( التعذيب ) فى رؤية قرآنية : ( 1 ) : الأرضية التى يزدهر فيها التعذيب

آحمد صبحي منصور في السبت ٠٩ - سبتمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

( التعذيب  ) فى رؤية قرآنية : ( 1 ) : الأرضية التى يزدهر فيها التعذيب 

مقدمة :

1 ـ أخيرا تذكرت أمريكا جرائم التعذيب فى مصر، كما لوكان حدثا طارئا مستغربا . وانتشرت مقالات فى الغرب تنهل من تقارير المنظمات الحقوقية العالمية ، وطغت أخبار التعذيب المصرى على أخبار مصر الأخرى . واضح أن التناطح الحالى بين أمريكا وكوريا الشمالية هو السبب ، فالفرعون المصرى الحالى ( عبد الفتاح السيسى ) له علاقات عسكرية بكوريا الشمالية ، مما أغضب الرئيس الأمريكى والكونجرس فقطع جزءا من المعونة الأمريكية السنوية المقررة منذ معاهدة الصلح مع اسرائيل ، وفى كلمتها فى مجلس الأمن تحدثت المندوبة الأمريكية بلهجة عدائية عمّن  يتعاون مع كوريا الشمالية ، وهم الصين وروسيا وإيران ، وهم ليسوا فى التبعية لأمريكا ، ثم هناك مصر السيسى ، وهو يشمله الخطاب ، وهو الأكثر تعرضا للسخط الأمريكى .

2 ـ مقاومة التعذيب جزء أساس من جهادنا الاسلامى السلمى وكتبنا فيه كثيرا ،  لأننا ضد الظلم ،ولأننا مع المستضعفين فى الأرض فى أى زمان وأى مكان ، ولأن ممارسة التعذيب تعنى قهر إنسان اصبح مستضعفا .

3 ـ وقرآنيا ، فإن التعذيب مرتبط بالاستبداد السياسى والدينى ، أى تتعانق فيها الديكتاتورية مع الكهنوت .

4 ــ نبدأ هذا المقال بالأرضية التى يزدهر فيها التعذيب من وجهة نظر قرآنية :

أولا : لا كهنوت فى الدولة الاسلامية

1 ـ  حيث يسيطر الكهنوت الدينى تنعدم الحرية الدينية ، وتزدهر الحروب الدينية والمذهبية و المحاكمات الدينية والتخلص من المخالفين فى الدين وفى المذهب ب ( حدّ الردة ) و ( من بدل دينه فاقتلوه ) و ( الزندقة ) و ( التارك لدينه المخالف للجماعة ) و ( الهرطقة ) . الاسلام ضد هذا الكهنوت المسيطر والذى يغتصب سُلطة الله جل وعلا ويقيم محاكمة فى الدين قبل يوم الدين .

2 ـ  وفى الدولة الاسلامية الحقيقية لا إكراه فى الدين . والمواطنة فيها حسب الاسلام السلوكى الظاهرى بمعنى السلام ، وكل إنسان مسالم فهو مواطن فى الدولة الاسلامية ، يتمتع  فيها بحريته الدينية بلا قيود أو حدود ، ويمتع بالعدل وسائر حقوقه وبالمساواة مع الآخرين ، وكان هذا وضع المنافقين فى دولة النبى حيث مارسوا أقصى المتاح لهم فى المعارضة الدينية التى وصلت الى ايذاء النبى والسخرية بالقرآن الكريم والصّد عن سبيل الله وإقامة مسجد للتآمر ، ولا يتعرض لهم أحد سوى بالاعراض عنهم ، طالما لا يرفعون سلاحا.

3 ـ وخارج النفاق كان هناك صحابة مؤمنون بمعنى إلتزام الأمن مسلمون بمعنى إلتزام السلام ، أى مسالمون . وفى حياتهم الدينية كانوا يعكفون على تقديس القبور ( الأنصاب ) ويشربون الخمر ويلعبون الميسر ويحترفون اللعب بالأزلام ، أى الكشف عن الغيبيات . ولم يمنعهم الرسول لأنه لم يكن عليه سوى البلاغ . وكان هذا من أواخر ما نزل فى القرآن الكريم فى خطاب مباشر من رب العزة للمؤمنين المسالمين من الصحابة عُبّاد الأنصاب ( القبور المقدسة ) قال لهم جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ) .

