السرقة من الدولة .؟!

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٨ - سبتمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

السرقة من الدولة .؟!

مقدمة :  قال فى رسالته :

 ( 1 ـ أنا موظف حكومى بأقدمية ثلاثين عاما ، ومريض ، ومرتبى لا يكفى الدواء ولا الطعام ، وأضطر لعمل فى عمل إضافى مع مرضى . أنا لا آخذ رشوة . لأن ضميرى لا يسمح لى  . ضاقت بى الحياة من مصاريف فوق الطاقة وعيشة نكد . وأعطانى أخى هدية جهاز تكييف مستعمل بسبب أنه زارنى ورأى معاناتنا من الحرّ . قلت لأخى إن فاتورة الكهرباء فوق طاقتى اصلا ، فضحك وأخبرنى بحيلة لأسرق بها الكهرباء ، وقال لى أنه سيرسل لى كهربائى يمكنه من تشغيل جهاز التكييف بسلك يأخذ الكهرباء من الشارع بوصلة مضمونة . وعرفت منه أن هذا شائع ومعروف ، والسبب هو ارتفاع فواتير الكهرباء الى عدة مئات من الجنيهات فوق طاقة الموظفين ومحدودى الدخل . وقلت لأخى : انت عارف اخوك ، أنا طول عمرى مستقيم ولا أقبل الحرام .أخويا مشاغب ومدمن فيس بوك .

2 ــ قال لى : ان المسئولين الكبار يسرقون البلد ، ومعاهم القانون . وحتى القانون لا يتم تطبيقه عليهم لأنهم السادة وفى الوزارات السيادية .

قال : يكفى إنهم يستولون على مئات المليارات من الجنيهات فى الصناديق الخاصة يوزعونها على أنفسهم وأعوانهم.

قال : يكفى أن عندهم عشرات الألوف من ( المستشارين ) أى المحظوظين من كبار الموظفين واللواءات الذين خرجوا على المعاش وعينوهم خبراء ومستشارين بمكافآت خيالية ، وهم لا لزوم لهم أصلا . ثم إن مرتبات الجيش والداخلية والقضاء والنيابة والمخابرات تتضاعف وبدلاتهم تتضاعف ، بينما مرتباتنا يلتهمها الغلاء الذى يتصاعد باستمرار كل يوم .

 قال : يكفى أنهم يبيعون من الوطن الجزر وحقول البترول ببلايين الدولارات ، ويوافق لهم مجلش الشعب الذى لا يملك أن يحاسبهم على مصروفات الجهات السيادية ، ولا يجرؤ أحد عن السؤال عن صفقات السلاح ،  وهل لها ضرورة أم لا ، وما هى العمولة التى يأخذها الرئيس ووزير الحربية ، ولا أحد يجرؤ أن يسألهم عن ما جاء لمصر من عشرات البلايين مساعدة من الخليج وضاعت كلها . ولا يجرؤ أحد أن يسألهم : من أين لك هذا ؟ هل تعرف رصيد عبد الفتاح السيسى قبل أن يكون رئيسا وبعد سنوات من رئاسته ؟ .

قال : يكفى أنهم عقدوا صفقات سرية مع مبارك وأعوانه الفاسدين ، ولم يعودوا يطالبون بالبلايين التى هرّبها مبارك وأعوانه الى الخارج .

ثم قال : كل هذا وتسألنى عن سرقة الكهرباء هل هى حرام . أنت تأخذ حقك المنهوب من دولة تأكل حقك . والذى يأخذ حقه لا يسرق . .

3 ـ وأسألك أنا : هل لو أخذت من كابل الكهرباء لتشغيل التكييف يكون حرام ؟ ). وأقول :

أولا : الرؤية الاسلامية

1 ـ  أن تأخذ ما ليس حقا لك هو سرقة ، يستوى إن كنت تسرق شخصا أم تسرق دولة . حتى لو عثرت على شىء فى الطريق وأخذته لنفسك يكون هذا سرقة من مجهول . عليك أن تسلمه للسلطة المختصة وتخلى مسئوليتك ، ثم هم إذا أوصلوه الى صاحبه فقد قاموا بواجبهم ، وإن أخذوه لأنفسهم فهذه مسئوليتهم أمام الله جل وعلا .

