ج1 : من الخلفاء الراشدين الى العثمانيين
كتاب : لمحة تاريخية عن نشأة وتطورأديان المحمديين الأرضية :

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٠ - يوليو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب : لمحة تاريخية عن نشأة وتطورأديان المحمديين الأرضية :

ج1 : من الخلفاء الراشدين الى العثمانيين :

هذا الكتاب :

تمت كتابته الأولية عام 2006 ، وتأخر نشره ، وكان بذرة لآبحاث متخصصة تم نشرها فيما بعد مثل ( وعظ السلاطين ) و ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) و ( الفتنة الكبرى الثانية ) و ( مذبحة كربلاء ) و ( الحنبلية أم الوهابية وتدمير العراق فى العصر العباسى الثانى ) . بالإضافة الى كتاب لم يكتمل عن مسلسل الدم فى عصر الخلفاء وتقسيم العالم الى معسكرين . هذا الكتاب يقدم لمحة عن الأرضية التاريخية التى نبعت فيها الأديان الأرضية المحمدية من سنة وتشيع وتصوف .ونقسمه الى جزئين : الأول عن عصر الخلفاء من الراشدين الى العثمانيين . والآخر عن نشأة وإنتشار الدين الوهابى الحنبلى السنى الذى ينشر التدمير فى العالم اليوم حاملا إسم الاسلام زورا وبهتانا .

وهذا هو الجزء الأول . والله جل وعلا هو المستعان .

أحمد صبحى منصور  

فرجينيا ـ الولايات المتحدة

أول فبراير 2017

 

 فهرس الكتاب   

هذا الكتاب  

المقدمة :

 فصل تمهيدى: ماهية الاسلام وتاريخه وتطبيقه فى عهد النبى محمد عليه السلام ( ماهية الاسلام : مفهوم الاسلام والايمان. مفهوم الكفر والشرك فى القرآن الكريم . الإسلام هو دين الله لكل البشر ـ الجنة لكل مؤمن صالح من البشر.  كل الرسالات السماوية تقول شيئاً واحداً. إن الدين عند الله الإسلام . تاريخ الاسلام فى الأمم السابقة. ملة إبراهيم الحنيفية الاسلامية . قبائل العرب . خاتم النبيين متبع لملة إبراهيم حنيفا وليس منشئا لدين جديد. ابراهيم فى القرآن الكريم . دعوة القرآن للتمسك بملة ابراهيم.

لمحة عن : قريش وصناعة الأديان الأرضية : أولا : العرب وتضييع ملة ابراهيم الاسلامية قبل نزول القرآن الرسالة الالهية الخاتمة. ثانيا :قريش وإقامة دين أرضى لها على أنقاض ملة ابراهيم قبل نزول القرآن الكريم. ثالثا : قريش ونشأة أديان المسلمين الأرضية بعد نزول القرآن.  رابعا :معارضة قريش لرسالة القرآن فى إصلاح ملة ابراهيم الاسلامية . الصراع بين قريش والمسلمين فى حياة النبى محمد : قريش بزعامة الأمويين  تضطهد المسلمين الأوائل فى مكة وتطاردهم فى المدينة .   

تطبيق الاسلام في عهد النبى محمد ودولته الاسلامية ( 622 ـ 632 ) : مقدمة .   دور الوحي في توجيه حركة النبي وفى تضييق الفجوة بين الاسلام وتدين المسلمين فى عصر النبوة . ملامح دولة النبي محمد عليه السلام: أكمل تطبيق بشرى ممكن للاسلام. وجود فجوة بين التشريع والتطبيق فى عهد النبى محمد عليه السلام )

 الفصل الأول : تأسيس التناقض بين الاسلام والمسلمين في عهد الخلفاء ( الراشدين ) (11-40هـ)(632-661م )

( الخريطة العقائدية للمسلمين بين عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين : مقدمة  ـ  فكرة سريعة عن الخلفاء ( الراشدين ). أخطر  طوائف الصحابة : *القرشيون المكيون ( الطلقاء ) وزعماؤهم الأمويون . أعراب منافقون انتهازيون . مجموعات من ضعاف الايمان . الطائفة المجهولة التى مردت على النفاق.   

أثر صراع الأعراب وقريش فى تأسيس التناقض بين الاسلام والمسلمين فى عصر الخلفاء ( الراشدين) ، مقدمة : الدور السرى لتلك القوى الكامنة والمتربصة فى تشكيل سياسة الخلفاء الراشدين وأثره فى التمهيد لإنشاء أديان أرضية للمسلمين تخالف الاسلام.

من الردة الى الفتوحات الى الحرب الأهلية فى لمحة سريعة :  حركة الردة.  حركة الردة أدت الى الفتوحات . أربع تطورات خطيرة أتت بها حركتا الردة والفتوحات . كبار الصحابة المهاجرين وشكوك فى عمالتهم للأمويين . النزاع حول الغنائم وتحوله الى حرب أهلية بين الصحابة بتخطيط أموى . هؤلاء الأعراب .!!.

وهؤلاء الأمويون .!!. أخيرا . )

 

الفصل الثانى : إكتمال التناقض بين الاسلام والمسلمين في الدولة الاموية

               (41-132هـ) (661  -750)م  :

( لمحة عن الخلفاء الأمويين .  السمات العامة للدولة الأموية . استباحة الدماء والمجون والانحلال الخلقى . لمحة عن تلاعب الأمويين بشعائر الاسلام. الأمويون والطعن فى الاسلام . الأمويون وإستغلال الصلاة لمصلحتهم . تأسيس المسجد الأقصى والحج اليه بديلا عن الحج للبيت الحرام . إختراع الأحاديث وبداية تشريع الأديان الأرضية فى العصر الأموى . إختراع الأحاديث هو البداية فى تأسيس الديانات الأرضية فى الدولة الأموية . طبيعة الأديان الأرضية المتعارضة فى العصر الاموي . بداية التشريع الفقهى للدين السنى فى العصر الأموى. أثر الغزو العربى فى الحركة الفكرية الدينية  . على عتبة العصر العباسى )

 

الفصل الثالث : تطور أديان المحمديين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م ): ( فكرة عامة عن العصر العباسى . تقسيم العصر العباسى . بين الخلافة العباسية والدولة العباسية . الخلفاء العباسيون . فوارق أساس بين الدولة الأموية والدولة العباسية.

الكهنوت العباسى :  أبو جعفر المنصور وارساء كهنوت الخلافة العباسية . بين الخليفة السفاح العباسى والخليفة المنصور العباسى .المنصور وأُسُس الكهنوت العباسى : صناعة الأحاديث .المنامات . كهنوت أبى جعفر المنصور وصل الى ثقافة العوام .

أثر الكهنوت العباسى فى بعث دين الزهد : عودة دين الزهد . مقاطعة العباسيين أبرز شعائر دين الزهد  .تأسُّس دين الزهد على أقاصيص مفتراة . البدء فى سبك الكرامات عن طريق الزُّهّاد . نقد الزهاد لدين العباسيين  . إخترع المنامات فى دين الزُّهد.  

أثر الكهنوت العباسى فى خلق دين البكاء . أثر الكهنوت العباسى فى تأليه الخليفة العباسى فى عصر ضعف الخلفاء العباسيين .  

أديان المحمديين الأرضية المناقضة للاسلام يكتمل تطورها فى العصر العباسى.

تطور الأديان الأرضية من فرق الى أديان مكتملة . الدين السُّنّى فى لمحة سريعة  

. دين التشيع .التصوف .

صراع (الحنابلة) مع (المعتزلة) في العصر العباسي . الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى  . دول التشيع المناوئة للعباسيين فى العصر العباسى الثانى . إختراع التصوف السنى بديلا للتشيع فىى مصر .  

لمحة عن دين التصوف من بدايته الى سيادته تحت مسمى التصوف السُّنّى .

نماذج تاريخية واقعية للأديان الأرضية فى العصر العباسى  )

 

الفصل الرابع : تسيد دين التصوف السنى فى العصر المملوكى

( 648 ـ 921 ) ( 1250 ـ 1517 ) ( لمحة عن الدولة المملوكية:( 648 هــ – 921 هــ ) – ( 1250 م – 1517 م ).مقدمة . أولا : خطوات أقامة وتوطيد الدولة المملوكية فى مصر. السلاطين المماليك وتوارث السلطة: المماليك وفنّ التآمر.

 لمحة عن دين التصوف السنى المملوكى .خضوع الفقه السنى لدين التصوف السُّنّى المملوكى . أثر التصوف فى إفقار الحياة العقلية والفقهية . تأثر الفقه السنى بالتصوف .الفقه النظرى . الفقه الوعظى .  خضوع الفقهاءالسنيين لدين التصوف السُّنّى. اضطهاد ابن تيمية في العصر المملوكي )

 

 الفصل الخامس : صراع أديان المسلمين الأرضية فى الدولة العثمانية وتسيد دين التصوف السنى : ( الدولة العثمانية فى لمحة عامة . إختلاف الرأى فى الدولة العثمانية  . نشأة الدولة العثمانية وتطورها .تقرير تاريخى موجز فى توسع الدولة العثمانية.

الدولة العثمانية المحمدية و( المحمديون ) فى لمحة عامة . صراع الدولة العثمانية والدولة الشيعية الايرانية الصفوية . الطبيعة السياسية للحكم العثمانى.  

 ملامح دين التصوف السنى فى الدولة العثمانية

أثر الصراع الشيعى السنى فى إسقاط الدولة المملوكية وإحتلال العثمانيين مكانتها : ظهور اسماعيل الصفوى الصوفى الشيعى خطرا يهدد العثمانيين والمماليك

 تحالف الغورى المملوكى مع اسماعيل الصفوى الصوفى وأثر ذلك فى انهيار الدولة المملوكية .تآمر اسماعيل الصفوى على السلطان سليم العثمانى بعد وفاة الغورى

الخاتمة

العبرة من تلك العلاقة المعقدة بين تركيا العثمانية وإيران الصفوية ومصر المملوكية

  

 

 

المقدمة : 

هناك فارق بين المبدأ وتطبيقه ، فمن السهل أن تصدر الأوامر وتوضع الخطط والأفكار ، ولكن تطبيقها يخضع لظروف الزمان والمكان وأهواء الانسان.

يسرى هذا على النظريات والأفكار البشرية ، فالشيوعية مثلا اختلفت رؤاها الفكرية بين لينين وتروتسكى ، واختلفت تطبيقاتها مع الأصول الفكرية لما قاله ماركس ، ثم إختلفت تطبيقاتها فيما بين الصين والاتحاد السوفيتى ويوغوسلافيا ورومانيا .

الديمقراطية فكرتها واحدة ولكن تختلف تطبيقاتها فى دول أوربا وأمريكا. وحتى مصطلح العلمانية ومدى الفصل بين الدين والدولة لا يخلو من اختلاف نظرى وتطبيقى.

هذا على المستوى البشرى الفكرى والعملى التطبيقى. تراه أيضا فى الدين الالهى السماوى وفى الأديان البشرية الأرضية.

تراه فى المسيحية التى تتسم بالحب والتسامح والعفو والمغفرة ، ولكن تحت رايتها تمت الكشوف الجغرافية واسترقاق شعوب وابادة بعضها على يد الاسبان أكثر المسيحيين تمسكا بالمسيحية ، ثم سارت بقية شعوب أوربا المسيحية على نفس الطريق فى استعمار واستعباد وقهروسلب واستغلال  شعوب العالم .

ودفع الثمن فى العصور الحديثة معظم أمم العالم من الهنود الحمر فى أمريكا وشعوب آسيا فى  اندونيسيا والهند والصين والهند الصينية والشعوب المسلمة فى أواسط آسيا الى العرب والأفارقة.  كل العالم تقريبا قامت أوربا المسيحية باستغلاله وقهره خلال ثلاثة قرون انتهت بحربين عالميتين أزهقت حياة الملايين من البشر الأبرياء .هذا عن العصر الحديث ، اما ما سبقه من حروب صليبية وغير صليبية فهو أبشع.

 فى كل ذلك التاريخ الدموى لأوربا المسيحية لم يتهم أحد المسيحية بأنها دين الارهاب والابادة الجماعية ، ولم يجعلها احد مسئولة عما فعله المسيحيون الأوربيون. المسيحية لم تتحمل وزر الاستعمار الأوربى والمذابح الغربية بدءا من استعمال السيف والرمح فى العصر الرومانى الى استعمال القنبلة الذرية فى الحرب العالمية الثانية ،والأسلحة المحرمة دوليا فى فيتنام وما بعد فيتنام.

المسيحية الأوربية كان أساسها العدوان على الآخر وقهره بدءا من الرومان الى الأسبان ثم الأمريكان ثم الصرب والكروات فى عصرنا الحالى . وهذا التطبيق الأوربى للمسيحية يناقض  التطبيق المصرى لها ، فالمسيحية القبطية المصرية تقوم على الصبر على الظلم والاستكانة له دون اللجوء للثورة عليه إلا عندما يبلغ الظلم مداه.

إن التطبيق البشرى لمبادىء المسيحية والاسلام يتشكل تبعا لثقافة كل دولة أو مجتمع ، ولهذا ترى فى المسيحية الأوربية ملامح أوربا ، وترى فى المسيحية المصرية القبطية ملامح الثقافة المصرية الزراعية ، كما يختلف التدين المصرى بالاسلام عن التدين الصحراوى العنيف الذى تجده فى الجزيرة العربية وأفغانستان والجزائر ، كما تجد التدين الايرانى بالاسلام ترديدا للعقائد الفارسية القديمة تحت اسم التشيع.

أى إن ما حدث فى المسيحية من تطبيقات مختلفة حدث مثله مع الاسلام.

الفارق الوحيد هنا أنهم برءوا المسيحية من جرائم إرتكبتها الأكثرية من معتنقى المسيحية ،  وظلت ترتكبها منذ فجر المسيحية الى منتصف القرن العشرين ، من عصر الرومان الى وقت الصرب والأمريكان ، وفى نفس الوقت جعلوا الاسلام هو المسئول عن ارهاب ارتكبته تنظيمات  لا يمكن أن يصل عدد أفرادها بضع مئات الألوف ضمن تعداد للمسلمين يصل الى بليون ونصف البليون من البشر.

هذا الفكر الوهابى هو المسئول عن معظم الجرائم الارهابية ، وقد انتشر بنفوذ الدولة السعودية الراهنة ، ولا يزال يحتمى بسلطانها . هذا الارهاب الوهابى جاء ردا متأخرا على تاريخ لارهاب مستمر مارسه الاستعمار الأوربى المسيحى إمتد قرونا ، كما جاء أيضا نتيجة لاستغلال أمريكى له فى حربها ضد الشيوعية فى أفغانستان. أمريكا المسيحية هى التى تحالفت مع نشطاء هذا الدين الوهابى  واستغلتهم فى أفغانستان ضد نظامها الشيوعى ، ثم إنقلبوا عليها. اى هو استغلال سياسى لدين وهابى يناقض الاسلام جملة وتفصيلا . ومع ذلك فقد جعلوا الاسلام هو الذى يتحمل وزر ما فعله وما يفعله الارهابيون الوهابيون ومن يحركهم، حيث يطلق عليهم الغربيون و العلمانيون العرب اسم ( الاسلاميون).

لقد قضيت ثلاثين عاما من عمرى أرد على هذه المقولة الخاطئة منهجيا وعلميا . ولهذا فإن من دواعى سرورى ان أحاول تلخيص جهدى فى العقود الثلاثة الماضية فى هذا الكتاب، والذى يبدأ بفصل تمهيدى عن الاسلام ، أرجو أن يكون مدخلا مبسطا لفهم التناقض بين الاسلام وأديان المحمديين الأرضية ، خصوصا الدين  السنى الوهابى .

منهجنا البحثى

أولا :  

1 ـ كتبنا كثيرا فى توضيح التناقض بين الاسلام وكتابه ( القرآن ) والمحمديين وانعكاسات هذا التناقض فيما يخص حقوق الانسان والعلاقة بالآخر ..الخ .

2 ـ  إن شريعة القرآن قد سبقت عصرها فى تقرير الحرية والديمقراطية وحقوق المرأة وحقوق المواطنة وحقوق الانسان والتسامح ،فتناقضت مع الثقافة السائدة والمتحكمة فى العصور الوسطى فى الشرق المسلم والغرب المسيحى على السواء حيث سادت بينهما وفى داخلهما الحروب الدينية والمحاكمات الدينية والخرافات الدينية والدول الدينية والصراعات المذهبية. ولذا فقد كان حتما تغيير جوهر الاسلام ليتناسب مع ثقافة العصور الوسطى ، وحدث هذا بتحريف أو تأويل معانى القرآن الكريم واختراع وحى الاهى جديد تحت مسمى الأحاديث المنسوبة للنبى محمد أو لله تعالى أو للأئمة الشيعة أو الصوفية، وبهذا أقام المسلمون لهم بالتزوير أديانا أرضية تتماشى مع المألوف من ثقافة العصور الوسطى وكهنوتها حيث الاستبداد والفساد والاستعباد.

3 ـ  ولقد تحررت أوربا من ثقافة العصور الوسطى وسارت فى طريق الديمقراطية وحقوق الانسان ، وتأثرت بهذه النهضة الأوربية مصر فى مطلع القرن التاسع عشر فحاولت الاصلاح متبعة خطى الغرب ، ولكن برزت قبل ذلك الدعوة الوهابية التى أقامت الدولة السعودية الأولى فى منتصف القرن الثامن عشر فى صحراء نجد فى الجزيرة العربية.

ووقع الصدام بين مصر الناهضة وتلك الدولة الوهابية التى تريد إرجاع المسلمين الى ثقافة العصور الوسطى بالدم والتدمير والهدم . وأسفر الصراع عن إسقاط  مصر للدولة السعودية الأولى سنة 1818 .وسارت مصر فى طريق نهضتها العلمانية الاصلاحية إلا أن الظروف السياسية والدولية والاقليمية أعاد إقامة الدولة السعودية أخيرا سنة 1932 ، ثم ظهر فيها البترول وتحالفت مع أمريكا ، وبقوة البترول والدولار إنتشرت الوهابية على أنها الاسلام، ودفع الثمن ضحايا بالملايين ، منذ ظهور هذه الدعوة الوهابية الى الآن.ولكن الاسلام هو أكبر ضحية. وبسبب النفوذ السعودى الوهابى فإن أى مفكر مسلم يتصدى لمناقشة التناقض بين الاسلام والوهابيى مصيره الاضطهاد.

4 ــ والغريب أن القيم العليا للغرب الآن هى نفسها التى جاءت فى القرآن الكريم .

لقد قالها الامام المصلح محمد عبده حين زار أوربا وعاش فى فرنسا ، فوجد الحضارة الأوربية وقيمها العليا متفقة مع القيم العليا للاسلام ؛ تلك القيم التى أضاعها المسلمون فى تاريخهم وفى ثقافتهم وسلوكياتهم ، فقال محمد عبده كلمته المشهورة : وجدت اسلاما ولم أجد مسلمين. أى أن قيم الاسلام فى الغرب بينما ( المسلمون ) بعيدون عن جوهر الاسلام وقيمه العليا رغم أنهم من حيث الاسم ( مسلمون )، وهى نفس العبارة التى تجول بخاطرى وأنا أعيش لاجئا فى أمريكا متمتعا بحريتى فى الدين والمعتقد بعد اضطهاد دام ربع قرن فى مصر ( كنانة الاسلام ) وبين جنبات الأزهر الذى جعلوه (منارة للاسلام) ، وكان(الاخوان المسلمون) أبرز أعدائى  بسبب آرائى وجهدى فى اصلاح المسلمين سلميا بالاسلام . كل هذا الاضطهاد لى ولغيرى من المختلف معهم فى الفكر أو فى المذهب أو فى الدين يخالف الاسلام وقيمه العليا، وهو يتفق تماما مع دينهم الأرضى الحالى ، وهو الوهابية الحنبلية السنية.

5 ـ ومنهجيا وعلميا لا بد من التفرقة بين الاسلام وتلك الملة الوهابية التى أفرزت وتفرز معظم الارهاب الموجود على الساحة فى بلاد العرب والغرب على السواء.

يقوم منهج الكتاب على التعرف على الاسلام من خلال فهم للقرآن الكريم ، ثم بحث موضوعى لتاريخ المسلمين من عصر الخلفاء القرشيين الى عصر الخلفاء العثمانيين  فى الجزء الأول من الكتاب. ويتخصص الجزء الثانى فى نشأة وإنتشار الدين الوهابى الذى حمل إسم الاسلام زورا وبهتانا .

6 ــ وهناك منهج لفهم القرآن وهناك منهجا لفهم تراث وتاريخ ( المسلمين ) وتشريعاتهم ، ونعطى لمحة سريعة للتوضيح :

ثانيا :

هل القرآن الكريم "حمّال أوجه "

1 ـ المنهج السائد فى الدراسات الأصولية هو فهم القرآن من خلال مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه، وبسبب الاختلاف الشديد فى مصطلحات التراث ورواياته وفتاويه وأحاديثه فإن فهم أصحاب هذا المنهج للقرآن يقع فريسة للاختلاف والاضطراب، ومن هنا يبررون هذا الاختلاف بمقولة منسوبة كذباًَ للخليفة ( على بن أبى طالب )، وهى أن "القرآن حمَّال أوجه"، وعليه فالباحث الأصولى المتمسك بهذا المنهج ينتقى الرأى الذى يهواه سلفاً، وينتقى له الدلالة من التراث، وينتقى له ما يشاء من الآيات القرآنية يؤول معناها ويتجاهل سواها، وهو مطمئن لمقولة أن "القرآن حمَّال أوجه".

2 ـ ولكن هل القرآن فعلاً "حمَّال أوجه"؟ أى ترى فيه الرأى ونقيضه؟ وترى فيه الاختلاف فى الرأى الواحد؟  وبحيث تنتقى الرأى الذى تختار ويكون لمن يخالفك فى الرأى أن ينتقى هو الآخر من آيات القرآن ما يؤيد وجه نظره؟

3 ـ  هذه المقالة الخطيرة التى تخالف ما قاله رب العزة جل وعلا عن كتابه العزيز. لقد جاءت نصوص القرآن الكريم "محكمة " أى دقيقة الدلالة (هود 1). وهو كتاب لا مجال فيه للعوج بل جاء مستقيما مباشرا (الزمر 28).(الكهف 1)( الأنعام 126 ، 153 ).وهو كتاب لا مجال فيه للاختلاف  (النساء 82).

4 ـ ولكن إذا كان القرآن لا تتناقض آياته ولا تتصادم حقائقه وليس كما يقولون "حمَّال أوجه" فلماذا يتبارزون فى اختلافاتهم بالآيات؟ ولماذا ينتقى كل فريق ما يؤيد وجهة نظره فى مواجهة الفريق الآخر؟

والإجابة تكمن فى المنهج الذى يعتمدونه، وهو فهم القرآن حسب مصطلحات الدين الذى ينتمى اليه الباحث، فلكل دين مصطلحاته والتى تختلف مع مصطلحات الدين الأرضى الآخر، وبالتالى يختار أحدهم من الآيات ما يراه يتمشى مع دينه يقوم بتأويلها وقطعها عن سياقها القرآنى ، وبهذا يختلف بأدلّته القرآنية المزعومة عن الآخرين ، ويغطون عورة هذا الاختلاف بمقولة أن القرآن حمَّال أوجه ويستسهلون اتهام القرآن بهذه التهمة.

المنهج العلمى لفهم القرآن الكريم

1 ـ إذن، فما هو المنهج العلمى الذى نفهم به القرآن ونتأكد به من أن القرآن فعلاً لا مجال فيه للتناقض والاختلاف؟

2 ـ إن المنهج العلمى يفرض على الباحث ألا يبدأ بحثه بأحكام مسبقة، وإذا كان يبحث فى كتاب ما فإن عليه أن يلتزم بمصطلحات هذا الكتاب ومفاهيمه، لأن المفاهيم التى يعتمدها المؤلف فى كتابه تكون بمثابة عقد بين المؤلف والقارئ أو الباحث، فإذا التزم القارئ أو الباحث بتلك المفاهيم والمصطلحات التى يقوم على أساسها نسق الكتاب أمكن للقارئ أو الباحث بسهولة، أن يستوعب كل حقائق الكتاب المبحوث. وهذه هى أصول المنهج العلمى التى نراعيها فى بحث المصادر والكتب البشرية. وهى نفسها أصول المنهج العلمى التى يطالبنا رب العزة باتباعها فى تدبرنا للقرآن.

3 ـ إن الله جل وعلا يأمرنا فى القرآن بتدبر آياته (محمد 24) ( النساء 82) ( المؤمنون 68)والمنهج العلمى للتدبر يكمن فى بنية الكلمة نفسها. فالتدبر يعنى أن تكون فى دبر الآية، أو خلفها، أى أن تكون الآية القرآنية أمامك (بفتح الهمزة) وأن تكون إمامك (بكسر الهمزة) والمعنى أن تبدأ بآيات القرآن، وليس بفكرة مسبقة، وأن تتبع كل الآيات فى الموضوع المراد بحثه فى القرآن، و أن يخلو ذهنك تماماً من كل أحكام ومفاهيم أخرى خارج القرآن، طالما تريد أن تتعرف على الرأى القرآنى المجرد ومخلصاً. وحينئذ ستجد أمامك كل الآيات المحكمة والآيات المتشابهة تقول نفس الرأى وتؤكد نفس الحقيقة، غاية ما هناك أن الآيات المحكمة تؤكدها بإيجاز وصرامة، أما الآيات المتشابهة فهى تعطى تفصيلات تؤكد عليه الآيات المحكمة. وفى النهاية تجد كل الآيات المحكمة والمتشابهة تؤكد نفس المعنى وتؤكد لك أيضاً أن القرآن الكريم كتاب أحكم الله تعالى آياته بعد أن فصلها على علم وحكمة. ( الأعراف 52 ) سبحانه جل وعلا.

4 ـ وعليه، فإن اتبع الباحث المنهج التراثى فى فهم القرآن فسيقع فى الانتقاء والابتعاد عن حقائق القرآن، والتناقض مع القرآن ومع المنهج العلمى أيضاً. ولن يضيف إلا المزيد من الشقاق والاختلاف الذى عرفته المذاهب والفرق "الإسلامية".أما إذا اتبع المنهج العلمى القرآنى وقام بفهم القرآن من خلال القرآن نفسه، واتجه لكتاب الله تعالى طالباً الحق والهداية دون رأى مسبق وبتصميم على أن يعرف الحقيقة مهما خالفت الشائع بين الناس، فإن من اليسير عليه أن يعرف رأى القرآن، وسيفاجأ بأن مفاهيم القرآن ومصطلحاته تخالف بل وتتناقض أحياناً مع مفاهيم التراث ومصطلحاته، وأنه من الظلم للقرآن والمنهج العلمى أيضاً أن تقرأ القرآن وتفهمه بمفاهيم ومصطلحات تخالف وتناقض مفاهيم القرآن ومصطلحاته. وقد إتبعت هذا المنهج العلمى والموضوعى خلال ثلاثين عاما فى البحث القرآنى والتراثى فى الاسلاميات .

ونعطى نماذج سريعة للاختلاف والتناقض بين مفاهيم القرآن ومفاهيم التراث :

1 ـ الدين فى مفهوم القرآن يعنى الطريق، والسبيل، والصراط، والطريق قد يكون مستقيماً وقد يكون معوجاً. وقد يكون الدين أو الطريق معنوياً، أى العلاقة بالله تعالى. وقد يكون الدين أو الطريق حسياً مادياً كقوله تعالى عن أهل المدينة فى عصر النبى يعلمهم فنّ القتال ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة 122) فالآية تتحدث عن النفرة للقتال، وضرورة إرسال فرقة استطلاع تتعرف على الدين أو الطريق ثم تنذر الناس وتحذرهم. ومن الخبل أن نفهمها على أن يترك المؤمنون رسول الله عليه السلام فى المدينة ثم يذهبوا للتعليم خارج المدينة، وهى موطن العلم بالإسلام، وغيرها مواطن الشرك فى ذلك الوقت. ولكن مصطلحات التراث جعلت التفقه قصراً على العلم بالشرع، مع أن مفهوم التفقه فى القرآن يعنى العلم والبحث العقلى والمادى فى كل شىء.

2- والسنة فى اللغة العربية تعنى الشرع، تقول "سن قانوناً" أى شرع قانوناً. وفى القرآن تأتى فى التشريع بمعنى الشرع حتى فيما يخص النبى (الأحزاب 38) وتكون حينئذ منسوبة لله تعالى، أما النبى فهو صاحب القدوة والأسوة (الأحزاب 21) فالسّنة لله تعالى، ولنا فى النبى أسوة حسنة، وتأتى السّنة منسوبة لله تعالى أيضاً فيما يخص تعامله جل وعلا مع المشركين، وتكون هنا بمعنى المنهاج والطريقة (الأحزاب 62، فاطر 43، الفتح 23) ولكن السنة فى التراث تعنى شيئاً دينا مختلفاً عن الاسلام سياسياً ومذهباً فقهياً. والحديث فيها يطول.

3 ـ و"الصحابة" فى التراث هم أصحاب النبى وأصدقاؤه ممن أسلموا. ولكن فى مفهوم القرآن فالصاحب هو الذى يصحب فى الزمان والمكان، وذلك تكرر فى القرآن وصف النبى عليه السلام بأنه صاحب المشركين (النجم 2، سبأ 46، التكوير 22).

4 ـ والنسخ فى القرآن يعنى الإثبات والكتابة والتدوين، ويعنى فى التراث العكس تماماً، أى الإلغاء.

5 ـ ومفهوم الحكم فى القرآن يعنى التحاكم القضائى، وليس مقصوداً به على الإطلاق ما يتردد فى التراث من أنه الحكم السياسى أو الحاكمية.

6 ـ وكذلك الحال مع "أولوا الأمر"، فالمقصود بهم فى القرآن هم أصحاب الشأن وأصحاب الخبرة والاختصاص فى الموضوع المطروح (النساء 59، 83) وليس المقصود هم الحكام كما يتردد فى التراث.

7 ـ و"الحدود" فى القرآن تعنى الشرع والحق، ولا تعنى العقوبات.

8 ـ "المكروه" فى مفهوم القرآن هو أفظع المحرمات وأكبر الكبائر كالقتل والزنا والكفر والفسوق (الإسراء 38، الحجرات 7) ولكن المكروه فى الفقه التراثى هو الحلال الذى يفضل الابتعاد عنه.

9 ـ وكذلك المستحب أو المندوب فى التراث يعنى الحلال المباح، ولكن المستحب فى مفهوم القرآن هو الفرض الواجب (الحجرات 7).

10 ـ والتعزير عند الفقهاء هو الإهانة والعقوبة، ولكن التعزير فى القرآن يعنى التكريم والتمجيد والتقديس والإعزاز والنصرة لله تعالى ورسوله (المائدة 12، الأعراف 157، الفتح 9).

والأمثلة كثيرة أهمها على الاطلاق تناقض القرآن مع الدين السنى  ـ مثلا ــ فى مفاهيم الاسلام والايمان والشرك والكفر وما يخص المسيحيين واليهود والمرأة والشورى وحقوق الانسان الخ.... وتعرضنا لها فى أبحاث تفصيلات الكتاب ضمن مظاهرأخرى فى تحريف وتشويه معانى القرآن ، مثل تجاهل مناهج القرآن الكريم فى القصص وفى التشريع ، وتأسيس تشريعات أرضية مناقضة تعتمد على وحى كاذب منسوب لله تعالى وللرسول محمد تحت إسم الحديث النبوى والحديث القدسى والسنة النبوية، وكلها أساس الدين الوهابى الذى أفرز أسامة بن لادن والظواهرى وعمر عبد الرحمن والزرقاوى وغيرهم..

 

المشكلة المنهجية فى بحث التراث

 

1 ـ أهم مشكلة منهجية فى الدراسات ( الاسلامية ) هى التعامل مع المصادر.

أغلبية الباحثين يخلط بين الحقائق القرآنية المطلقة وبين روايات التراث وأحاديثه التى كانت تسميتها الأصلية : أخبار وروايات.

هذه التسمية هى فصل الخطاب فى موضوعنا.

فى عصر الازدهار العلمى لحضارة المسلمين كان علماء الحديث يطلقون على تلك الأحاديث المنسوبة للنبى محمد مصطلح ( الخبر) والخبر عندهم هو الذى يحتمل الصدق والكذب، ولأن الأصل فيه الشك وليس اليقين فقد كانوا يجعلون له اسنادا عبر أجيال من الرواة ليحاول أن يؤكد صحته، فيقولون : رواه فلان عن فلان عن فلان ..الى أن يقول الراوى الأخير أنه سمع  النبى محمدا يقول كذا.. وهذا الاسناد لا يعطى ذلك الحديث صفة اليقين لأن هناك مطاعن ضد الرواة واختلافات فى مدى صدقيتهم وحفظهم وأمانتهم فى النقل. ولا يوجد اتفاق عام بين علماء الحديث المنسوب للنبى على أن هذا الراوى صادق ثقة أو كاذب ، لأنها أحكام تتعلق بالظاهر والرؤى الشخصية والاعتبارات المذهبية ، فعلماء كل مذهب يصدقون رواتهم ويتهمون رواة المذاهب الأخرى بالكذب . وبسبب تللك الأحكام المتناقضة فى توثيق راو معين أو فى تكذيبه كان علماء الحديث يقولون ان تلك الأحاديث تفيد الظنّ ولا تفيد اليقين. أى مجرد أخبار تحتمل الصدق والكذب ، وبالتالى ليست جزءا من الدين لأن الدين لا بد أن يكون يقينيا من عند الله تعالى ، وهذا اليقين لا يتأتى الا فى القرآن فقط . وقد قالوا ايضا ان العقائد أوالسمعيات  لا تؤخذ الا من القرآن لأنها تدخل ضمن الايمان ولا بد للايمان أن يكون مصدره يقينيا.