4 ـ كان هذا فى دولة ليس دورها إدخال الناس للجنة ، لأن الهداية مسئولية شخصية ، ومن إهتدى فلنفسه ومن أساء فعليها (يونس 109 ، الاسراء 15 ، النمل 92 ، الزمر 41 ، )، ولأن، للدين ويوما هو يوم الدين الذى سيحكم الله جل وعلا بين الناس فيما هم فيه مختلفون ( الزمر 7 ،  46 )

5 ـ  هذه الحرية الدينية فى الدولة الاسلامية تمنع من الأساس وجود الكهنوت ، والنبى نفسه لم يكن كهنوتا فلم يأخذ من الناس أجرا ، ولم يكن مسئولا عن هداية أحد ، ، قال جل وعلا له (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (272) البقرة ) أى من يشاء الهداية بمشيئته الشخصية يهده الله .  وقال له ربه جل وعلا  انه مجرد مبلّغ للرسالة وليس عليهم  بمسيطر ( الغاشية 21 : 26 ) وليس عليهم وكيلا موكلا مسئولا عنهم ( الأنعام 66 ، 107 ، يونس 108 ، الاسراء 54 ، الفرقان 43 ، الشورى 6   ) ، بل هو مأمور أن يقول لهم : (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) الزمر). تركهم يعبدون ما يشاءون إنتظار للحكم الالهى عليه وعليهم يوم القيامة.وتكرر فى سور :( الانعام 135 ، هود 121 / 122 ) .

6 ـ لم يحدث تعذيب فى دولة النبى محمد عليه السلام فى ظل هذه الحرية الدينية ، هذا مع أن النبى والمؤمنين معه تعرضوا لاضطهاد فى مكة . وكان الرّدُ فى دولة المدينة تسامحا لا مثيله ، وحرية دينية لا نظير لها ، وبهذه الحرية دخل العرب فى دين الله أفواجا ، دخلوا فى الاسلام بمعنى السلام . ثم تغيرت الأمور وتبدلت .

ثانيا : لا إستبداد فى الدولة الاسلامية :

1 ـ الشورى في الدولة الاسلامية تعنى الديمقراطية المباشرة . ومن أُسُسها الاسلامية  الدينية :

1 / 1 : أن ( الحاكم ) يكون مساءلا أمام الشعب ، لأن الله جل وعلا وحده هو الذى لا يُسأل عما يفعل (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء )، وبالتالى فإن الحاكم المستبد الذى يستنكف من مُساءلة الشعب له إنما يرفع نفسه الى درجة الألوهية ، أى ينازع رب العزة جل وعلا فى ألوهيته .

1 / 2 :  والنبى كان مأمورا بالشورى ـ وهو النبى الذى يأتيه الوحى ، وبالتالى فإن من يستنكف من الشورى الاسلامية إنما يرفع نفسه فوق مستوى النبوة ـ أى يزعم لنفسه الألوهية . ولهذا فإن المستبد هو مُدّع للألوهية صراحة أو ضمنا .

2 ـ والدساتير الديمقراطية تجعل الأمة أو ( الناس ) هم مصدر السلطة ، وهى توكل بهذه السلطة هيئات تمثل الأمة ، وتكون مساءلة أمام من ينوب عن الأمة ومن يمثلها  . والشورى الاسلامية لم تعرف الديمقراطية النيابية أو التمثيلية ، بل هى الديمقراطية المباشرة ، وتعرضنا لتفصيلاتها فى كتاب منشور هنا .

3 ـ والنبى محمد عليه السلام حين كان قائدا لدولة المدينة كان يستمد سلطته ـ ليس من الله جل وعلا ـ ولكن من الناس ، ولذا أمره الله جل وعلا أن يكون لينا فى التعامل معهم ، وان يعفو عنهم ويستغفر لهم وأن يشاورهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر ، ولأنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله ، ولو إنفضوا من حوله فلن تكون له سُلطة ولن تكون حوله دولة ، لأنه بقوتهم وأجتماعهم حوله صارت له دولة وسلطة إستمدها منهم ، فهم مصدر السلطة . هذا مفهوم من قوله جل وعلا لخاتم النبيين : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ).

ثالثا : حاجة المستبد الى التعذيب

1 ـ النبى محمد عليه السلام كان مأمورا بأن يكون لينا ، ومنهيا أن يكون فظا غليظ القلب لأنه يستمد سلطته من الناس ، وهو نفس الحال مع الديمقراطيات الحديثة ، حيث يكون ممثلو السلطة خدما للشعب ، يتحببون اليه ليبقوا فى مناصبهم ، ثم هم تحت المساءلة ويتعرضون للعزل والمحاكمة والعقاب لو أخلّوا بالمسئولية ، وتكون التهمة هى الخيانة العظمى ، أى بقدر المسئولية .