2 ـ  أن يسرق كبار الدولة أموال الدولة والشعب فهذا ليس مبررا لأن تسرق أنت أيضا ، هذا بالرغم من هوان ( سرقة الكهرباء ) مقارنة بسرقة مئات البلايين . الخطأ لا يبرر الخطأ ، والسرقة لا تبرر السرقة .

3 ـ  أنت لك حق فى هذا البلد ، وأنت بالفعل مطحون وضائع حقك ، وحين تخرج على المعاش لن يكون شأنك مثل المحظوظين الذين يتم تعيينهم على الورق مستشارين بعشرات الألوف من الجنيهات شهريا مع بدلات وهدايا وسفريات وعلاج على نفقة الدولة . المعاش الذى تحصل عليه سيكون هزيلا بلا بدلات ، وستتضاعف به معاناتك . ولكن هل الحل أن تأخذ حقك بالسرقة ؟ هذا لا يجوز للأسباب الآتية :

3 / 1  ـ الذين تأخذ منهم الكهرباء قد أنفقوا الملايين حتى أوصلوا الكهرباء للشارع . ولهم حق مقابل ما أنفقوا . وحتى لو كانت الفواتير ظالمة ومجحفة فلا شك أن لهم بعض الحق فيها ، فلا يمكن أن يوصلوا لك الكهرباء مجانا . وهم فى نفس الوقت لهم جيوش من العمال والموظفين المقهورين من أمثالك ، ويدفعون لهم مرتبات ، قد تكون هزيلة ، ولكنه من الفواتير الى تدفعها أنت وغيرك . بالتالى فحين تسرق منهم الكهرباء على أن هذا حق لك فأنت ظالم لهم . ثم إنهم ليسوا الجهة الكبرى التى تسرقك . هم يظلمونك فى الاجحاف فى فاتورة الكهرباء . فهل يكون الرد بتعطيل حقهم بالكامل فى توصيل الكهرباء لك ؟

3 / 2 ـ ، لا شك أن لك حقوقا مالية وعينية مهضومة ضائعة . ولكن المشكلة أنه لا يمكن تحديد هذه الحقوق لك أو لغيرك . لآ بد أن تعرف مقدما قيمة الحق الذى لك ، وهذا غاية فى الصعوبة لأن  ملايين أمثالك ممّن ضاع حقهم . ثم أين حقوقهم بالتحديد وأين حقك بينهم ؟ ثم من اين وبالضبط تأخذ ويأخذون حقوقهم ؟

3 / 3 ـ هذا عماء وتخمين وإبهام ، وبالتالى وقوع فى الظلم . والأسلم والأقرب للتقوى أن تجتنب الحرام وما يوصلك الى الحرام . وما عند الله جل وعلا خير وأبقى .

ثانيا : الرؤية السياسية :

1 ـ هذا يدخل بنا على ثقافة الفساد حين تستشرى وتصبح تشريعا  إجتماعيا يحظى بالتبرير والموافقة الضمنية أو الصريحة .