وفى عصر الازدهار الفكرى بعد موت النبى محمد بقرنين وأكثر ـ اى فى العصر العباسى  الأول ـ عاش أئمة الحديث والفقه. لم يكونوا يقولون مباشرة ( قال رسول الله ) وانما يقولون ( روى فلان عن فلان عن ..  ان رسول الله قال .. ) أى يؤكدون انها رواية بشرية وليست قولا مباشرا مؤكدا قاله النبى بنفسه لمن كتب ذلك الحديث. وبعضهم كان يختصر فيقول بطريقة المبنى للمجهول  ( روى أن رسول الله قال ..) هو يؤكد نفس المعنى من أنها مجرد رواية متناقلة عبر رواة متعددين مختلفين فى الزمان والمكان.

 وفى عصر التقليد والجمود بدءا من القرن السابع الهجرى عكف اللاحقون على كتب السابقين يشرحونها ويلخصون الشرح ويجعلونه مختصرا موجزا ثم يحولون المختصر الى متن ثم يعيدون شرح المتن. وبذلك تقهقرت الحركة العلمية من تقليد الى جمود الى تأخر ، وذلك من بداية العصر المملوكى الى أواخرالعصر العثمانى تقريبا ( 1250 ـ 1850 ) وبالتالى تحولت كتب العلماء السابقين الى أسفار مقدسة ـ مع اختلافها والشقاق بين مؤلفيها ـ وتحول أولئك الأئمة الى أنصاف آلهة لا يجوز الاعتراض عليهم أو مناقشة آرائهم. والأهم من ذلك أن روايات الأخبار عن النبى أصبحت بالتقليد الأعمى وغيبة العقل والنقد جزءا أساسا من الدين . وأصبح لا يقال ( روى فلان عن فلان عن أن رسول الله قال ) بل يقال على وجه التأكيد ومباشرة ( قال رسول الله ).

ثم جاء عصر الصحوة التى بدأها الامام محمد عبده ( 1849 ـ 1905 ) وحملها فى رحلاته الى تونس والجزائر وغيرها ، واقترنت هذه الصحوة الدينية بتوجهات سياسية وفكرية ليبرالية فى مصر وغيرها ، وكان مأمولا أن تثمر هذه الحركة نهضة اصلاحية تعيد الاسلام الى المسلمين وتعيد المسلمين الى الاسلام لولا ظهور الدولة السعودية بفكرها الوهابى الذى استرجع أردأ انواع الفكر السلفى وأشده تعصبا وتخلفا وجمودا وظلامية. وقام قطار النفط بنشر الوهابية على أنها الاسلام ، وأيدته ظروف محلية واقليمية ودولية فانتشر وساد ، واسفر فى النهاية عن اتهام الاسلام بالارهاب والتخلف والجمود. وهذا ما نعانيه الآن وما يستوجب الاصلاح.

ومن ملامح هذا التخلف الوهابى المسيطر أنه أعاد منهج العصر العثمانى فى التفكير، وهو العصر الذى عاش فيه محمد بن عبد الوهاب، فلم يعد يقال : روى فلان عن فلان عن   أن رسول الله قال ، بل أصبح أحدهم يقول بجرأة : قال رسول الله، كما لو كان جالسا مع النبى للتو واللحظة .. ولم يعد يقال انها " اخبار " أو انه (خبر ) عن النبى يحتمل الصدق والكذب  ، بل أصبح يعرف بأنه حديث تحدث به النبى على وجه اليقين فأصبح جزءا من الدين.

تلك الأحاديث ليست جزءا من الاسلام، فالاسلام هو القرآن فقط.

تلك الأحاديث تعبر فقط عن ثقافة المسلمين فى العصر الذى تمت كتابتها فيه، وتعبر عن ثقافة مؤلفها ، فصحيح البخارى يعبر عن عقلية البخارى بمثل ما يعبر كتابى هذا عن ثقافتى وعصرى وعقليتى. وفى النهاية فهو جهد بشرى وتراث بشرى وتاريخ بشرى ودين صنعه البشر ونسبوه كذبا لله تعالى  وليس جزءا من الدين السماوى بل هو يناقض الدين السماوى الذى إكتمل بالقرآن الكريم

2 ـ بناء على هذه البلوى فاننا نعانى من خلط مستمر فى المنهج بين حقائق القرآن وأقاويل التراث المنسوبة للنبى. فالعلماء التقليديون ومن سار على نهجهم من محترفى الكتابة فى الدين ـ بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير ـ يخلطون بين حقائق القرآن وأكاذيب التراث وأقاويله، يخلطون بين الحقيقة القرآنية المطلقة وأخبار التراث التى ـ ان صدقت ـ فالصدق فيها احتمال كما أن الكذب فيها احتمال آخر ، وكلاهما وارد.

والأسوأ  أنهم ألحقوا التاريخ بالأحاديث، مع أن كل دارس للتاريخ لا بد ان يبدأ بمنهجية الأحكام النسبية لكل روايات التاريخ ووقائعه، سواء كانت اقوالا أو كانت أحداثا بسيطة أو مركبة ، وسواء كان الراوى أو المؤرخ معاصرا للحدث ناقلا عنه من واقع المشاهدة والرؤية العيانية أو كان ناقلا عن السابقين من المؤرخين .

تتضح البلوى أكثر لدى من يكتب فى الاسلاميات بدون علم ، أو بمجرد الهواية والجرأة الهائلة على الابحار فى هذا المحيط دون استعداد عقلى وثقافة ومعرفة وعلم بالمناهج البحثية.  وأساس الجهل عندهم هو ذلك الخلط بين حقائق القرآن المطلقة وأخبار التراث ، ورفعهم أخبار التراث الى مستوى حقائق الاسلام القرآنية.

3 ـ  لنا أن نأخذ من هذا التراث البشرى والتاريخ البشرى ما يعبر عن عقلية أصحابه وظروف عصرهم.

وهذا الأخذ والرد والقبول والرفض ليس عشوائيا أو انتقائيا أو بمجرد الهوى او بدافع التحامل أو الجهل . بل له منهج علمى فى البحث، وقد شرحته بالتفصيل فى كتبى التى كانت مقررة فى جامعة الأزهر قسم التاريخ والحضارة الاسلامية ، ومنها كتب :( البحث فى مصادر التاريخ الدينى) ( اسس البحث التاريخى ) ، و(التاريخ والمؤرخون : دراسة فى تاريخ علم التاريخ) ( والتاريخ والمؤرخون : دراسة فى المادة التاريخية ).

هناك منهج يستطيع به الباحث قبول رواية تاريخية ورفض أخرى ، يستطيع به فحص الروايات اذا كانت متشابهة أو متعارضة أو متداخلة، ومنهج يستطيع به فحص الرواة والمؤرخين ومدى صدقية أحدهم اذا كان ناقلا عن الغير أو ناقلا بنفسه عن عصره .. والحديث يطول فى منهجية البحث التاريخى وطبيعة المادة التاريخية ومناهج المؤرخين السابقين ومصطلحاتهم.. وفى النهاية فان صدقية الباحث التاريخى والتراثى ترتبط بمدى كفاءته العلمية ومدى حياده ونزاهته وأمانته فى النقل والنقد . وفى النهاية أيضا فان ما يتوصل اليه الباحث من بحثه التاريخى ( فى تلك الأخبار التراثية والتاريخية التى تحتمل الصدق والكذب ) ليس سوى وجهة نظر شخصية ، وليس أبدا حقائق مطلقة، لأن الحقائق المطلقة لا توجد الا فى القرآن الحكيم وحده. ما نستنبطه من القرآن الكريم وما نختاره من ( اخبار ) التراث والتاريخ هو عمل بشرى غير معصوم من الخطأ ، تكون جودته بقدر ما فيه من جهد عقلى وابداع بحثى واستدلال علمى .و لأنه عمل بشرى فانه يحمل اسم المؤلف، سواء كان المؤلف هو البخارى ( الامام المقدس للسنيين ) او أى فلان من الناس.

أما القرآن العظيم فليس له مؤلف من الناس .أنه كتاب رب العالمين جل وعلا ، لذا فلا يصح مساواته بكتب البشر.

والله تعالى المستعان..

د: أحمد صبحى منصور

فرجينيا ـ الولايات المتحدة الأمريكية

يولية 2006

 

 

 

 

 

 

فصل تمهيدى :

ماهية الاسلام وتاريخه وتطبيقه فى عهد النبى محمد عليه السلام

 

ماهية الاسلام

 

مفهوم الاسلام والايمان.

أ ـ ان الايمان في اللغة العربية وفي مصطلحات القرآن له استعمالان :

"آمن بـ"أي اعتقد في ، و"آمن لـ"أي وثق و اطمئن:

1ـ آمن ب" أي اعتقد ،مثل قوله تعالي (آمن الرسول بما انزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله( 2 /285) وآمن بـ بمعني اعتقد بالإيمان القلبي الباطني.

 وفي العقيدة أو التعامل مع الله تعالي  يختلف الناس حتي في داخل المذهب الواحد والدين الواحد.  والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

2- :( آمن لـ)  هو الاستعمال الاخر فى التعامل مع الناس ، أي وثق واطمأن واصبح مأمون الجانب يطمئن له الناس ويثقون فيه ،وتكرر هذا المعني في القرآن خصوصا في القصص القرآني ،ففي قصة نوح قال له المستكبرون (انؤمن لك واتبعك الارذلون ) (ا26 / 111)أي كيف نثق فيك ونطمئن لك وقد اتبعك الرعاع، وتكرر ذلك المعني عن (آمن لـ )في قصة ابراهيم (29 / 26)وقصة يوسف (1712 /)وقصة موسي (44 / 21) (23 / 47)وفي حديث القرآن عن احوال النبي محمد في المدينة ( 3 /73 )(  2 / 75 )ومواضع اخرى كثيرة .

والايمان بمعني الأمن والامان والثقة والاطمئان هو بالطبع حسب السلوك أو التعامل مع الظاهر ،فكل من تأمنه وتثق فيه ويكون مأمون الجانب هو انسان مؤمن في مصطلحات القرآن ،اما عقيدته ـ ان كانت بوذية  او مسيحية او يهودية او اسلامية ـ  فهذا شـأنه الخاص بعلاقته مع ربه .والله تعالي هو الذي سيحكم عليك وعليه وعلي الجميع يوم القيامة .

والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

(3)  وقد جاء الاستعمالان معا لكلمة الايمان  في قوله تعالي عن النبي محمد (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين :9 / 61)أي يؤمن بالله اى يعتقد فيه وحده الاها ،ويؤمن للمؤمنين أي يثق فيهم ويطمئن لهم .

والخلاصة ان الايمان في القرآن الكريم هو الامن في السلوك البشرى وفى التعامل مع الناس ،وكل انسان يامنه الناس ويثقون فيه يكون مؤمنا .ومعناه  العقيدى أى في التعامل مع الله تعالي  هو الايمان به وحده الاها لا شريك له  , هو وحده الشفيع والولى والنصير والوكيل والمستحق وحده بالعبادة والتقديس ،والحكم علي هذا الاعتقاد الذي يختلف فيه الناس- مرجعه لله تعالي وحده يوم القيامة -والمهم ان يتعامل الناس فيما بينهم بالثقة والامن والامان والسلام ..أي ان الايمان في الاسلام هو قرين السلام  في التعامل مع الناس .

ب- مفهوم الاسلام يشبه مفهوم الايمان في القرآن .

الاسلام هو السلام بالمعني السلوكى أو الظاهري في التعامل مع الناس.

والاسلام هو الاستسلام لله تعالى بطاعة أوامره بالمعني الاعتقادي في التعامل مع الله تعالى .

1-الاسلام في معناه القلبي الاعتقادي هو التسليم والانقياد لله تعالي وحده . والاسلام بهذ المعني نزل في كل الرسالات السماوية علي جميع الانبياء وبكل اللغات القديمة ،الي ان نزل اخيرا باللغة العربية ،وصار ينطق بكلمة "الاسلام"التي تعني الاعتقاد والتسليم والانقياد والطاعة المطلقة لله تعالى وحده (الانعام 161:163) فالاسلام في الاعتقاد هو الخضوع لله تعالي بكل اللغات وفي كل زمان ومكان وفي كل الرسالات السماوية , الا انه عندنا وللاسف قد تحول الى وصف باللغة العربية لقوم معينين في عصور معينة .

وليس لأحد من البشر ان يحكم علي انسان بشأن عقيدته ،والا كان مدعيا للالوهية.

والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

هذا هو معني الاسلام الباطني القلبي الاعتقادي ، هو فى التعامل مع اللة تعالي استسلام وخضوع له بلغة القلوب ،وهي لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعا، وعلي اساسها سيكون حسابهم جميعا امام الله تعالي يوم القيامة.

(2) اما الاسلام في التعامل الظاهري فهو السلم والسلام بين البشر مهما اختلفت عقائدهم يقول تعالي (يا ايها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة )البقرة 208 .أي يأمرهم الله تعالي بايثار السلم .

 ونتذكر هنا تحية الاسلام الا وهي السلام وان السلام من اسماء الله تعالي، كل ذلك مما يعبر عن تأكيد الاسلام علي وجهه السلمي ويؤكد المعني السابق للايمان بمعني الامن والامان .

(3) والانسان الذي يحقق الايمان السلوكى في تعامله مع الناس فيكون مأمون الجانب لا يعتدي علي احد ويحقق الايمان العقيدى في تعامله مع الله تعالى فلا يؤمن في قلبه الا بالله تعالي وحده الاها، هذا الانسان سيكون مستحقا للامن عند الله يوم القيامة .

ونفس الحال فى الانسان الذي يحقق الاسلام السلوكى في تعامله مع الناس فيكون مسالما لا يعتدي علي احد ،ويحقق الاسلام العقيدى في تعامله مع الله تعالى فيسلم قلبه وجوارحه لله تعالي وحده ،هذا الانسان يكون مستحقا للسلام عند الله تعالي يوم القيامة ،وفي ذلك يقرر الله تعالى إن المؤمنين الذين لا يظلمون أحدا من الناس جزاؤهم الأمن  (6 / 82)أي ان الذين آمنوا  بالله في عقيدتهم وآمن الناس لهم واطمئنوا اليهم لأنهم لم يظلموا احدا ،لهم الامن في الاخرة لأن الجزاء من جنس العمل .

لذلك فان الله تعالي يعدهم بالسلام و الامن فى الجنة (15 / 46) والجنة هى دار السلام  (6 / 127) والسلام هو تحية أهل الجنة ( 13 / 24 ) ( 10 /10 ) ( 36 / 58 ) وحين يكون الناس فى فزع يوم القيامة فإن المؤمنين فقط سيتمتعون بالأمن  ( 21 / 103 ) ( 27 / 89 ، 87 )

أي ان السلام والامان في التعامل مع البشر +الاستسلام لله والايمان بالله وحده وطاعته وحده =السلام والامان في الجنة . وفى المقابل فإن الاعتداء والظلم لله تعالي والناس = الجحيم.

 

مفهوم الكفر والشرك فى القرآن الكريم

1 ـ الكفر و الشرك سواء, هما قرينان فى مصطلح القرآن لذلك يأتيان مترادفين فى النسق القرآنى. ( 9 / 1 ، 2 ، 17 ) ( 40 /42 )

2 ـ  الكفر فى الغة العربية يعنى التغطية, أى كفر بمعنى غطى , ومثلها أيضا " غفر" ومنه المغفر الذى يغطى الوجه فى الحرب. وكلمة "كفر" أى غطى انتقلت الى لغات أخرى منها الأنجليزية : [Cover]. الا ان الله تعالى وصف المزارعين بالكفار, فالزارع كان يطلق عليه فى اللغة العربية "كافر" لأنه " يكفر الزرع " اى يغطيه بالتراب والماء لينمو. وجاء هذا المعنى فى القرآن الكريم ( 57 / 20 ).

لقد خلق الله تعالى البشر بفطرة نقية لا تعرف تقديسا الا لله تعالى ولا تعرف غيره جل وعلا ربا والاها و معبودا ووليا وشفيعا ونصيرا ( 30 / 30 ). ثم تأتى البيئة الأجتماعية وموروثاتها الدينية فتغطى تلك الفطرة النقية بالاعتقاد فى آلهة وأولياء و شفعاء ينسبونهم الى الله تعالى زورا , ويزعمون أنها  تقربهم الى الله تعالي زلفا أو أنها واسطة تشفع لديه. ذلك الغطاء او تلك التغطية هى الكفر بالمعنى الدينى . و فى نفس الوقت فان ذلك هو أيضا شرك لأنه حول الألوهية الى شركة وجعل لله تعالى شركاء فى ملكه ودينه.

وفى الواقع فان فى داخل الكفر والشرك بعض الأيمان حيث يؤِِِمنون بالله ايمانا ناقصا اذ يجعلون معه شركاء فى التقديس , أو يأخذون من مساحة التقديس  ـ التى ينبغى أن تكون لله تعالى خالصة ـ ويعطونها لمن لا يستحقها من البشر و الحجر. وبهذا يجتمع  ذلك الايمان ـ الناقص ـ بالله تعالى مع الايمان بغيره أي بتأليه البشر و الحجر , ووصف الله تعالى أن أكثرية البشر لا تؤمن بالله إلا أذا آمنت معه بغيره ، وهذا هو حال المشركين ، ( 12 / 106 )

أى أن الشرك يعنى وجود إيمان بالله لكنه إيمان ناقص حيث يؤمن بالله تعالى ويؤمن أيضا بوجود آلهة أخرى معه. وهذا الايمان الناقص فى عقيدة الشرك سيؤدى بأصحابه الى النار يوم القيامة ، وسيقال لهم وقتها أنهم كانوا إذا قيل لهم فى الدنيا آمنوا بالله وحده رفضوا ولم يؤمنوا بالله إلا إذا جعلوا معه شريكا وحولوا الالوهية الى شركة بين الله تعالى وغيره ( 40 / 12 )

والله تعالى لا يأبه بذلك الايمان القليل لأنه " كفر" أى غطى الفطرة بتقديس غير الله . والفطرة كما جاء فى القرآن الكريم تجعل الالوهية لله وحده . وقد لعن الله تعالى الكافرين بسبب إيمانهم القليل بالله ( 4 /  46.) وأكد أن أيمان الكافرين القليل لن ينفعهم يوم القيامة ( 32  /29 ).

وبعضهم يرى أن الكفر هو الالحاد أى الانكار التام لوجود الخالق جل و علا , وان الشرك هو الاعتقاد فى آلهة واولياء مع الله, فالشرك عندهم يختلف عن الكفر .

و نقول بالاضافة لما سبق ان الله تعالى ذكر فرعون نموذجا لاكثر البشر كفرا والحادا؛ بلغ به الحاده الى ادعاء واعلان الربوبية العليا، ووصل به تحديه لله تعالى أن يتساءل ساخرا عن الله تعالى منكرا وجوده لأنه ما علم الاها للمصريين سواه ـ يقصد نفسه.( 79/  :23   :  24) ( 28 /38) (40 / 36 ـ37).

هذا الملحد الأكبر كان فى داخله يؤمن بآلهته الفرعونية , بل و يؤِِمن بأن لله تعالى ملائكة  (43/  53) (7 / 127)" ولكنه انخدع بالملك والسلطان والتراث الدينى الذى يزكى طغيانه والكهنة والجند يؤازرونه فازداد طغيانا وتحدى رب العزة جل وعلا. وحين زال عنه سلطانه وجنده وكهنته وكهنوته و أدركه الغرق انكشف غطاء الوهم ورجع سريعا الى فطرته التى غطتها موروثات الشرك ,واعلن اسلامه فى الوقت الضائع حيث لا يجدى الندم ولا التوبة( 10 /  90 ـ ) و أصبح مثلا فى القرآن الكريم لكل مستبد يصل به استبداده الى الالحاد والتأله. ومع ذلك قل من يعتبر من أغلبية المسلمين من الراعى والرعية والرعاع.

ان اعتى الملحدين فى عصرنا لا يستطيع الغاء الفطرة فى داخله, ومهما اعلن انكاره لله جل وعلا فانه عندما يتعرض للمرض أو الغرق أو المصائب يرجع ذليلا لربه جل و علا.  وقد يعود الى عتوه بعد زوال المحنة ( 10 / 22 ـ 9) ( 39 / 8 ، 49 ) ( 17 / 67 ـ ) . و قد يظل في غيه الى لحظة الاحتضار . وهنا يصبح اسيرا بين يدى خالقه يصرخ حيث لا يسمعه البشر من حوله وحيث لا ينفع الندم ولا تجدى التوبة. وحديث القرآن عن هذا الغيب وغيره يطول ـ وما أروعه ـ ولكن ليس هنا محله.

3 ـ وفى كل الأحوال فان الشرك والكفر يعنيان معا الظلم والاعتداء.

وقد وصف الله تعالى الشرك بالله بأنه ظلم عظيم (13  /  31) فأعظم الظلم أن تظلم الخالق جل وعلا وتتخذ الاها معه ، وهو خالقك ورازقك .  وهذا طبعا فى العقيدة والتعامل مع الله.

أما فى التعامل مع البشر فإذا تطرف أحدهم فى ظلم الناس بالقتل والقهر والاستبداد ومصادرة الحقوق الأساسية للانسان فى المعتقد والفكر ، أصبح هذا الظالم مشركا كافرا بسلوكه،وتصرفه وتعامله الظالم مع الناس ، ولا شأن لنا بما فى قلبه أو بعقيدته التى يتمسح بها أو يعلنها. نحن هنا نحكم فقط على جرائمه الظاهرة من قتل للابرياء واعتداء على الآمنين وقهر للمظلومين . أما عقيدته وعقائدنا فمرجع الحكم فيها فالى الله تعالى يوم القيامة.

والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (2/ 113)(3/ 55) (10/ 93،) (16 / 124) (5/ 48 ) (39/ 3،7،46).

4 ـ وعليه فكما للاسلام والايمان معنيان (الايمان بالله وحده الاها والانقياد والاستسلام لله وحده)  حسب العقيدة القلبية فىالتعامل مع الله، و( الأمن والثقة والسلام )فى التعامل مع كل الناس ، فان النقيض لهما وهما الشرك والكفر يعنيان معا الظلم والاعتداء. الظلم لله تعالى والاعتداء على ذاته بالاعتقاد فى آلهة أخرى معه ، وتقديس غيره ( فيما يخص العقيدة ) والظلم والاعتداء على البشر بالقتل للابرياء وسلب حقوقهم وقهرهم.

وبينما يكون لله تعالى وحده الحكم على اختلافات البشر فى أمور العقيدة ـ من اعتقاد فيه وحده أوبالعكس مثل إتخاذ أولياء وآلهة معه أو نسبة الابن والزوجة له ـ  فإنه يظل من حق البشر الحكم على سلوكيات الأفراد وتصرفاتهم ، إن خيرا وإن شرا. إن كانت سلاما وأمنا فهو مؤمن مسلم ، وإن كانت ظلما وبغيا فهو مشرك كافر بسلوكه فقط. هنا يكون سهلا تحديدنا  المسلم بأنه الذى سلم الناس من أذاه ، والمشرك الكافر هو المجرم الارهابى والمستبد الظالم الذى يقهر شعبه ، او الطاغية ، من الطغيان ، وهو أفظع الظلم ، والبغى وهو الظلم الذى يجاوز الحد ويعتدى على الآخرين ظلما وعدوانا.

 5 ـ لقد ارتبط الكفر والشرك فى القرآن الكريم بوصف الظلم. وتكرر وصف الظلم فى القرآن الكريم نحو مأتى مرة ، منها على سيبيل المثال:

(2:254) (31:13) (2: 165) (4: 75 & 168) (6: 45) (10:13 &52) (11: 37& 67& &94& 102 & 116) (14: 44 & 45) (21:13) (29: 49);

كما ربط الله تعالى بين الكفر والشرك ومصطلح الاعتداء فى مواضع كثيرة ، منها :(9:10) (50: 25) (68: 12) (83: 12)

4:154) (7:163) (2:229) (4: 14) (65:1) (5: 94& 87) (23: 7)).

وقد حرّم الله تعالى البغى ( 7 / 33 ) ( 16 / 90 ) ووصف كبار المشركين بالبغى والطغيان ( 28 / 76 ) ( 20 / 24 ) ( 53 / 52 ).

6 ـ الطاغوت أعتى الكفر والشرك والظلم

يمكن للقارىء أن يتأكد من هذا إذا راجع كلمة الطاغوت وسياقها القرآنى فى ( 2 / 256 ـ ) ( 4 / 51 ، 60 ، 76 ) ( 5 / 60 ) ( 16 / 36 ) ( 39 / 17 ).

هناك مجرم عادى يقتل الأبرياء كل يوم دون مبرر دينى، وهناك مستبد علمانى يقهر شعبه تحت شعار  الوطنية أو القومية دون أن يتمسح بالدين أو أن يحمل إسم الله تعالى. هذا القاتل الظالم وذلك المستبد العلمانى يوصفان بالكفر والشرك حسب إجرامهما السلوكى.

ولكن بعضهم يبرر ويسوغ ظلمه للبشر واعتداءه عليهم بتفسيرات دينية وأقاويل ينسبها لله تعالى ورسوله ، ويجعل ذلك سفك الدماء وغزو المسالمين جهادا وفريضة دينية ، كما فعل المسلمون فيما يسمى بالفتوحات الاسلامية  وكما يفعل حاليا الارهابيون الذين يزعمون أن إجرامهم الارهابى جهادا . هنا يكون ظلمهم لله تعالى وللناس مضاعفا. هنا يمتد طغيانهم ليشمل الله تعالى ودينه ووحيه و الناس أيضا. هذه الحالة من الطغيان المركب والمضاعف يسميه القرآن الكريم : ( الطاغوت ) اى الافك والتزييف المسىء المنسوب ظلما وعدوانا لله تعالى والذى يتمسح بدينه بالكذب والبهتان.

وفى مصطلح القرآن فإن الطاغوت هو إمام المشركين الظالمين وهو الذى اليه يرجعون وبه يتمسكون. وإذا تدبرنا السياق القرآنى الذى وردت فيه كلمة الطاغوت فى القرآن وجدناها تنطبق فى عصرنا على ما يسمى بالأحاديث المنسوبة للنبى محمد ، والتى تعرف بالسنة النبوية ،وعلى الفقه والفتاوى التى تجعل القتل جهادا والتى تقنع الشباب بالانتحار ليقتل المدنيين عشوائيا. هذا هو  التشريع الدينى الذى يحول أبشع الظلم الى عبادة ، ويجعل القتل العشوائى للمدنيين والأطفال والنساء والشيوخ جهادا أمر الله تعالى به. لا يوجد طغيان وبغى أفظع من هذا. ولأنه أفظع ظلم يقع على الله تعالى ودينه ورسوله وكتابه فقد إستعمل القرآن له وصف المبالغة فى الطغيان فجعله طاغوتا.

وبهذا الطاغوت كانت تحكم الدول الدينية المذهبية باسم الاسلام وياسم المسيحية فى العصور الوسطى فى الشرق المسلم والغرب الأوربى المسيحى ، وتحت عباءة الطاغوت  دارت الحروب الدينية والفتوحات باسم الاسلام وباسم المسيحية ، ودارت محاكم التفتيش والاضطهادات الدينية والمذهبية ، وجرى استرقاق الملايين وهتك أعراضهم بمقولة السبى ، وابيدت أمم فى أطراف العالم باسم دين الله تعالى .ثم تحررت منه أوربا ، وكان المسلمون على وشك التحرر منه فكريا وثقافيا بانتهاء الدولة العثمانية وسقوط خلافتها الطاغوتية لولا أن السعودية الوهابية أعادت نشر نفس الكهنوت ، وأسهم البترول والظروف السياسية فى القرن العشرين فى نشر هذا الطاغوت الوهابى ليسيطرعلى أفئدة المسلمين متقمصا زى الاسلام ، وهو أعدى أعداء الاسلام.

7 ـ  والمحصلة النهائية لما سبق

أن كل إنسان مسالم فهو مسلم حسب الظاهر من سلوكه بغض النظر عن دينه ومعتقده ، سواء كان مؤمنا بالقرآن أو مسيحيا أو من بنى اسرائيل أو بوذيا أو ملحدا. وحسب سلوكه المسالم نتعامل معه بنفس السلم ونزوجه نساءنا ونتزوج من نسائه ، ويتمتع الأولاد بحريتهم فى إختيار ما يشاءون من عقيدة أو ملة. وطبقا لتشريعات القرآن فلكل بيوت العبادة حصانة سواء كانت كنائس أو أديرة أو بيوت عبادة لأصحاب التوراة أو أى بيت يذكر الناس فيه إسم الله كثيرا أو مساجد. ومن أجل الدفاع عن كل بيوت العبادة شرع الله تعالى الجهاد  ( 22 / 40 )

2 ـ إن كل قاتل ظالم وكل مستبد يقهر شعبه  فهو كافر مشرك ظالم باغ طاغ بغض النظر عن دينه الرسمى. فإذا سوغ قتله وظلمه بتفسيرات دينية نسبها لدين الله تعالى فقد أصبح طاغوتا ، يرتكب أفظع ظلم لله تعالى والبشر. وهذا ما كان يرتكبه قادة الكنائس الأوربية والمتحالفون معهم من الحكام ، وما كان يرتكبه الخلفاء فى الامبراطوريات العربية فى العصور الوسطى ، وما يفعله الآن حكام الدول الدينية فى السعودية وايران ، وما يرتكبه الثائرون عليهم من جماعات الارهاب مثل ابن لادن والظواهرى والزرقاوى . وهؤلاء يحرم الزواج منهم ويحرم تزويجهم .

وهذه قاعدة عامة تسرى على كل البشر، لأن الاسلام بهذا المعنى هو دين الله تعالى لكل البشر.

الإسلام هو دين الله لكل البشر

الجنة لكل مؤمن صالح من البشر

هناك آيتان فى القرآن : (2 / 62) (5 / 69) تجعلان دخول الجنة متاحاً لكل إنسان إذا آمن بالله تعالى واليوم الآخر وعمل صالحاً سواء كان من الذين آمنوا بالقرآن أو من الذين هادوا والنصارى أى أتباع التوراة والانجيل أو من الصابئين أى الذين صبأوا أى خرجوا عن دين الأسلاف والمتوارث. والمعنى يشمل كل البشر من أصحاب الرسالات السماوية وغيرها، فالذى يؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر ويعمل صالحاً من جميع البشر فهو من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

إن الله تعالي لا يهتم بما يطلقه البشر علي انفسهم من القاب وتقسيمات ، فالمهم هو الايمان الصحيح والعمل الصالح الناتج عنه. أي ان من يؤمن بالله واليوم الاخر ويعمل صالحا فهو عند الله قد ارتضي الاسلام أو الانقياد لله عز وجل، سواء كان من المسلمين او غيرهم في كل زمان او مكان او بكل لسان .إن الله تعالى ليس منحازاً إلى جنس من البشر أو إلى مذهب أو جيل أو عصر أو طائفة. ولكن أديان البشر الأرضية تجعل كل طائفة تستأثر بالله تعالى وتستأثر بالجنة من دون العالمين, ومن هنا يظلمون الله تعالى وينسبون له التحيز، وما الله تعالى بظلام للعبيد (3 / 182) ( 8 / 51 ) (22 / 10,) (41 /  46) (  50/ 29)

 كل الرسالات السماوية تقول شيئاً واحداً

كل الرسالات السماوية من آدم إلى محمد عليهم السلام اختلفت لغاتها, وكانت كل رسالة تنطق بلغة القوم ولهجتهم, (14 / 4) ولكن مع اختلاف اللغات فى كل الرسالات إلا أن المضمون واحد هو التأكيد على الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح. وبهذا نطق كل نبى باللغة التى يتفاهم بها مع قومه إلى أن نزلت الرسالة الخاتمة على النبى محمد خاتم النبيين تنطق باللغة العربية وتكرر فى القرآن العربى نفس ما قيل قبل ذلك فى الرسالات السماوية باللغات البشرية المختلفة, (41 / 43))39 / 65-66 ). والقرآن الكريم نقل آيات من الوحي الذي نزل على إبراهيم وموسى في الأمر بالصلاة وإيثار الآخرة ( 87 /14 -)" وتكرر ذلك في سورة النجم ( 53 /  36 –). وأكد الله تعالى أن الوحى واحد وأساسيات التشريع واحدة فى كل الرسالات السماوية (4 / 163) (42 / 13).

وليس المؤمنون هم أتباع القرآن الكريم فحسب بل المؤمنين هم أتباع كل رسالة سماوية وأتباع كل نبي، لأن الحساب يوم القيامة يوم عام لجميع الناس ولكل الأمم(  11 /103) ".

وفي نفس الوقت فذلك الحساب العام حساب موحد بشرع واحد في أساسياته، أنزله الإله الواحد.  ومهما اختلف اللغات التي يصلى بها البشر لله تعالى فالعبرة بالتقوى ، فلن يدخل الجنة الا المتقون ( 19 / 63 ) ، وهم الذين يخشون الله تعالى وحده فلا يؤمنون باله غيره ، ولا يظلمون أحدا من البشر ، ولا يدخرون وسعا فى المبادرة بالعمل الصالح النافع للمجتمع مع التمسك بالخلق السامي والسلوك القويم في التعامل مع الناس، وتلك أمور قلبية وسلوكية تسرى على كل مجتمع و على كل إنسان.