2 ـ وعلى النقيض ، فالمستبد ( فظ غليظ القلب ) يستخدم جيشه وقواته المسلحة الأمنية والغسكرية فى قهر الشعب ، والتعذيب ضرورى لفرض سيطرته ، ليس فقط فى الانتقام ممّن يعارضه قولا أو فعلا ، ولكن ـ وهذا هو الأهم لأنه بالتعذيب يُرهب  ــ مقدما ــ من يفكّر فى المعارضة . المستبد يتشبث بالسلطة لأنها بالنسبة له مسألة وجود ، حياته أو موته . إما أن يظل حيا فى عرشه ، وإما أن يفقد حياته وعرشه وأمنه . لكى يشعر بالأمن ( الظاهرى ) لا بد أن يكون التعذيب روتينيا و عشوائيا ، ولا بد أن تصل أنباء التعذيب وصرخات المعذبين الى الشعب . وهو يرى أن تعذيب عشرات الألوف يكفيه لارهاب عشرات الملايين . وبالتعذيب يظن نفسه قد أسكت الناس وأخرسهم .

3 ـ ولكى يمارس التعذيب آمنا ، ولكى يستمر فى إستبداده فلا بد له من كهنوت دينى يسبح بحمده ويتعيش من فُتات مائدته العامرة بالسُّحت . وأعوانه من الكهنوت الدينى  لا بد أن يستمدوا منه النفوذ . والكهنوت الدينى هو الأكثر تأثيرا فى الأغلبية ، من العوام . وهذه الأغلبية بجهلها تقع أسيرة لرجال الكهنوت . طاعة الأغلبية للكهنوت هى طاعة للمستبد ، لذا يحرص المستبد  على كهنوته الدينى ويسارع الى معاقبة من يجرؤ على مناقشة كهنوته الدينى ، ليظل الناس فى جهل دينى ، فبالجهل الدينة بالذات يكون الشعب مطية للمستبد ، خانعا له ، يتغنى بمواويل الصبر .  

4 ـ الاسلام هو أكبر خطر على المستبد ، بشهادته أنه ( لا إله إلا الله ) وعدم تقديس البشر وبشريعته الديمقراطية وبما جاء فى القرآن عن خاتم المرسلين فى دعوته وفى نظام حكمه. أخوف ما يخافه المستبد هو دعوة رب العزة جل وعلا فى كل الرسالات الالهية الى أن يقوم الناس بتحقيق العدل والقسط ، قال جل وعلا ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ). لا يمكن أن يتحقق هذا إلا بالوعى بحقائق الاسلام . ولا يمكن أن يتنازل المستبد طواعية عن سلطانه ، أى لا بد من اللجوء الى الحديد والبأس الشديد .

5 ـ لذا فإن التحول الديمقراطى لا بد أن يبدأ بتقرير حرية الدين وما يتبعها من حرية الرأى والفكر والابداع . المستبد يركب الكهنوت الدينى ، وهذا الكهنوت الدينى يركب الشعب . وهذا الكهنوت الدينى جهل مركب لأنه مستمد من دين أرضى مبنى على الخرافات والأوهام التى لا تصمد أمام أى نقد ، وتحتاج الى سيف المستبد ليحميها من النقاش وليفرضها على الناس . بفتح نوافذ الحرية يسقط الكهنوت الذى يحتمى به والذى يركبه المستبد . بسقوط الكهنوت وبسقوط سيطرته على الاعلام وأفئدة الناس تسقط هيبته ، وينتهى الى زوال .

6 ـ وفى قيامنا بنشر الوعى بالاسلام نتعرض نحن أهل القرآن الى حرب مزدوجة من المستبد الشرقى ومن الكهنوت ، وهم مع إختلافاتهم بين سُنّة وشيعة يتّحدون ضدنا ، ويعملون ما فى وسعهم فى التعتيم علينا ، حتى فى أمريكا .

7 ـ أمريكا بلد الحرية ، وهى أيضا بلد الدولار و( اللوبيات ) أى مراكز الضغط السياسى ، حيث يتحكم من له مال فى توجيه السياسة بقدر ماله من مال ، وبقدره يفوز على المنافسين ، وهذا فى سوق مكشوفة ومفتوحة لكل جماعات الضغط . ونحن فيها مثل ( الأيتام ) على ( مائدة اللئام ) .

والسعودية منبع الارهاب الوهابى هى التى تقدم نفسها لأمريكا مناضلة ضد الارهاب . ليس مهما أن يصدقها الشعب الأمريكى الذى لا يعلم كثيرا عما يجرى خارج امريكا ، المهم هو شراء أصحاب النفوذ . وهذا هو ما ينجح فيه اللوبى السعودى . ونحن ندفع الثمن تعتيما ، نظل نصرخ فى الهواء ، وأكثر ما نحصل عليه هو الرثاء .!!

اجمالي القراءات 7077