2 ـ أنت مثلا مريض ولك حق العلاج المجانى على نفقة الدولة ، وقد تحظى ببعض هذا العلاج حين تقف فى طوابير مؤلمة أكثر من آلام المرض نفسه . ولكن هناك راقصات يتم علاجهن من مزاعم ( الإكتئاب ) على نفقة الدولة ، ويقمن بالرقص بين ايدى الأكابر خارج مصر وخارجها للتنفيس عن الاكتئاب المزعوم . هذا فى الواقع ، أما على الورق فالمكتوب تقارير طبية خطيرة تستدعى صرف الملايين . أنت تستحق العلاج المجانى وهناك بنود للتأمين الصحى ، وقد أثرى بها أطباء كبار ، يسرقون ميزانية التأمين الصحى والعلاج على نفقة الدولة خلال أوراق وتقارير مزورة ، لا أصل لها فى الواقع ، ولكنها سيناريوهات متفق عليها بين كبار الموظفين والأطباء فى التأمين الصحى ، والنتيجة أن الفقراء المرضى الحقيقيين يموتون مرضا ، وتتضاعف ملايين الحرامية الكبار .

3 ـ هذه الفجوة بين أقلية مترفة فاسدة وأغلبية مقهورة مظلومة تجعل الفقراء المقهورين الضائعة حقوقهم يستحلون السرقة . وهذه حالة مصرية متوارثة فى التعامل مع ( الحكومة ) ، وصاغ الشعب المصرى أمثالا شعبية فى استحلال سرقة الحكومة بدون علمها ، وبعضها أمثال بذيئة جدا ، تعبر عن خفّة الظّل المصرية وعن كراهية الحكومة الظالمة أيضا . وكل حكومة مصرية هى ظالمة من عهد ( مينا نارمر ) الى عهد السيسى . لا إستثناء فى السرقة ، ولكن تفاوت فى مدى السرقة ، وقد وصلت فى عهد السيسى الى حد العجب ؟! .

4 ـ بالتالى  فالناس على دين ملوكهم ، وإذا كان رب البيت بالدف ضاربا فلا تلومن الصغار على الرقص . أصبحت مصر ـ غالبا ـ تنقسم الى قسمين : أغلبية مقهورة تسرق القليل ، ولكن لأنها أغلبية فالسرقات ـ وما يتبعها من الاهمال والحرائق المصاحبة للسرقات ـ  فإن حصيلة الفساد العام من الأغلبية تصل الى البلايين ، ثم نصل الى الفئة الأقلية من الأسياد المفسدين ، وحصيلة فسادهم أيضا بمئات البلايين .

5 ــ لا أمل فى وقف تيار الفساد لأنه مرتبط بالاستبداد العسكرى الذى يحتكر السلاح والقوة والسلطة ليحمى به ما ينهبه من ثروة .

6 ــ  الفساد سيتضاعف من ناحية الحكام الجّدد الذين تعلموا النهب من سيدهم مبارك ، والذين تمتعوا بثقته ووصلوا الى أعلى المناصب خلال ثلاثين عاما من حكمة الفاسد . ثم تعلموا الدرس الأهمّ منه ، وهو أن حصانتهم فى المستقبل تكون فيما ينهبون من أموال الشعب المصرى . هم فاوضوا مبارك على الحصول على جزء من أمواله التى هرّبها مقابل مسرحية محاكمته وسجنه فى مستشفى عشرة نجوم تحت حراسة تخدمه وتحميه ، ثم عدم التعرض لزوجته ثم إطلاق سراح ولديه وكبار أتباعه ، وكل شىء بثمنه . أى إن مبارك تنازل لهم عن جزء من سرقاته ليعيش آمنا مع أسرته . وهو درس ــ لو تعلمون ـ عظيم . تعلموا منه الدرس ، أن يسرقوا بأقصى ما يستطيعون لتأمين المستقبل . وكلما سرقوا أكثر كانت فرصتهم أفضل ، وفى النهاية سيكون أحدهم على المعاش آمنا وبقى له من أمواله بضع عشرات قليلة من البلايين .!!