إن الدين عند الله الإسلام:

وهذا الوحى الواحد فى الرسالات السماوية المختلفة اللغات كان ينزل بجوهر الإسلام الذى هو الإيمان بالله تعالى الواحد واليوم الآخر والعمل الصالح, وكل نبى كان ينطق بهذا المعنى عن الإسلام باللغة التى يتحدث بها مع قومه, قالها نوح لقومه أن دينه هو الاسلام (10 / 72) لم ينطق كلمة الاسلام باللغة العربية لأنها لم تكن قد وجدت بعد, وإنما نطقها بلغة قومه. وكذلك قالها إبراهيم بلغته التى كان يتحدث بها حين أعلن إسلامه لرب العالمين ، وحين أوصى بنيه وهو على فراش الموت بالتمسك بالاسلام ، ووبنفس الوصية وصى النبى يعقوب أبناءه وهو يحتضرقائلا لهم إن الله تعالى إختار لهم الاسلام دينا فلا بد أن يحافظوا على اسلامهم الى آخر لحظة فى حياتهم  (2 / 131, 132) وموسى تكلم باللغة المصرية القديمة، وبها أوصى قومه من بنى اسرائيل الخائفين من بطش فرعون ان يتوكلوا على الله إن كانوا فعلا مسلمين ( 10 / 84) وفرعون الذى إضطهد بنى اسرائيل وطاردهم حين أدركه الغرق أعلن إسلامه و إيمانه بدين موسى وقال ذلك ليس باللغة العربية ولكن باللغة المصرية القديمة (10 / 90)

ونوح عليه السلام حين ركب السفينة نطق باسم الله الغفور الرحيم ( 11 / 41 ) لم يقلها نوح باللغة العربية التي لم تكن موجودة وقتها، قالها بلغة قومه التي اندثرت ولا نعرف شيئا عنها ، والنبى سليمان بعث برسالة إلى ملكة سبأ وشعبها يدعوهم إلى الإسلام ، وقبلها كتب فى رسالته فاتحة القرآن ﴿بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ﴾ ، ولم يكن ذلك باللغة العربية, وفيما بعد أعلنت ملكة سبأ إسلامها متبعة دين سليمان (27 /31 ، 30 ، 44). والحواريون مع عيسى أعلنوا إسلامهم أو طاعتهم وانقيادهم لله تعالى (3 / 52).

وهكذا نطق الرسل الأنبياء السابقون كلهم بالإسلام, كل حسب لغته ، ولكن المضمون واحد هو الإيمان الصحيح بالله تعالى لا اله غيره والايمان باليوم الآخر، وان ينعكس هذا الايمان عملا صالحا نافعا للناس ، إلى أن نزل القرآن الرسالة السماوية الخاتمة بالإسلام ينطق باللغة العربية

على خاتم النبيين محمد عليهم جميعاً السلام. وإذن فليس الإسلام الذى جاء به محمد عليه السلام بدعاً أو مختلفاً عن الرسالات السماوية السابقة, كما أن خاتم النبيين ليس مبتدعاً لشئ جديد أو بدعاً من الرسل (46 / 9).

 

تاريخ الاسلام فى الأمم السابقة:

نحن لا نعرف عدد الأنبياء( 4 / 164 ) مع أن الله تعالى أخبر انه بعث في كل أمة نذيرا (35 / 24). والأمة في المصطلح القرآني تعنى هنا اى مجتمع في زمان معين.لم يقص علينا القرآن إلا بعض من بعثهم الله تعالى في منطقة الشرق الأوسط. ومن خلال قصص الأنبياء جاء تاريخ بعض الأمم السابقة التي عاصرت أولئك الأنبياء.

وتنقسم الأمم السابقة إلى قسمين:

*قسم أهلكه الله تعالى وأباده مثل قوم نوح وغيرهم. وقد استمرت ذرية نوح بعد هلاك قومه المعاندين ( 37 / 77 )، وكان من هذه الذرية من عاند الأنبياء اللاحقين فعوقبوا بالابادة مثل عاد وثمود ومدين في منطقة الشرق الأوسط.(69 /8) (53/ 50 -)

*وقسم استمر وجوده متمتعا بالرسالات السماوية المشهورة في فروعه، ومنهم في الشرق الأوسط ذرية إبراهيم المتمثلة في العرب المستعربة وبنى إسرائيل، فقد جعل الله  تعالى إبراهيم إماما للناس المؤمنين الآتين بعده ( 2 /124)  لذا توالت الرسالات السماوية فى ذرية ابراهيم وهى أهم وأرفع من تبقى من ذرية نوح. وذكر رب العزة أن من هذه الذرية من سيكون مهتديا ،وأن أكثريتهم ستكون ضالة برغم وجود الكتب السماوية . ( 57 /26)

وبينما اندثر تاريخ الأمم السابقة فإن تراث إبراهيم استمر مع ذريته صحفا سماوية وأنبياء من ذريته مع تحريفات وضعتها الذرية، واختلافات، واتباع بالحق وزيغ بالباطل، وكانت الصلاة والصيام والحج واعطاء الصدقة مع الايمان بالاله الواحد أهم معالم دين ابراهيم أو ملة ابراهيم.

ملة إبراهيم الحنيفية الاسلامية

 كانت الكعبة أول بيت وضعه الله تعالى للبشر قبل إبراهيم ، وأمر الناس بالحج اليه ، وامر بتوفير الأمن لكل من دخل هذا الحرم الالهى، أو بيت الله تعالى ومسجده الحرام( 3 /95"). كان بيت الله مهجورا قبل إبراهيم ثم أوضح الله لإبراهيم مكان البيت ، وأمره برفع قواعده وإعادة بنائه وتطهيره مما حوله من الأصنام ، وأن يدعو الناس للحج اليه (22 /26-) . وقام ابراهيم برفع قواعد الكعبة وإعادة بنائها ، وساعده فى ذلك إبنه الأكبر اسماعيل الجد الأكبر للعرب المستعربة. واثناء عملهما كانا يدعوان الله تعالى أن يجعل حول هذا البيت بلدا آمنا يرزقه من خير الثمرات، وان يجعل من ذريتهما أمة مسلمة لله تعالى ، وان يوضح لهم مناسك العبادة من صلاة وصوم وحج وصدقة ، وأن يبعث فى آخر الزمان من هذه الأمة رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ، يزكيهم ويسمو بهم أخلاقيا.( 2 / 124 ـ) 

واستجاب الله تعالى لدعوة ابراهيم واسماعيل فتوافد الناس عليهما بعد أن أتما بناء البيت الحرام يتعلمون مناسك الحج والاعتكاف والصلاة عند البيت بنفس الطريقة التي أراها الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل، وهى نفس طريقة العبادة التي كانت من قبل للأمم السابقة البائدة حيث كان البيت الحرام أول بيت لله تعالى وضعه للناس منذ أن كان على هذا الكوكب ناس.

بإبراهيم وابنه إسماعيل تكون مجتمع جديد فى الجزيرة العربية حول مكة يقيم الصلاة ويؤدى مناسك الحج إلى بيت الله الحرام.  وحرص إبراهيم على أن تستمر إقامة شعائر ملة ابراهيم فى ذريته (14 /35 -40) فاستمرت ملة ابراهيم فى الذرية قرونا طويلة ولكن لحقها التحريف واضاعة الصلاة وإتباع الشهوات ( 19 / 59 ).

 ثم استجاب الله تعالى لدعوة ابراهيم واسماعيل فكان آخر الأنبياء للعالم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، من قريش أشهر وأقوى قبيلة تنتمى الى معد بن عدنان الذى ينتهى نسبه الى إسماعيل بن ابراهيم. جاء ليجدد ملة ابراهيم الاسلامية، أى طريقة العبادة من صلاة وصدقة وصيام وحج. وتلك هي ملة إبراهيم التي نزل القرآن الكريم يأمر خاتم النبيين محمدا باتباعها(4 / 125)". (6 / 162/163)

 

قبائل العرب

تاريخيا ينقسم العرب الى عرب بائدة ، أى الأمم التى أهلكها الله تعالى لأنهم كذبوا الرسل مثل عاد وثمود وطسم وجرهم الأولى، والعرب الباقية الذين تكاثروا ولا يزالون.

وتنقسم العرب الباقية الىقسمين كبيرين : العرب العاربة القحطانيون اليمنيون ،والعرب المستعربة الشماليون.

العرب القحطانيون أبناء يعرب بن قحطان أقاموا لهم حضارة فى اليمن وممالك أشهرها معين وسبأ وحمير ، ثم بانهيار سد مأرب هاجر معظمهم الى مناطق فى شمال الجزيرة العربية ووسطها وعلى حدود الشام والعراق، منهم الأوس والخزرج الذين سكنوا يثرب والتى أصبح اسمها المدينة ، والتى هاجر اليها محمد وأصحابه فيما بعد، ومنهم الغساسنة الذين أقاموا لهم إمارة فى الحيرة جنوب العراق متمتعة بالتحالف مع الامبراطورية الفارسية، ومنهم الغساسنة الذين أقاموا لهم إمارة جنوب سوريا متحالفة مع الروم، وتحارب الغساسنة والمناذرة لصالح القوتين العظميين وقتها ، والتاريخ يعيد نفسه ، وهذه عادته السيئة فى الشرق الأوسط!!

وتوزعت قبائل أخرى قحطانية فى بادية الشام مثل قبائل كلب التى تحالفت فيما بعد مع الأمويين وأعانتهم فى تأسيس ملكهم ، ومنهم جرهم الثانية القديمة التى سكنت مكة وتزوج منهم اسماعيل ابن ابراهيم عليهما السلام ، وعاش فى كنفهم ، وأنجب ذرية أسست الشعب الثانى من العرب وهم العرب المتعربة أو المستعربة.  

العرب المتعربة أو المستعربة.  

هم نسل ابراهيم من إبنه الأكبر اسماعيل.

عدنان هو الجد الأكبر المعروف للعرب المستعربة والذى ينتهى نسبه الى اسماعيل بن ابراهيم.

وأنجب عدنان معد، ومن أبناء معد أربعة كل منهم أنجب مجموعة ضخمة من القبائل ،أبرزهم نزار. أنجب نزار ولدين هما ربيعة ومضر. ربيعة هو جد لعشرات القبائل التى سكنت نجد وغيرها، وأهمها بكر وتغلب . مضر أنجب قيس والياس. قيس اليه تنتسب القبائل القيسية المضرية ، والياس ، تنتمى اليه قبائل كثيرة كان آخرها قريش التى تنتمى الى جدها النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وأشهر الأسر فى قريش الهاشميون والأمويون ، وهم أبناء رجل واحد هو عبد مناف بن قصى. وقصى هذا أقدم زعيم معروف لقريش ، وهو الذى تمكن من السيطرة على مكة والبيت الحرام وطرد قبيلة جرهم من مكة. الي هاشم ينتمى النبى محمد الى لم ينجب ولدا يبلغ مبلغ الرجال ، لذا كان أقرب الناس اليه هم ذرية ابن عمه الشقيق على بن ابى طالب الذى تزوج فاطمة بنت محمد ، ومنهما تفرع العلويون ، وقامت باسمهم دول كثرة كالفاطميين قديما والهاشميون حديثا فى الأردن. ، والى هاشم ينتمى العباس عم النبى ومن ذريته العباسيون الذين أنشأوا الدولة العباسية. والى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ينتمى الأمويون الذين أقاموا الدولة الأموية..

وبين الهاشميين والأمويين دار تاريخ الاسلام قبيل وأثناء وبعد نزول القرآن الكريم آخر رسالة سماوية اسلامية للبشرية فى آخر الزمان والى قيام الساعة .

ذرية إبراهيم من العرب والاسرائيليين والمحافظة على ملة ابراهيم

أنجب إبراهيم ولدين كلاهما صار نبيا لله تعالى وهما:  إسماعيل في مكة واسحق في الشام، وفرح بهما إبراهيم في شيخوخته (14 / 39 - )

و أنجب إسحق ابنه يعقوب الذى سمى إسرائيل وأصبح نبيا ، وأنجب يعقوب أو إسرائيل الأسباط وهم اثنا عشر ذكرا،  كان يوسف هو النبي منهم، وتناسل أبناء يعقوب أو أبناء إسرائيل الاثنا عشرة فصاروا اثني عشرة قبيلة سكنوا مصر بعد أن استقدم يوسف والديه و إخوته من الشام إلى مصر. ثم تكاثر أبناء إسرائيل في مصر أبان حكم الهكسوس، وبعد أن طرد المصريون الهكسوس تولى الفراعنة الحكم فأسرفوا في اضطهاد بنى إسرائيل لأنهم كانوا أعوان الهكسوس. فبعث الله تعالى موسى لينقذ بنى إسرائيل من الاضطهاد. وبعد غرق فرعون موسى يذكر القرآن الكريم انتشار بنى إسرائيل بين مصر والشام والحجاز ( 7 /137 – ) (28 / 48 ) (26 / 57:  59  ) ( 44 /25: 28 ) ثم ما لبث أن أقاموا لهم ملكا في فلسطين بلغ الذروة في عهد النبيين داود وسليمان عليهما السلام.وتتابع فيهم الملك والرسالة  ( 4 /54 ) إلى أن دمّر بختنصر البابلي ملكهم، ولكن وجودهم البشرى استمر ومعه الرسالات السماوية إلى أن كان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام آخر النبيين من بنى إسرائيل. 

وأولئك الأنبياء من ذرية اسحق بن إبراهيم حافظوا على ملة إبراهيم الاسلامية بين العراق والشام ومصر بمختلف اللهجات واللغات، (21 / 73) وكان كل نبي يوصى بها قومه كما ذكر القرآن عن احتضار إبراهيم ويعقوب ووصيتهما عند الموت. على أن الذرية كانت في اغلبها تضيع الصلاة بالوقوع في الشرك وفى المعاصي.

كان أول نبي نعلمه في العرب - وهو إسماعيل بن ابراهيم عليهما  السلام- يأمر أهله بالصلاة والزكاة وإتباع ملة ابراهيم الاسلامية (19 / 54-)  ، وكان حفيده محمد عليه السلام - آخر نبي في العرب وفى العالم- يأمر أهله بنفس الأمر.( 20 / 132).

 

خاتم النبيين متبع لملة إبراهيم حنيفا وليس منشئا لدين جديد

من الأخطاء الكبرى أن يعتقد المسلمون إن محمدا خاتم النبيين قد جاء بدين جديد أو كان بدعا بين الرسل. لقد أمره ربه جل وعلا أن يعلن أنه ليس متميزا عن الرسل السابقين وانه حتى لا يعلم الغيب مثل بعض الرسل السابقين (  9 /46) وأمره ربه جل وعلا أن يقتدى بالهدى الذي جاء به من سبقه من الأنبياء عليهم جميعا السلام. ( 6 / 90 )

وأهم الهدى هو ما تعلق بطريقة العبادة أو ما يعرف بالملة. وإذا كانت الأمم السابقة في المنطقة قد فنيت ولم يعد لها بقاء فقد بقيت أمم أخرى تكاثرت وانتشرت في كل أنحاء العالم، منها في الشرق الأوسط ذرية إبراهيم وهو أبو الأنبياء وأبو شعبين هما بنو إسرائيل والعرب المستعربة، وفيهما توارثت الذرية ملة إبراهيم من صلاة وصوم وصدقة وحج وتلاوة للكتاب الإلهي.

ولكن تمسكوا بالحركات والتدين السطحي الظاهري المنافق المرائي دون إخلاص الدين لله تعالى فتحولت الطاعة إلى عصيان، ولهذا تعاقب الأنبياء في بنى إسرائيل كلهم يدعو إلى العودة إلى الأصل المضيء لملة إبراهيم، أو " ملة إبراهيم الحنيفية" التي تعنى إخلاص العقيدة لله تعالى وحده وطهارة السلوك، أو بمعنى آخر هو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

ثم جاء خاتم الأنبياء جميعا من ذرية إسماعيل بن إبراهيم رسولا للبشر جميعا إلى قيام الساعة ينادى بنفس المهمة وهى اتباع ملة إبراهيم حنيفا. أي باختصار هي دعوة لإصلاح الدين الأصلي – الإسلام – الذي جاء به جده الأكبر أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. نزل الوحي عليه يأمره باتباع ملة أبيه إبراهيم في إن تكون صلاته بل وحياته ومماته  لله وحده لا شريك له، وأمره ربه أن يعلن ذلك لقومه وللعالم ( 6 /   162ـ  ) ( 4 / 125 )

ودائما تقترن كلمة (ملة إبراهيم )بوصف (حنيفا) وهى وصف لعقيدة الاسلام القائمة على الاعتقاد فى الله تعالى وحده الاها ووليا مقدسا نطلب منه النفع ونعوذ به من السوء ، وأنه الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وهذا ما خالفه العرب بزعامة قريش ، إذ كانوا يزعمون التمسك بملة إبراهيموهم مقيمون على الشرك فى العقيدة باتخاذ أولياء مقدسين وآلهة مع الله والشرك فى السلوك بالظلم والاعتداء والقتل وإدمان الفواحش. وقد تمسك العرب بتأدية سطحية لملة جدهم ابراهيم فأدوا  الصلاة المتوارثة من ركوع وسجود ومواقيت وحرصوا على تأدية مناسك الحج ، وكانوا يصومون رمضان ويصلون صلاة أسبوعية يوم الجمعة ولكن وقعوا في الشرك وأدمنوا البغي والعصيان، وظنوا كما نظن الآن أن مجرد الشكل يكفى، وتناسوا – كما نتناسى نحن الآن أيضا – أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعنى الالتزام بالتقوى أى خشية الله تعالى فى السر وفى العلن بمعنى ألا نتخذ معها الاها آخر وألا نعصيه ،وألا نظلم أحدا من الناس.

 

ابراهيم فى القرآن الكريم

لقد مدح رب العزة في القرآن إبراهيم عليه السلام وقال فيه ما لم يقله في أي نبي آخر.

 فهو النبي الوحيد الذي عندما عاتبه ربه قرن العتاب بالمدح، فعندما جاءت الملائكة لتبشر إبراهيم بابنه اسحق ثم يعقوب، وتخبره بأنها ستدمر قوم لوط – أخذ إبراهيم يجادل ويدافع عن قوم لوط خوفا على المسلمين في داخل القرية، دون أن يعرف أن الأمر الإلهي قد صدر فعلا وأن الله تعالى لا يبدل القول. فجاءه اللوم مقترنا بالمدح بأنه ـ أى ابراهيم حليم رقيق القلب سريع التوبة (11 /74 – 75 )

وإبراهيم هو النبي الوحيد الذى نجح في كل الاختبارات التي امتحنه الله تعالى بها( 53 / 37  ). جاءه الاختبار كلمات تقول له: هاجر واترك أباك وأهلك ووطنك ، اترك ابنك الوحيد،  غريبا في صحراء الحجاز، اذبح إبنك الوحيد عند البيت الحرام..الخ وأتم إبراهيم تنفيذ كل تلك الكلمات والأوامر فجعله الله تعالى إماما لكل المتقين إلى قيام الساعة سواء كان أولئك المتقون من ذريته أو لم يكونوا( 2 /124 ). وفى كل عصر وفى كل مكان بعد إبراهيم فان من يرفض ملة إبراهيم فقد ضل سواء السبيل ( 2 / 130 - 131 )

وهو النبي الوحيد الذي تتالت الآيات تمدحه بما لم تقله في نبي آخر، ثم تختتم بتقرير إن خاتم النبيين تابع له متبع لملته ومأمور بذلك، يصفه الله تعالى بأنه كان وحده يعادل "أمة "أو مجتمعا من الخير، وأنه كان يداوم العبادة مخلصا لربه ولم يقع في الشرك طيلة حياته.و كان شَاكِرًا للنعم التى أنعم الله تعالى بها عليه مهتديا  إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ، وقد تكرم الله تعالى عليه فاختاره نبيا وأعطاه فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَجعله فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِينَ. ثم أمر الله تعالى خاتم النبيين محمدا بأَنِ يتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (16 / 120-123)

دعوة القرآن للتمسك بملة ابراهيم

وهذا الإصرار على وصف ملة إبراهيم بالحنفية التي تعنى عدم الوقوع في الشرك يعنى الرد على أولئك الذين زعموا من العرب أن ملة إبراهيم عندهم هي مجرد التمسك بكيفية الصلاة المتوارثة عن جدهم إبراهيم دون التمسك بالإخلاص في العبادة لله وحده وإسلام الرجة لله تعالى وحده.

وهو نفس الرد على أهل أبناء عم العرب ومن نسل إبراهيم الذين اعتقدوا أن اليهودية أو النصرانية هي استمرار لملة إبراهيم فقال لهم المولى عز وجل إنََ الهدى الحقيقى لا يكون إلا فى إتباع ملة ابراهيم حنيفا ( 2 / 135) أي يدعوهم إلى الرجوع لملة إبراهيم الحنيفية. وكان أهل الكتاب وقتها يتنازعون فى أن ابراهيم كان يهوديا أو كان نصرنيا ورد القرآن عليهم بأن ابراهيم  مَا كَانَ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ.( 3 / 67-68 ) أي أحق الناس بملة إبراهيم هو خاتم النبيين والذين اتبعوا هذه الملة من المؤمنين في كل زمان ومكان. أي أن الأمر ليس شعارا يرفع وإنما هو إتباع صادق للدين الحنيف الذي جاء به أبو الأنبياء وأبو المسلمين ؛إبراهيم عليه السلام، ( 22 /78 -)

فملة إبراهيم هي إقامة الصلاة لله وحده وعبادته وحده دون ولي أو شريك...وقد تتالت الأوامر والنواهي على النبي محمد بإخلاص العبادة لله وحده وعدم اتخاذ أولياء مع الله لاستعادة نقاء ملة إبراهيم. (10 / 105) . أي كانت دعوة محمد خاتم النبيين تتركز في إتباع ملة إبراهيم حنيفا بإخلاص العبادة والصلاة لله وحده وفق ما كان إبراهيم يفعل في عبادته وفى صلاته.

إلا أن الصلاة ليست كيفية فقط من حركات قيام وركوع وسجود ولكنها أيضا وفى الأهم خشوع ومراعاة للتقوى بحيث يظهر أثر الصلاة في سلوكنا وأخلاقنا، أي المحافظة على الصلاة. والذين خلفوا الأنبياء أساءوا فهم الصلاة كما نسئ نحن الآن فهمها أيضا؛ اهتموا بالحركات والكيفية والمواعيد ونسوا الهدف من الصلاة وهو التقوى وتطهير القلب والسلوك من الشرك والرياء والمعاصي.وبتعبير القرآن الكريم ( أضاعوا الصلاة وأتبعوا الشهوات ) ( 19 /58-59)

أضاعت قريش الصلاة وإتبعت الشهوات مع تأدية الصلاة شكليا، ولا تزال تلك مشكلة أكثرية المتدينين منا نحن المسلمين اليوم . نصلى ولكن لا نحافظ على الصلاة. نركع ونسجد ونقوم ونقعد ونسبح ونفعل كل حركات الصلاة ولكن نرتكب المعاصى ونقع فى الشرك السلوكى والشرك العقيدى ، وهذا ليس إلا تضييعا للصلاة ، وتصبح تللك الصلاة الحركية ـ كما قال تعالى عن صلاة مشركى قريش أعداء النبى محمد ـ  " مكاء وتصدية" أى مجرد حركات وأصوات. ولذلك كانت رسالة النبى محمد تتلخص فى تنقية ملة ابراهيم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وهذا يعنى فى مصطلحات القرآن : التمسك بالتقوى والسمو الخلقى .فالصلاة وكذلك كل العبادات ليست هدفا في حد ذاتها ، إنها وسائل للتقوى، (2 / 21 ، 183 ، 189 ، 196 ) (29 / 45).

 

 

لمحة عن : قريش وصناعة الأديان الأرضية

 

أولا : العرب وتضييع ملة ابراهيم الاسلامية قبل نزول القرآن الرسالة الالهية الخاتمة

العرب ـ بزعامة قريش ـ قبل نزول القرآن أضاعوا ملة ابراهيم الاسلامية حين وقعوا في الشرك بمعناه العقيدى وهو إتخاذ آلهة مع الله تعالى مع إيمانهم بالله تعالى. وذكر القرآن أن العرب كانوا يؤمنون بان الله هو خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر وانه مالك الأرض ومن فيها وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه (23 / 84؛89") (29 /  61 )( 39 / 38) ولكنهم مع ذلك لم يخلصوا لله تعالى عبادتهم إذ اتخذوا أولياء أقاموا لهم الأنصاب أي الأضرحة – كما نفعل اليوم -  وحجوا إليهم – كما نفعل نحن في الموالد الصوفية - وعكفوا على قبورهم المقدسة بزعم أنها تقربهم لله زلفى – كما نفعل في ضريح الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والإمام الشافعي والمرسى أبى العباس والسيد البدوي وغيرهم -وذلك ينافى الإخلاص في عبادة الله وحده، (39 / 2-3)

وكانت للعرب المشركين مساجد يؤدون فيها الصلاة ولكنهم لوقوعهم في الشرك كانوا يسمون هذه المساجد بأسماء الأولياء الذين يعبدونهم كما نفعل نحن الآن، وحين دعا النبي إلى أن تكون هذه المساجد لله تعالى وحدة تكالبوا عليه يريدون إيذاءه،وقد أمر الله تعالى رسوله محمدا أن يوجه خطابا محددا لأولئك العرب الذين يقدسون أضرحة الأولياء المدفونة في مساجد الله تعالى، والذين يقرنون أسماء البشر المقدسين مع اسم الله تعالى في الأذان للصلاة وفى تأديتهم للصلاة. الخطاب المحدد هو أيضا موجه لنا حيث يذكر المسلمون اسم محمد نفسه مع اسم الله تعالى في الأذان وفى الصلاة ويكتبون اسم محمد مع الله تعالى بما يعنى تقديسا لمحمد وهو الذي أرسله الله تعالى لمحو تقديس البشر والحجر والشجر. ولذلك فان الخطاب الذي أمر الله تعالى رسوله الكريم أن يعلنه هو أيضا موجه للمسلمين اليوم بعد أن أضاعوا ملة ابراهيم وضلوا كما ضلت قريش من قبل.( 72 / 18-23 )

وبعد ظهور الاسلام اضطهدت قريش المسلمين فاضطرت معظمهم إلى الهجرة إلى المدينة، وبقى بعض المؤمنين في مكة وحاولوا أن يصلوا في نفس المساجد التى إعتادوا الصلاة فيها ولكن المشركين القرشيين المعتدين منعوهم من دخولها فنزلت آية في المدينة تحتج على ذلك ( 2 / 114)

والعرب المشركون في الجاهلية كانوا يؤدون الصلاة ولكن لم يقيموا الصلاة، وكانوا مشهورين بالكرم ولكن دون أن يؤتوا الزكاة بمعنى التطهر والسمو الخلقي، لذلك ظلوا يغير بعضهم على بعض ، وينتهكون الحرمات ويسبون ويسلبون ويشربون الخمر ويرتكبون النسىء اى يستحلون القتال حتى في الأشهر الحرم بعد إعلان عدم حرمتها أو تأجيل حرمتها (9 / 37 ). أى عرفوا من ملة ابراهيم وجود أشهر أربعة فى السنة يحرم فيها القتال والظلم أشد تحريم ، حيث تكون موعدا للحج الى الحرم المكانى لله تعالى فى مكة ، فيجتمع فى تأدية الحج السلام والأمن داخل البيت الحرام وخارجه. ولكن حرفوا فى الأشهر الحرم وأحلوا القتال فيها ، كما حرفوا فى الحج نفسه بزرع أصنام حول الكعبة.

وكانت قريش هى المسيطرة على مكة والقائمة على رعاية البيت الحرام وموسم الحج، وقد جعلت من ذلك كله تجارة رابحة لها بحجة أنها تقوم بعمارة المسجد الحرام وخدمة الحجاج ويقرن ذلك بارتكاب المعاصي وعبادة الأولياء والقبور المقدسة. وقد رد عليهم رب العزة جل وعلا معتبرا أن ذلك لا شأن له بالتعمير الحقيقي لمساجد الله تعالى أو لدينه، ولا شأن له بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة: (9 / 17- 18(

وقرنوا وقوعهم فى الشرك العقيدى بارتكابهم الفواحش ،بل الفخر بها واعتبارها جزءا من الدين عندهم حتى لقد نسبوها لأمر لله تعالى، وقد احتج رب العزة على هذا التزوير الديني الذي وقعوا فيه ( 7 /28 )

وإقترن الشرك العقيدى مع إرتكاب الفواحش بالتقاتل بسبب وبدون سبب ، حيث قامت حياة العرب  على السلب والنهب والغارات اليومية ، وفى هذا النمط من الحياة كانت الكلمة العليا للأقوى والأكثر ظلما ، وكانت قريش بجاهها وقوتها الأكثر ظلما والأكثر عتوا. وبهذا جمعت قريش بين الكفر العقيدى والكفر السلوكى .

والمحصلة النهائية أن ملة ابراهيم الاسلامية تحولت الى شرك وكفر عقيدى وسلوكى كان يظلم الناس ورب الناس حين استغلت قريش البيت الحرام لتتاجر باسمه وبدين الله تعالى وملة جدهم ابراهيم. وكان هذا هو التحدى الذى واجهه محمد بن عبد الله القرشى حين بعثه الله تعالى بالرسالة الخاتمة لتصحيح ملة ابراهيم..

 

ثانيا :قريش وإقامة دين أرضى لها على أنقاض ملة ابراهيم قبل نزول القرآن الكريم

واقع الأمر أن قريش التى تنتمى الى إبراهيم عليه السلام  والتى قامت على رعاية المسجد الحرام ورعاية ملة ابراهيم أو دين ابراهيم هى التى قامت باستغلاله فى سبيل مصلحتها الدنيوية ، وبذلك تكون قد أقامت لها دينا أرضيا على أنقاض ملة ابراهيم أو دين ابراهيم. وفى دينها الأرضى هذا كانت تمارس المعصية وتزعم أنها أوامر الاهية (7 / 28 )، وكانت تستخدم سيطرتها على البيت الحرام معتبرة إياه ملكية خاصة لها ، فتصدُّ وتمنع خصومها من الحج اليه، أى أن الحج فى دينها الأرضى كان حجّا الى قريش وليس حجّا الى بيت الله تعالى .

بهذا الكفر العقيدي والسلوكي واجهت قريش النبي محمدا وأصحابه المسالمين المستضعفين.

وبسبب الاضطهاد والتعذيب هاجر بعض المسلمين مرتين للحبشة ثم هاجروا إلى المدينة ومعهم خاتم النبيين عليه وعليهم السلام. تابعت قريش المسلمين في المدينة بالقتال والاعتداء بعد هجرتهم ومنعت المسلمين من الحج إلى البيت الحرام وهم أحق الناس ببيت الله الحرام، مما استوجب تهديد الله تعالى للقرشيين بالعذاب، (8 /34}

 ويؤكد رب العزة فى القرآن الكريم: ( 22 / 25 ) على حقيقة هامة أغفلتها قريش ـ وتغفلها الآن المملكة السعودية الوهابية ـ وهى أن المسجد الحرام هو بيت الله تعالى وحده ، وأن الحج إليه حق لكل الناس المسالين مهما إختلفت عقائدهم وأديانهم ، يستوي في ذلك أهل مكة والقادمون إليها من كل بنى البشر ، لا فرق بين هؤلاء وهؤلاء في استحقاق الحج. أى بغض النظر عن الدين والمذهب والمعتقد والجنس واللون طالما كان القادم للحج مسالما لا يحمل سلاحا فهو مسلم حسب سلوكه ومن حقه الحج ، وان يأمن على نفسه وماله وكل حقوقه ، ولا شأن لنا بعقيدته، وليس لنا أن نقيم محاكم تفتيش واختبارات فى عقيدة كل قادم للحج، وليس لنا أن نشق على قلب كل حاج لنعرف اخلاصه أو تقواه أو سريرته. المطلوب فقط أن يكون مسالما حسب الظاهر ليكون مسلما.

وقبل فتح مكة رأى النبي محمد عليه السلام  مناما أنه يحج البيت، فبادر بالذهاب مع عدة آلاف من أصحابه للحج مسالمين بدون نية حرب ولكن قريشا منعتهم من الدخول. وبعد مفاوضات تم عقد صلح الحديبية ، وأبيح للمسلمين والنبى القيام بالحج. (48 /  25 ـ 27 }.

ونكثت قريش العهد فقام النبى محمد بفتح مكة فاستسلم له معظمهم ، بينما لم يخضع أئمة الكفر من قريش فاستأنفوا اعتداءهم على البيت الحرام  وقطع الطريق على الحجاج، فأعطاهم الله تعالى مهلة للتوبة ، ومنعهم من دخول البيت الحرام أو الاقتراب منه ( التوبة 28 ). وظلوا كذلك الى أن تابوا وفق ما حدده رب العزة فى سورة التوبة التى حفلت باشارات تاريخية غفل عن التعقيب عليها رواة السيرة.

أى ان قريش ناضلت عن دينها الأرضى ما استطاعت إلى أن إنهزم أئمة الكفر والعدوان فيها . فدخلوا فى الاسلام بعد طول عداء ، ثم ما لبثوا أن سيطروا على المسلمين وإستغلوا الاسلام فى إقامة امبراطورية تزعمها الأمويون قادة الكفر السابقون فى مكة وأعدى أعداء النبى محمد والاسلام. وبدأت قريش إعادة انتاج أديان أرضية من أرضية الصراع على السلطة خلال ما يعرف بالتاريخ الاسلامى. وهذا هو تطبيق قريش للاسلام قبل وبعد نزول القرآن الكريم.

