لحظات لمم

نهاد حداد في الخميس ٢٦ - أكتوبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

 
الحب سيبقى يا ولدي أحلى الأقدار 
بعد أيام قضيتها مع صديقة لم أرها منذ أمد، قررت الاستغناء عن سيارتي وأعود عبر القطار. المسافة بيننا بعيدة، والسفر سيأخذ مني يوما كاملا، لذلك، قررت أن أشحن بطارية الآيباد إلى أقصى حد كي أتمكن من شغل تفكيري سواء بالقراءة أو تتبع شيء ما على اليوتوب أو على أي محرك آخر. 
بعد أن أقلتني صديقتي إلى محطة القطار، ودعتها وشكرت لها حسن الضيافة، ثم وعدتها بمكالمة حال وصولي إلى البيت .
كنت قد قررت السفر قبل ذلك بيوم واحد ، كي أرتاح قبل العودة للعمل ، لكنني عندما وصلت الى المحطة وقبل أن أدخل طابور المسافرين، كلمتها على الهاتف لأودعها ، وعوض أن أفعل قلت لها بأنني سأعود لأقضي معها يوما آخر، فمن يدري متى أراها مرة أخرى ، وربما قد لا أراها أبدا، فلا أحد يدري ما تخبؤه لنا الأقدار . مهم جدا أن نودع من نحب بشكل لائق، ونحسسهم بأننا نحبهم، مهم جدا أن تكون آخر صورة لنا في الذاكرة عن الأشخاص المهمين لدينا جميلة . ثم عدت إليها. 
قضينا مابقي من اليوم نتمشى في أحد الأسواق المغطاة دون أن نشتري شيئا ، كان من المهم أن تعرف بأنني عدت ودعوتها للخروج من أجل لذة البقاء معا يوما آخر والتسكع سويا كما كنا نفعل في طفولتنا . جلسنا في أحد المقاهي كي نأخذ مثلجات ونريح أرجلنا قليلا، ثم عدنا إلى البيت. أحسست بأنه يوم جميل ، بالرغم من بساطته . وفي المساء أخذنا وجبة العشاء رفقة زوجها. كانت رفقة هادئة تفرجنا فيها على فيلم تلفزيوني بليد، لكننا ضحكنا كثيرا ! وفي الصباح ، كان لابد لي من الرحيل. 
اشتريت ماء ومشروب طاقة لأنني لم أشأ أن أنام. أردت أن أستمتع بالسفر إلى آخر لحظة . وبعد أن قرأت عناوين بعض المجلات  في أحد أكشاك المحطة، قررت أن لا أبتاع أي واحدة منها . ثم اشتريت تذكرة سفر وانتظرت بضع دقائق قبل وصول القطار. 
أخذت مكاني في إحدى العربات ووضعت امتعتيي على الرف ثم هممت بفتح الإنترنت لكنني قررت أن لا أفعل . إننا ننسى أن نعيش ونحن نتابع حياة وموت الآخرين،نمضي أوقاتنا في العمل أو على مواقع التواصل غالبا ويغيب عن أذهاننا  أن الطبيعة جميلة خلف النوافذ ! لذلك قررت الاستمتاع والتفرج على الحياة عبر النافذة . ثم جربت أن أتنفس وأحاول ألا أسمع إلا أنفاسي وأنا أتطلع للخارج. لذلك، وضعت سماعات الآيباد على أذني دون تشغيله كي لا أسمع صوت القطار! مرت ساعتان لم أفعل فيهما شيئا سوى التطلع ثم أتتني فكرة غريبة جدا  طردتها حالا، فلم يكن الوقت وقت تفلسف، بل أردت أن آجعل منه لحظات تأمل ومتعة . 
