أحاديث في الخوف
تبرئة إبليس بشهادة الجماهير!

محمد عبد المجيد في الجمعة ٢٦ - يناير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 تبرئة إبليس بشهادة الجماهير!

 

الخوف هو الأغنية الحزينة التي تسري في النفس فتُحرّك فيها المازوخية الذاتية لتمنح الشخصَ بَعْدها سلاما زائفا؛ لكنه يجعل القدرة على غضّ البصر عن جرائم الطغاة حالة جماهيرية لا يستطيع أحد أن ينظر طويلا في عيون الآخرين، فكلهم خائفون.

الخوف يملك قدرة عجيبة على استدعاء الدين والسياسة والمال والمستقبل والعائلة ليتوسع ويتعمق فيسمع من في أقصى الوطن نبضات قلب ابن بلده ولو كان في الطرف الآخر من الكرة الأرضية مهاجرا أو هاربا أو لاجئا أو متخفيا.

الخوف يُصنَع في القبح والجمال، في الزنزانة والشارع، في الكراهية والحب؛ فكانت قدرة أدولف هتلر في الترهيب تصل أقصاها وهو يستمتع بموسيقىَ فاجنر، وكان جوزيف ستالين يلجأ إلى الصمت ليستمد منه القوة على الترهيب حتى لو قيل بأنه كان يخشى أن تَظهر لهجته الجورجية في موسكو.

الصرامة والسخرية وجهان لعُملة واحدة قد تخدم العبودية الطوعية أو تُحررها، قد تُضعف الطاغية أو تزيده قوة، فشائعة أو حقيقة طهي الديكتاتور جان بيدل بوكاسا لتلاميذ مدرسة ثانوية والتهام لحومهم آتت أكُلـَها ضعفين فكان المواطن يبتلع لسانه قبل أن يبتلعه الطاغية، فصرامة المستبد الذي منحه بابا الفاتيكان بركاته فأعادها أحجارًا كريمة للرئيسس الفرنسي جيسكار ديستان كانت كافية لتستقر في قلب المواطن إثر الشائعة/الحقيقة.

أما السخرية فقادرة على تغييب الجماهير في جلسة كيف سياسية كما كان يفعل طلاب الجامعات في ألمانيا الشرقية إبان حُكم فريدريش هونيكر، فانطلقتْ في السماء الاشتراكية كل صور النُكت التي تسخر من الزعيم الألماني الشرقي، وانفتحت سجون جديدة، واختفىَ معارضون ساخرون في أقبيتها.

نفس الأمر حدث مع العقيد مُعمر القذافي فأربعة عقود كانت كافية لوضع موسوعة التهكم عليه، فالرجل كان حالة من التهريج الساذج والمُغطىَ بطبقة سميكة من القسوة بدت واضحة في سجن أبو سليم وحادث الطائرة المنكوبة فوق لوكيربي وقتل الضابطة البريطانية برصاصة خرجت من السفارة الليبية في لندن وأيضا تفجيرات الجيش الجمهوري الايرلندي و .. ومئات غيرها من البهلوانيات حتى في اجتماعات قادة العالم، فكانت السخرية متبادَلة ودفع الشعب الثمن.

والخوف قد يأتي مرتديا اليونيفورم العسكري أو الشرطي، وهذا لا يحتاج لا يحتاج لهراوة كما قال لي ضابط شرطة في قسم شرطة مصراتة بليبيا ( سبتمبر 1970 ) وهو يشير إلى الحائط: هل تعرف ماذا يمكنني أن أفعل بهذه الهراوة؟

اليونيفورم يحمل أيضا وجهين: الأول يظهر في ساحة القتال في الدفاع عن الوطن، والثاني في الانقلابات العسكرية المتناوبة بين جنرال وآخر، بين معسكر وقصر، ومجرد لمعانه ونسوره ونجومه  فوق الكتفين يكفي أن يبلل سروال فارس يزعم الشجاعة وقلبه مصنوع في جحر الفئران.

الخوف حالة قد تستدعيها حماية الأسرة والزوجة والأولاد، وهنا يصبح المشيُ بجانب الحائط صلاة يومية قـِـبـْـلتها القصر، لا السماء؛ خاصة إذا كان المواطن هو العائل الوحيد لأسرته.