 

ثالثا :قريش ونشأة أديان المسلمين الأرضية بعد نزول القرآن.         

قبيلتان دار حولهما أكثرية القصص فى القرآن الكريم ، ترسم ملامحهما العقلية والدينية ، وتعظهما وتحذرهما وتحاورهما. هاتان القبيلتان هما قريش وبنو اسرائيل. وكلاهما ينتمى الى ابراهيم عليه السلام.

أفرد القرآن الكريم لقريش سورة قصيرة حملت إسمها ولخصت تميزها بين العرب بالثراء والأمن بسبب البيت الحرام الذى مكنها من الايلاف ورحلة الشتاء والصيف . وتحدث عنها رب العزة وحاورها فى مئات الآيات القرآنية ، وكان من حواره معها دعوتها للسير فى الأرض لتعتبر من أحوال الحضارات السابقة والأمم السابقة حول الأنهار والتى عتت وتجبرت وفاقت قريش فى عمرانها ( 3 / 137 )( 6 / 11) ( 12 / 109 ) ( 16 / 36 ) ( 27 / 69 ) ( 29 / 20 ) ( 30 /9 ، 42 ) ( 35 / 44 ) (40 / 21، 82 ) (47 / 10 ).

القرآن الكريم ـ الرسالة السماوية الخاتمة ـ لم يركز كل هذا التركيز على قريش وبنى اسرائيل عبثا. لو كانت قريش وبنى اسرائيل مجرد حالة تاريخية إندثرت مثل الأمم السابقة لما كان كل التركيز والاهتمام. المفهوم هنا أن القبيلتين ستستمران طويلا بعد نزول القرآن ،وسيستمر تأثيرهما أطول. ولذلك كان لا بد للقرآن خاتم الرسالات السماوية من التركيز على أهم قبيلتين ورثتا دين ابراهيم او ملةابراهيم وقامتا باستغلاله وإنشاء أديان أرضية منه لتحقيق أغراض سياسية ودنيوية.

المشهور عن قريش انها أقوى قبيلة عربية تنتمى الى العرب المستعربة ، أى ذرية اسماعيل بن ابراهيم عليهما السلام. ، وأنها إكتسبت قوتها من التحكم فى التجارة بين الشرق والغرب عبر رحلتى الشتاء والصيف وعبر تحكمها فى البيت الحرام وسيطرتها على الحياة الدينية للعرب فى الجاهلية ـ أى قبل ظهور الاسلام. وأنها عارضت الاسلام وحاربت المسلمين ثم دخلت فى الاسلام متأخرا بفتح مكة.

غالبا ما ينتهى الحديث عن قريش عند هذا الحد لتصبح قريش مجرد تاريخ مضى وانتهى بانتصار الاسلام وخضوع قادة قريش الأمويين له. هذه الرؤية السطحية تفترض أن المسلمين حين إعتنقوا الاسلام وحتى الآن صاروا ملائكة لا تخطىء ، يطبقون تعاليم الاسلام حرفيا من عهد النبى محمد الى الآن سواء من كان منهم قرشيا أو فارسيا ، وان هذا ينطبق على قريش حين أسلمت بعد طول عداء للاسلام ، وان الشيطان قد قدم استقالته بعد هذا الانتصار الهائل على قريش وفتح مكة.

الحقائق القرآنية تؤكد ان الاسلام شىء والمسلمون شىء آخر، وان هناك فجوة بين تطبيق الانسان للدين وحقائق الدين نفسه .

الحقائق التاريخية تؤكد إن قريش هى القبيلة الوحيدة التى حكمت معظم العالم المعروف أطول فترة فى التاريخ الانسانى والعالمى.

استغلت قريش الاسلام ففتحت به معظم العالم وحكمته من حدود الصين والهند شرقا الى جنوب فرنسا غربا، ومن جزر البحر المتوسط وجنوب إيطاليا وآسيا الصغرى شمالا الى المحيط الهندى والصحراء الأفريقية جنوبا.

أهم عائلتين من قريش هما الأمويون والهاشميون. الهاشميون والأمويون ينتمون معا الى أب واحد هوعبد مناف.وهاشم بن عبد مناف هو توأم عبد شمس بن عبد مناف.

أنجب هاشم أبناء كثيرين منهم عبد المطلب الذى انجب بدوره عشرة أبناء منهم عبد الله والد النبى محمد ، و أبو طالب عم النبى محمد الذى كفله ، أبو طالب هو أيضا والد على بن أبى طالب أقرب الناس لآبن عمه محمد والذى تزوج إبنته فاطمة وأنجب منها الحسن والحسين ، ومنهما تفرع البيت العلوي من الطالبيين. ومن ذرية عبد المطلب الفارس حمزة الذى ناصر محمدا ابن أخيه وقتل زعماء القرشيين فى معركة بدر فى العام الثانى بعد الهجرة فأنتقم الأمويون بقتله فى معركة( أحد ) فى العام التالى. ومنهم أبو لهب العدو الأكبر لابن أخيه محمد والذى مات كمدا بسبب هزيمة المشركين فى معركة بدر. ثم كان منهم العباس بن عبد المطلب الذى تنتمى اليه الدولة العباسية.

أما عن الأمويين ، فجدهم هو أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

كبير الأمويين فى عهد النبى محمد كان  أبوسفيان بن حرب بن أمية ،وكان معه ابن عمه الحكم بن العاص بن أمية ، وكانا من ألد أعداء الاسلام وقادة الحرب ضده ، ثم ركبوا موجة الاسلام بعد موت النبى محمد ، وما لبث أن أقام  معاوية بن أبى سفيان ثم مروان بن الحكم بن العاص  الامبراطورية الأموية العربية باسم الاسلام.  ثم جاء بعدهم العباسيون الهاشميون .

قبل نزول القرآن كانت ذرية عبد مناف ( الهاشميون والأمويون ) هم قادة قريش فى الدين وفى الدنيا. وقد تقاسم أبناء العم السلطة فى قريش. تخصص بنو أمية فى قيادة الحرب ورحلة الشتاء والصيف ، بينما تخصص بنو هاشم فى رعاية البيت الحرام والحجاج.

وبظهور الاسلام كانت رعاية البيت الحرام والحجاج من نصيب العباس بن عبد المطلب عم النبى محمد ، بينما كانت قيادة الحرب والقوافل والتجارة من نصيب أبى سفيان بن أمية.

وخوفا على إرثه الدينى فى مكة والبيت الحرام فقد تحالف العباس مع أبى سفيان ضدالاسلام ومحمد عليه السلام. وفى معركة بدر ـ أول حرب كبيرة بين المسلمين والمشركين ـ كان قائد القافلة التجارية القرشية أبا سفيان ، بينما كان قادة الحرب من أعمدة بنى أمية وكان معهم العباس عم النبى محمد ، وبهزيمة قريش فى تلك الحرب وقع العباس عم النبى أسيرا، وقد إفتدى نفسه ورجع الى مكة مع رفاقه المشركين المعتدين إلى أن أضطر هو ورفيقه أبو سفيان الى الدخول فى الاسلام قبيل فتح مكة بعد أن أدركا أن مصلحتهما تحتم عليها ذلك.

وفيما بعد دار الصراع بين الخليفة على بن أبى طالب ـ  ابن عم النبى محمد وزوج إبنته ورفيقه طيلة عمره ـ ومعاوية الأموى الثائر عليه. فى هذا الصراع كان عبد الله بن عباس مع إبن عمه على بن أبى طالب الخليفة الشرعى ، وأسفر الصراع عن تمهيد الطريق لإنتصار معاوية فإنشق عبد الله بن العباس (ابن عم على بن أبى طالب ، وابن عم النبى محمد ) عن الخليفة على ، وسرق الأموال التى كانت فى حوزته ولحق بأخواله فى الصحراء بعد ان أيقن ان الخليفة إبن عمه لا يستطيع فى محنته ان يسترد منه الأموال المسروقة. وبذلك تمهد الطريق لمعاوية لأن يؤسسس دولة الأمويين ويتوارث فيها آله الحكم بالقوة.

وعاش أبناء عبد الله بن عباس مكرمين فى الدولة الأموية ، ثم جاءتهم فرصة موت حفيد لعلى ابن أبى طالب كان يتزعم دعوة سرية عنقودية لقلب نظام الحكم الأموى ، ولا يعرف شخصيته إلا قلة من كبار الدعاة الذين كانوا يدعون الى إمامة شخص مجهول تحت إسم (الرضى من آل محمد ) دون تحديد إسمه ونسبه . أدرك هذا الرجل الموت مسموما بمؤامرة أموية عشوائية وكان على مقربة من بيت محمد بن على بن عبد الله بن العباس فى منطقة الأردن ، فمات بين يديه بعد أن أفضى اليه بأسرار الدعوة والتنظيم فركب العباسيون هذا التنظيم العنقودى  ووصلوا به الى إقامة الدولة العباسية، وفيها إضطهدوا أبناء عمهم العلويين الطالبيين ـ من ذرية على بن أبى طالب.

المهم ان قادة قريش فى العداء للاسلام من الأمويين والعباسيين هم الذين إستغلوا الاسلام فى إقامة امبراطوريتين نبتت فيها أديان أرضية للمسلمين تناقض الاسلام وتتفق مع تراث تلك العائلتين قبل الاسلام.

الخلفاء الراشدون ( أبوبكر ، عمر ، عثمان ، على ) ينتمون الى قريش ، ومنهم واحد ينتمى للأمويين وهو عثمان ، وآخر ينتمى للهاشميين وهو على بن أبى طالب . وقد بدأت فى عهدهم الفتوحات وتوطدت، ثم أكمل توسعها الأمويون ، وهم من قريش . جاء بعدهم العباسيون وهم أيضا من قريش.

خصوم العباسيين كانوا أيضا من قريش. لم يسيطر العباسيون على كل ما كان فى حوزة الدولة الأموية ، خرج عن طاعتهم الأندلس ( أسبانيا المسلمة ) وقد حكمها عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) وهو امير أموى هارب من المذابح التى أقامها العباسيون للأمويين عندما هزموهم. وخرج عن سلطة العباسيين المغرب حين تولاه الأدارسة ، وهم أيضا من قريش ينتمون الى نسل على بن أبى طالب. وخرج ـ مؤقتا ـ عن سلطة العباسيين مصر والشام وشمال أفريقيا لصالح الخلافة الفاطمية ، الفاطميون ينتمون الى ذرية على بن أبى طالب. وظل ( الأشراف ) ـ وهم من ينتسب الى ذرية على بن أبى طالب ـ يحكمون الحجاز بعد انهيار الدولة العباسية فى القرن الثالث عشر الميلادى الى سنة 1925 حين استولى عبد العزيز آل سعود على الحجاز وطرد عليا بن الشريف حسين. أبناء الشريف حسين أصبحوا حكاما فى العراق وسوريا والأردن. وأسرة عبد الله بن الشريف حسين هى التى تحكم الأردن حتى الآن.  وفى المغرب أسرة أخرى تحكمه تنتمى الى ذرية على بن أبى طالب ،أو الأشراف. والى عهد قريب كان حاكم ايران هو الشريف محمد خاتمى الذى ينتمى الى الأشراف ، اى هو أيضا قرشى .

فهل هناك قبيلة فى العالم تماثل قريش فى سطوتها وسلطانها السياسى ؟.

لقد عضدت قريش هذا السلطان السياسى باستغلال الاسلام أو ملة جدها ابراهيم. وتمخض هذا الاستغلال عن إنشاء أديان أرضية ، كلها تنتمى للاسلام وتتناقض معه فى نفس الوقت.وراج فى دين قريش الأرضى حديث منسوب كذبا للنبى محمد يقول ( الأئمة من قريش ) وصارت قاعدة فقهية سياسية فى التشريع السنى ، يمنع أن تكون السيادة السياسية لغير قرشى مهما كان.

أى أن قريش تلاعبت مرتين بالاسلام، فى المرة الأولى حين أصبحت لها السيادة على مكة والبيت الحرام فى عهد قصى أقدم زعيم معروف لمكة ، وهو جد قديم للنبى محمد ، ثم حين أصبحت لها السيادة على المسلمين بعد وفاة النبى محمد .

 

رابعا :معارضة قريش لرسالة القرآن فى إصلاح ملة ابراهيم الاسلامية

لم تدخر قريش جهدا فى حرب الاسلام واضطهاد النبى والمسلمين وهم فى مكة، وبعد أن هاجروا منها ظلت تطاردهم وهم فى المدينة. ،ولم  تعط قريش فرصة التطبيق الحقيقى للاسلام إلا فترة بسيطة ، هى عشر سنوات فى حياة النبى محمد فى المدينة. وأثناء تلك  الفترة كانت تتابع المسلمين بالغارات والحروب لارغامهم على الرجوع الى دين الآباء والأسلاف ، أى الى الدين الأرضى القرشى ، او على حد قول الله تعالى ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن إستطاعوا ) 2 / 217 ). وقد تزعم الأمويون قريش فى هذه الفترة .

 لقد تعرض القرآن الكريم لاحدى الملامح الأساسية للشرك وهى تقديس الاسلاف واتباع ما ساروا عليه ورفض كلام الله تعالى اذا تعارض مع الثوابت المتوارثة بدلا من اصلاحها وتصحيحها بالقرآن الكريم. .ومن هنا كانت الرسالات السماوية تنزل للتصحيح والاصلاح وارجاع الأمور الى نصابها الصحيح بترك الباطل الذى تسامح فيه الناس وتركوه دون نقاش أو اعتراض فاستفحل وتضخم وتورم واصبح متحكما فى الأجيال التالية على أنه من الثوابت وما وجدنا عليه آباءنا.

وقد كان خاتم النبيين عليه وعليهم السلام يدعو قومه الذين حرفوا ملة ابراهيم الى تصحيح عقائدهم بالقرآن، وكانوا يردون عليه بالتمسك بتراث الاسلاف وأنهم وجدوا آباءهم على تقاليد ثابتة راسخة وأنهم بهذه الثوابت متمسكون (31/21 ) ( 5 /104 ). وهو نفس ما يقوله دعاة التطرف الوهابى الآن ، من التمسك بالثوابت وما يسمى باجماع الأمة ، و لايكترثون بتناقض تراثهم وما وجدوا عليه آباءهم للقرآن الكريم.

ومن عجب أن القرآن الكريم سبقهم وجعلها قاعدة عامة فى عقلية المشركين وتدينهم الفاسد فى كل زمان ومكان. فيقول للنبى محمد عن قريش: " بل قالوا انا وجدنا آباءنا على أمة وانا على آثارهم مهتدون" أى انهم على هدى السلف الصالح يسيرون ، وعلى ما أجمعت عليه الأمة يتمسكون ، وتأتى الاية التالية لتجعلها قاعدة مستمرة فى السلوك الاجتماعى اذا سيطرت على المجتمع أقلية مترفة تحتكر الثروة والسلطة وتستعين بكهنوت دينى يحمى مصالحها ويحافظ على أوضاعها الظالمة ضد أى دعوة للعدل ، والاسلام دين العدل كما هو دين العقل. تقول الآية التالية فى تأكيد تلك القاعدة السياسية الاجتماعية " كذلك ما ارسلنامن قبلك فى قرية من نذير ألا قال مترفوها :انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون" ( 43 / 22-23 ).

ان من اعجاز القرآن فى مصطلحاته واشاراته الاجتماعية لفظ "المترفون" وهى تلك الطبقة النى تحتكر الثروة والسلطة على حساب الفقراء الجياع ، ويكون وجودهم نذيرا باهلاك المجتمع . وثقافة التقليد وعبادة الأسلاف اذا سادت فهى التى تدل على هذه الحالة المتردية وتبررها وتؤكد استمرارها لأن المترفين حين يتحكمون فى المجتمع يتحول البشر لديهم الى مجرد ارقام ومتاع متوارث ، يتوارثه المترفون فاجرا عن فاجر بمثل ما سارت وتسير علية الحياة السياسية والاجتماعية للعرب والمسلمين منذ الفتنة الكبرى وحتى الآن.

ويأبى المتطرفون المعاصرون إلا ان يتحقق فيهم اعجاز القرآن فى الآية السابقة .اذ تتكرر فى أدبياتهم الحديث عن "الأمة" "وما اجمعت عليه الامة" بمثل ما تشير اليه الآية الكريمة عن قريش، ويضيفون مصطلح السلف كتعبير آخر عن السلف المهتدى لقريش أو السلف الصالح لديهم ، مع انه فى المرة الوحيدة فى القرآن التى أتى فيها لفظ السلف بمعناه المعروف جاء بما بما يدل على الآباء الضالين، وفى نفس السورة فى الحديث عن قوم فرعون: ( 43 /56 )

واذا كانت عادة المترفين اذا سيطروا أن ينشروا عبادة الأسلاف والتقليد فهى أيضا عادتهم فى الكفر بالدين الحق الذى يدعو الى العدل والمساواة والقيم العليا حيث يزعمون أنهم سيدخلون الجنة مهما فعلوا من  آثام لأنهم الأكثر أموالا وأولادا وجاها ونفوذا ( 34 / 34-35")  . أى يسرقون الأموال ويأكلون حقوق الفقراء ظلما وعدوانا ثم يعطون جزءا منها لرجال دينهم للتكفير عن السيئات وشراء قراريط فى الجنة أو قصور فيها حسبما تصل بهم أكاذيب شيوخ دينهم المفترى. واذا كان سهلا عليهم ابتياع الجنة باليسير من بعض اموالهم فلماذا يحتاجون الى الاسلام الذى يتطلب تغييرا جذريا فى بنية المجتمع وعقليته واعادة لهيكلته ستكون على حساب مصالحهم وما صار بمرور الزمن حقوقا مكتسبة لهم ولأولادهم من بعدهم..

لقد نزل القرآن الكريم يصف الملأ القرشى بالمترفين فى الآيات السابقة من سورة الزخرف. وأكّد أنهم يكذبون بالقرآن لسبب اقتصادى بحت(56 /:81-82") هو حرصهم على امتيازاتهم الاقتصادية الهائلة. فاذا تساءلنا عن منبع هذه الثروة عرفنا انه رحلة الشتاء والصيف والايلاف الذى يجعل قريشا تعيش آمنة فى مكة، ويجعلها تنقل التجارة العالمية بين الهند وأوربا والتى تأتى الى اليمن والشام فتنقلها قريش بين اليمن والشام فى رحلتى الشتاء والصيف. تقطع قوافلها الفيافى فى الصحراء دون ان تتعرض لها القبائل التى تعيش على السلب والنهب. والسبب هو أن قريش تقوم على رعاية الحرم فى مكة، وقد أباحت لكل قبيلة أن تضع صنمها الخاص بها فى الحرم المكى لتقوم قريش على رعاية كل تلك الأصنام مقابل حماية تجارتها السنوية وأمن اهلها فى اقامتهم وترحالهم. والملأ القرشى الذى يحترف التجارة والشطارة يعلم ان عبادة الأصنام خزعبلات وان الهدى فى القرآن الذى جاء به محمد الذى أسموه من قبل بالصادق الأمين. ولكن المشكلة أن دعوة محمد بالقرآن تعنى القضاء التام على تجارتهم وجاههم وكهنوتهم. لذا قالوها صراحة أنهم لو اتبعوا  الهدى الذى جاء به محمد لأكلتهم العرب من كل جانب ( 28 /57). أى أنهم إعترفوا بأن القرآن هدى ، ولكنه ضد مصالحهم الاقتصادية والسياسية. ولذلك تركز رفض قريش على القرآن الكريم. كرهت الاستماع اليه ( 8 / 31 ) ( 22 / 72 ) ( 23 / 66 ، 105 ) ، وطالبت محمدا الاتيان بقرآن بديل يتفق مع أهوائهم( 10 / 15 )، وطالبته بمعجزة حسية بديلا عن القرآن ( 29 / 50 ـ )

جاء الإسلام ليهدد كهنوت قريش ودينها الأرضى الذي أضاع ملة إبراهيم أو الدين السماوى الحق، ولكن الحرص على استمرار الترف على حساب الجياع والفقراء هو الذى دفع الأمويين ـ وهم قادة قريش فى الحرب والتجارة ـ الى اضطهاد المؤمنين الأوائل ، ومعظمهم كان من الفقراء والضعاف المسالمين الذين كانوا يطلبون الأمن بالاستكانة للظلم والصبر عليه.

 

الصراع بين قريش والمسلمين فى حياة النبى محمد

              

قريش بزعامة الأمويين  تضطهد المسلمين الأوائل فى مكة وتطاردهم فى المدينة

 

1 ـ روايات التاريخ الاسلامي بدأت شفهية فى الدولة الأموية ثم تم تدوينها واستقر  في عصر الدولة العباسية . لذلك تلونت كتابة تاريخ سيرة النبى محمد وأصحابه بمفاهيم القوة والتسلط أو بمعني اخر بمفاهيم الامبراطوريات في العصور الوسطى ، وبذلك اتسعت الفجوة بين القرآن والتراث في مجالات التاريخ والتشريع.

وفي ما يخص موضوعنا نجد الفجوة واضحة بين حديث القرآن عن المسلمين الاوائل في عصرالنبي و غزواته وبين السيرة النبوية التي تمت كتابتها بعد النبي  فى عصر الامبراطورية العباسية ،فالسيرة النبوية لأبن اسحاق والتى نقل منها ابن هشام والطبري وغيرهم تركز علي شدة بأس المسلمين في حروبهم في عهد النبي وتؤكد بين سطورها ان الاسلام انتشر بالسيف وذلك كي يبرروا ما حدث بعد موت النبي من فتوحات تخالف تشريع الاسلام , ولكن نري في القرآن شئا اخر مختلفا .

2 ـ والبداية هنا تعود الي مصطلح القرآن عن الذين آمنوا وكيف انه يعني اساسا الذين اختاروا الامن والامان والصبر على الظلم في تعاملهم مع الناس حتي لو كان هؤلاء الناس يعتدون عليهم ويضطهدونهم بسبب الدين. وحتي نفهم المعني المراد بالذين آمنوا في خطاب القرآن لأتباع النبي واصحابه نقرأ قوله تعالي لهم (يا ايها الذين أمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل علي رسوله والكتاب الذي انزل من قبل ،ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا (3 / 136) فالله تعالي يدعو هنا الذين آمنوا الي الايمان بالله ورسله وكتبه السماوية . أي يدعوا الذين اختاروا الايمان السلوكى بمعني الامن والامان ان يضيفوا الي ذلك الايمان القلبي بالله وكتبه ورسله. وعلى هذا النسق فالخطاب للذين آمنوا فى القرآن مقصود به الذين اختاروا السلم و الامن طريقا ،ويأتي الخطاب يدعوهم للايمان القلبي والطاعة واقامة الفرائض , أي يدعوهم الي الايمان القلبي ولوازمه من الطاعات ليتحقق الايمان القلبي مع الايمان الظاهري، او ليتحقق الامن والسلام مع  الايمان بالاله وكتبه ورسله , ويتحقق اخيرا  في الاخرة نعيم الجنة حيث السلام والامان .

وقد كان المسلمون الاوائل ضعافا مسالمين آثروا السلم وتحملوا الاضطهاد والتعذيب ، هاجر بعضهم إلى الحبشة مرتين ؛ ثم أخيرا هاجروا جميعا للمدينة هربا من الإضطهاد . وفى المدينة عاشوا فى حالة رعب  وخوف بسبب الغارات المستمرة التى واصلت قريش ارسالها لقتلهم وارهابهم . ولذا وصفهم القرآن فى بداية عهدهم فى المدينة بأنهم كانوا أقلية مستضعفة تخاف أن يتخطفهم الناس (8 /26) ولذلك وعدهم الله تعالى بأن يستخلفهم فى الأرض ويبدل خوفهم إلى أمن (24 /55 )

وهؤلاء المؤمنون المسالمون الذين اجتمعوا حول النبي في مكة ثم في المدينة اثروا السلم ، ولم يحاول احدهم الدفاع عن نفسه ،وعاشوا يتحملون المطاردة وقتال من المشركين القرشيين الذين يريدون تأكيد جبروتهم بارغامهم أولئك المسلمين المسالمين علي العودة لدين الآباء .وقد وصف القرآن الكريم مشركى قريش بأنهم سيظلون يقاتلون المؤمنين حتى يكرهوهم على الإرتداد عن الإسلام ( 2 /217) أى أنهم لن يكفوا عن قتال المسلمين إلا إذا عاد المسلمون لدين قريش الأرضى وسلطانها السياسى . وإذا تمسك المسلمون بدينهم فالمتوقع ان يستأصلهم المشركون بالقتل والقتال . والحل الوحيد هو أن يدافع المسلمون عن حياتهم وعن حريتهم فى إختيار ما يشاءون من دين أو عقيدة. لذلك نزل تشريع القرآن يبيح لهم الدفاع عن النفس  .

3 ـ وعلماء التراث في العصور الوسطي لا يعطون آيات الاذن في القتال حقها من التدبر لأن التدبر في معناها يعطي حقائق مسكوتا عنها تخالف أديانهم الأرضية.

فالاية الأولى تقول ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحب كل خوان كفور ) (22 / 38 ) فالله تعالى يبدأ هنا بالتأكيد على أنه يحمى ويدافع عن كل مؤمن مسالم يتعرض للعدوان من المعتدين الخائنين .وهنا تشجيع مسبق لكل مظلوم تتعرض حياته لخطر القتل بأن يدافع عن حياته ومعه ربه يؤيده ويدافع عنه. وجاء مزيد من التوضيح فى الآية التالية :

تقول الآية التالية (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله علي نصرهم لقدير ) ( 22 / 39) هنا إذن صريح من الله تعالى لكل من يتعرض للظلم والقتل بأن يدافع عن نفسه بغض النظر عن عقيدته ودينه، اذ يكفي ان يكون مظلوما ومعرضا لاحتمال الابادة بالقتل حينئذ يأتيه نصر الله اذا قاتل دفاعا عن حقه في الحياة .

وقد غفل علماء التراث عن عمومية الآية في تشريعها الالهي لكل مظلوم يفرض الاخرون عليه الحرب ، اى كان من حق الشعوب التى فتحها العرب عنوة ـ باستغلال إسم الاسلام ـ ان يدافعوا عن انفسهم و ان يردوا الاعتداء بمثلة.

 وغفل علماء التراث عن معني آخر أهم ،وهو أن الإيذاء الذي اوقعه المشركون المعتدون بالمؤمنين وصل الي درجة القتل والقتال ، وقد كان أولئك المشركون المعتدون يطاردون ويقاتلون قوما مسالمين لا يردون علي انفسهم القتل ،بل أمرهم الله تعالى بكف أيديهم عن القتال الدفاعى، ومع استمرار هذه المطاردة وذلك القتال من جانب واحد فان الابادة لاولئك المستضعفين حتمية . أي ان القرآن يشير الي حقيقة تاريخية اغفلتها عنجهية الرواة في العصر العباسي الامبراطورى، وهي ان المشركين المعتدين القرشيين بزعامة بنى أمية لم يكتفوا باضطهاد المسلمين المسالمين فى مكة بل أخرجوهم من ديارهم وأموالهم فهربوا الى المدينة ، فلم يتركهم المعتدون فى حالهم بل  قاموا بغارات علي المدينة يقتلونهم فى وطنهم الجديد، ولم يكن بوسع المسلمين الدفاع الشرعى عن أنفسهم لأن الاذن بالقتال لم يكن نزل بعد , فلما نزل التشريع اصبح من حقهم الدفاع عن النفس .

وغفل علماء التراث ايضا عن التدبر في الاية التالية لتشريع الاذن بالقتال .

فالاية تقول (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) (22 /40 )

فالآية هنا تعطي حيثيات الاذن بالقتال لرد العدوان ،الاول ان اولئك المظلومين تعرضوا للقتل والقتال، والثاني انهم تعرضوا للطرد من بيوتهم ووطنهم لمجرد انهم يقولون ربنا الله .

وهذا ما اشار اليه علماء التراث  لكنهم غفلوا بسبب التعصب الديني في عصر الامبراطورية العباسية في القرون الوسطي عن التدبر في الفقرة الثانية من الاية والتي تؤكد انه لولا حق المظلوم في الدفاع عن نفسه لتهدمت بيوت العبادة للنصاري واليهود والمسلمين وغيرهم حيث يذكر العابدون فيها اسم الله كثيرا .

والاهمية القصوي هنا في تأكيد القرآن علي حصانة بيوت العبادة لليهود والنصاري والمسلمين وغيرهم حيث ذكر الصوامع والبيع والصلوات ،أي كل مكان يعتكف فيه الناس للعبادة من اديرة وكنائس وغيرها ثم جاء بالمساجد في النهاية، وقال عن الجميع انهم يذكرون فيها اسم الله كثيرا ولم يقل طبقا لعقيدة الاسلام في الالوهية (يذكر فيها اسم الله وحده) ( 17 / 46 )حتي يجعل لكل بيوت العبادة لكل الملل والنحل حصانة ضدالاعتداء .

والاهمية القصوى هنا ايضا ان تشريع الاذن بالقتال ليس فقط لرد الاعتداء وانما ايضا لتقرير حرية العبادة لكل انسان في بيت عبادته ،مهما كانت العقيدة والعبادة ،فلكل انسان فكرته عن الله وعقيدته في الله وهو  يقيم بيوتا لعبادة الله و لابد ان تكون هذه البيوت واحة آمنة تتمتع  هي ومن فيها بالامن والسلام ،

وتلك هي مقاصد وغايات الجهاد فى الاسلام ، وهو ما غفل عنه علماء التراث .

4 ـ وكان منتظرا من المؤمنين المسلمين المسالمين حول النبي محمد أن يبتهجوا بتشريع الاذن بالقتال ورد الاعتداء والدفاع عن النفس ، فتلك فرصتهم فى الدفاع عن حقهم فى الحياة ، ولكن حدث العكس، إذ أنهم تعودوا الصبر السلبي وتحمل الاذى ولم يكن لهم طاقة بالقتال أو معرفة به ، ولذلك كرهوا تشريع الجهاد برد الاعتداء وغفلوا انه ضرورى لحمايتهم من خطر الابادة لأنه اذا عرف العدو انهم سيهبون للدفاع عن أنفسهم فسيتوقف عن الاعتداء عليهم ،وبذلك يتم حقن الدماء، وفي ذلك خير للفريقين ، يقول سبحانه وتعالي لهم (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ،وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسي ان تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وانتم لا تعلمون) ( 2 / 21:67) لقد كرهوا القتال دفاعا عن النفس وهو خير لهم واحبوا الاستكانة والخضوع لمن يحاربهم وهو شر لهم، والسبب انهم تعودوا السلام والصبر الي درجة اصبحت خطرا علي وجودهم ودينهم .

5 ـ الا ان هذا التوضيح القرآني للمؤمنين المسالمين لم يكن كافيا لبعضهم لكي يخرجهم من حالة الخضوع الي حالة الاستعداد لرد العدوان ، ولذلك فان فريقا منهم احتج على تشريع القتال، ورفع صوته لله بالدعاء طالبا تأجيل هذا التشريع , وفي ذلك يقول الله تعالي (الم تر الي الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله او اشد خشية ،وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا اخرتنا الي اجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقي) ( 4 /77).

كانوا قبلها مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن النفس اكتفاء باقامة الصلاة وايتاء الزكاة فلما فرض عليهم القتال الدفاعي إحتج فريق منهم وطلب التأجيل , وهذا يدل علي عمق شعورهم بالمسالمة وكراهية الدماء .وكانت الغزوات في عهد النبي اكبر دليل علي انحياز المسلمين الأوائل للسلام وكراهيتهم للحرب الدفاعية التي اضطروا اليها.

6  بسبب رفض المسلمين الأوائل فكرة القتال الدفاعى وخوفهم منه أمر الله تعالى رسوله بأن يحرض المؤمنين على القتال الدفاعى ووعد القتلى منهم بالجنة طالما قتلوا فى سبيل الله (8 / 65) ( 3 / 168)، وبدا الأمر بمعارك محدودة قام بها عدد قليل من المسلمين كانوا يتصدون للعدو القرشى يردون إعتداءاته. وكانت المرحلة التالية تحتم الدخول فى مرحلة جديدة هى الدفاع الوقائى.

موقعة بدر :وهنا حدثت معركة بدر التى كانت تجربة نفسية هائلة دخلها أولئك المسلمون المسالمون ، وهم يتصدون إيجابيا مبادرين بالهجوم على قافلة لعدوهم القرشى المتجبر فى تحد واضح له.التحدى هنا ليس فقط لجبروت قريش وقوتها العسكرية ، وإنما أيضا للايلاف.

الايلاف هو ما امتن الله تعالى به على قريش فى سورة" قريش" . والايلاف خارج قريش يعنى تلك المعاهدات التى ابرمتها قريش مع القبائل فى طريق تجارتها بين الشام واليمن فى رحلتى الشتاء والصيف ؛ والإيلاف داخل قريش هى إسهام كل القرشيين فى رأسمال القافلة التى تنقل التجارة بين اليمن والشام ؛ وفى نهاية كل رحلة يصيب كل قرشى من الأرباح بقدر أسهمه فى القافلة .