7 ــ هذا بالنسبة للمترفين الحكان الفاسدين الفساد الأكبر . بالنسبة لمجموع الشعب الذى يحتاج الى الحصول على الفتات ولو بالسرقة ، فإن ثقافة الفساد اصبحت له شريعة . إنتهى العهد الذى كنا نتعلم فيه فى المدارس أن ( القناعة كنز لا يفنى )و( أن الطمع يقل ما جمع ) . حلّ محلها أن الاستحلال للمال العام والمال الخاص هو الكنز الذى لا يفنى ، وان الطمع يزيد ما جمع ، وأن قيمتك فى المجتمع بمقدار ما لك من ثروة عينية ونقدية ، ليس مهما حصولك عليها ، المهم حصولك عليها . وبمقدار مالك من ثروة يكون لك نفوذ بهذه الثروة . ثم ، إنّ الأغلبية المصرية الفقيرة تفتحت شهيتها واتسعت عيونها تلتهم كل شىء تراه فى الشارع أو فى اعلانات التليفزيون أو فى الانترنت . ولم يعد ترفا الحصول على التليفون المحمول الحديث وأحدث أجهزة اللا توب ، بل أصبحت من الضروريات . ومع غلاء الأسعار فالطلب يزداد على ما كان من قبل من الكماليات لأن التفاخر والتكاثر أصبح لغة الناس بين الفقراء والأثرياء على حد سواء .

8 ـ ويظن العسكر الحاكم أنه اسكت الناس ببطاقة التموين بما فيها من أسعار مدعمة للسكر والأرز والزيت والخبز . لا يعرفون أن الدواء أهم من هذا ، ولا يعرفون أن الناس تريد المزيد وأن من المستحيل كبح جماح الأسعار المجنونة . بالتالى فإنه مع النّهم وشدة الطمع فإنه لن ينفع فى المستقبل القريب طريقة الدعم وما تقدمه بطاقة التموين الآن من الضروريات بأسعار معقولة ـ حتى مع إفتراض سريانها وعدم إلغائها .

9 ـ التعذيب الذى فضح النظام المصرى يزيد من خطورة الأمر، لأنه يؤيد إتّجاه المجتمع نحو العنف . فالذى يعرف ما ينتظره من تعذيب فى أقسام الشرطة سيضطر للمقاومة مفضّلا القتل على التعذيب ، فى نظام حكم يضعه على حافة الجوع ويصفعه بالاهانة كل وقت . ومن السهل أن يكون داعشيا . وتاثير هذا على السرقة خطير . فهو يؤذن بتحول السرقة الخفية من الدولة الى شريعة وهابية تستحل أموال الكافرين ، وتتحول الى سرقة علنية ، وقانون العقوبات الذى يتم تطبيقه على الشعب فقط دون أسياد الشعب سيشجع الملايين على الخروج عليه وتنفيذ قانونهم الخاص ، سواء كان إستحلالا وهابيا أو علمانيا ،  أى تدخل مصر فى حرب اهلية يبدأ بها الجنود وصف الضباط وصغار الضباط الذين ينالون الفُتات مقارنة بالجنرالات ، وينقسم الجيش ، ويظهر زعماء من الرعاع داخل القوات المسلحة وخارجها . وتتحول مصر الى ساحة دماء .

10 ــ هذا ما لا نرجوه . وهذا ما نحذّر منه فى إصلاح سلمى ندعو اليه من أكثر من بع قرن ـ وبلا فائدة ، سوى تشويه سُمعتنا وسجننا ونفينا من مصر .

أخيرا : بالنسبة لك أقول :

1 ـ الله جل وعلا هو الذى يبتليك بالمرض إختبارا . وعندما تصبر وتشكر وتتقى فإن الله جل وعلا سيشفيك وسيرزقك من حيث لا تحتسب ، وسيجعل لك من ضيقك مخرجا . قال جل وعلا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)  الطلاق ).

2 ـ إلتزامك بالتقوى يحتّم عليك ألّا تسرق وإن سرق الجميع ، وأن لا تظلم وإن ظلمك الجميع . بالتقوى أنت تعتصم بربك جل وعلا . هل هناك أعظم منه جل وعلا ؟ .

3 ـ تدبر قوله جل وعلا : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) آل عمران  ) .

اجمالي القراءات 13439