الجهالة
الجهالة

أسامة قفيشة في الخميس ١٤ - ديسمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الجهالة

الجهل في معناه يرمز لغياب العلم و هذا ما اصطلح عليه أهل اللغة , أما مصطلح الجهل في كتاب الله جل وعلا فهو يشير لأي قولٍ باطل أو فعلٍ باطل أو مخالفاً للفطرة و فاعله يعلم يقيناً بطلان هذا القول أو الفعل ,

أي أن الجاهل في كلام الله جل وعلا يشار به لكل من يأتي بفعلٍ أو قولٍ على علم أو إحساسٍ بفطرته بأنه باطل أو سيء .

و الجهل في كلام الله هو لمن يعلم و ليس لمن لا يعلم , فالجاهل يعلم الحق و لكنه لا يلتزم به , فيفعل أمراً باطلاً أو يقول قولا باطلاً و تلك هي جهالته , و جاءت تسميته في كلام الله جل و علا موصوفاً بالجهل كونه تغافل و تجاهل عامداً متعمداً للحق و للفطرة ,

فالإنسان يعلم على سبيل المثال كون الكذب أو السرقة بأنها أشياءٌ سيئة , فإن قال كذباً أو مارس السرقة فهو جاهلٌ , لأنه قد تعمد تجاهل الحق و مارس الباطل ,

و المسلم المؤمن يعرف و يعلم عين اليقين على سبيل المثال بأن الزنا محرمٌ تحريماً شديداً , و لكنه قد يقع به لأنه غير معصوم عن الشر , فإن فعل هذا الفعل فهو موصوفٌ بالجهل في كلام الله جل وعلا كونه قد تجاهل هذا التحريم عامدا متعمدا مخالفا به ما يعلم من تحريم .

سأستعرض في هذا المقال بعضاً من الآيات مع بيان هذا المفهوم :

يقول جل وعلا عن قول يوسف عليه السلام (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ) 33 يوسف :

يوسف عليه السلام يدرك تماماً و يعلم يقيناً بأن الزنا هو أمرٌ محرم , لذا فهو سيكون من الجاهلين في حال ارتكابه لتلك المعصية , أي أنه سيتجاهل علمه هذا و يميل لهذا الكيد و الإغراء .

و يقول سبحانه و تعالى عن نوح عليه السلام ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) 46 هود :

فنوح عليه السلام قد طلب من ابنه الركوب مع المؤمنين , و لكنه رفض طلب أبيه و أصر أن يكون مع الكافرين ( يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) فأهل نوحٍ الحقيقيون هم المؤمنون فقط , و نوحٌ يعلم هذا يقيناً و هذا واضح في قوله لابنه و لا تكن مع الكافرين أي من أهل الكافرين , و لكن مشاعر الأبوة دفعت به كي يطلب من الله جل وعلا بأن ينجي ابنه متجاهلا بهذا الطلب ما يعلمه عن اختيار ابنه لسبيل الكافرين و مسلكه الذي سلكه معهم , فكان تحذير الله واضحاً له بأن لا يكون من الجاهلين أي لا يتجاهل ما فعله ابنه بإرادته و اختياره دون إكراه , لأن ابنه قد عمل عملاً غير صالح حين سلك مسلك الكافرين و هو مسلكٌ باطلٌ و هو يعلم بدعوة أبيه .

و عن محمد عليه السلام فقد قال جل وعلا ( وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) 35 الأنعام :

فمحمد عليه السلام يعلم يقيناً بأن الله جل وعلا لا يهدي إلا من أراد الهداية, و بأن الهداية هي أمرٌ اختياري و إرادي للإنسان لا إكراه و لا إجبار فيها , و يعلم بأن من قبله من الرسل قد أيدهم الله بمعجزات حسية و كانت النتيجة كفرهم بها و تكذيبهم بمن جاؤوا بتلك المعجزات , فإن كان طلب محمد عليه السلام بتأيده بتلك المعجزات كي يؤمن معه الكثيرون و يصبح له جمعٌ كبير فهذا أمرٌ مرفوض عند الله جل وعلا و فيه تجاهل كبير لحكمه و مشيئته ( لَّوْ يَشَاء اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ) .

و عن الكافرين بكلام الله جل وعلا المبين و المعجز في إيجازه و بيانه و طلبهم بمعجزات حسية أخرى فقال عنهم ( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) 111 الأنعام :

فجهالتهم هنا هي بعدهم و رفضهم و تجاهلهم لكلام الله جل وعلا الذي بين أيديهم و هم يعلمونه جيداً و لديهم قناعه بأنه معجزٌ في حد ذاته , فكل من يتجاهل هذا الحديث و لا ينصاع له فهو حتماً من الجاهلين و ما أكثرهم في كل زمان .

و عن بني إسرائيل ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) 138 الأعراف :

و جهالتهم هنا هي تجاهلهم لعبادة الله جل وعلا وحده دون شرك و هم على علمٍ بوحدانيته و بكيفية عبادته, و لكنهم قد طالبوا بأن يصنع لهم إلهً صنماً يسجدون له و يتقربون به و من خلاله إلى الله جل و علا .