قلنا إن قريش كانت أشهر وأقوى قبيلة عربية بسبب سيطرتها على الكعبة – بيت الله تعالى الحرام – وسيطرتها على موسم الحج الذى كان يفد اليه العرب فى الأشهر الحرم. وسيطرت قريش على الحياة الدينية لكل العرب اذ كان لكل قبيلة صنمها الخاص الموضوع فى الحرم المكى، وتقوم قريش على رعايته. استغلت قريش الدين فى تأكيد سلطتها السياسية والاقتصادية فنعمت بالايلاف وهو حصانة قوافلها التجارية – رحلة الشتاء والصيف – من النهب والاعتداء ، و لعبت قريش دور الوسيط فى نقل تجارة الهند الآتية الى اليمن فحملتها الى الشام لتصل الى أوربا وروما ، وبالعكس حملت تجارة روما من الشام الى اليمن لتسافر بحرا الى الهند وآسيا. وازدادت قريش ثراء وأمنا فى الوقت الذى عانت فيه القبائل الأخرى من الفقر والتقاتل والسلب والنهب.

هذه التجارة بالدين استلزمت من قريش ان تحافظ على طقوس الشرك الدينى والظلم الاجتماعى فى مجتمعها الرأسمالى القائم على وجود فجوة هائلة بين المترفين الأثرياء والجوعى من الرقيق والفقراء. وحين ظهر الاسلام يدعو الى عدم تقديس البشر والحجر خافت قريش من القبائل المتحكمة فى طريق تجارتها والتى تحيط الكعبة بأصنامها ، لذلك كان القرآن يؤكد  للنبى أن قريشا تعرف أن النبى جاء بدعوة الحق ؛ ولكنها تقف ضده حرصا على مصالحها التجارية ( 28 /57 ) ( 56 / 82) ومن هنا كان إضطهادهم للمسلمين المسالمين إلى أن أجبروهم على الهجرة ثم واصلوا حربهم إلى المسلمين إلى أن نزل الأذن للمسلمين بالقتال الدفاعى حتى لا يستأصلهم المشركون .

وكانت غزوة بدر هى المرحلة الكبرى فى هذا الطريق الدفاعى . وكانت فى السنة الثانية من الهجرة.

 والمسلمون حين خرجوا لأخذ القافلة القرشية التى كان يقودها أبو سفيان الأموى ، لم يكن ذلك قطعا للطريق واستحلالا لأموال الغير بل كان حصولا على حقوقهم المالية الضائعة التى نهبتها منهم قريش ظلما وعدوانا. إن تلك القافلة كانت من إستثمارات اموالهم النقدية التى صادرتها قريش من أسهمهم فى الإيلاف ؛وكانت أيضا حصيلة ممتلكات المسلمين العينية والعقارية والديون التى كانت لهم وتركوها فى مكه. أى أنهم كانوا يردون حقهم المسلوب الذى كانت تتاجر به قريش منذ الهجرة إلى وقت غزوة بدر . هذا الى جانب انه رد على اعتداءات سابقة كانت فيها قريش تطارد المسلمين وتهاجمهم وتسلب اموالهم وهم لا يستطيعون الدفاع عن انفسهم لأن الاذن بالقتال لم يكن قد نزل وحيا من السماء بعد.

وقد وعد الله المؤمنين بالنصر أو غنيمة القافلة. وتزعم الروايات التراثية تسابق المسلمين جميعا فى بدر للفداء والتضحية والخطب الحماسية ، الا إن القرآن الكريم يؤكد على العكس ؛ وهو أن فريقا من المسلمين فى بدر كانوا كارهين للحرب حين تحتم الإصطدام الحربى ؛ وأنهم كانوا يجادلون النبى فى الحق الواضح الذى تبين . فلما لم يكن هناك مفر من الحرب كانوا كأنما يساقون الى الموت وهم ينظرون (8 /5؛6) .

هذا هو حال المسلمين البدريين ـ وهم أعلام الجهاد فى كتب التراث نفسها  ـ كانوا مسالمين خرجوا لاستنقاذ بعض اموالهم الضائعة فلما عرفوا انه يتحتم عليهم دخول حرب حقيقية خافوا وارتعبوا ، وجادلوا النبى ثم اضطروا لخوض الحرب . هذا أيضا هو حال الاسلام الذى يجعل تشريع القتال ليس للهجوم وإنما للدفاع فقط ورد الإعتداء بمثله (2 /190 – 194 ) . 

7 ـ كان إنتصار المسلمين بعددهم القليل (317 رجلا ) على جيش قريش (950  رجلا ) عارا هائلا لقريش وتحديا لمكانتها لذلك سارع أبو سفيان فى العام التالى وزحف بجيش ليحتل المدينة ، فتحمس المسلمون وخرجوا للقائه عند جبل أحد ، وفى البداية انتصر المسلمون ولكن جاء النصر فى النهاية لقريش ، وعاد ابو سفيان وقد ثأر لقريش وللقتلى من زعمائها فى معركة بدر السابقة.

8 ـ وعزم أبوسفيان على استئصال المسلمين عن آخرهم فى المدينة. فجمع كل حلفائه من القبائل العربية وتكون منهم جيش (الأحزاب ) وسميت بغزوة الأحزاب نسبة لذلك التجمع العسكرى الهائل، كما سميت بغزوة الخندق بسبب الخندق الذى حفره المسلمون حول المدينة لحمايتها من من جيش الأحزاب.ونزلت فيها سورة الأحزاب .

وفي غزوة الاحزاب التى حدثت فى السنة الخامسة من الهجرة حوصرت المدينة فبلغ الخوف من المؤمنين غايته ،وادي الخوف ببعضهم الي الهرب وتعويق المقاتلين ونشر الاشاعات ، وفي المقابل ظهر المعدن الاصيل لبعض المؤمنين فازدادوا ايمانا وتسليما. ( 33 / 10،11 ، 18،19،60 ، 22، 23))  

9 ـ وفي غزوة ذات العسرة آخر الغزوات ظل المسلمون حتي ذلك العهد غير متحمسين للقتال ورد الاعتداء مما جعل آيات القرآن اكثر تأنيبا لهم (9 / 13،16، 38 )إذ كانوا يتثاقلون اذا جاءهم الامر بالقتال ،أي ان التثاقل ظل معهم من البداية الي نهاية عهد النبي، هذا بخلاف المنافقين , فنحن نتحدث عن الذين آمنوا لنعرف كيف انهم آمنوا بمعني احبوا الامن والامان وكرهوا الحرب والقتال حتي لوكان الحرب والقتال دفاعا ضد عدوان لا ينتهي .

10 ـ هذا ما كان عليه المسلمون الاوائل ضد مشركي مكة ولكن مالبث ان دخل مشركوا مكة بزعامة الأمويين  في الاسلام بعد فتحها، وسرعان ما تصدروا جيوش المسلمين في حرب الردة بعد موت النبي  ثم تصدروا الجيوش في فتوحات الشام ومصر ثم حكموا البلاد المفتوحة ثم وثبوا على السلطة واقاموا الامبراطورية الاموية بالحديد والنار، وتوارثوا السلطة وبدأ تكوين أديان أرضية جديدة خلال هذا الصراع السياسى والحربى.

 

  تطبيق الاسلام في عهد النبى محمد ودولته الاسلامية ( 622 ـ 632 )

              

مقدمة

1 ـ ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فى مكة فى  20ابريل سنة 571 بعد الميلاد. وعندما بلغ الأربعين من عمره أعلن نبوته ونزول الوحى السماوى القرآنى له، وباشر الدعوة لتصحيح دين ابراهيم متحديا قريش ودينها الأرضى. وبعد اضطهاد وتعذيب لأصحابه هاجروا الى المدينة فى 20 سبتمبر سنة 622 وبها بدأ المسلمون دورا جديدا فى تاريخهم ، وبها يبدأ المسلمون تقويمهم السنوى. وفى المدينة أقام النبى محمد أول وآخر دولة اسلامية قرآنية مارست الديمقراطية المباشرة وهى تحت خطر الحصار والاستنفار والاستهداف، وظلت هذه الدولة متماسكة حتى رأت قريش نفسها ان مصلحتها تحتم الدخول فى ( دين محمد ). وهذا ما حدث قبيل وفاة محمد فى 8 يونية سنة 632.

2 ـ بدخول قريش وإستكانتها للوضع الجديد عمّ السلام فى شبه الجزيرة العربية ، ورأى النبى محمد عليه السلام قبيل وفاته دخول الناس فى دين الله أفواجا طبقا لما جاء فى سورة النصر . هو عليه السلام رأى دخولهم الاسلام السلوكى الظاهرى اى إلتزام السلام ، وليس الاسلام القلبى الغيبى الايمانى بالله جل وعلا وحده لا شريك له ، لأنه عليه السلام لم يكن يعلم غيب القلوب ولم يكن يعلم أن من بين أصحابه المقربين من مرد على النفاق وذكرهم رب العزة جل وعلا وتوعدهم بعذاب مرتين فى الدنيا وبالخلود فى النار فى الآخرة .( التوبة 101 ). 

ونعطى لمحات تفصيلية عن مدى تطبيق الاسلام فى عهد محمد عليه السلام.

 

  دور الوحي في توجيه حركة النبي وفى تضييق الفجوة بين الاسلام وتدين المسلمين فى عصر النبوة :

 

1 ـ نزلت الرسالة السماوية الاخيرة قرآنا محفوظا من التحريف والتغيير في نصه ولفظه ليكون حجة علي البشر حتي قيام الساعة .وفي القرآن جانب هام يعزف المسلمون عن التدبر به ،وهو العتاب واللوم الذي كان يوجهه الله تعالي الي الانبياء خصوصا خاتم النبيين عليهم السلام ،اذ ان الأديان الأرضية لدى المسلمين تؤلّه الانبياء فضلا عن غيرهم من الصحابة والائمة والاولياء. والتدبر في هذا الجانب يهز ذلك الاعتقاد عند المسلمين .

ويهمنا ان القرآن يؤكد علي بشرية الأنبياء ،ويؤكد علي أن عصمة النبي محمد تكون بالتوجيه الالهي الذي يتابع النبي بالتصحيح ( 34 /50)(4 / 79 )

2 ـ وتصرفات النبي محمد منها ما كان مستوجبا للعتاب واللوم ، ومنها ما كان مستوجبا للمدح والإشادة .مدحه الله تعالي ومدح المؤمنين حين بايعوه تحت الشجرة (48 /18)وحين جاهد وجاهدوا معه بأموالهم و انفسهم (9 /88:89:92). وعاتبه برفق حين سمح للمنافقين بالقعود عن القتال (9 / 43)وعاتبه أحيانا بقسوة قائلا (وتخشى الناس والله احق ان تخشاه ) (33 / 37) .وفي حركته في الدعوة عاتبه كثيرا بسبب حماسه الزائد (10 /99) وأكد علي ان يترفق بنفسه فلا يحزن علي عناد قومه القرشيين (18 /  6 )(35 /  8 ) ( 11 / 12 ) (16 / 127) (15 / 97) ( 3 / 176 ) (5 / 41،) ( 6 / 33). وفي حركته بالدعوة عاتبه الله حين كان يتقرب من المشركين القرشيين اصحاب السطوة املا في هدايتهم ،وقد يطرد المؤمنين الفقراء ليستجيب اليه هؤلاء الاغنياء (80 / 1-،) (20 / 28-) (6 / 52:54).

3 ـ وفي كل هذه التصرفات التي استلزمت المدح او العتاب واللوم كان النبي محمد يناضل  بجهده البشرى لتغيير الواقع الذى يتحكم فيه أصحاب السلطان والهوى والذين لايريدون تغيير المناخ الذي يقوم عليه تراثهم وسلطانهم . وتحول رفض المشركين القرشيين الي اضطهاد للنبى محمد والمؤمنين  ثم الي هجرة ، ثم الي قيام واقع جديد تمثل في دولة للرسول تخالف المألوف في العالم سياسيا واجتماعيا ودينيا .

 

  ملامح دولة النبي محمد عليه السلام: أكمل تطبيق بشرى ممكن للاسلام.

 

هي دولة تقوم علي:

1 :   : السلام ،وهو معنى الاسلام سلوكيا . لذا فالقتال فيها لرد العدوان بمثله دون اعتداء أو استيلاء علي ارض الغير بدون وجه حق (2 / 190،194). والمشركون الخصوم طالما لا يعتدون أو يتحالفوا مع المعتدين فالواجب معاملتهم بالبر والعدل (60 / 9)، فاذا اعتدوا وانهزموا وجب علي المعتدي المهزوم دفع غرامة حربية هي الجزية جزاء اعتدائه (9 / 29).

2  : حرية العقيدة في دولة النبي متاحة بالقول والفعل بدون حد اقصي حيث ان الهداية مسئولية شخصية فمن اهتدي فلنفسه ومن ضل فعليها (17 / 15)وحيث يمارس المنافقون دور المعارضة الدينية والسياسية متمتعين بحريتهم في القول والفعل أينما شاءوا ،وينزل القرآن يحكم بكفرهم العقيدى والسلوكى ولكن يأمر النبي والمسلمين بالاعراض عنهم طالما لم يعتدوا على المسلمين بالسلاح(4 /60:63)(9 / 60:68،79:84،94:96).

  3 ـ  وظيفة الدولة هي اقامة العدل وتوفير الامن .وهي دولة العدل الاجتماعي الذي يقوم علي حقوق اساسية للمحتاجين، وينزل القرآن يلوم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل (4 / 36 :39 ) ( 47 / 3).

4 ــ الديمقراطية المباشرة أو الشورى الاسلامية القرآنية حيث يستمد الحاكم النبي سلطته من الناس وليس من الله ، ويأمره ربه ان لا يكون فظا غليظ القلب والا انفضوا عنه ،واذا انفضوا عنه فلن تكون له دولة ،لذا امره ان يعفو عنهم وان يستغفر لهم وان يشاورهم في الامر (3 / 159 ). هي دولة ليس فيها حاكم بالمعني المألوف حتي في النظم الديمقراطية النيابية الحديثة لأنها دولة يحكمها أصحابها ،بل ان اولي الامر المشار اليهم في القرآن هم اصحاب الخبرة ، ومصطلح الحكم في القرأن لا يعني الحكم السياسي ، وانما يعني الحكم القضائي بين الناس (4 / 58).ولأنها دولة الديمقراطية المباشرة فان الخطاب فيها يتوجه الي جماعة المسلمين لا الي الحاكم ،فجماعة المسلمين هي التي تقيم الشوري (42 / 38)وهي التي تحكم بالعدل (4 / 58) وهي التي تعد القوة العسكرية لا للاعتداء وانما للردع فقط حقنا للدماء ( 8 / 60).وهي دولة الديمقراطية المباشرة التي لاتعرف الحاكم الفرد او الحاكم الذي يمثل مصالح طبقية أو فئوية .

ولأنها كذلك فان النبي محمدا مات دون ان يعهد بالحكم لأحد من بعده ،لأن لدى المسلمين آليات للحكم الديمقراطي المباشر .هذا بالطبع ان التزموا بسنته الحقيقية وهى الشرع القرآنى فى السياسة والحكم ، المشار اليها فى السطور السابقة.

ولكن ذلك لم يحدث .

ومن هنا بدأت تتسع الفجوة بين اكمل تطبيق بشرى للاسلام فى عهد النبوة (قام به النبى محمد عليه السلام ومعه السابقون فى العمل والايمان من أصحابه البررة ) وبين تطبيق شريعة الاسلام فى عهد الخلفاء (الراشدين) . وكلما مر الزمن ازدادت الفجوة اتساعا الى أن أقامت قريش وغيرها أديانا أرضية تقمصت إسم الاسلام..

 

وجود فجوة بين التشريع والتطبيق فى عهد النبى محمد عليه السلام

 

1 ـ هذا التطبيق فى عهد النبوة لم يخل من وجود فجوة بفعل عجز البشر ـ ومنهم الأنبياء ـ عن بلوغ الكمال. فالله تعالى هو الذى لا يخطىء قط ، وكل البشر خطاءون وخير الخطائين التوابون. ولأن الكمال المطلق لله تعالى وحده فاننا نقول (سبحانه وتعالى ) أى تنزه وتعالى وتقدس وتطهر أن يقع فيما يقع فيه البشر أو أن يوصف بما يوصف به البشر.

2 ـ  كان خاتم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ يبذل أقصى جهده فى تعليم المسلمين السمو الخلقى ، وكان منهجه ودليله ومصدره القرآن الكريم. وقد تكرر فى القرآن أن من وظائفه عليه السلام هو تعليم أصحابه الكتاب والحكمة. ومن مراجعة مصطلح الحكمة نجدها مرادفة للكتاب أى القرآن ( 2 / 231ـ ) (17 / 38 ـ ) (33 / 34 ) أى انه كان يعلمهم تطبيق القرآن و تنفيذ شرعه. وتلك هى سنته الحقيقية وخلقه السامى عليه السلام. وقد تردد فى القرآن انه عليه السلام كان مأمورا باتباع وحى القرآن الكريم مثلنا ( 6 / 50 ، 106، 153 ،155)( 7 / 157 ، 158 ،203 ) ( 10 / 15، 109) ( 33 / 2 ) (46 / 9 )(45 /18 ).

 وكان عليه السلام  يبشر وينذر ويذكّر بالقرآن فقط ( 6 / 51 ، 70، 92 ) ( 7 / 2 ) (17 /46) ( 18 /1 : 2 ) ( 19 / 97 ) ( 28 / 46) ( 32 / 3) ( 42 / 7) ( 46 / 12 ) (50 / 45).

2 ـ ومن القرآن الكريم نفهم أن دروس التعليم كانت فى المسجد فى خطب الجمعة وفى مجالس الشورى ( 62 /9 : 11 ) (  58 / 11 ).فى تلك المجالس كان يتم تدارس القرآن مع النبى ( 6 /  105) ( 3 / 79) (34 / 44 ) كما كان يتم تطبيقه فى الواقع المعاش.

3 ـ  والتحدى الأكبر الذى واجه النبى و المسلمين فى المدينة كان وجود المنافقين ، وهم أصحاب سطوة وجاه فى المدينة قبل هجرة النبى والمسلمين اليها. لم يستطيعوا ترك قومهم كما لم يستطيعوا الرضى بالاسلام وقدوم المسلمين المهاجرين للعيش فى ( مدينتهم )، لذا أسلموا ظاهريا مع شدة حقدهم على الاسلام والمسلمين والنبى محمد.

حديث القرآن الكريم عن مكائد المنافقين وفضحه لتآمرهم كان قرآنا يتلى فى الصلاة وفى غير الصلاة، مما أسهم فى تحجيم ضرر المنافقين ، وجعل غلاة النفاق ـ وهم أشد الناس عداء للاسلام ـ يكتمون مشاعرهم ويتحولون الى فريق مرد على النفاق خوفا من افتضاح مشاعرهم وفقدهم لمكانتهم المميزة بين المسلمين وحول النبى محمد عليه السلام ، فاشتدوا فى كتم عقائدهم الى درجة أن  النبى محمد عليه السلام لم يكن يعرفهم.

 أولئك الذين مردوا على النفاق كانوا من الأعراب االذين عاشوا حول المدينة وكانوا أيضا من أهل المدينة . بهم إتسعت الفجوة بين الاسلام والمسلمين . كانت الفجوة ضيقة فى عهد النبوة بين الاسلام كدين والتطبيق البشرى للمسلمين ثم تحولت الى خصومة مُعلنة فى عصر الخلفاء ( الراشدين ) ، بعد موت النبى محمد عليه السلام مباشرة ، إذ إرتفعت رءوس النفاق من قريش والأعراب وتصارعا ، وبصراعهم تشكل تاريخ ( المسلمين فى عصر الخلفاء القرشيين : الراشدين والأمويين والعباسيين ) .

وفى هذا الصراع نشأت أديان المسلمين الأرضية .وتوارثنا منها فى عصرنا السُّنّة والتشيع والتصوف ، بمذاهبها وطوائفها وطُرُقها ومللها ونحلها وشرائعها التى تخالف الاسلام جُملة وتفصيلا .

ونبدأ بعد هذا الفصل التمهيدى نشأة وتطور الأديان الأرضية للمحمديين ، بالفصل الأول عن عصر الخلفاء ( الراشدين ) .

 

 

 

 

  

الفصل الأول :

 تأسيس التناقض بين الاسلام والمسلمين في عهد الخلفاء ( الراشدين ) (11-40هـ)(632-661م):

 

الخريطة العقائدية للمسلمين بين عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين

 

مقدمة :

1 ـ بموت النبى محمد عليه السلام برزت فجأة القوى الكامنة المتمثلة فى  زعامات قريش التى أحنت رأسها مؤقتا فى أواخر حياة النبى بعد هزيمتهم فى حركة الاسترداد لمكة والتى نفهم حدوثها من سورة التوبة ، ورضيت مدة قصيرة بأن تكون من ( الطلقاء ) ، وبموته عليه السلام تحالفوا مع زعماء القرشيين المهاجرين من قبل، وأعادوا سطوة قريش بإسم الاسلام ، وهمّشوا الأنصار فى المدينة ، وتصارعوا مع الأعراب فيما يعرف بحرب الردة ، ثم أعقبتها الفتوحات ثم الحروب الأهلية أو لقبها المهذب : (الفتنة الكبرى ) والتى أدت فى النهاية الى تأسيس المُلك الأموى الاستبدادى الوراثى ، والذى أدى الى فتنة كبرى ثانية بموت يزيد بن معاوية .

2 ــ التحول للكفر بعد موت النبى ليس غريبا فى تاريخ الأنبياء . فى نبوة عيسى عليه السلام كانت المواجهة قاسية بينه وبين الكهنوت اليهودى القائم فى فلسطين، وحاولوا قتله وما قتلوه وما صلبوه ، ولكن يعتقد المسيحيون بقتله وصلبه . والمهم لدينا أن المعارضة لآخر نبى قبل خاتم النبيين كانت بهذه القسوة ، وفى التراث المسيحى أن بعض الحواريين خان المسيح وبعضهم أنكره وتبرأ منه . ثم أعقب ذلك تأليه المسيح على يد بولس . خصوم المسيح لم يكونوا قوة حربية بل كانوا خاضعين للوالى الرومى . إختلف الحال فى الصحراء العربية حيث التقاتل هو لغة التعامل بين القبائل وحيث تحترف قريش الثروة والسيطرة على الحياة الدينية للقبائل العربية . وبسيطرتها إضطهدت النبى وأصحابه وتآمروا عليه ليقتلوه ، ونجا منهم فتابعوه وأصحابه بالحروب ، وانتهى الأمر بإنتشار المعرفة بالقرآن الكريم وإقتناع القبائل العربية بعبثية عبادة الأصنام وعبثية خضوعهم لقريش التى ما أغنت عنها آلهتها شيئا ، واصبحت تجارة الشتاء والصيف القرشية فى خطر فأسرعت قريش تلحق بقطار الاسلام ، ثم نقضت العهد وانهزمت ، فركنت الى السلام ، وبذلك دخل العرب فى دين الله جل وعلا أفواجا ، أى دخلوا فى الاسلام السلوكى بمعنى السلام . ولكن هذا الاسلام أو السلام الظاهرى كان يخفى تيارات داخلية تنتظر فرصة الوثوب ، وبموت النبى محمد وثبت على السطح ، فتبدد السلام ، وإشتعلت الحروب بين قريش والأعراب ، ثم كانت الفتوحات العربية القرشية .

3 ــ وهذا هو الفارق بين التحول العقيدى دون قتال الذى حدث بعد موت المسيح والتحول العنيف الذى حدث بعد موت النبى محمد . هو الفارق بين العرب المسلحين الذين يتعيشون من الغارات والسلب والنهب والسبى ثم جعلوه جهادا إسلاميا وبين بنى إسرائيل فى فلسطين الذين خضعوا لقوة حربية بيزنطية ، وإستسلموا لها ، وبموت المسيح كان التحول فى العقيدة بتأليه المسيح مع المسالمة . ثم ما لبث أن خضعوا للعرب الفاتحين . 

نعطى لمحة عن جذور هذا التحول فى حياة الصحابة الذين لا يزالون آلهة فى عقيدة معظم ( المسلمين ) .

 

 فكرة سريعة عن الخلفاء ( الراشدين )

1 ـ تكون مجتمع المدينة من الأنصار ـ وهم أهل المدينة الحقيقيون من قبيلتى الأوس والخزرج ـ والمهاجرون  من مكة وغيرها. وفى أول عهده آخى النبى محمد بين المهاجرين والأنصار. مات النبى محمد فاجتمع الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة وبحثوا فى إختيار من يخلف النبى محمدا، وكان زعيم الأنصار سعد بن عبادة هو المتحدث فى الاجتماع والمرشح باسم الأنصار لخلافة النبى. أسرع الى الاجتماع أبوبكر وعمروأبو عبيدة بن الجراح، بينما إنشغل (على) بتجهيز دفن جثمان النبى محمد. إستغل أبوبكر وعمر وأبو عبيدة التنافس القديم بين الأوس والخزرج وأعلنوا أن العرب لا يمكن أن تخضع إلا لقريش ، وانتهى الاجتماع بانتخاب أبى بكر خليفة لأنه أقدم الناس صحبة للنبى محمد.

2 ــ فى خلافة أبى بكر (11 ـ 13 هجرية ) ( 632 ـ 534 ) هزمت قريش أعراب حركة الردة المتمردة على عودة السطوة القرشية ، وبعد إخضاعهم إستغلوهم جنودا فى الفتوحات ، وهجموا على أكبر قوتين فى العالم وقتها ـ الفرس والروم ـ يفتحون أملاكهما فى العراق والشام.ومات أبو بكر أثناء الفتوحات.

3 ــ قبل موته عهد أبوبكر بالخلافة بعده الى عمر بن الخطاب الذى حكم فيما بين (634 ـ 644 ) فى عهده توطد الفتح فى الشرق الأوسط . وتميز حكمه بالحزم والعدل ( مع العرب ) وظلم أهل البلاد المفتوحة ونهب أموالهم بالجزية والخراج وسبى ذراريهم ونسائهم ، وإغتاله أبو لؤلؤة المجوسى. وقبيل موته أوصى ستة من أقدم المسلمين القرشيين المهاجرين بأن يختاروا من بينهم حاكما يخلفه ، وهم على بن أبى طالب ، وعثمان بن عفان ، والزبير بن العوام ، وطلحة بن عبيد الله ، وسعد بن أبى وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف، وجعل معهم إبنه عبد الله ليقوم بالانتخاب والترجيح دون أن يكون له حق الترشيح. إجتمع الستة ولم يصلوا الى نتيجة ، أخيرا رضوا باقتراح عبد الرحمن بن عوف ، وهو أن يتولى الخلافة مؤقتا مدة أيام معدودة يستطلع فيها رأى الناس فيمن يرونه الخليفة بعد عمر فيقوم باختياره. ووضح إنقسام الرأى العام بين إختيار على أو عثمان. وفى الوقت المحدد وبتدبير من الأمويين تم إختيار عثمان ( الأموى ) بدلا من على ( الهاشمى ) .

4 ـ تولى عثمان بن عفان وحكم فيما بين ( 644 ـ 656 ) . وقد أكمل بعض الفتوحات فى الشرق ، وبسبب ضعف شخصيته سيطر عليه أهله الأمويون كما سيطرت على ثروات البلاد المفتوحة التى فتحتها قريش بسيوف أولئك الأعراب وبدمائهم ، فقامت عليه ثورة الأعراب فحاصروه فى بيته وقتلوه، وقام الثوار بتعيين (على ) خليفة.

5 ـ وحكم على بن أبى طالب خمس سنوات ( 656 ـ 661 ) كانت كلها حروبا أهلية ، انتهت بانفضاض أنصاره عنه وخروج بعضهم عليه وقتله.وكان كل ذلك لصالح معاوية بن أبى سفيان الأموى .

6 ـ وبويع الحسن خليفة بعد أبيه على بن أبى طالب ، ولكنه أدرك عجزه عن مواجهة معاوية فتنازل له عن السلطة فيما عرف بعام الجماعة ، وتولى معاوية الخلافة فحولها الى ملك قائم على القهر والتوارث العائلى.

7 ــ كيف إنتهى الأمر بالمسلمين الى أن يحكمهم الأمويون الذين كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا؟ هذا ما نحاول توضيحه بايجاز هنا.

 

  الخريطة العقائدية للمسلمين بين عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين .

 

1 ــ أسّس عصر الخلفاء ( الراشدين ) التناقض مبكرا بين الاسلام والمسلمين فى العقيدة والشريعة ، ثم تم تأليف أديان أرضية فيما بعد تزعم الوحى الالهى لتستر عورة هذا التناقض . وهذا يستلزم تفسيرا قرآنيا تاريخيا للصحابة ، أو القوى السياسية والاجتماعية التى أحاطت بالنبى معه ، ثم استمرت فاعلة بعده. لم يكن الصحابة ملائكة وانما هم بشر ، واذا كان النبى محمد بشرا يخطىء ويصيب ويأتيه اللوم والعتاب فكيف بأصحابه؟

2 ــ نزلت سورة التوبة ( من أواخر ما نزل من القرآن ) تحوى خريطة عقيدية لأهل المدينة فى أواخر حياة النبى ، نزلت وفى مقدمتها اعلان الاهى بالبراءة أو التبرؤ من المشركين المعتدين القرشيين الذين لا يرقبون فى مؤمن عهدا ولا عقدا ، والذين أدمنوا الاعتداء ونقض العهود ، والذين أخرجوا النبى والمسلمين من قبل من مكة وألجأوهم للهجرة الى المدينة ، فلما دارت الأيام وانتصر عليهم المسلمون وفتحوا مكة وعفوا عنهم وعقدوا معهم عهودا ومواثيق فقاموا بنقض تلك العهود واستمروا فى الاعتداء. لذلك نزلت سورة التوبة أو براءة تعلن تبرؤ الله تعالى منهم ، وتعطيهم مهلة أربعة أشهرـ هى الأشهر الحرم ـ  حتى يتوبوا ويرجعوا الى المسالمة وعدم العدوان ، فإن تابوا وأصبحوا مسالمين فهم أخوة فى الدين وإلا فلا مناص من قتالهم ، ولا مناص من منعهم الدخول للبيت الحرام الذى جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا ، وجعل أمانا لكل من دخله، ولا بد فى استتباب الأمن من ردع أولئك المعتدين الذين استمروا فى الاعتداء على المسلمين فى البيت الحرام وغيره . هذا ما جاء فى الجزء الأول من سورة التوبة ( 1 : 28 ) التى لم تبدأ ببسملة ( بسم الله الرحمن الرحيم ) بسبب شدتها فى الانكار على أولئك المعتدين ، ودعوة المسلمين الى التصدى لهم.

3 ــ بالتدبر فى تلك الآيات نجدها تتحدث عن زعماء مكة القرشيين فقط .  فالتوصيف القرآنى لا ينطبق الا عليهم ، فهم أئمة الكفر، والذين بدءوا العدوان أول مرة ،وهم الذين زعموا التميز بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهم الذين لهم مصلحة فى إفساد أمور الحج بعد أن سيطر المسلمون على مكة وتبعيتها للمدينة ودولة النبى فيها ، لذا قام أولئك القرشيون بقتال الحجاج وبقية المسلمين المسالمين فى مكة وما حولها.

4 ـ ولأن لهم قرابة داخل المؤمنين الذين هاجروا من قبل مع النبى فقد تحالف معهم بعض المؤمنين بينما تكاسل البعض الآخر عن رد عدوانهم ، ولذلك وجّه الله تعالى لوما قاسيا لأولئك المؤمنين الذين ألهاهم فرحهم بعودة العلاقات مع القرشيين من قومهم ، وانتصر داخلهم تعصبهم القبلى لقريش على انتمائهم للاسلام ، فنزل الوحى يؤنبهم ويهددهم بأن يكونوا مثلهم فى الكفر والعدوان إذا استمروا فى ممالأتهم وموالاتهم فى اعتدائهم على بقية المسلمين فى الحرم ــ بعد أن صارت على النبى مسئولية الحفاظ على الحرم وتأمين الحجيج .  ما نقوله هنا ليس سوى قراءة منهجية لمضمون الآيات الكريمة من سورة التوبة ( 1 : 28 ) وفهمها ضمن السياق القرآنى السابق عن مشركى قريش واعتداءاتهم. .

5 ـ لم يقم الرواة القدامى واللاحقون بتغطية تلك الأحداث الهائلة التى استوجبت نزول سورة التوبة بهذا الخطاب العنيف.  ومن المنتظر أن يتحرج الرواة الأوائل فى العصر العباسى الأول من أهل مكة والمدينة من ذكر ما حدث لأنه يفضح آباءهم وأجدادهم. فظلت عشرات الآيات القرآنية التى تتحدث عن المنافقين وغيرهم من أهل مكة والمدينة بدون روايات تاريخية توضح من هم بالضبط أئمة الكفر وماذا فعلوا ومتى وكيف ، ومن هم المنافقون ومن هم المروجون للاشاعات و من هم المعوقون ومن هم بطانة السوء ، ومن هم الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم إزدادوا كفرا ، ومن هم الذين كانوا يسارعون فى الكفر.. الى آخر ما حفل به القصص القرآنى عن الصحابة فى عصر النبى محمد ، وتحرج أحفادهم الرواة من التعليق عليها تاريخيا. وفى النهاية فهذا منتظر ومفهوم إنسانيا ، فمن منّا يستسيغ أن ينشر العار عن آبائه وأجداده الذين يحمل نسبهم وينتمى لهم ؟  وهذا أيضا منتظر ومفهوم عربيا ، حيث تميز العرب بحفظ الأنساب والفخر بالحسب والنسب ، ومن الطبيعى أن تتلون روايتهم للتاريخ بهذا التعصب للقبيلة والأسرة والسلف . وهذا ما حدث ، وما لبث أن تغلف بالتدين الفاسد فتحول الذين لعنهم الله تعالى ولامهم وأنّبهم وعاب عليهم الى صحابة عدول معصومين من الخطأ ، أو أنصاف آلهة. وتحول أبناؤهم التابعون لهم على نفس الطريق سلفا صالحا له حظ ونصيب من التقديس. وبالتالى ظلت آيات القرآن الكريم التى تتحدث عن المنافقين والكافرين من الصحابة  ـ تتحدث فى فراغ ، لا يعرفها معظم المسلمين. والدليل فزع المسلم العادى حين يقرأ هذا الكتاب ، مع أننا لا نقوم إلا بعرض الآيات القرآنية فقط فى سياقها الموضوعى وبمفاهيمها .

