين منهم للاحتلال الأمريكي للعراق والإسرائيلي لفلسطين. وغزت الفلافل والشيش كباب والحمص بطحينة المدن الكبرى في الغرب، وكذلك"البيتزا الإيطالية"، و"الشوسي" الياباني. باختصار لقد أصبح العالم كله قرية كونية، وأصبحت ثقافات العالم، بما فيها المأكولات والملبوسات والموسيقى والترجمات الأدبية في متناول قطاعات أوسع من أبناء كل مجتمع. والمستهلكون هم الذين يختارون، كما اختار أطفالهم وجباتهم المفضلة، وكما اختار الكبار منكم ملابسهم المفضلة. ثم جاءت ثورة الاتصالات التي جعلت معظم الناس يختارون أيضاً بإرادتهم الحرة ما يشاهدونه على القنوات الفضائية، بما في ذلك أخبار بلادهم والبلدان الأخرى. أكثر من ذلك أصبح مواطنون عاديون يبثون الأخبار ويعبّرون عن الآراء التي تروق لهم، وهم ما نطلق عليهم هذه الأيام "المدونون" (Bloggers). ومنهم كريم، الذي بدأنا هذه الجلسة بمأساته، والذي اتضح أن أحد محاكم النظام المصري قد أصدرت حكمين عليه وليس حكماً واحداً ثلاث سنوات سجن لبثه أراء ناقدة "للإسلام"، اعتبرتها المحكمة جريمة "ازدراء أديان"، وحكما بالسجن لسنة رابعة لبثه أراء تعتبر "قذفاً وسباً" في حق رئيس الجمهورية، محمد حسني مبارك. وعلق أحد الصحفيين الشباب الذي شارك في المناقشة، أنه ربما كان سب الرئيس، هو ما جعل النيابة تحرك الدعوى، وتصطاد له الجريمة الأخرى (ازدراء الأديان) إمعاناً في عقاب كريم ـ مثلما يحاولون الآن في حالة الصحفي إبراهيم عيسى، رئيس تحرير صحيفة الدستور. وصاحت محامية شابة، أن هذه "جرائم رأي". وسأل طالب الثانوي (الذي كان قد سأل عما إذا كنت عميلاً أمريكياً) "هل في أمريكا جرائم رأي وازدراء أديان مثلما هو الحال عندنا؟". وتطوعت بالإجابة سيدة البلوجين المحجبة، والكارهة لأمريكا، "طبعاً لا يا عبيط، هم عندهم حرية. فأخي الطبيب في ديترويت يقول لنا أن الناس تسب جورج بوش علناً، صباح مساء، وفي كل وسائل الإعلام، ولا يذهبون إلى السجون". فسألني نفس الطالب "ما هي شروط الالتحاق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة؟" وسأل شقيقه الأصغر "هل الدراسة في الجامعة الأمريكية تساعد الخريج على الهجرة إلى أمريكا؟" وتطوعت سيدة البلوجين المحجبة "ليس شرطاً، فأخي الذي هاجر لم يدرس في الجامعة الأمريكية، ولكن في جامعة عين شمس. وسألت أنا الطالبان: لماذا تريدان الهجرة إلى أمريكا؟ قال أحدهما: من أجل "فرصة عمل مجزية". وقال الآخر: من أجل "الحرية"! فقلت للجميع، وأنا أهم بالانصراف: لعنة الله على أمريكا، التي تغزو جيوشها العراق، وأفغانستان، والتي تدعم إسرائيل بالمال والسلاح، والتي تدعم النظام المصري المستبد بملياري دولار. وعليها "ألف لعنة" لأنها تغزونا أيضاً ثقافياً، بملبوساتها وأفلامها ومطاعم وجباتها السريعة وجامعاتها. وعليها "مليون لعنة" لأنها ها هي تغري شبابنا بأحلام الهجرة إليها من أجل فرص للعمل، أو من أجل أوهام الحرية. فدعونا ـ أيها الأصدقاء والصديقات ـ نفكر جدياً في طرق ووسائل محاربة هذه "الأمريكا"، التي تسببت في كل هذه الشرور لنا، وللعالم من حولنا. فغر الجميع أفواههم، وهم يتعجبون ما إذا كنت جاداً أم ساخراً؟ وفي طريق عودتي إلى منزلي قرأت تصريحاً للكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل (المصري اليوم 27/2/2007) يبرر فيه لماذا لجأت المؤسسة الجديدة التي تحمل اسمه، إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، لتفسح أحد قاعاتها الكبرى (إيوارث) لمحاضرة الصحفي الأمريكي المعروف سيمور هيرش، الذي دعاه لإلقاء سلسلة محاضرات لأول دفعة من المستفيدين من المؤسسة الوليدة. فقد لجأ أولاً لجامعة القاهرة. ولكنها أبت أن تفتح إحدى قاعاتها لسيمور هيرش، بدعوى أنه "يهودي"!. فحتى هيكل، عملاق الصحافة المصرية، لم يجد مكاناً مناسباً لأحد ضيوفه في مؤسسة جامعية مصرية وطنية، فلجأ بدوره إلى مؤسسة جامعية أمريكية، تقدس حرية الكلمة، حتى إذا كان صاحبها يهودي ابن يهودي. أي أنه حتى لممارسة حرية التعبير في مصر، لم يجد هيكل إلا "جزيرة أمريكية" في قلب عاصمة بلاده، وهي الجامعة الأمريكية بميدان التحرير بالقاهرة. وتعجبت: ماذا نفعل مع هذا الشيطان الأمريكي الرجيم؟ إن هذه دعوة، بل واستغاثة لكل من يقرأون هذه السطور، بالمساعدة في الإجابة (عن طريق البريد الإلكتروني الذي يظهر تحت اسمي، على هذا المقال، ولهم منا الشكر مقدماً، ولهم عند الله عز وجل أجراً عظيما.

اجمالي القراءات 13319