كانت الفكرة أن جل الناس إن لم يكن الجميع يقضون حياتهم في العمل وقضاء حوائجهم ، وهناك من يقول بآننا نقضي نصف حياتنا نائمين، فتبادر إلى ذهني كم يتبقى في حياتنا من لحظات نرتكب فيها ذنوبا أو أخطاء ؟ ولماذا نعاقب في النار إلى الأبد عن ذنوب لم نرتكبها في كل لحظة من حياتنا! بل إن الحياة مجموعة أشياء بليدة تتخللها ذنوب وآخطاء وربما كبائر ، فرأيت بأن هذا لايجعلنا نستحق عقابا أبديا لكنني طردت هذه الفكرة بسرعة واستمررت في الاستمتاع بسفري دون تفكير عميق إلا في مايفرضه عليك ما يتشابك من أفكار وانطباعات عند رؤية شيء ما ! استغربت للسرعة الجنونية التي ربط بها دماغي مجموعة من الأشياء المختلفة  . فأحيانا ، كان القطار يدخل في أنفاق اسمنتية مظلمة ، كانت جدرانها قريبة جدا من النوافذ ، وفي احداها، بقايا نقوش أيد وضعها أحدهم على الاسمنت قبل أن يجف، استغربت لعدم خوف هذا الانسان لأن القطار قد يفتت أشلاءه وهو يضع يده على النفق طمعا في الخلود. ضحكت من بلادتي وقلت ، لم يكن القطار ليقتله أبدا لأن هذا الإنسان وضع يده هناك عند بناء النفق ولم يكن القطار ليمر منه إلا بعد أن يجف. 
تسارعت الأفكار في ذهني وتشتتت بين باريز وهوليود ، ففي أحد مطاعم الشان زيليزي ( les Champs Elysées ) وضع حائط فيه آثار أيدي مجموعة من الفنانين المرموقين ، وانت حين تنزل الدرج، تضع يدك فوق آثار أيديهم وتحس بالفخر لأنك وضعتها حيث وضع أحد فنانيك المفضلين يده .وسرعان ما شابك الدماغ هذا بأسماء نجوم هوليود في شارع بيفيرلي هيلز والتي كانت تقف عليها بائعات الهوى في انتظار صيد الليلة. كان ذلك في فيلم pretty woman الذي تشاجرت فيه المومسات على امكنتهن المعتادة والتي ليست إلا اسماء لنجوم هووليود. ياللمفارقة! مايشعرك بالفخر في مدينة الجن والملائكة ليس إلا اسما وسط نجمة على رصيف هوليودي تقف عليه مومس ريثما يجيء من يلتقطها منه. يا لإينشتاين ! نظريته النسبية حاضرة هنا أيضارغماعن أنفي ، ذلك الأنف الذي سيذكرني بأحلام مستغانمي في كتابها " ذاكرة الجسد ". 
نعم، إن للجسد ذاكرة! 
والذاكرة بارعة في السفر عبر الأزمان دون قيود وعن غير سابق إنذار! 
كان موعدي مع الذكرى ! وأبى امرؤ القيس إلا أن يدخل بكل ثقله بين العيون الشاردة والقلب الهادئ.
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل //// بسقط اللوى بين الدخول فحومل 
يا للشعروالشعراء! 
لم يخطر ببالي أبدا أن مجرد إعلان لاسم محطة في البلدة الموالية سيسافر بي عبر الزمن ! زمن الحب ! زمن البراءة والصدق . زمن لم يكن فيه للنفاق ولا للخداع مكان. زمن لم تكن فيه العواطف محرمة أو مجـرٓمة . 
كنا قد سافرنا في القطار معا، رافقني لكي لا أتعرض للمضايقة ، فقد كنت في الخامسة عشر من العمر فقط . وربما فعل لأنه أحبني . أما أنا، فقد كنت أعشق التراب الذي يمشي عليه. 
ابتسمت ، تلك الابتسامة التي لانراها اليوم إلا فوق وجوه المراهقين وهم ينظرون إلى هواتفهم النقالة بعد تلقي كلمات أو صور جميلة على الواتساب ! يا للمفارقة ، فشتان بين ابتسامتك لإنسان والشد على يده وحرارة اللقاء وزخم العواطف ، وبين الكلمات الصاعقة البرودة التي نتلقاها على جوالاتنا الباردة. 
تذكرت عذوبة شفتيه في يوم ممطر ، كانت فيروز حاضرة دوما في الحب " حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي ..." 