6 ــ إن منهج القصص القرآنى هو التركيز على العبرة دون اهتمام بذكر أسماء الأشخاص ، ودون تحديد الزمان والمكان ، ليظل الحدث دائرا فى مجال الوعظ فوق الزمان والمكان. ومهمة التأريخ ان يملأ تلك الفراغات بتوضيح أركان الحدث بالأسماء والمكان والزمان... و بتجاهل الرواة لما حدث بعد فتح مكة من اعتداءات قام بها زعماء قريش فإنه لا يبقى معنا الا ما جاء فى سورة التوبة ، وهو ما يجب الايمان به على كل حال ، سواء ذكر الرواة تفاصيله أم تجاهلوه.

7 ـ طبقا للقرآن الكريم فان زعماء القرشيين دخلوا الاسلام بعد عداء استمر طيلة البعثة، ثم ثاروا على النبى والمسلمين بعد فتح مكة ونقضوا العهد والميثاق مما استلزم نزول سورة براءة أو التوبة. ثم مات النبى محمد وانقطع القرآن الكريم نزولا. فهل أصبحوا بعد موت النبى محمد ملائكة أطهارا ؟ وهل نسوا حياتهم السابقة وثاراتهم ضد الاسلام والمسلمين ؟

8 ــ نحن هنا نتحدث بالتحديد عن بنى أمية الذين ما لبثوا ان دخلوا فى الاسلام مؤخرا بعد طول عداء وقتال ليحولوا دفته الى نحو ما اعتادوه من قبل من عدوان واعتداءات ، خرجت عن نطاق الجزيرة العربية لتغزو تحت راية الاسلام أمما وبلادا لم يسبق لها ان إعتدت على المسلمين . بهذا الغزو (الاستعمارى  الاستيطانى ) تأسست امبراطورية قرشية عربية ، واستوطنت قبائل العرب ما بين حدود الصين الى جنوب فرنسا ، وحكمها فيما بعد أحفاد آخر من دخل فى الاسلام، وهم ابناء الأمويين وأبناء العباسيين . 

9 ـ وفى النصف الأخير من سورة التوبة  وقبلها سور المائدة والنساءوالمنافقون والحشر والأحزاب والمجادلة  نجد حديثا مركزا عن مكائد المنافقين واتهاما لهم بالكفر ، ثم نفاجأ بأن هذا الحديث لا يشمل الا المنافقين الظاهرين الذين فضحوا أنفسهم بالتآمر. ولكن هناك صنفا من المنافقين مرد على النفاق ، كتموا كفرهم خداعا فلم يعرفهم النبى محمد لأنه لا يعرف غيب القلوب، وقد تحدث عنهم رب العزة مؤخرا فى أواخر ما نزل فى سورة التوبة متوعدا اياهم بعذاب شديد مرتين فى الدنيا ثم العذاب العظيم فى الآخرة، ومعنى ذلك انهم سيموتون على نفاقهم بدون توبة، وبينما عرض الله تعالى التوبة على المنافقين الذين فضحوا أنفسهم بأقوالهم وأعمالهم ( 4 / 145 ـ 155 ) (9 /74 ) الا ان أولئك الذين مردوا على النفاق أنبأ رب العزة باستمرارهم فى الكفر دون توبة الى حين موتهم فيما بعد. كما أخبر أن الله تعالى لن يقبل توبة فريق آخرمنهم مهما استغفر لهم النبى لأنهم لن يتوبوا و لا فائدة فيهم ( 9 / 80 ) ( 63 / 1 : 6 ). كلها اشارات ربانية الى أنهم بعد موت النبى وبعد انتهاء القرآن نزولا سيفسدون فى الأرض وهم آمنون من نزول القرآن يكشف مكائدهم كما كان يحدث من قبل .

10 ــ الى جانب المنافقين الظاهرين والسريّين كان من الصحابة فى المدينة من تآمر وخان النبى ( 4 / 80 ـ & 105 ـ ) وكان منهم المعوقون والمرجفون فى المدينة والذين فى قلوبهم مرض والذين يؤذون الله تعالى ورسوله (33 / 18 ـ ، 53 ،57 ، 60 ـ ) ( 9 / 61)،  ومنهم مؤمنون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، ومنهم من تأرجح موقفه وأمره مؤجل الى الله تعالى هل سيكون من أهل الجنة أم من أهل النار . ولكن كان منهم أيضا من كان سابقا بايمانه وسلوكه . وهؤلاء السابقون بتقواهم هم الذين لا يريدون عُلوّا فى الأرض ولا فسادا ( 28 / 83  ) وبذلك لم يسجلهم التاريخ الذى يحلو له أن ينام فى أحضان الطُّغاة سفّاكى الدماء من الخلفاء والسلاطين . 

11 ــ فاذا خرجنا الى المنطقة المحيطة بالمدينة وما حولها من صحراء وجدنا الأعراب ، منهم من كان أشد الناس كفرا ونفاقا ، ومنهم مؤمنون صادقو الايمان ( 9 / 97ـ )، وبعض الأعراب كان أشد عداء للمؤمنين من غيرهم ، وكانوا يتربصون بالمدينة ينتهزون فرصة للاغارة السريعة عليها فأنزل الله تعالى كيفية التعامل مع من يزعم منهم الاسلام ويأتى الى المدينة نهارا يتعرف على مواطن الضعف ويتصل بالمنافقين  ثم يهاجم المسلمين ليلا ، ففرض الله جل وعلا عليهم الهجرة والاستقرار فى المدينة وأن ينعموا بحريتهم الدينية والسياسية بدون رفع السلاح شأن بقية المنافقين ( 4 / 88 : 91 ) . وقبيل موت النبى كان هناك أعراب على حواف المدينة يتحينون فرص الإارة عليها فأمر الله جل وعلا رسوله والمؤمنين أن يكونوا على استعداد لمواجهتهم بكل حزم اذا أغاروا على المدينة ( 9 /123 ).

12 ــ مكائد المنافقين المقيمين فى المدينة كانت تحت السيطرة حيث يعيشون فى ظل شريعة القرآن التى كفلت لهم الحرية المطلقة فى القول والفعل طالما لا تحمل السلاح. واكتفى منافقو المدينة بتلك الحرية القولية والفعلية،وخافوا من الحركة الحربية ضد دولة النبى محمد عليه السلام لأنهم أقلية لا تستغنى عن الأهل والوطن، ثم أن من طبيعة النفاق الحذر والتوجس وعدم الثقة فى بعضهم البعض وفى غيرهم من المشركين. لذلك لم يكونوا حلفاء صادقين مع أحد من المشركين المعتدين خارج المدينة ، كما لم يستطيعوا تكوين حزب متماسك . وقد وصف القرآن الكريم هلعهم وخوفهم من المؤمنين ولجوءهم للحلف كذبا بعد كل مكيدة يقومون بها أو بعد كل تخلف عن واجب يتعين عليهم فعله. ( 9 / 56 : 57 ،62 ، 74 ، 94 : 96 ) ( 63 / 2 )

13 ــ خطورة الأعراب الصحراويين المنافقين تتجلى فى أنهم لم يكونوا تحت السيطرة ، كانوا يدخلون المدينة جهارا على أنهم مسلمون ، وهم فى حقيقتهم أشد الناس كفرا ونفاقا ، ومكّنهم هذا من التعرف على خفايا المسلمين والتجسس عليهم لصالح الكفار المعتدين ، أو كانوا يتحالفون معهم للهجوم على المؤمنين . لذلك نزل تشريع بتخييرهم بين المواجهة الحربية اذا استمروا على عدوانهم، أو أن يهاجروا الى المدينة ويعيشوا فيها إذا كانوا مسلمين فعلا أو ظاهريا ليتمتعوا بالأمن وليضمن المسلمون تمسكهم بالسلم ( 9 /73) ( 66 /  9) ( 4 / 88 : 91 ).وفعلا فإنه بعد موت النبى محمد كان أسرع الناس بالردة هم أولئك الأعراب المنافقون المحيطون بالمدينة والذين بادروا بالهجوم عليها.

14 ــ بالتعبير الأصولى فى الدين السّنى فكلهم صحابة ، لأن الصحابى هو كل من أدرك النبى محمدا ولقيه وأسلم بغض النظر عن مواقفه من الاسلام والمسلمين.وهكذا يتنوع الصحابة وفق مواقفهم التى تنطلق من عقيدتهم مع أو ضد الاسلام.منهم مثلا من رضى الله تعالى عنهم من أصحاب البيعة عند الشجرة ومنهم الانتهازيون طالبو المغانم فقط ( 48 / 18 ـ ، 10 ـ ).

وفى النهاية فالصحابة المؤمنون الذين أحاطوا بالنبى محمد، من حيث المظهر تراهم ركعا سجدا سيماهم فى وجوههم من أثر السجود، ولكن من حيث القلوب فقد وعد الله تعالى المؤمنين منهم فقط بالجنة( 48 / 29 ).أى ليسوا كلهم من أهل الجنة .

كانت هذه ملامح الخريطة الاعتقادية القلبية للصحابة فى عهد النبى وقت نزول القرآن الكريم.

أخطر  طوائف الصحابة :

*القرشيون المكيون ( الطلقاء ) وزعماؤهم الأمويون:

1 ــ كل منهم أمضى معظم حياته فى العداء للاسلام ثم دخل فيه متأخرا ليحقق استفادة منه فى الوقت المناسب ، وجاءه الوقت المناسب بعد موت محمد عليه السلام . هم فى حقيقة الأمر لم يعايشوا النبى محمدا أو الاسلام سوى فترة قصيرة من الزمن لا تصمد أمام عداء مستحكم ساروا فيه قبل اسلامهم ، وبالطبع لن يتخلوا عنه بعد اسلامهم الظاهرى فى عهد النبى ، ولا بد أن يؤثر فى سلوكياتهم بعد موت النبى محمد ، خصوصا وان قلوبهم كانت لا تزال تحمل الثأر للنبى محمد وآله الهاشميين لما قتلوه من شيوخهم فى بدر، ولما ألحقه بهم الاسلام عموما حين سوّى بينهم وبين عبيدهم السابقين الذين سبقوهم فى الاسلام ، وصارت لهم بالسبق فى الاسلام مكانة عالية تنغص قلوب السادة السابقين لقريش.

2 ــ الدليل على هذا أن أولئك القرشيين اضطهدوا عمار بن ياسر و ابن مسعود وغيرهم مرتين ، الأولى حين كانوا فى مكة مستضعفين فى بداية البعثة النبوية ، والثانية فى خلافة عثمان الأموى الذى سيطر عليه آله الأمويون ، فاعترض عمار وابن مسعود وغيرهما فتعرضوا لاضطهاد عثمان ، بضغط من آله الأمويين ، الذين لم ينسوا ثأرهم وحقدهم على الأوضاع الجديدة التى جاء بها الاسلام ، وعزموا على تغييرها ، أو إعادة الأمور الى نصابها وفق عقليتهم ، وهذا ما تحقق لهم أولا فى خلافة عثمان ، ثم حين صاروا ملوكا يحكمون معظم العالم المعروف فى العصر الأموى.

* أعراب منافقون انتهازيون

وهؤلاء لا يمكنهم العيش بدون سلب ونهب وإغارة على الآخرين ، ولا يمكن إخضاعهم لدولة مركزية إلا بالشدة والحزم .

 *مجموعات معروفة من منافقى أهل المدينة

فضحهم القرآن الكريم، ثم تنفسوا الصعداء بانتهاء القرآن نزولا وموت النبى محمد ، وكانوا ـ حسب وصف القرآن ـ يكرهونه ويكرهون المسلمين أشد الكراهية ( 3 / 118 : 121 ) ومنهم من كان يدخلون عليه يقدمون له فروض الطاعة والولاء ثم يخرجون من عنده يكذبون عليه ويتآمرون عليه( 4 / 81) أو يتندرون به ( 47 / 16 ، 26 ـ)

 * مجموعات من ضعاف الايمان وصفهم الله تعالى بأنهم خونة وآكلو ربا هددهم الله تعالى باعلان الحرب عليهم ،ومنهم المتقاعسون عن الجهاد وعن الهجرة والمعوقون عن الدفاع عن المدينة والمرجفون بالاشاعات فى المدينة ومن كان فى قلبه مرض ويتطفل على بيوت النبى ويتحرش جنسيا بنساء المسلمين ، ومنهم الذين سارعوا فى الكفر أو الى طاعة أهل الكفر ، والذين كانوا سماعين للمنافقين وأتباعا لهم ، وأولئك الذين يحبون المنافقين بينما يبادلهم المنافقون كراهية وبغضا وغيظا.( 2 / 278 ـ ) (3 / 100 ـ 118 ـ ، 130  ، 176 ، 179 ـ ) (4 /77 ـ ، 88 ،95 :97 ، 105 ـ ،140 ، 144 ) ( 8 / 20: 27 ، 45 ـ ) ( 9 /13ـ ، 23ـ ،38 ـ ،47 ،) (33 / 18 ـ ،32، 53 ـ ، 59 ، 60ـ 69 ـ ) وهى مجرد أمثلة.

* ثم هناك أخطر عدو للاسلام والمسلمين :

وهم تلك الطائفة المجهولة التى مردت على النفاق ، أى جماعات سرية لم يصفها الله تعالى بأنهم أنصار أو مهاجرون ، وانما كانوا فقط من أهل المدينة  ليشمل الوصف المهاجرين والأنصار معا. وتمعن قوله تعالى (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) 9 /101 ) أى عاشوا فى المدينة أو وفدوا اليها ولم يفارقوها حتى بعد انتهاء القرآن نزولا وموت النبى محمد عليه السلام. كانوا معه عليه السلام ولم يعرف نفاقهم ، واستمروا بعده فى المدينة آمنين من نزول القرآن يكشف عداءهم. وبالتالى لا بد أن يتحركوا ضد الاسلام والمسلمين فى أمن من انكشاف مكائدهم ، بل قد كان لديهم رصيد من الثقة حيث عاشوا الى جانب النبى وهو آمن لهم  مطمئن لتقواهم حيث لم يكشفهم الوحى ، ولم تكشفهم أحقادهم وأعمالهم. ولذلك استمروا فى نفاقهم وطوروه الى تأسيس هذا التناقض بين الاسلام و ( المسلمين ) فيما يعرف بالفتوحات القرشية والتى آلت ثمارها الى بنى أمية فى النهاية .وليس لدينا سوى التاريخ المعروف نتعرف عليهم ، فهم كانوا الأقرب للنبى فى حياته ، وهم الذين حكموا بعد وفاته . عن كبار الصحابة المهاجرين نتكلم خصوصا أبا بكر وعمر وعثمان . أو صحابة الفتوحات . هؤلاء هم الذين مردوا على النفاق وخدعوا النبى طيلة حياته ، ثم كانوا مطية لأبى سفيان زعيم الأمويين . 

 

أثر صراع الأعراب وقريش فى تأسيس التناقض بين الاسلام والمسلمين فى عصر الخلفاء ( الراشدين)

مقدمة :

 الدور السرى لتلك القوى الكامنة والمتربصة فى تشكيل سياسة الخلفاء الراشدين

وأثره فى التمهيد لإنشاء أديان أرضية للمسلمين تخالف الاسلام

1 ـ مع انقطاع الوحى فان غياب النبى محمد بالموت أظهر الكثير من القوى المعارضة التى كانت كامنة متربصة، خصوصا من الأمويين والمنافقين والذين أمر الله تعالى من قبل بجهادهم معا( 9 / 73) ( 66 / 9 ). وعليه فاذا كانت خريطة العقيدة القلبية للصحابة بهذا الشكل الذى تردد فى القرآن فى عهد النبى محمد عليه السلام فان الوضع تعقد وازداد سوءا بعد موت النبى محمد وانتهاء القرآن نزولا وأمن المنافقين من نزول الوحى يفضحهم ويُعرّيهم أمام الناس.

2 ـ  والعجيب أنه مع تلك النبرة العالية فى هجوم القرآن الكريم على المنافقين فى اواخر ما نزل من القرآن الكريم ،الا أن الحديث عنهم انقطع تماما بعد موت النبى محمد وتمام القرآن الكريم نزولا . فهل قدم النفاق استقالته؟ وهل تحول المنافقون فجأة الى ملائكة أطهار؟. بالطبع لا ، فما حدث من اعتداءات حربية على الأمم الأخرى وحروب أهلية دليل على أن تلك القوى الكامنة المتربصة قد ظهرت فجأة بعد موت النبى وحوّلت دفة المجتمع الى طريق يناقض الاسلام ، وهو نفس الطريق الذى اتبعته تلك القوى من قبل داخل الجزيرة العربية من تقاتل وغارات وسبى ونهب ، تزعمتها قريش ، والذى من أجله كرهت الاسلام ، وكرهت ما أنزل الله تعالى حسبما وصف القرآن ( 47 / 9 ، 16 ، 26 ـ ).

3 ـ ولكن أُتيح لها فى عصر الخلفاء أن تمتد بالغزو الى الخارج فى عصر ضعفت فيه القوتان العُظميان بسبب تناحرهما ودخولهما معا فى عهد الترف والخلل مما سبّب سقوط إحداهما بالكامل ( الامبراطورية الفارسية الكسروية ) وإقتطاع أهم أجزاء من الامبراطورية البيزنطية . كان هذا فى وقت قياسى ، هاجمت فيه قريش بأعرابها هاتين الامبراطوريتين العُظميين فى نفس الوقت ، فكان تغييرا هائلا فى تاريخ العالم إستمر بعده . أى إن هذه القوى لعبت دورا قياديا اسهم فى تشكيل السياسة الخارجية لدولة الخلفاء ( الراشدين )  فأحدثت انقلابا فى التاريخ العالمى بالفتوحات العربية وتكوين الامبراطورية العربية المنسوبة للاسلام وأدت فى نفس الوقت الى تفريغ الاسلام من حقائقه الكبرى فى السلم و العدل وعدم الاكراه فى الدين.

4 ــ قريش بقيادة أبى بكر بدأت بفرض سيطرتها على الأعراب بإلزامهم بدفع ( الزكاة ) ، ولم يكن هذا مألوفا أو مشروعا فى عهد النبى محمد عليه السلام . فدفع الصدقة لا إلزام فيه إسلاميا ، إنما هو عمل من أعمال الصالحات التطوعى ، والدعوة القرآنية فيه تأتى بصيغة عالية التأثير ، ترغيبا : مثل قوله جل وعلا الذى تكرر فى سور البقرة والحديد والتغابن والمزمل : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً )، وترهيبا كقوله جل وعلا : (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد ).وفى كل الأحوال فهو تعامل خاص بين المؤمن وربه حين يرجو هذا المؤمن اليوم الآخر.

المنافقون الذين لا يرجون اليوم الآخر تثاقلوا عن التبرع فى المجهود الحربى فكان عقابهم بمنع النبى من أن يأخذ منهم تبرعاتهم ، قال جل وعلا :( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) التوبة )، وهو نفس الموقف حين تقاعسوا عن الخروج للقتال الدفاعى عن المدينة ، كان عقابهم هو منعهم مستقبلا من شرف القتال التطوعى فى سبيل الله ، ومنع النبى من الصلاة على قبورهم وتأبينهم، قال جل وعلا :( فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة ).

5 ــ المدينة كانت بالنسبة للأعراب الكافرين المعتدين هدفا ثابتا ، يسهل هجومهم عليه من الصحراء المحيطة بها من كل الجهات ، لذا كانت حماية المدينة تستلزم وجود عيون للنبى من المؤمنين فى الخارج تحذّر من تلك الغارات ، وعندها كان يتم إرسال قوات حربية لمقاتلة المعتدى فى زحفه نحو المدينة حتى لا يفاجئها بالغارة او بالحصار . وتقاعس المنافقون عن ( الخروج ) لهذا القتال .  وتوزعت قبائل من الأعراب المنافقين والكفار المعتدين بالقرب من المدينة تتحين فرصة الغارة عليها ، ونزل الأمر بقتالهم فى قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) التوبة ). وكان مُرهقا الخروج لملاقاتهم بجميع الجيش ، فكان الحلّ الأمثل هو خروج فرقة إستطلاعية تستكشف الأمر وتتيقن من صحة الإخباريات الواردة ، وجاء هذا فى قوله جل وعلا :( وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) التوبة).

6 ــ بعدها دخل الأعراب وقريش وبقية عرب الجزيرة وأهل الكتاب فيها فى الاسلام بمعنى السلام أفواجا قبيل موت البنى محمد عليه السلام . وعرفت الجزيرة العربية هُدنة مؤقتة ، مالبث أن أنهتها قريش حين إستفزّت الأعراب وأمرتهم بدفع الصدقة نوعا من فرض السّلطة والابتزاز ، فكان لا بد أن تشتعل الحرب .وعليه ، فالأعراب الذين حول المدينة ارتدوا ، وحتى من كان منافقا منهم انتقل من النفاق الى اعلان الكفر والهجوم على المدينة، وانتقل الشّغب الى بقية القبائل فاشتعلت حرب الردة فى معظم الجزيرة العربية.

7 ـ كانت قريش الأمويين ( الطُّلقاء ) أكبر المستفيدين من نشوب حركة الردّة ، وهم الذين دقُّوا إسفينها ، إذ أعطى هجوم المرتدين الفرصة للقوى القرشية الكامنة فرصة التحرك والقيادة ، فكان قادة المسلمين فى مواجهة حركة الردة من القرشيين الذين أسلموا حديثا.

8 ـ نجحت قريش فى إخضاع الأعراب وإرجاعهم الى بيت الطاعة القرشى  ، وقام أولئك القادة القرشيون الجدد بعقد الصلح مع المرتدين بعد هزيمتهم ، واتفقوا على توجيه حركتهم الحربية معا ضد الخارج بزعم نشر الاسلام.

9 ـ  ومع إفتراض حُسن النية لدى قادة الصحابة المهاجرين السابقين فى الهجرة  كأبى بكر وعمر وعثمان وعلى فقد أصبحوا أقلية فى الوضع الجديد ، وليس لهم طاقة بمواجهة قريش والأعراب المرتدين سابقا والمتحمسين للجهاد فى الخارج حاليا. ثم إن توجيه قوة الأعراب الحربية الى الخارج هو الحل الأمثل للتخلص من  متاعبهم وحياتهم القائمة على الغارات والسلب والنهب. إذ كان إخضاعهم وهزيمتهم غاية فى الصعوبة ، ومن الممكن عودتهم للثورة وليس مضمونا هزيمتهم ثانيا . وهذا الوضع الجديد أتاح لأولئك الذين مردوا على النفاق من أهل المدينة أن يلعبوا دورا لا شك فيه فى قبول الحل الجديد، أى الفتوحات الخارجية.

10 ـ  هذه الفتوحات الخارجية كانت بمقياس القرآن الكريم ردة حقيقية عن الاسلام وتشويها لشريعته وجهاده. وهذه الفتوحات أدت الى خلاف حول توزيع الغنائم ، وتحول الخلاف الى حرب أهلية ، وانقساما بين المسلمين لا يزال قائما ومستعصيا على الحل، وتحول هذا الانقسام الى أديان أرضية للمسلمين تحت مصطلحات السنة والشيعة ، ثم التصوف فيما بعد.

11 ـ  المؤسف أن القرآن الكريم كان ولا يزال يحذر من وقوع المسلمين فى التفرق فى الدين ويجعله مظهرا أساسيا من مظاهر الكفر العقيدى والكفر السلوكى. ( 30 /31 32) ( 3 / 19 ـ ، 103 ، 105) ( 6 / 153 ، 159 ). هذا التفرق فى الدين أنشأ أديانا أرضية للمسلمين لا تزال هى السائدة باسم الاسلام ، والتى تسىء اليه وتتناقض معه فى نفس الوقت.

12 ــ فى تفرق المسلمين  ـ وتحولهم الى أديان أرضية أو الى طوائف وملل ونحل ـ يتمثل الكفر العقيدى فى تقديس كل طائفة لأئمتها و اعتبار كتبهم وحيا الاهيا. كما يتمثل الكفر السلوكى فى اعتداء المسلمين ظلما وعدوانا على شعوب لم تحاربهم واحتلال أراضيهم واسترقاق بنيهم ، ثم حرب المسلمين فيما بينهم طلبا لحطام دنيوى. بهذا الانقسام السياسى  والدينى والصراع الحربى مع الآخرين وداخل المسلمين اتسعت الفجوة بين الاسلام والمسلمين لتصبح تناقضا أساسيا. وبدأ هذا مبكرا فى عصر الخلفاء ( الراشدين ).!!

13 ـ  الخلفاء الراشدون الاربعة( أبو بكر ـ عمر ـ عثمان ـ على ) كانوا ـ كأشخاص ـ اقل شرا ممن جاء بعدهم من الخلفاء الأمويين والعباسيين ، خصوصا وأن أولئك ( الراشدين ) لم يتوارثوا الحكم ، لذلك أطلق عليهم المؤرخون لقب الخلفاء الراشدين تمييزا لهم عن الخلفاء الاخرين (غير الراشدين )المستبدبن المفسدين . وحين ظهر عمر بن عبد العزيز ظاهرة نادرة في الدولة الاموية المستبدة الجائرة الحقوه بالراشدين مع مرور حوالي نصف قرن بينه وبينهم . 

14 ـ التطور الجديد يكمن فى التيارات السياسية تحت السطح وفوقه والتى فرضت نفسها على الأحداث وشكلت أهم ملامح هذا العصر ، وهى حركات كبرى ثلاث : الردة و الفتوحات و الفتنة الكبرى أو الحرب الأهلية بين الصحابة.  وتلك الحركات الثلاث هى التى حوّلت المسلمين مبكرا الى فرق سياسية ثم الى  تفرق فى الدين لم يكن موجودا بين المسلمين فى عصر النبوة .

 نعيد التأكيد :

1 ـ كان الاعراب يقتتلون فيما بينهم فى إغارات مستمرة ، بينما يتركون قوافل قريش فى رحلتى الشتاء والصيف تتمتع بالأمن حيث ضمنت قريش سكوت قبائل الأعراب عن طريق إحتفاظها بصنم لكل قبيلة فى الحرم المكى ، وحيث كانت قريش تسيطر على الحج الذى يفد اليه العرب من كل فج عميق. وهكذا عاش الأعراب فى جوع  وإنعدام للأمن بينما نعمت قريش بالأمن والرخاء بسبب الايلاف ( سورة قريش ) (29 / 67 ) ( 28 / 57 ).

2 ـ بظهورالاسلام حاربته قريش وقادتها من الأمويين ، وعلى هامش الصراع بين المسلمين والقرشيين أسلم بعض الأعراب ، وثار جدل حول عبادة الأصنام ، ومدى ربح تجارة قريش ببيع هذه  الأوهام ، واستغلالها للعرب فى الحج. وحتى من ظل على كفره من الأعراب أدرك كيف إستغلته قريش ، وادرك عجز آلهة قريش عن حمايتها. ورأى أن مصلحته فى التحرر من النفوذ القرشى. والكهنوت فى كل وقت يتعّيش على جهل الناس ، ولذلك يعادى التنوير ويكره النقاش فى الثوابت وما وجدنا عليه آباءنا.

3 ـ أدى ظهور الاسلام وانتشاره سلميا الى تعرية قريش وانهيار سطوتها المعنوية ، فقام الأعراب بتهديد القوافل القريشية في رحلتي الشتاء والصيف. وأخيرا رأت أغلبية قريش أن مصلحتهم التي كانت تحتم عليهم محاربة المسلمين تستوجب عليهم الآن الدخول في الاسلام ،وهكذا كان فتح مكه سلميا بعد فترة الهدنة .

4 ــ و طبقا لما جاء فى سورة التوبة فقد ثار أئمة الكفر من القرشيين بعدها فى مكة وتم إخضاعهم وعادت مكة وقريش الى تبعية دولة النبى محمد قبيل موته، حيث حكمت قريش نفسها بنفسها وكذلك الاعراب .وكانت الزكاة تؤخذ منهم لتوزع فيهم دون قسر او اكراه .لأن تشريع الزكاة يمنع اخذ الزكاة عنوة ،بل ان الله تعالي منع النبى من اخذ الصدقات من المنافقين لأنهم كانوا يقدمونها كارهين بدون طيب خاطر (9 / 54) والتغيرالجديد الذي نعم به الاعراب هو المساواة والعدل بلا تفوق للقرشيين كالذي كان ،وذلك طبقا للقاعدة القرآنية فى المساواة بين البشر جميعا لأنهم أبناء لأب واحد وأم واحدة ، وأنه خلقهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا لا ليتقاتلوا.( 49 / 13). اضاعت قريش تشريعات الاسلام الأخلاقية وأضاعت قيم الاسلام فى العدل والسلام والحرية والاحسان ، فتسببت فى إشعال حرب الردة ثم قادت الفتوحات .

5 ـالقوة الفاعلة المؤثرة تحت السطح كانت قريش ( الطُّلقاء) من الأمويين وغيرهم . الرئاسة الشكلية الفوقية كانت لأبى بكر وعمر وعثمان ثم علىّ . لذا كان سهلا أن تُصبح تلك الرئاسات الشكلية مجرد تمهيد لحكم قريش ( الُطّلقاء ) الأمويين . منعت قريش الطُّلقاء من توارث للحكم فى ذرية أبى بكر وعمر وحتى عثمان الأموى . وكات تعيين (على ) فى الخلافة رغما عنهم وبقوة خصومهم الأعراب ، لذا ثاروا ضده لأنّ وصول (على ) للخلافة يعنى توارثها فى ذريته ، وهذا ما ترفضه قريش الأمويين ، لأنهم خططوا للوصول للحكم ثم توارثه . وهذا ما نجحوا فيه ، وتم هذا عبر حرب الردة ثم الفتوحات ثم إدخال الصحابة فى الفتنة الكبرى. بعدها حكم الأمويون .

 

من الردة الى الفتوحات الى الحرب الأهلية فى لمحة سريعة

 

 حركة الردة

وبمرض النبي ثم وفاته وتولى أبى بكر الخلافة وعودة النفوذ القرشى للظهور إمتعض الأعراب

من الاتحاد الجديد بين المهاجرين القرشيين السابقين فى الاسلام و القرشيين الداخلين فى الاسلام حديثا ، وفهموا أن هذا الاتحاد القرشى سيكون على حسابهم فى ظل الوضع الجديد.

فى وقت مرض النبى محمد الأخير أراد أعراب نجد مسبقا تأكيد وضعهم في مرحلة ما بعد النبي، ولأنهم فهموا النبوة امتيازا قرشيا فقد تحولت معارضتهم السياسية الي إدعاء دين جديد اقترنت فيه حرب الردة السياسية بادعاءات مضحكة للنبوة والوحى قام بها مسيلمة الكذاب في وادي حنيفة (مقر الدعوة الوهابية فيمابعد) وهو الذى كتب رسالة الى النبى محمد وهو فى مرض الموت يقول له فيها: (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك ، فإني قد أشركت في الأمر معك،وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون ) (تاريخ الطبرى 3 : 146). وبعد موته عليه السلام ثارت حركات أخرى للردة منها حركة طلحة الاسدي من قبائل اسد وطئ .وربما كان الأعراب حول المدينة أسرع من بدأ حرب الردة ، وجاء فى روايات التاريخ أن المرتدين بدءوا بالهجوم على المدينة ، فقام أبو بكر بتنظيم الدفاع عنها ،   (تاريخ ابن كثير ط .بيروت 6/312:311) . وفهم الأمويون وسادة قريش حركة الأعراب على أنها  ثورة على السيادة القرشية فكانوا قادة المسلمين فى مواجهة حركة الردة.

وادت حركة الردة الي تطورات داخلية فى نظام حكم الدولة فى المدينة كما أدى تطورات عالمية بالفتوحات العربية التى حملت اسم الاسلام.

  حركة الردة أدت الى الفتوحات :

فالتهديد الذي واجهه المسلمون في حركة الردة فى مرض النبى وبعد موته مباشرة أعطى قريش  وضعا استثنائيا يستوجب احكاما عرفية ، فكان سهلا تعيين قائد حربي ثم بيعته بالقتال مثل ما تم سابقا من مبايعة المسلمين للنبى تحت الشجرة. وفي هذه الظروف الاستثنائية جرت بيعة السقيفة لاختيار قائد يخلف النبى محمدا ، يكون ( خليفة ) له.وفي بيعة السقيفة ها تكتل القرشيون ضد الأنصار أصحاب البلد الأصليين ،وتم نفي زعيمهم سعد بن معاذ وقتله فيما بعد. (الطبقات الكبري لابن سعد ت  (222)هـ. 3/145. القاهرة دارالتحرير1968)

 ووافق الامويون قادة قريش المكيون علي بيعة ابو بكر خليفة دون علي ابن عم النبى محمد ، وعلى هو الأقرب لديهم إذ أنهم جميعا أحفاد عبد مناف ، ولكن الأمويين والقرشيين المكيين كانوا يبغضون عليا فهو الذى قتل زعماءهم  فى بدر، كما أن عليا بإعتبارات شتى كان الأحق  بالحكم السياسى طالما إختاروا قائدا سياسيا وعسكريا ، ولكنه أضاع فرصته خوف الأمويين وزعماء قريش من أن وصوله للحكم فسيظل فيه وفى ذريته من دونهم .

