لقد خلقنا الإنسان في كبد
الكَبَد ( بفتح الباء ) هو مصطلح فريد و نادر , لم يرد سوى مرة واحدة في كتاب الله جل وعلا حيث قال سبحانه ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ) 4 البلد ,
يقولون بأن المراد فيه هو المشقة و التعب و العناء أو الاعتدال و الاستقامة ,
سنحاول في هذا المقال من الوصول الأقرب لمفهوم ( الكبَد ) , و لكونه لم يرد سوى مره واحده فهذا يتطلب ربط أي معنى مستنتج بما لا يتنافى مع المفاهيم أو يتضارب معها , بحيث ينسجم هذا المراد مع ما تم استنتاجه في مفهومه و ما يشير له هذا المصطلح ,
قالوا بأنه ( الاعتدال و الاستقامة ) :
إن كان المراد بالاعتدال و الاستقامة هو الجانب السلوكي , فهذا يخالف حقيقة البشر , فهناك الكثير من البشر غير معتدلين و سلوكهم غير قويم فقال ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) 103 يوسف ,
و إن كان المراد بالاعتدال و الاستقامة هو الجانب الخَلقي , أي في بُنيته و تركيبه , فهذا لا ينسجم بحصره بالإنسان دون سائر المخلوقات , فكل مخلوق هو في حد ذاته و هيئته سويٌ و قويم فقال جل وعلا ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) 7 السجدة , كما يتنافى مع مراحل خلق الإنسان نفسه ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ) 54 الروم ,
و أما في قولهم بأنه ( المشقة و التعب و العناء ) :
فهذا القول يتضارب مع الكثير من الآيات أذكر منها بعض الأمثلة لا الحصر ,
كقوله سبحانه ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ) 20 لقمان ,
فالله جل وعلا قد سخر كل شيء لراحة الإنسان , و أنعم عليه بنعمٍ لا تعد و لا تحصى ,
و كذلك قوله جل وعلا ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) 13 الجاثية ,
هذا التسخير الهائل كله من أجل الإنسان و من أجل راحته و سعادته , و لكن الإنسان بكفره و تكبره و جحوده و بإرادته المطلقة حولَ كل ما سُخر له من أجل أطماعه فانعكس عليه بالتعب و المشقة , فحول هذه الراحة التي أوجدها له الخالق إلى عناء و شقاء مستمر ,
فلو كان الكبد هو المشقة و التعب و العناء , لكان هذا سبباً للعصيان و مبرراً له ,
فعلى العكس تماماً , فالله جل وعلا قد سخر و هيأ كل شيء من أجل الإنسان , فأزال كل الأسباب و المبررات التي من الممكن بأن يتذرع بها هذا المخلوق الضعيف العنيد , و يتخذها مبرراً لعصيانه و جحوده , فكل هذا التسخير جاء لنقد العصيان كي يهتدي هذا الإنسان و يذعن لخالقه جل و علا ,
فمن هنا نقول بأن الكبد لا يعني مطلقاً ما جاؤوا به , فكما رأينا بأن تلك المفاهيم تتضارب بشكلٍ واضح مع الكثير من الأدلة الواضحة في كلام الله جل وعلا .
إذا فما هو المراد بالكبد ؟
بدايةً نتأمل قوله سبحانه و تعالى و الذي ورد به هذا المصطلح ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُّبَدًا * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) 4-10 البلد ,
نلاحظ بأن هذا الكبد هو مرتبط بشكلٍ واضح بتصرف الإنسان و سلوكه , فهذا الإنسان بامتلاكه للمادة التي سخرها الله جل وعلا لراحته و سعادته في الدنيا و الآخرة , فهو يحسب و يظن بأنه لن يقدر عليه أحد و بعدم وجود من يراه و يراقب تصرفاته و سلوكه , لذا فقد أخطأ التقدير و أساء الظن , فكانت نتيجة سلوكه هذا اختياريه و إرادية ,
فمن أساء الظن كان سلوكه سيئاً , و من أحسن الظن كان سلوكه حسناً ,
لذا أقول حسب تقديري بأن المراد ( بالكبد ) الذي خلق الإنسان به و عليه , و انفرد به الإنسان عن باقي المخلوقات هو ( الاختيار الإرادي ) لسلوكه و تصرفاته ,
فالخالق جل وعلا قد خلق الإنسان في هذا الكبد , فجعله عاقلاً يستطيع التميز و التقدير بواسطة عيناه , و جعله ناطقاً ليعبر عن فكره و قراره , و هو الوحيد القادر على التدبير و التخطيط ,
فجعله الله جل وعلا في نقطة المنتصف , تلك النقطة هي التي سينطلق منها باختياره و إرادته , كي يسلك مسلك الحياة بخيره أو بشره ( و هديناه النجدين ) ,
نقطة المنتصف هذه , هي نقطة محورية و جوهرية في حياة كل إنسان , يبلغها بسنٍ معين , حين يبدأ بالتفكير بطريقة مستقلة , حين بلوغه لرشده و إدراكه التام ,
في هذه الفترة المحورية يبلور كل إنسانٍ فيها مستقبله السلوكي , فيسلك أحد الدربين باختياره و إرادته المطلقة لا أحد يؤثر على قراره و لا أحد مسئولٌ عن سلوكه , فتسقط كل المبررات و الأسباب التي قد يتذرع بها لتبرير سلوكه و نهجه و تصرفاته , فلا يبقى له أي ذريعةٍ يحتج بها على مسلكه الذي سلكه .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
سبحانك إني كنت من الظالمين