الخوف الأكبر في تزوير تعاليم الدين، وتلك لعمري المنطقة التي يصول ويجول ويعيث ويرتع فيها الشيطان، منذ نزول أول رسالة سماوية وعلى مدار قرون، فيأتي من يرهب باسم السماء أو يوزع صكوك الغفران للخطــّـائين حتى لو كانوا أبرياء، فالكنيسة تقوم بتوزيعها في كرسي الاعتراف وكانت سبب الحشود الهائلة من الصليبيين التي قطعت أوروبا متوجهة إلى الأرض المقدسة لليهود والمسيحيين والمسلمين، وفي كل عصر يتم استبدال الضحية.

وكانت مفاتيح الجنة متدلية في رقاب الإيرانيين وهم يتدافعون في الحرب مع العراق، واختلطت تعاليم الخوميني مع نظيرتها في أدبيات ميشيل عفلق وقسوة المهيب صدّام حسين فاحتفل دود الأرض بوليمة من مسلمين سنة وشيعة تكفيه ليوم القيامة.

والخوف ينفجر على الوجوه الذكية والحمقاء وهي تتوجه لصناديق الاقتراع ولا تسأل نفسها إنْ كان المرشَح نبيا أو حمارًا، عالما أم جاهلا، قارئا أو أميــّــًـا، فقدرة مهرجي الإعلام تتلقى توجيهات القصر، فترسم ذيلا لمرشَحٍ وتضع تاجـًـا فوق رأس مرشح آخر، فتــُـقاد الجماهير الجاموسية بعد تعصيب عيونها لتدور الساقية في كشف حساب مزور لوطن مغيّب.

أحترم الجبان الذي يعترف بجُبنه، وأن بين أضلعه عِظامـًـا هشــّـة؛ إذا هشّ عليها خيالُ الحاكم أوقفت القلبَ وجمّدت العروق و.. شلّتْ الفكر.

في كل الكتب المقدسة إذا عجز الشيطان عن تخويف الجماهير من الحاكم؛ استخرج من أسمىَ وأعظم وأجمل آيات الخضوع لله، فحوّلها إلى عبادة سيد القصر، وتلك مهمة رجال الدين .. أقصد شياطين الاستبداد في كل عصر.

كما تنتقل النار في الهشيم بسرعة البرق، فالخوف أسرع منها، وتماسيح النيل التي أكلت جسد وزير المالية الأوغندي بأوامر من الديكتاتور المهرج الملاكم عيدي أمين دادا أعطت درســًـا لشعب بكل طوائفه أن مزاح الذئب لا يعني أنه قد أصبح حملا أو شاة تتهادىَ في شوارع كمبالا.

الخوف في الانتخابات يجعل المواطن يقرأ كل الأسماء اسمــًـا واحدًا، ويضع علامة ( لا ) فتتحول بقدرة قادر إلى ( نعم)، فقد شاهد المسكين مئات من برامج الحشّاشين على الشاشة الصغيرة، وكل تبرير الفشل والتراجع والغباء والحماقة والسفاهة والبلاهة والبلادة .. تصف اللغة السقيمة كأنها جواهر المتنبي.

أحيانا أنتظر أن يذهب إبليس إلى رب العزة ويطلب إعفاءه من التحدي، فمهمة إغواء الإنسان يمكن أن يقوم بها طفل بليد من أطفال الشيطان.

الخوف له مواسم، فيتعاظم فوق المنبر أو في القصر أو الثكنة العسكرية أو في البرلمان أو في المعتقل أو في قسم الشرطة أو في أمن الدولة، وأحيانا يُترَك الإنسان أو المواطن ليختار خوفه بنفسه تماما كما كان الإنسان البدائي في الغابات، فيخيفه حيوان و.. يستأنس بحيوان آخر.

أنا أخاف؛ إذن فأنا أعيش!

تلك هي فلسفة أبناء آدم، إلا القليل منهم، وبين ألفينة والأخرى سمع صدىَ طبل أجوف؛ فأرهف السمع فإذا هي خفقان قلوب الخائفين تتسرب من برامج التوك شو، أو على صفحات صحف جبلاية القرود.

ينجح الغضب والطُهْر والعفاف والفروسية لدى جماهير تألمت كثيرًا، ثم تضع نجاحها وعبقريتها وثوريتها فوق طبق من الفضة، وتذهب إلى القصر لتبلغ السيد أنها آسفة لأنها أسفت بغضبها عليه.

الخوف أقوىَ من الإيمان ومن تعاليم الأنبياء وفروسية بعض النبلاء، فما يزال نباحُ الكلاب أعلىَ من صهيل الخيول.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 26 يناير 2018

Taeralshmal@gmail.com

 

اجمالي القراءات 7641