والواضح طبعا أن الأمر هنا لم يعد إختيار مجرد قائد حربى يبايعونه على القتال الدفاعى ولكنه أصبح أمر سياسة وحكم لحاكم يتولى السلطة مدى الحياة وفق الثقافة السائدة فى العصور الوسطى. وإن كان الأمر هنا فى عصر الخلفاء الراشدين لم يتحول بعد الى الاستبداد الكامل وتوارث الملك فى أسرة واحدة كما فعل معاوية فيما بعد حين أقام دولته الأموية. .

وليرد الجميل لأصحابه و حلفائه قام الخليفة الجديد أبوبكر بتعيين الشاب الصغير يزيد بن ابي سفيان الأموى قائدا في حروب الردة، وتدعم هذا الاتفاق فيما بعد فى عصر عمر حين جعل يزيد بن أبى سفيان مع اخيه معاوية حكاما على الشام بعد فتحه ، ثم بعد موت يزيد بن أبى سفيان  ضم عمر كل الشام الى معاوية. وظل معاوية أميرا على الشام لم يعزله  عمر بينما عزل آخرين ، مما أعطى لمعاوية الفرصة لأن يمهد الأمر لاقامة الدولة الأموية بعد ان ظل أميرا على الشام طيلة عشرين عاما. والشام هو الحُبُّ الأكبر لأبى سفيان والأمويين ، فهم كانوا قادة رحلتى الشتاء والصيف بين الشام واليمن ، وهم اصحاب حلف مع قبائل (كلب ) اليمنية التى كانت تسيطر على الطرق التجارية فى جنوب الشام واليه . من هنا كان توجيه الفتوحات نحو الشام والعراق معا لضمان السيطرة على التجارة ( الشرقية ) . أى إذا كان الأعراب قد هددوا قوافل قريش وجعلوها تضطر للدخول فى الاسلام لتعيد تسيير قوافلها فإن قريش إستعملت نفس الأعراب لفتح الشام والعراق للسيطرة الكاملة على التجارة الشرقية عبر البحر المتوسط والخليج .

 

ونعود الى خلافة ابى بكر ، وقد استطاعت قريش فى مكة والمدينة اخماد حركة الردة ،و حتي لا يعود الاعراب الي الردة ثانية وحياتهم تقوم علي السلب والنهب والتقاتل فقد قامت قريش بتصدير شوكة الاعراب الحربية الي خارج الجزيرة العربية في الفتوحات . وبهذا تم إسكات الأعراب ، وتم التحالف بينهم وبين قريش ، ورضى الأعراب ـ المرتدين الثائرين سابقا على سيادة قريش ـ أن يكونوا جندا تحت قيادة أمراء من قادة قريش الجدد ، خصوصا الأمويين. .

استمرت الظروف الاستثنائية الحربية، ومات ابو بكر ميتة غامضة ، واضح منها أنه كان مجرد جملة إعتراضية فى تخطيط بعيد المدى فتم اختيار عمر بسرعة غريبة وبنفس ظروف البيعة . واثناء استمرار الفتوحات اغتيل عمر واختير عثمان بن عفان الأموى خليفة بنفس البيعة ليحقق أكبر أمل للأمويين فى التحكم فى الدولة الجديدة من خلال ابن عمهم الأموى ضعيف الشخصية . وكان الرأى العام مع إختيار على بن أبى طالب ولكنه يحظى بكراهية الأمويين و المنافقين . وحينما فرضت الظروف تعيين على  خليفة بعد الثورة على عثمان ومقتله فإن تلك القوى الجديدة من الأمويين و المنافقين وقفت ضده وحاربته .

 

 أربع تطورات خطيرة أتت بها حركتا الردة والفتوحات

 

تلك القوى الجديدة أدخلت المسلمين فى أربع تطورات خطيرة تناقض الاسلام:

الاول :تعيين حاكم مستمر طيلة العمر تحيط به دائرة مستشارين عرفوا فيما بعد بأهل الحل والعقد. وليس فى الديمقراطية الاسلامية المباشرة تعيين حاكم طيلة العمر. وبعد ان كانت البيعة تعني مبايعة القائد علي القتال دفاعا عن النفس اصبحت تعني المبايعة بالطاعة لحاكم يظل يحكم مستبدا طول العمر.

والثاني تحول الجهاد من القتال الدفاعي وفق شرع الاسلام الي اعتداء  وتوسع حربي وإستيطان في البلاد المجاورة ،بعد تخييرها او بالاصح -ارغامها علي قبول واحد من ثلاث :الاسلام أو دفع الجزية أو الحرب .وبالتالي ضاعت القاعدة الاساسية القرآنية (لا اكراه في الدين )(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا  يحب المعتدين ) (2 /  256/190).

أقنع الأمويون جحافل الأعراب بفكرة نشر الاسلام بالسيف وجعلوه جهادا، والأعراب قامت معيشتهم على السلب والنهب ، وجاء التسويغ الدينى للسلب والنهب باسم الاسلام والجهاد ملائما لهواهم  فاقتنعوا بأنهم فائزون إما بالنصر والغنائم وإما بالشهادة والجنة ، فحاربوا باخلاص وأنجزوا أكبر نصر عالمى فى العصور الوسطى حين هزموا أكبر قوتين فى العالم وقتها. وكسبت قريش بسيوفهم أعظم خزائن العالم وقتها ، من فارس ومصر والروم وغيرهم..

والثالث :الخطورة الحقيقية لحركة الردة إنها كانت ردة حقيقية عن السلام جوهر الاسلام فى  التعامل مع الناس. وأدت هذه الردة عن الاسلام السلوكى الى وقوع المسلمين فى نفس القرن فى ردة أخرى أفظع وأضل سبيلا جمعت بين الكفر القلبى والكفر السلوكى ، وهى الفتوحات التى كانت تهدف حُطام الدنيا ، وبالاعتداء كانت كفرا سلوكيا عمليا ، ولكن عضّده الكفر القلبى  بنسبة هذه الفتوحات الى الاسلام ، وتبريره بأن أولئك المسالمين الذين لم يعتدوا على العرب هم كفار يستحقون الغزو وإحتلال أراضيهم وإسترقاق شعوبهم وسبى نسائهم وذراريهم وفرض الجزية والخراج عليهم .

والرابع ، هو الحروب الأهلية : وطالما أصبح المال هو المعبود الأكبر والهدف الأسمى للفتوحات فإنه ــ أى المال ـ كان السبب فى الصراع حوله ونشوب الفتنة الكبرى . أدت الفتوحات الى الاختلاف على الغنائم ، وأدى الاختلاف الى انقسام المسلمين وحربهم الأهلية وتمسح كل فريق بأحاديث كاذبة ينسبها للنبى محمد بعد موته، وبهذا الوحى الزائف بدأ شفهيا ومبكرا وضع أسس الأديان الأرضية للمسلمين. أى أن الفتوحات العربية هى التى ظلمت الاسلام قبل أن تظلم الملايين من الشعوب التى قهرها المسلمون من الصحابة.

كبار الصحابة المهاجرين وشكوك فى عمالتهم للأمويين

1 ـ الغريب هو موقف كبار الصحابة مثل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى والزبير وطلحة وعبدالرحمن بن عوف، فهم الذين يعرفون أكثر من غيرهم أن نشر الاسلام لا يكون مطلقا بالاكراه فى الدين ،وأن الله تعالى لا يحب المعتدين ، وان النبى محمدا إكتفى فى آخر أيامه بمجرد إرسال رسائل سلمية لتبليغ حقائق الاسلام لكل الحكام من حوله ، وتحميلهم المسئولية امام الله تعالى يوم القيامة عن تبليغ شعوبهم، دون الاعتداء عليهم أو غزو بلادهم. لأنه عليه السلام ـ وفقا لما جاء فى القرآن الكريم ـ لم يقم مطلقا باعتداء حربى على من لم يعتد على دولته، ولم يبدأ حربا ضد الآخرين.

2 ـ وهذا يرجّح أن معظم هؤلاء كانوا من الذين فى قلوبهم مرض ، أو من المنافقين الذين مردوا على النفاق خداعا للنبى محمد فى حياته ، او أن بعضهم كانت له تحالفات سرية مع الأمويين ، أو عملاء لهم ، أى خلايا نائمة ، جهزتها قريش الى جانب النبى لتتحرك فى الوقت المناسب لتستثمر الاسلام لصالحها ـ لو نجح النبى ، ثم يأتون لجنى ثمار نجاحه بعد موته .

3 ــ ليس هذا مستبعدا فى ضوء وصف رب العزة جل وعلا  ـ فى سورة مكية ــ لمكر قريش بأنه تزول منه الجبال (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)ابراهيم ) . وليس هذا مستبعدا فى ضوء قراءة كاشفة للأحداث وجنى الأمويين الثمرة فى النهاية بعد طول معاداة للاسلام والرسول عليه السلام . قريش كان بإمكانها قتل النبى محمد فى مكة لو أرادت ، ولكن هذا سيهدد التحالف بين العباس وأبى سفيان زعيما بنى عبد مناف ( الأمويين والهاشميين ) . الحل الوسط هو الذى إختاره المكر الأموى ـــ الذى تزول منه الجبال ـــ وهو السماح له الهجرة ، مع إحاطته بالعملاء والجواسيس بحيث لو نجحت ( حركته ) يستفيدون منها فيما بعد. وهذا بالتالى هو ما حدث . وهم ( الأمويون ) كانوا المستفيدين مما حدث .

 

النزاع حول الغنائم وتحوله الى حرب أهلية بين الصحابة بتخطيط أموى

 

نتتبع قبله التخطيط الأموى الذى أسفر فى النهاية عن إسقاط دولة الخلفاء الراشدين وإقامة الملك الأموى الوراثى.

1 ـ بدأ الأمويون فى وضعهم الجديد بعد موت النبى محمد بعزل الأنصار مبكرا عن ساحة التأثير ، وتعززت صلتهم بأبى بكر وعمر وابن عمهم عثمان على حساب على بن أبى طالب.وكانت الفتوحات والنزاع والحروب الأهلية أساس وصول الأمويين للحكم.

2 ــ الأمويون بخبرتهم فى رحلة الشتاء والصيف وبعلاقاتهم بقبائل كلب القحطانية المسيطرة على طرق القوافل فى الشام كانوا عنصرا أساسا فى نجاح فتوحات الشام. وأبوسفيان مع شيخوخته شارك مع ابنه يزيد فى موقعة اليرموك الفاصلة التى دحر فيها العرب المسلمون الروم البزنطيين. وانتهى الأمر بتعيين معاوية بن أبى سفيان حاكما على الشام كله. خلال عشرين عاما ركز معاوية سلطانه فى الشام ، تزوج ميسون بنت بحدل الكلبى زعيم قبائل كلب وأنجب منها إبنه يزيد ، فضمن سيوف قبائل كلب معه، كما أن اهل الشام عرفوا من الاسلام ما أراد لهم معاوية أن يعرفوه، عرفوا الطاعة المطلقة لمعاوية أسوة بما إعتادوه مع الحكام السابقين.

3 ــإزدادت عزلة على بن أبى طالب بإختيار عثمان بن عفان بن العاص بن أمية خليفة ، وهو الأحق منه بالخلافة حسبما رأى الكثيرون، وبدا واضحا إنقسام كبار الصحابة بين حزبى على وعثمان. أصابع الأمويين لم تكن بعيدة عن إختيار عثمان، فهو الشخصية المناسبة لهم لأن يحكموا المسلمين فترة إنتقالية من وراء ستار.

4 ــ كان عثمان فى السبعين من عمره حين تولى الخلافة ، واشتهر باللين وضعف الشخصية فوقع تحت السيطرة الكاملة لابن عمه مروان بن الحكم بن العاص بن امية، الذى كان كاتب عثمان والحامل لخاتمه والمتحكم فى شئونه. فى عهد عثمان تحكم الأمويون أبناء عمه فى الولايات، واشترى الأمويون بعض كبار الصحابة بالضياع والأموال واعترض آخرون فعاقبهم الأمويون بالاضطهاد ،وكان منهم ابن مسعود وأبو ذر الغفارى و عمار بن ياسر. 

5 ــ عثمان كان العتبة الأخيرة التى صعد عليها أقاربه الأمويون للسلطة ويحتكرونها. كان لا بد من إشعال ثورة على عثمان تتيح لهم إدخال المسلمين فى حرب تسفر فى النهاية عن وصولهم للحكم. ولم تؤت سياسة الأمويين فى خلافة عثمان عن إشعال هذه الثورة برغم تأليب الصحابة بعضهم على بعض ، مع على أو مع عثمان ، وإغراق بعضهم فى الثروات واضطهاد البعض الآخر. لذا كانت الخطوة الحاسمة هى فى التحرش بالاعراب وسيوفهم الحادة وسرعتهم الى الشر.

6 ـ لم يكتف الأمويون في عهد عثمان بالتحكم فى بيت مال المسلمين والخزائن التى حصل عليها المسلمون من الفتوحات، فطمعوا فى أرض السواد الزراعية الواقعة علي حدود نجد والعراق ، والذى كان يعتبره الاعراب ملكا تقليديا لهم في الجاهلية ثم فتحوه بسيوفهم بعد الاسلام. رضوا به تاركين كل ما فتحته سيوفهم فى الشام ومصر وفارس وشمال أفريقيا للأمويين يستاثرون به. ولأن الغرض الأساسى إشعال ثورة وليس مجرد الطمع فى أرض على حدود الصحراء بعيدة عن متناول وإهتمام الأمويين ، فقد صمم الأمويون على تملك السواد وإعتباره ( بستان قريش ) .

هنا تطور النزاع وتدخل فيه عبدالله ابن سبا الذي رفع شعار التشيع لعلي ابن ابي طالب .وكعب الاحبار الذي يوالي عثمان والاموييين ،وكلاهما (عبد الله بن سبأ وكعب الاحبار )من يهود اليمن (تاريخ الطبري :ط4.ابو جعفر محمد بن جرير(224-310هـ)تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم القاهرة 4/317-،330-،283،326،340-349،493-،500-191-،202،255،284 )

وانتهت الثورة بأن حاصر الاعراب عثمان فى بيته فى المدينة ، ثم قتلوه وعينوا (عليا بن أبى طالب ) خليفة مكانه.

7 ــ حين حوصر عثمان فى بيته حاول (على) التوسط والاصلاح وكاد أن ينجح لولا تآمر مروان ابن الحكم ، وبعد فضح تآمر مروان رفض عثمان عزله ، كما رفض التنحى عن الحكم ، كأنه مصمم على الانتحار ؛ وقبيل إقتحام الثوار لبيت عثمان وقتله هرب إبن عمه مروان بن الحكم تاركا عثمان فى شيخوخته ليقتله الثوار الأعراب وهو يقرأ المصحف. وأثناء استمرار الحصار رفض معاوية فى الشام نجدة إبن عمه فى محنته، وكان هذا فى إستطاعته لو أراد . ولكنه انتظر الى أن قتله الثوار ، وكل ما اهتم بالحصول عليه هو ( قميص عثمان ) الذى رفعه على مسجد دمشق داعيا للثأر من الخليفة الجديد على بن أبى طالب ، متهما إياه بالتحريض على قتل عثمان.

8 ــواضطر الخليفة الجديد للاستعداد لمحاربة معاوية ، ولكن الأمويين كانوا يعدون لعلى مفاجأة قاسية ، إذ ما لبث أن إنشق عن (على) أقرب أصدقائه من كبار الصحابة وهم الزبير وطلحة ، وهما من كبار السابقين فى الاسلام ، ومعهما السيدة عائشة أم المؤمنين زوجة محمد عليه السلام. وبجهود مروان بن الحكم بن العاص بن أمية اشتعلت الحرب بينهما في موقعة الجمل والتى حارب فيها مروان بن الحكم الى جانب خصوم على. وأخذ الأمويون ثأرهم بقتل الزبير وطلحة فى هذه الحرب  لم يبق أمام الأمويين من كبار الصحابة إلا الخليفة على بن أبى طالب ومن معه من الأعراب.

9 ــ وبعد إجهاد الخليفة على فى حرب الجمل التى أضعفته كان معاوية يواصل استعداده لمعركة فاصلة يأمل أن يصل بها الى الخلافة بحجة أنه أقرب الناس لعثمان المقتول ظلما، وأنه ولى أمر المطالبة بثأره.واشتعلت معركة صفين ، وقد كاد النصر فيها يتحقق لعلى لولا أن لجأ عمرو ابن العاص رفيق معاوية لخدعة التحكيم ، ، فأمر معاوية جنده برفع المصاحف على الرماح طالبين وقف الحرب والاحتكام للقرآن الكريم. رفض على هذه الدعوة مدركا أن غرضها الخداع والنجاة من هزيمة محققة، ولكن الأعراب من جند على أكرهوه على قبول التحكيم ووقف الحرب ، وهددوه إن لم يفعل سيقومون بتسليمه الى عدوه معاوية!!.بل وأكرهوه على إختيار أبى موسى الأشعرى ممثلا له فى التحكيم ، وهو ليس ندأ للداهية عمرو بن العاص .

وفشل التحكيم بخديعة عمرو ـ (ممثل معاوية )ـ لأبى موسى الأشعرى (ممثل على )، وتحقق لجند (على ) من الأعراب أن (عليا) كان على الحق حين رفض التحكيم وانه مجرد خدعة، إلا أن أولئك الأعراب بدلا من طاعة (على) خرجوا عليه ـ تحت اسم الخوارج ـ وقاتلوه ثم قتلوه. ثم واصلوا ثورتهم على الأمويين.

 

هؤلاء الأعراب .!!

1 ـ  من يقرأ تاريخ (على) فى المصادر التاريخية الأصيلة يعجب من إصرار الأعراب من جند (على ) على التثاقل عن نصرته حين يحتاج اليهم ، ومن الاسراع الى مخالفته وعصيانه حين يأمرهم. وهم الذين أفشلوه وهزموه فى صفين.

2 ــ التعليل الوحيد هو كراهيتهم لقريش وكون عليا بن أبى طالب قرشيا ، وقد رأوا أنهم لا يزالون أتباعا لقريش فى صراع جناحيها الأموى والهاشمى . ولذلك إختاروا فى النهاية الخروج كليا عن سيطرة قريش. ولكى يكونوا ندّا لقريش فقد زايدوا فى التدين بالصلاة وقراءة القرآن ، فالتصق بهم لقب ( القرّاء ) بمفهوم العبادة، ولكن تطرفوا أيضا فى قتل كل المسلمين من غيرهم. إبتدعوا دينا أرضيا يعبر عن التدين السطحى والتطرف فى الارهاب وسفك الدماء ، كان باعثه الأكبر الحقد على قريش.

2 ــ ولم يكن كل الأعراب خوارج، إذ إختار فريق آخر من قبائل الأعراب التبعية للأمويين.خصوصا من قبائل كلب اليمنية القحطانية التى كانت تعيش فى الشام ، بينما كان أغلب الخوارج من القبائل التى تعيش فى نجد من القبائل اليمنية والعدنانية.

3 ــ وبهذا الصراع مع قريش كان الأعراب كفارا ضد الاسلام ثم تحولوا  الى الاسلام والسلام في أواخر عهد النبي ، ثم الي مرتدين ، ثم عادوا لسيطرة قريش (مسلمين لهم )  ،ثم الي جنود فاتحين تحت إمرة قريش . كل ذلك فى عصر أبى بكر وعمر. ، ثم أصبحوا ثوريين علي عثمان ،ثم الي خارجين علي عليّ بن أبى طالب . كل ذلك التقلب حدث فيما بين موت النبي (11هـ،سنة 632م )الي مقتل علي علي ايديهم (40هـ،661)أي خلال اقل من ثلاثين عاما تقلبوا من الكفر الى الاسلام الى الردة ثم الى الفتوحات باسم الاسلام ثم الى الثورة على عثمان ثم الرجوع الى على ثم الخروج عليه وقتله، ثم الثورة على الأمويين.

4 ــ واصطبغت حركتهم بالعنف المرتبط بغطاء ديني ،يسري هذا علي قبولهم المتحمس للاسلام السلمى في عهد النبي ،ثم خروجهم عليه في حركة الردة تحت زعامة مدعي النبوة ،ثم انغماسهم في الفتوحات علي انها جهاد يغنمون منه النصر والشهادة والغنائم في الدنيا و الاخرة ،ثم حين ثاروا علي عثمان رفعوا لواء العدل ،وحين رفع الامويين المصاحف علي اسنة الرماح في موقعة صفين خداعا ارغموا عليا علي الموافقة علي التحكيم لكتاب الله ،ثم حين ظهر ان التحكيم خدعة خرجوا علي (علي ) لأنه وافق علي التحكيم واتهموه بالكفر ثم قتلوه .

 

وهؤلاء الأمويون .!!

وخلال نفس المدة تقلب الامويون في مواقع شتي حسب مصلحتهم وسعيهم الدائم الى امتلاك القوة والاحتفاظ بها ،كانوا أعداء للاسلام في مكة، ثم دخلوا فيه مرغمين ، ثم ثاروا عليه ، ثم عادوا اليه انتظارا لموت النبى محمد ، ثم أصبحوا قادة حربيين ومستشارين لأبى بكر وعمر بما لهم من مقدرة حربية وتحالفات قديمة منذ رحلتى الشتاء والصيف مع قبائل كلب الى تسيطر على الطرق التجارية للشام ،فقادوا المسلمين في حرب الردة ثم في الفتوحات ،وبعد توطيد الفتوحات اصبحوا امراء البلاد المفتوحة، وحين تولى ابن عمهم عثمان الخلافة سيطروا عليه وانتهى الامر بأن توارثوا الملك في ذريتهم خلال{الدولة الاموية} .

وهؤلاء هم الصحابة.!! هم الذين جعلهم الدين السُّنّى آلهة معصومة من الخطأ .

 

أخيرا :

1 ـ الاسلام لم ينته، لأنه باق ببقاء القرآن الكريم المحفوظ من لدن الله جل وعلا
2
ـ قلنا إن تطبيق النبى للاسلام كان أروع تطبيق بشرى ، ونجح فى نشر ( السلام ) بين العرب المتقاتلين . ولكن لأن أكثر الناس لا يؤمنون ( قلبيا ) فهذا الاسلام الظاهرى السلوكى ما لبث أن غلبته القوى المتربصة من قريش والأعراب
3
ــ فترة تطبيق النبى للاسلام كان جملة إعتراضية فى زمانها ومكانها . الثقافة السائدة وقتها هى ثقافة الاستبداد والفساد وعبادة المال والغزو والاستعمار . لا خلاف بين قريش أو الفرس أو الروم أو الصين أو الهنود الحمر والنود السُّمر . أعظم إنجاز للنبى مجمد أنه أخرج القبائل العربية من هذا المستنقع مدة قصيرة ، ثم ما لبث أن طفت العوامل الأصيلة الى السلطه وأمسكت بزمام الأمور ، وتوارى الصحابة السابقون إيمانا وعملا ليأخذ زمام القيادة المجرمون . والذين تحولوا بالأديان الأرضية الى آلهة مقدسة
4
ـ التآمر هو العملة الوحيدة والسائدة فى دنيا الاستبداد والفساد . خصوصا إذا كان الاستبداد والفساد هى لُغة العصر . وهنا لدينا نوعان : أعراب يسهل التلاعب بهم ، وتجار قريش الذى أتقنوا لُعبة التلاعب بالأعراب . وبينهما دار تاريخ الخلفاء الراشدين والأمويين

 

 

 

 

 

  

الفصل الثانى :

إكتمال التناقض بين الاسلام والمسلمين في الدولة الاموية

               (41-132هـ) (661  -750)م

 

لمحة عن الخلفاء الأمويين    

معاوية بن أبى سفيان (661 ـ 680 )

 بعد مقتل على بن أبى طالب بويع إبنه الحسن فلقى نفس الصعوبات من أتباعه فأدرك عجزه عن ممواجهة معاوية ، فتم عقد صلح بينهما على أساس أن يتنازل له وأن يبايعه بالخلافة على أن يكون الأمر بعد معاوية شورى بين المسلمين يولون من أحبوا.قدم معاوية الى الكوفة فى العراق ـ عاصمة على فى خلافته ـ فبايعه الحسن والحسين أبناء على وفاطمة بنت النبى محمد سنة 40 هجرية/ 661.

معاوية هو مؤسس الدولة الأموية، وهو أول سياسى حقيقى بالمفهوم البرجماتى للسياسة. إستغل كل الوسائل للوصول لغرضه، وكان منها الدهاء الشديد ، والحلم والصفح مع الحزم فى مواجهة خصومه. بالحلم والترغيب والمدارة ألف قلوب خصومه القدامى ، بينما أعطى لولاته فى الأمصار السلطة الكاملة لارهاب خصومه الثائرين عليه فكانوا يضربونهم بقسوة ، فإذا فر الخصم الى معاوية مستجيرا تلقاه معاوية بالعفو والصفح وجعله مناصراومؤيدا. وقد عمل على أن تتحول الخلافة القائمة على الشورى وتداول السلطة الى ملكية وراثية لذريته. وبذل همه فى نهاية عهده على أن يبايع الناس لابنه يزيد بولاية العهد. وافق ولاته وزعماء القبائل ، خصوصا قبائل كلب أخوال يزيد ، ولكن رفض الحسين بن على وعبد الله بن الزبير وكبار أبناء المهاجرين والأنصار.ومات معاوية تاركا لابنه يزيد هذه المشكلة.

 يزيد بن معاوية ( 680 ـ 683 ) .                                                            

تولى فلم يكن له همّ إلا ارغام الحسين بن على على البيعة له. كان الحسين مقيما فى المدينة ومعه أهله من بنيه وبنى أخيه الحسن الذى توفى مسموما من قبل بمكيدة من معاوية، وبقية أبناء إخوته وأخواته من العلويين نسبة لعلى ،وأبناء عمومته من الطالبيين ـ نسبة لأبى طالب. فى نفس الوقت جاءت رسائل من العراق تدعو الحسين للقدوم اليهم ليساعدوه فى الوصول للخلافة. ذهب اليهم الحسين بأهله ومنهم أطفال ونساء فواجهه جيش أموى فى كربلاء قضى على الحسين وآله الذين كانوا معه عدا إبنه على زين العابدين الذى كان فتى مريضا وقتها.أدى مقتل الحسين وآله فى كربلاء الى ثورة المدينة وخلعها طاعة يزيد فأرسل لهم جيشا هزمهم واستباح المدينة قتلا وسلبا ونهبا وغصبا للنساء مدة ثلاثة أيام.

أنتهز الفرصة عبد الله بن الزبير فأعلن نفسه خليفة فى مكة ، فأمر يزيد نفس الجيش أن يتوجه الى مكة للقضاء على حركة أبن الزبير. حاصر الجيش الأموى مكة وضربها بالمجانيق فاحترقت الكعبة وتركها ابن الزبير تحترق ليشنع على الأمويين.أثناء المعركة مات الخليفة الأموى يزيد بن معاوية ،وقد أوصى بالخلافة لابنه معاوية بن يزيد.وإزداد السخط على الأمويين ، وتفاقم الأمر بتولى معاوية الثانى ( 63  /  683(الذى كان شابا مريضا ضعيفا متدينا فرفض الاستمرار فى الحكم وتنازل دون أن يعين خليفة له.

فترة الاضطراب الأموى( 684 )

واضطرب أمر بنى أمية وأصبح معظم الولايات مع عبد الله بن الزبير، ومنها العراق ومصر والحجاز، بل وإنضم له زعيم القبائل القيسية ( الضحاك بن قيس الفهرى )، والذى كان متحالفا من قبل مع الأمويين. وظهرت حركة المختار بن عبيد الثقفى الذى جمع جيشا من الأعراب ،وتأرجح ولاؤه بين ابن الزبير تارة ومحمد بن الحنفية بن على بن أبى طالب تارة أخرى. أهمية المختار هذا أنه فى فترة الاضطراب هذه إحتل العراق وقتل الوالي الأموى عبدالله بن زياد المسئول عن مذبحة كربلاء وكل من شارك فيها.انتهت فترة الاضطراب باتفاق الأمويين على اختيار مروان بن الحكم خليفة فى مؤتمر الجابية .

مروان بن الحكم:( 684 ـ 685)

هو المسئول مع معاوية عن التسبب فى الثورة على عثمان ومن ثم قتله. وقد خدم مروان ابن عمه معاوية فى خلافته، وأصبح كبير الأمويين بعد تنازل معاوية بن يزيد. باختياره خليفة جمع كل أنصار الأمويين من قبائل كلب وغيرها ، وانتصر على القبائل القيسية المناصرة لابن الزبير فى الشام فى موقعة مرج راهط، وقتل زعيمهم الضحاك بن قيس الفهرى.وبها استخلص الشام له ، ثم تابع جهوده فاستخلص مصر من واليها التابع لابن الزبير، ومات مروان قبل أن يقضى على مصعب بن الزبير حاكم العراق لصالح أخيه عبد الله بن الزبير، وترك هذه المهمة لابنه : عبد الملك بن مروان.

عبد الملك بن مروان ( 65 ـ 86 ) ( 685 ـ 705 )

هو الذى وطد الدولة الأموية والمؤسس الثانى لها بعد معاوية. هو الذى قتل وهزم مصعب بن الزبير فى العراق ،ثم عبد الله بن الزبير فى مكة. وسلط واليه الحجاج بن يوسف على العراق ـمركز المعارضة ضد الأمويين ـ فأخضع العراقيين بالحديد والنار.ومع توطيد سلطته فقد واصل الفتوحات فى الشرق والغرب ، وقام ببعض اصلاحات .

 وترك لابنه الوليد بن عبد الملك ( 86 ـ 96 ) ( 705 ـ 715 ) ملكا مستقرا، وقد اهتم الوليد بن عبد الملك بمواصلة الفتوحات فوصلت فى عهده أقصى اتساعها الى حدود الصين والهند الى الاندلس فى أسبانيا.

 وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك ( 96 ـ 99 ) ( 715 ـ 717 ) الذى حاول فتح القسطنطينية ، وعهد بالخلافة لابن عمه عمر بن عبد العزيزبن مروان ( 99 ـ 101 ) ( 717 ـ 720 ) وهو أشهر خليفة أموى ـ وعربى ـ فى العدل والتقوى. وتولى بعده يزيد بن عبد الملك (101 ـ 105 ) ( 720 ـ 724 ) فكان على النقيض ، ظلما وفسقا وانحلالا خلقيا، ومات سريعا فخلفه أخوه هشام بن عبد الملك ( 105 ـ 125 ) ( 724 ـ 743 ) وهو آخر الخلفاء الأقوياء من بنى أمية. بوفاته تولى خلفاء ضعاف متشاكسون تلاعبت بهم القبائل فسقطت الدولة الأموية بعد موت هشام بسبع سنوات.( سنة 132 / 750 )

 

 السمات العامة للدولة الأموية

 

كانت القبائل العربية هى القوة العسكرية الوحيدة اللاعبة على المسرح السياسى في عصر الدولة الاموية .

وانقسم رجالها حسب موقفهم من الأمويين الى قسمين :

*قسم ثائر علي الدولة يمثله الخوارج الذين أرهقوا الامويين بثوراتهم ،ومنهم الذين استحلوا دماء كل المسلمين كالمحكّمة الاولى الذين كانوا يهجمون علي المدن فيقولون:" لا حكم الا الله" ثم يقتلون كل من يقابلهم من المسلمين قتلا عشوائيا، وفي نفس الوقت يراعون العهد مع اهل الكتاب ،أي يقتلون المسلمين بعد اتهامهم بالكفر ثم يحافظون علي حياة اليهود والنصارى.

*اما القسم الثاني من القبائل فكان يخدم الدولة الاموية يفتح بأسمها الاقطار ،ويقتل في سبيلها المعارضين في الداخل.  وما لبث ان ثارت القبائل اليمنية علي الامويين بسبب تعصب بعض الخلفاء للقبائل القيسية المضرية العدنانية الشمالية، وتعاونت بعض القبائل اليمنية مع عدو اكثر شراسة يتقدم ببطء وثبات يدعو للرضى من آل محمد ،وهذا العدو هم الفرس الخراسانيون بزعامة ( أبو مسلم الخراسانى ) الذي اسقط الدولة الاموية واقام بدلا منها الدولة العباسية.

دخلت الدولة الأموية بهذه القبائل العربية الموالية لها فى حرب ضروس ضد القوى الثائرة عليها من علويين وشيعة وخوارج وابناء البلاد المفتوحة من الفرس والمصريين الاقباط والبربر ،الي القبائل العربية نفسها التي كانت تؤيد الامويين ثم انقلبت عليهم .مما ادي في النهاية الي سقوط الدولة الاموية في ريعان شبابها (سنة132هـ،750م).

وقد وصلت الدولة العربية الي اقصي توسع لها في الدولة الاموية ،فيما بين الهند والصين شرقا الي جنوب فرنسا غربا ،ومن اسوار القسطنطينية شمالا الي النوبة والصحراء الافريقية جنوبا ،وفي عهدها اصبح البحر المتوسط بحيرة عربية وكذلك البحر الاحمر .وكانت الدولة الاموية تفتح الدولة المجاورة بيد وتقاتل في الداخل أعداءها  باليد الاخرى ،الي ان سقطت بعد ان تكالب عليها اعداؤها الناقمون عليها.