كانتا بحمرة الورد الندي ، كان المطر يومها خفيفا كقطر الندى ! يا إلاهي ، لماذا تطاردني يا مارسيل بحنا وقطر الندى ؟ 
مارسيل خليفة : " يا حنا ياحنا ياحنا، ياقطر الندى ، ياشباك حبيبي يا عيني جلاب الهوى " ! 
ثم تنفست الصعداء ، وتذكرت لماذا لست تعيسة في أغلب الاحيان، وكم ان في حياتي الكثير من الفرح والبهجة! 
لطالما عدت بالزمن والذكرى إلى الوراء ، حيث أحس بالامتنان حقا للحب والأحبة. 
قد تحزن لخيبات الأمل في حياتك، قد تتلاطمك أمواج الأحزان وسيلانات هذا الزمن البذيء، لكنك لا يمكن إلا أن تمتن للحظات قليلة في حياتك جعلك فيها أحدهم تحس بأنك ذا قيمة، وانه يحبك بصدق ويرغب في لقائك بشوق عارم ! 
هي أشياء قد تعيشها مرة واحدة في حياتك ، وقد لا يحالفك الحظ أبدا في عيشها أو الاحساس بها! 
كم ستكون حياتك تعيسة إن لم تجرب الحب !
الحب الصادق الذي وإن لم يتوج بارتباط اجتماعي ، فإنه على الأقل ،يشعرك بأنك إنسان ، وبأنك يوما ما ، أحببت بجنون ! وعشقوك بنفس القوة ! 
قد ننسى إنسانيتنا في غمرة الظروف وزخم الحياة المتسارعة الوتيرة، لكن لحظات الذكرى ، تجعلنا لا ننسى إنسانيتنا، أن لا نفقد ماتبقى من آدميتنا التائهة وسط الزحام الذي لا نكاد نرى فيه الوجوه البشرية التي نصادفها كل لحظة ! 
هي لحظات ذكرى، ذكرى تؤلمني حينا وتدفعني للصمود والشموخ أحيانا! 
بعد أن سافرنا معا كان لابد لي من توديعه للذهاب عند عمتي ، أذكر أنه بكى كطفل صغير ! مرت على هذا سنوات، ومازلت أشعر بنفس الحزن كلما تذكرت تلك اللحظة! 
لم نتزوج، ذهب كل منا لحال سبيله ، فرقنا الدهر والسنون والحياة ، أخذ كل منا دربه لكن الذكرى لا تزال تجمعنا ! احترم كل منا شريك حياته ومنعتنا أخلاقنا من رؤية بعضنا وما زالت ! 
فيا لأم كلثوم " إذا ما التقينا لقاء الغرباء ، لا تقل شئنا فإن الحظ شاء، فإن الله شاء ! 
غريبة هي الحياة ، وغريب هو الفن الذي قد لا نتذوقه أبدا، لكن قد يأتي يوم يعبر فيه عما يخالجنا نحن ، كما خالج الشعراء من قبلنا ! علمني حبك أن أحزن ، بل علمني كيف أن لا أنسى في غمرة قساوة الحياة أنني كنت يوما ما أكثر إنسانية ! 
قارب القطار على الوصول ، وقاربت الذكريات أن تتلاشى أمام ناظري ، فحين أصل إلى منزلي سوف تتجاذبني الحياة، ولن يكون من حقي أن أضيع لحظات حياة إنسان أقتسم معه حياتي في تذكر حياة وإن كانت جميلة، فإنها لا تعدو اليوم أن تكون ذكرى تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد ! 
قبل أن يتوقف القطار ، تذكرت الله ! وتذكرت آية اللمم ! 
فهل الذكرى لمم أم خيانة ؟ 
إن من خلقنا أعلم بما نخفي وما نعلن ، أعلم بأن الذاكرة لها سبلها في السفر في غفلة منا ، وأن اللاشعور له طريقه في مداوات جراحنا دون أن نعلم ! 
باسم الله الرحمان الرحيم " الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ "  صدق الله العظيم ! 
فمن كان منكم بلا خطيئة ...
 
 
اجمالي القراءات 11203