و عن قوم لوط عليه السلام (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) 55 النمل :

و جهالتهم هنا هي فعلهم المخالف للفطرة البشرية فهم قد تجاهلوا تلك الفطرة فكانوا قوماً جاهلين بإتيانهم الرجال من دون النساء .

و عن قوم عاد ( قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ) 23 الأحقاف :

بعد أن قام هود عليه السلام بدعوتهم لله جل وعلا و عرفهم بأنه لا إله إلا الله وحده , و تجاهلهم لتلك الدعوة و تمسكهم بعبادتهم لآلهتهم الوثنية فتلك هي جهالتهم لدعوته .

و عن ردة الفعل بناءاً على معلومةٍ كاذبة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) 6 الحجرات :

هنا يجب التحري و التأكد من صدق وصحة تلك المعلومة لأنه من الممكن بأن يكون من جاء بها هو إنسانٌ فاسق أي له هدف خبيث , فإن تم تصديقه و العمل بمقتضى تلك المعلومة , فهذا العمل سيكون ظالما و باطلا و دون وجه حق , كونه تجاهلا منكم في البحث و التحري و هذا سيؤدي للندم حال ثبوت خطأ تلك المعلومة .

و عن نساء النبي عليه السلام ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) 33 الأحزاب :

هنا يأتي الوصف بالجاهلية لطبيعة المجتمع في سلوكياته , فعصر ما قبل الرسالة تم وصفه بالجاهلية الأولى في مجمل سلوكه و أفعاله و أحكامه لأن كل ذلك كان بتجاهل الحق و الفطرة و مجافاتهما و تمسكهم بالباطل و العمل به , و عن تلك الإحكام التي كان يعمل بها في ذلك العصر فقال جل وعلا عنها ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) 50 المائدة , أي أن تلك الإحكام هي أحكامٌ سيئة مبنية على الأهواء و الهوى و التي تتجاهل الحق و تستسيغ الباطل و الظلم , تلك هي الجاهلية الأولى و ها نحن الآن في عصر الجاهلية الثانية و التي يتجاهل بها كلام الله جل وعلا و يعمل بما هو من دونه من أكاذيب إتباعاً للغو و ما تهوى الأنفس , فكان ظلماً و باطلاً ما يدعون .

هؤلاء الذين يتبعون هذا اللغو الباطل و يتمسكون به و يتجاهلون حديث الحق هم الجاهلون الحقيقيون على مر التاريخ ( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ) 55 القصص .

إن كل هذا الجهل و الجاهلية هو من طبيعة الإنسان , و هو لا يعني بالمطلق مدى علمه المكتسب أو ثقافته العلمية و الحضارية بل مرتبطٌ بمدى تجاهله للحق و الفطرة ( إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا ) فهذا الجهل المستخدم في كلام الله جل و علا متأصل في طبيعة هذا الإنسان , حيث يتجاهل به الحق و الفطرة في كثيرٍ من الأوقات و الأحيان , فيرتكب به الإنسان هذا السوء أو المعصية و هو يعلم يقيناً حقيقة ما ارتكب , فكانت التوبة من الله جل و علا حاضرةً للذين يرتكبون هذه المعاصي و تلك السيئات و هذا من رحمته جل وعلا بهذا الإنسان الضعيف الجهول فقال :

(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) 54 الأنعام :

و هنا نلاحظ بأن الذي جاء تائباً و مصلحاً لما ارتكب هم الذين يؤمنون بآيات الله جل وعلا , و هذا السوء الذي ارتكبوه كان بجهالتهم , أي بتجاهلهم لما تأمر به آيات الله جل وعلا التي يعلمونها و يؤمنون بها .

و قال أيضاً (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) 17 النساء ,

و قال (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) 119 النحل , فالتوبة متاحة و مفتوحة للجميع و لكل من يرتكب السوء و هو يعلم بأنه سوء و لكنه يتجاهل هذا الأمر انصياعاً منه لوسوسة الشيطان و لنفسه الظالمة الجهولة , و لكن يجب التذكير بأن تلك السيئات تتفاوت فيما بينها ,

فمنها الكبائر و منها اللمم , و كل فعلٍ له ضوابطه و ما يترتب على مرتكبه من فعله كل يحصل على التوبة و المغفرة من الله جل وعلا , فهناك هامش لتلك السيئات له حجمٌ محدود فإن تخطاه الإنسان فلا يلومنّ إلا نفسه .

كان هذا هو مفهوم لفظ الجهل المستخدم في كلام الله جل وعلا و هو تجاهل الحق و الفطرة و الإتيان بما يخالفهما من قولٍ أو فعل على علمٍ منه ,

أما عدم العلم بحكم الله جل وعلا لا يعتبر تجاهلا له , فلا يتم وصفهم بالجاهلين بل جاء وصفهم بالذين لا يعلمون .

 

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا

سبحانك إني كنت من الظالمين 

اجمالي القراءات 10559