وانتقم الأمويون من خصومهم بنى عمومتهم الهاشميين حين قتلوا بدون رحمة الحسين وآله في كربلاء كما انتقموا من الأنصار ومن بقى من الصحابة السابقين حين انتهكوا حرمة المدينة واستباحوها قتلا وسلبا ونهبا وإغتصابا للنساء، ولم يتورع الأمويون عن انتهاك البيت الحرام و احراق الكعبة بالمجانيق حين حاصروا فى مكة عبد الله بن الزبير الذى نصب نفسه خليفة.  كما لم يتورع ولاتهم من التطرف بقتل الابرياء لمجرد الشبهة كما كان يفعل زياد ابن ابيه والحجاج بن يوسف وخالد القسري.

استباحة الدماء والمجون والانحلال الخلقى

أتاح الدين الأموى لأصحابه مطلق الحرية فى استباحة الدماء، وتمتع بهذا الحق الخلفاء وولاتهم، يعززهم منطق القوة وأنهم ينسبون أفعالهم الى الله تعالى. وكان الحجاج يقول (والله لوأمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا حلت لي دماؤكم ) ( تاريخ ابن الأثير: ترجمة الحجاج فى وفيات سنة 95 )

وبعض الخلفاء الأمويين كان متهما بالفواحش وترك الصلاة ومنهم يزيد بن معاوية ، صاحب الفواجع الثلاث : قتل الحسين وآله فى كربلاء ، وانتهاك حرمة مكة والمدينة .وحين ثارت المدينة على يزيد وخلعت طاعته كان زعيم الثوار عبدالله بن حنظلة الإنصارى من المشهورين بالورع، وقد خطب فى قومه قبيل موقعة الحرة قائلا عن يزيد ( إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات ويشرب الخمر ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معى أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاء حسنا )  ( الطبقات الكبرى لأبن سعد ج5 ، 47 – تاريخ المنتظم ج6، 19 ) وقد وقعت موقعة الحرة سنة 63 هــ وفيها انتهكت حرمة المدينة وكان من القتلى زعيم الأنصار يومئذ ابن حنظلة . وتكرر نفس الإتهام للخلفاء الأمويين فى عهد عبد الملك بن مروان ، قاله سعيد بن جبير فى موقعة دير الجماجم ، قال  (قاتلوهم على جورهم فى الحكم وخروجهم من الدين وإماتتهم الصلاة ) ( طبقات ابن سعد ج6، 185 ) .

 وفى الدين الأموى أتيح ليزيد بن عبد الملك أن يتفرغ للهو والخمر والمجون حتى مات شابا بسبب الانحلال الخلقى.ولم يكن وحده المشهور بين الخلفاء الأمويين بالانحلال الخلقى. قبله كان يزيد بن معاوية ، وبعده كان ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك.

قال ابن كثير فى تاريخه ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/3‏)‏عن الوليد بن يزيد بن عبد الملك:إن عمه الخليفة هشام بن عبد الملك أراده أن يقلع عن الخمر ليؤهله للحكم من بعده فجعله أميرا على الحج سنة 116 فما كان منه إلا أن (أخذ معه كلاب الصيد خفية من عمه، حتى يقال‏:‏إنه جعلها في صناديق ..قالوا‏:‏ واصطنع الوليد قبة على قدر الكعبة، ومن عزمه أن ينصب تلكالقبة فوق سطح الكعبة ويجلس هو وأصحابه هنالك، واستصحب معه الخمور وآلات الملاهيوغير ذلك من المنكرات، فلما وصل إلى مكة هاب أن يفعل ما كان قد عزم عليه من الجلوسفوق ظهر الكعبة خوفاً من الناس ومن إنكارهم عليه ذلك،)

وتولى الخلافة فانطلق فى مجونه للنهاية ، يقول المؤرخون (ثقل ذلك على الناس ورماه بنو هاشم وبنوالوليد بالكفر والزندقة وغشيان أمهات أولاد أبيه وباللواط وغيره ) فثار عليه ابن عمه يزيد بن الوليد الذى قتله وتولى بعده. قالوا عن ذلك الخليفة الماجن :(كان هذا الرجل مجاهراً بالفواحش مصراً عليها، منتهكاً محارم الله عزوجل، لا يتحاشى من معصية‏.‏وربما اتهمه بعضهم بالزندقة والانحلال من الدين، وقد روي أن أخاه سليمان كان من جملة من سعى في قتله، قال‏:‏ أشهدأنه كان شروباً للخمر، ماجناً فاسقاً، ولقد أرادني على نفسي الفاسق ) وقالوا فيه حين تولى الخلافة )كان مشهورا بالالحاد مشتغلا باللعب واللهو والشراب ) وفى أول خطبة لابن عمه يزيد بن الوليد الذى قتله وتولى الخلافة بعده قال عنه (كان جبارا مستحلا للحرم ..ما كان يصدق بالكتاب ولا يؤمن بيوم الحساب ) ورووا أنه فتح المصحف يوما يستفتح به ـ أى يرى حظه في أول آية يقرؤها ـ  فرأى فيه قوله تعالى " واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد " فألقى المصحف ورماه بالسهام وهو يقول:

تهددنى بجبار عنيد            فها أنا ذاك جبار عنيد

اذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يارب خرقنى الوليد)

(تاريخ الكامل لابن الأثير 4/ 486 ، المنتظم لابن الجوزى 7/236 -248 )

 

 لمحة عن تلاعب الأمويين بشعائر الاسلام

الأمويون والطعن فى الاسلام

1 ـ القتال فى الاسلام هو قتال دفاعى فقط حولته قريش الى غزو وإحتلال وإستيطان . تحت راية الاسلام مع طعنهم فى الاسلام . وكان إحتقار وكراهية الاسلام وكفرهم به موجودا لدى الأمويين بدرجات متفاوته ، عبّر بعضهم عنها بوضوح باللهو والمجون مثل الوليد بن يزيد فيما سبق. وربما أعلنها بعضهم ضمنيا مثل عبد الملك بن مروان ، ومشهور عنه أنه كان عابدا قارئا للقرآن فلما صار خليفة أغلق المصحف وقال : "هذا فراق بينى وبينك "، وسار فى سياسته على أساس سفك الدماء ونقض العهود، وقد هدد علنا أن يقتل كل من يعظه بتقوى الله حين خطب بالمدينة مركز المعارضة سنة75هـ فقال (اما بعد ..فلست الخليفة المستضعف يعني عثمان ولست الخليفة المداهن يعني معاوية ولا الخليفة المأفون ـ يعني يزيد ابن معاوية والله لا يأمرني احد بتقوى الله الا ضربت عنقه) ( تاريخ الخلفاء . السيوطي. ط القاهرة ـ  347:348) (تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم ) وهو هنا يشير الى قوله تعالى عن صفات المفسد  فى الأرض ( وإذا قيل له إتق الله أخذته العزة بالاثم ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) 2 /206 ) وكانت منتظرا حين يقال للخليفة : إتق الله ، فيخشع خوف أن تنطبق عليه تلك الآية. وقيلت لعبد الملك فرفضها علنا متحديا القرآن ومن أنزل القرآن ، راضيا بأن ينطبق عليه وصف الله تعالى بأنه من المفسدين.

2 ـ وتجلت كراهية الأمويين لما يشير الى الاسلام فاعتدوا عليها بالقتل والتدميرمثل الكعبة ومكة والمدينة والأنصار والمهاجرين وأحفاد المجاهدين فى غزوة بدر التى انتصر فيها المسلمون على أجداد الأمويين .

3 ـ وتبارى ولاة الأمويين فى التقرب اليهم بالطعن فى الاسلام ورموزه ، فالحجاج هدد بمحو آيات من القرآن الكريم ( تاريخ ابن الأثير: ترجمة الحجاج فى وفيات سنة 95 ) وخالد القسرى الذى تولى مكة والحجاز سنة 89 هجرية كان يتقرب الى أسياده الأمويين بلعن على ابن أبى طالب ، ثم تعدى ذلك الى قوله( إن خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته) يعنىأن الخليفة هشامًا أفضل من محمد رسول الله ، (تاريخ الكامل لابن الأثير /عن وفاة خالد القسرى سنة 126 ) ولم يأبه خالد القسرى بحرمة البيت الحرام فى مكة فهدد أهل مكة بالقتل والصلب إذا تكلموا مجرد كلام فى الطعن فى الأمويين ، وهددهم بهدم بيوتهم إذا إستضافوا من يأوى الى الحرم هربا من الظلم الأموى. فكوفىء على اخلاصه للدين الأموى بأن ولاه الخليفة هشام على العراق  فظل يحكمه أربع عشرة سنة ( 106 : 120 هجرية ) والطريف أن أم خالد القسرى كانت نصرانية مخلصة لدينها فأقام لها ديرا داخل قصره لتتعبد فيه ، فلامه بعض المسلمين فاعتذر اليهم قائلا : (لعن الله دينهم إن كانشرًا من دينكم‏.‏)(تاريخ الطبرى: 6 / 440 سنة 89 ،464 سنة 91 )

الأمويون وإستغلال الصلاة لمصلحتهم :

 1 ـ بالاضافة الى تكاسل الأمويين عن الصلاة بتأخير موعدها فقد استغل الأمويين الخطبة فى صلاة الجمعة فى الدعاية لهم ولعن على بن أبى طالب ، والداخلون فى الاسلام فى العصر الأموي تعلموا لعن على بن أبى طالب فى خطبة الجمعة كأحد شعائر صلاة الجمعة، يقول المسعودي أن أهل (حرّان) رفضوا صلاة الجمعة بدون لعن على ، وقالوا : لا صلاة بدون لعن ابو تراب ، وابو تراب هو لقب على، وظلوا على ذلك عاما كاملا فى بداية العصر العباسي ( المسعودى :مروج الذهب :  ج2 : 193) . أى تعودوا لعن ( على ) بحيث إعتقدوا أن صلاة الجمعة لا تصحُّ بدون لعنه . وبالتالى فقد أسّس الأمويون تحويل خطبة الجمعة الى منشور سياسى لا يزال موجودا حتى اليوم ، حيث الدعاء للسلطان وعسكر السلطان من الخليفة الأموى الى الخليفة العثمانى . وتحول الأمر رسميا الى أن اصبحت خطبة الجمعة إعلانا بتعيين السلطان والخضوع له ، فيقال أنه ( خُطبت له الجمعة ) .وحتى الآن ترى هذا الهجص فى مساجد المحمديين .

2 ـ خطبة صلاة الجمعة فى الاسلام هى قراءة للقرآن وفقط . وهذا هو ما كان عليه الأمر فى عهد النبوة ، بحيث أنه لا توجد للنبى محمد عليه السلام أى خطبة محفوظة أو منقولة ، مع أنه أقام صلاة الجمعة مئات المرات . إلا أن إهتمام الأمويين تركز على صلاة الجمعة الاسبوعية العامة لإستغلال خطبة الجمعة فى الدعاية السياسية والهجوم على خصومهم العلويين. أى أن الأمويين هم أول من ابتدع التوظيف السياسى لخطبة الجمعة والذى ما زال ساريا الى اليوم. وقلنا أن النبى محمدا عليه السلام كان يخطب الجمعة بقراءة بعض سور القرآن الكريم ، ولذلك لم يتم تدوين خطب الجمع ضمن ما إفتروه لاحقا من أحاديث نسبوها للنبى محمد عليه السلام ظلما وعدوانا .

وطبقا لإخلاص العبادة لله تعالى وحده وابتعادا عن التكسب بالاسلام فى سبيل مطامح دنيوية فإن من أساسيات الاسلام وتعاليم القرآن عدم استغلال المساجد والصلاة وشعائر الدين فى أى مطمح دنيوى. ولكن منذ العصر الأموى وحتى الآن وقد أصبحت صلاة الجمعة وخطبة الجمعة من وسائل الاستغلال السياسى والدعاية للحاكم والدعوة له، وأصبح ذلك شعيرة رسمية أن تتم مبايعة الحاكم المستبد فى المسجد وأن تشدو المنابر وخطب الجمعة بالتسبيح باسمه. وعلى الرغم من كثرة التناقضات بين دينى السنة والشيعة إلا أنهما يتفقان فى استغلال صلاة الجمعة وخطبة الجمعة لتكون لتعظيم الحاكم وليس لاخلاص التعظيم لله تعالى وحده. .

3 ــ ونعود للأمويين لنسجل أن تركيزهم على استغلال الخطبة فى الجمعة سياسيا كان على حساب صلاة الجمعة نفسها إذا كانوا يطيلون الخطبة حتى يمل الناس ويضيع وقت الصلاة فى منتصف النهار ويحل موعد صلاة العصر . ومن يحتج كان مصيره سيئا فى أغلب الأحوال .

وفى حدود سنة 90 هجريا قتل الأمويون زياد بن جاريه وكان من أفاضل علماء الشام. وسبب قتله أنه دخل مسجد دمشق وقت صلاة الجمعة وقد تأخرت بهم الصلاة والخطبة لا تزل قائمة ، فقال للخليفة الوليد بن عبدالملك : ( والله ما بعث الله نبيا بعد محمد عليه السلام أمركم بهذه الصلاة ).. فأدخلوه حجرة وقطعوا رأسه !! ( تاريخ الوافى بالوفيات للصفدى 15/14 )  .

4 ـ واشتهر الحجاج بن يوسف بالفصاحة والتطرف فى سفك الدماء وكان يطيل فى خطبة الجمعة حتى يضيع وقت صلاة الجمعة، وقد تولى إمارة الحجاز ثم العراق لعبدالملك بن مروان وبنيه . وفى ولايته على الحجاز كان عبدالله بن عمربن الخطاب يصلى خلفه فى الحرم فى مكة، فلما رآه يؤخر صلاة الجمعة عن وقتها امتنع عن الصلاة خلفه . ويروى ابن سعد أن الحجاج كان يخطب الجمعة  فظل فى خطبته حتى حل المساء فناداه ابن عمر: (  أيها الرجل الصلاة ) فأقعدوه ، ثم ناداه الثانية فأقعدوه ،  ثم ناداه الثالثة فأقعدوه ، فقال ابن عمرو للناس وقد ملوا " أرأيتم إن نهضت أتنهضون ؟ فقالوا نعم فنهض ابن عمر ،  فنادى فى الناس وفى الحجاج :الصلاة الصلاة فإنى لا أرى لك فيها حاجة ، فنزل الحجاج من على المنبر وصلى بالناس ، ثم دعى بابن عمرو فقال له " ما حملك على ما صنعت؟ فقال ابن عمرو " إنما نجىء للصلاة فإذا حضرت الصلاة فصلى الصلاة لوقتها ثم بقبق بعد ذلك ما شئت من بقبقة " ( 4-110 ، 117 ) . وكان هذا سببا فى إغتيال ابن عمر فيما بعد ، وخزه رجل برمح مسموم فى الحرم فمات منه .

 

تأسيس المسجد الأقصى والحج اليه بديلا عن الحج للبيت الحرام

 1 ـ من الحُمق الاعتقاد بأن حديث رب العزة عن مسجد الضرار الذى أقامه المنافقون فى المدينة ( التوبة  107 : 110 ) كان مجرد تاريخ انتهى ومضى ولم يتكرر . مسجد الضرار هو الذى يُستخدم فى الاضرار بالناس ، بالتناقض مع دور المسجد الذى يجب أن يكون مكانا آمنا للتقوى والاخلاص فى العبادة لرب العزة وحده لا شريك له . مسجد الضرار يجمع بين الكفر الاعتقادى بتقديس البشر والحجر ( كما كانت تفعل قريش بمساجدها : ( الجن 18 : 23 ) وفى الكفر السلوكى بالاعتداء والظلم ، وهذا أيضا كانت تفعله قريش فى إرهابها المؤمنين ومنعهم من دخول مساجد الله جل وعلا ( البقرة 114 ) . وجمعت قريش بين النوعين فى إستخدامها للبيت الحرام ( التوبة 17 : 18 ) .

2 ــ أعادت قريش فى خلافة الراشدين والأمويين مسيرة مساجد الضرار . لم يعد هناك وحى قرآنى يتنزل يفضحهم كما كان الحال فى حياة النبى محمد عليه السلام فى المدينة ،فإنطلقوا يفعلون ما يشاءون من غزو وأحتلال وسبى وسلب ، وقتال أهلى . كل ذلك مع وجود المساجد وإنتشار بنيانها ، والمحافظة على تأدية الصلاة ، حتى وقت المعارك ، سواء كانت غزوا للآخرين أو حربا أهلية . بل تحولت المساجد الى ساحات حرب .

3 ـ الصلاة كانت معروفة بمواقيتها وركعاتها ضمن شعائر ملة ابراهيم والتى تشمل الصيام والحج والتسبيح وإخلاص القلب لرب العزة جل وعلا ، بحيث تكون العبادات وسائل للتقوى . والتقوى تنعكس فى السلام والعدل والابتعاد عن الظلم فى التعامل مع الناس ، وعدم تقديس المخلوقات . قريش حافظت على شكل الصلاة وارتكبت فظائع فى إستغلال البيت الحرام مركزا لتقديس آلهة العرب ، وإضطهاد النبى والمؤمنين ، وبهذا أضاعوا ثمرة صلاتهم ( مريم 59 ).

4 ــ الانغماس فى الظلم مع ( تأدية ) الصلاة  تأدية سطحية يعنى أن تتحول الصلاة الى وسيلة تبرر الظلم وتؤكده وتساعد عليه، أى بدلا من أن تكون وسيلة للتقوى تصبح وسيلة للإثم والعدوان .  أسلمت قريش ، وما لبث أن سيطرت فى خلافة الراشدين فارتكبت جريمة الفتوحات ثم جريمة الفتنة الكبرى الأولى ثم الثانية . وفى كل فظائعها حافظت قريش على ( تأدية ) الصلاة بمواقيتها وحركاتها حتى فى أثناء القتال ، بل كان الأمير على البلد المفتوح وقائد الجيش يسمى ( أمير الصلاة ) وهو الأعلى شأنا من صاحب الجباية و القاضى . ونشروا تعليم الصلاة ، ولا زلنا نصلى بنفس الكيفية ، ونرتكب نفس الفظائع ، نقتل ونصلى ، ننهب ونصلى ، بل يهتفون ( الله أكبر )  نتوقف هنا مع قيام عبد الملك بن مروان بإنشاء المسجد الأقصى بديلا عن الكعبة.

  عبد الملك وإنشاء المسجد الأقصى

1 ـ تعرضت الكعبة للإهانة والحرق بيد القرشيين ( الجيش الأموى ، وجيش ابن الزبير ) . ولقد إستغل ابن الزبير موسم الحج لتكثيف دعايته ضد الأمويين ، وبدأ تأثير ذلك واضحا فى أهل الشام الذين يؤدون فريضة ويعودون وقد سمعوا الطعن فى الأمويين . خشى عبد الملك بن مروان من أن ينفضوا عنه وأن ينضموا لابن الزبير ، وهداه تفكيره الى إنشاء ما اسماه بالمسجد الأقصى وجعل الحج اليه ، واستغل ذكر اسم المسجد الأقصى فى سورة الاسراء فى الدعوة لتقديس مسجده هذا ، وإستجاب له أهل الشام خصوصا من اسلم منهم ولا يزال يحمل مؤثرات دينه القديم ، وتقديس الهيكل وكنيسة القمامة ، هذا مع أن المسجد الأقصى المذكور فى القرآن هو ( طور سيناء ) . المسجد الأقصى الحالى لم يكن موجودا فى عصر النبى ، ولم يكن موجودا فى عصر الخليفة (عمر ) حين فتح الشام وفلسطين وزار كنيسة القمامة وصلى خارجها .هذا المسجد الأُكذوبة بناه الخليفة عبد الملك بن مروان .

2 ـ فى تاريخه ( البداية والنهاية ) ينقل المؤرخ الشامى ابن كثير فى أحداث عام 66: (  وفيها‏:‏ ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين‏.‏)  ويقول عن سبب بنائه : ( وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة،وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوي بني مروان، ويقول‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحاً، فمال معظم أهل الشام إليه‏. ‏وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عندالصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة‏.‏وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكان يشنع عليه بمكة ويقول‏:‏ ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية‏. )

وعن عمارته وبنائه يقول  ابن كثير : ( ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد ، وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغاً ولا يتوقفا فيه‏. ‏فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الأحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداماً بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل‏.‏ وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة وسلاسل الذهب والفضة شيئاً كثيراً، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط الملونة‏.‏ وكانوا إذا أطلقوا البخور شُمّ من مسافة بعيدة. )

وعن إفتتان الناس به يقول : ( وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياماً، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذٍ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس‏. ‏وافتتن الناس بذلك افتناناً عظيماً، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئاً كثيراً مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك وإلى زماننا‏.‏) أى ظل إفتتان الناس بالمسجد الأقصى الذى صنعه عبد الملك من عهد عبد الملك فى القرن الأول الهجرى الى عصر المؤلف ابن كثير فى القرن الثامن الهجرى ..,لا يزال حتى اليوم .

ويقول ابن كثير عن الاسراف فى تزيين وتذهيب هذا المسجد  : ( وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظراً، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيءكثير، وأنواع باهرة‏.‏ولما فرغ رجاء بن حيوة، ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال ، .‏وقيل‏:‏ ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما‏:‏ قد وهبته منكما‏. ‏فكتبا إليه‏:‏ إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا‏.‏ فكتب إليهما‏:‏ إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث‏.)

ويقول عما حدث لهذا المسجد فى خلافة ابى جعفر المنصور العباسى :‏( فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم بيت المقدس في سنة أربعين ومائة، فوجد المسجد خراباً، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة  والأبواب، وأن يعمروا بها ما تشعث في المسجد، ففعلوا ذلك‏. ‏وكان المسجد طويلاً فأمر أن يؤخذ من طوله ويزداد في عرضه. ). وحتى الآن لا يزال هذا المسجد مقدسا ؛ يجعلونه  ثالث الحرمين . وهذا الإفك بدأه الأمويون ولا يزال سائرا وسائدا .!

  الوليد بن عبد الملك وبناء مسجد المدينة عام 88 .

1 ـ عن عمد وإصرار أسس عبد الملك بن مروان مسجد الأقصى ، وجعله يضاهىء البيت الحرام . إبنه الوليد بن عبد الملك أسس المسجد الذى صار فيما بعد معروفا بالمسجد النبوى ، وصار ثانى الحرمين فى ديانات المحممديين  الأرضية . لم يقصد الوليد بن عبد الملك إتخاذ هذا المسجد ثانى الحرمين ، ولم يكن ذلك معروفا وقتها ، ولكن توسعة المسجد نشأ عنها إدخال بيوت أمهات المؤمنين بعد موتهن ، وإدخال بيوت أخرى . ولأن النبى محمدا عليه السلام كان مدفونا من قبل فى غرفة عائشة فإن المحمدييين حين دخلوا فى تقديس النبى وتأليهه إختاروا مكانا فى مسجد المدينة زعموا أنه مكان حجرة عائشة ، وجعلوه قبرا للنبى بأثر رجعى ، وقصدوه بالحج والزيارة . وحتى الآن يعتقدون أن النبى يعيش حيا ( تحت الأرض ) فى حفرة ضيقة حيث يرد السلام على من يسلم عليه ، وتُعرض عليه أعمال ( أمة محمد ) فيراجعها ويتشفع فيها ، وهو يعمل كل الوقت بلا كلل وبلا ملل ، وبلا أجهزة تساعده وبلا موظفين مساعدين.......وكم فى الديانات الأرضية من خبل وجنون .

2 ـ يقول الطبرى فى أحداث عام  88  : ( وفيها أمر الوليد بن عبدالملك بهدم مسجد رسول الله وهدم بيوت أزواج رسول الله وإدخالها في المسجد . . وارسل الوليد رسولا الى عمر بن عبد العزيز الوالى على المدينة يأمره بهدم بيوت امهات المؤمنين والبيوت الأخرى وتعويض أصحابها . تقول الرواية (  فدخل على عمر بن عبد العزيز بكتاب الوليد ، يأمره بإدخال حجر أزواج رسول الله في مسجد رسول الله وأن يشتري ما في مؤخره ونواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع،  ويقول له : " قدم القبلة إن قدرت وأنت تقدر لمكان أخوالك فإنهم لا يخالفونك ،  فمن أبى منهم فمر أهل المصر فليقوموا له قيمة عدل . ثم اهدم عليهم وادفع إليهم الأثمان،  فإن لك في ذلك سلف صدق عمر وعثمان . "  فأقرأهم كتاب الوليد وهم عنده ، فأجاب القوم إلى الثمن ، فأعطاهم إياه . وأخذ في هدم بيوت أزواج النبي وبناء المسجد ، فلم يمكث إلا يسيرا حتى قدم الفعلة ، بعث بهم الوليد . )

وحضر مع عمر بن عبد العزيز أعيان أهل المدينة : ( رأيت عمر بن عبدالعزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس ، القاسم وسالم وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وعبيد الله بن عبدالله بن عتبة وخارجة بن زيد وعبدالله بن عبدالله بن عمر ، يرونه أعلاما في المسجد ، ويقدرونه.  فأسسوا أساسه ، لما جاء كتاب الوليد من دمشق . )

وعن الهدم والبناء : ( قال صالح فاستعملني على هدمه وبنائه ، فهدمناه بعمال المدينة ، فبدأنا بهدم بيوت أزواج النبي حتى قدم علينا الفعلة الذين بعث بهم الوليد . ) ( ابتدأنا بهدم مسجد رسول الله في صفر من سنة ثمان وثمانين . وبعث الوليد إلى صاحب الروم يعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله وأن يعينه فيه . فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب ، وبعث إليه بمائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين حملا , وأمر أن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت فبعث بها إلى الوليد فبعث بذلك الوليد إلى عمر بن عبد العريز ).

لم يقصد الوليد بن عبد الملك تقديس قبر للنبى محمد لأنه لم يوجد وقتها قبر للنبى محمد ، ولكنه حين أقام مسجد المدينة بهذه الفخامة فقد ساعد ــ دون قصد ــ على تسميته فيما بعد بمسجد رسول الله أو المسجد النبوى ، وصار ثانى الحرمين ، وقام بتشريع هذا الامام مالك الفقيه المخضرم الذى عايش الدولتين الأموية والعباسية . ومالك هو الذى إفترى أحاديث فى تقديس المدينة نفسها وجعل عمل أهل المدينة مصدرا تشريعيا .وهكذا فقد شهد العصر الأموى بداية التشريع المناقض للإسلام .

 

إختراع الأحاديث وبداية تشريع الأديان الأرضية فى العصر الأموى

 

 مقدمة : من الفتوحات العربية نبعت كل الشرور:

1 ـ لا زلنا نعانى من شرورها حتى الآن إذ تحولت الى دين سُنّى أرضى له تشريعاته العدوانية التى تتناقض مع الاسلام فى قيم السلام والعدل والاحسان والحرية و تحريم البغى والظلم والعدوان . يكفى قوله جل و علا : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) النحل )

 إحتاجت الفتوحات الى تشريع التكفير الغير لإستحلال الغزو والاحتلال والاستيطان وسفك الدماء وسلب الأموال بالجزية والخراج وهتك الأعراض بالسبى . وهذا كان تاريخ الفتوحات فى عصر الخلفاء القرشيين ( راشدين وأمويين وعباسيين وفاطميين ) وتابعهم غيرهم . ثم أصبح أبوابا فى كتب الفقه السنى وتشريعات دين السُنّة .

2 ـ تحريم قتال المُسالمين المخالفين فى الدين جعله رب العزة قاعدة تشريعية فى القتال فى سبيله جل وعلا ، قال جل وعلا : (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة )، فالمخالف فى الملّة والاعتقاد والذى لم يعتد على الدولة الاسلامية يجب التعامل معه بالبرّ والقسط . ويحرم الاعتداء عليه لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين ، هذا هو تشريع القتال الدفاعى فى الاسلام : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ).

3 ــ أبو بكر وخلفاؤه ومعهم قريش كفروا بهذه القاعدة التشريعية حين حكموا بتكفير الأمم الأخرى التى لم تعتد عليهم ، وبناء على هذا التكفير إستحلوا دماءهم وأعراضهم وأموالهم وإحتلوا بلادهم .

وإخترع أبو بكر حيلة ظريفة لم تكن معروفة فى عهد النبى محمد عليه السلام ولم يعرفها أعداؤه أيضا ، وهى أن يرسل جيشا مدججا بالسلاح ومعه إنذار بإجبار أهل البلد على قبول واحد من ثلاث : الاسلام ، دفع الجزية أو القتال .

أيضا كفر أبو بكر ومن معه  من الصحابة بالقاعدة القرآنية:( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )(256) البقرة)، وبقوله جل وعلا لرسوله : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) يونس ) . إذ كيف تُجبر الناس على الدخول فى الاسلام ؟ وفى العصر العباسى تم تشريع هذا الإفك بحديث البخارى : ( أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا .... ) .!

4 ـ سلاح التكفير هذا الذى إخترعته قريش بزعامة ابى بكر حقق للأعراب مرادهم فى السلب والنهب بتشريع دينى ، ولكن ما لبث سلاح التكفير هذا  أن إرتد الى عنق قريش حين خرج عليها الأعراب ، وبدءوا بتكفير قريش وأئمتها ، وإستحلال دمائهم .  قتلوا عثمان وعليا بعد تكفيرهما ، وتطرفوا الى تكفير كل من ليس منهم ، وبناء عليه إستحلال دمائهم وأموالهم ، وجعلوا لذلك شعارا هو ( لا حُكم إلا لله )، أو ( التحكيم ). واصبح يقال عن بعضهم أنه ( حكّم ) أى رفع لواء ( لا حكم إلا لله ) وبدأ يقتل الناس عشوائيا . بدأ هذا فى الفتنة الكبرى مع قتل عثمان والخروج على (على ) ثم توسع وإستشرى فى الدولة الأموية .

5 ـ  ومن تكفير الآخر فى سبيل قتله وقتاله وإستحلال دمه وعرضه وماله تأسست كل الشرور فى تاريخ الخلفاء القرشيين، وتأسست الشريعة السنُية وأكثرها تطرفا هى الوهابية فى عصرنا .

 

إختراع الأحاديث هو البداية فى تأسيس الديانات الأرضية فى الدولة الأموية

 

1 ـ إحتاج هذا الصراع السياسى الى مسوغ شرعى . ولأنه يستحيل العثور على مسوغ شرعى من القرآن فكان المخرج  فى التمسح بالقضاء والقدر ( وسنعرض لاحقا بالتفصيل ) وتأليف أحاديث منسوبة للنبى محمدعليه السلام. ونشط فى هذا المجال بعض الصحابة مثل أبى هريرة ، وبعض التابعين مثل الأوزاعى . وقد اعتبرت تلك الأحاديث وحيا الاهيا أو دينا . بالتمسح بالقضاء والقدر وبالكذب على رسول الله أنشأ الأمويون دينا أرضيا جديدا ، وواجههم خصومهم بأديان أرضية مناوئة مسلحة بالأحاديث والروايات ، بل وأنشأ الشيعة لهم عقائد سبقوا بها ظهور الدولة الأموية.

2 ــ بهذا تحول الصراع السياسى الحربى فى العصر الأموى الى صراع بين أديان أرضية.

وبرز هذا فى الفتنة الكبرى الثانية بعد مأساة كربلاء ومقتل الحسين ( 61 : 73 )،إذ إنهارت الدولة الأموية وزعم عبد الله بن الزبير الخلافة وسيطر على معظم الأقاليم ، ثم أعاد مروان بن الحكم وابنه عبد الملك تأسيسها وقتل ابن الزبير عام 73. فى خضم هذه الفوضى ظهر المختار بن عبيد الثقفى ، وهو مغامر بدأ خادما للدولة الأموية ثم أغرته الفوضى بعد مقتل الحسين ، فرفع راية الانتقام للحسين وجمع حوله الشيعة وإنضم الى ابن الزبير ثم إنشق عنه وفى النهاية قتله مصعب بن الزبير عام 67 . الذى يهمنا هنا أن هذا المغامر الأفاق بدأ بإرهاصات دين أرضى بخرافات زعمها وصدّقها الناس وتابعوه مؤمنين بها ، وقاتلوا معه تحت شعارها ، وتتمثل فى ( كرسى ) كان المختار يستنصر به هو جنوده ، ومنها إطلاق لقب المهدى على ( محمد بن على بن أبى طالب )( ابن الحنفية ).  و الزعم بأن جبريل والملائكة معه، وهو زعم ردّده أساطين الأديان الأرضية فى التصوف والسنة والتشيع . بالاضافة الى ذلك : إخترع المختار عبارة :( شرطة الله ): وهذا يشبه ما يقال فى عصرنا عن أحد الأحزاب الشيعية:( حزب الله ).

كما برز المختار الثقفى فى إستعمال الأحاديث المصنوعة ، تقول الرواية فى تاريخ المنتظم ج 6 عام 66 : ( قال المختار لرجل من أصحاب الحديث‏:‏ ضع لي حديثًا عن النبيصلى الله عليه وسلم أني كائن بعده خليفة....، وهذه عشرة آلاف درهموخلعة ومركوب وخادم.  فقال الرجل‏:‏ أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا، ولكن اخترمن شئت من الصحابة واحطط من الثمن ما شئت.! قال‏:‏ عن النبي أأكد قال‏:‏ والعذاب عليهأشد‏.‏ ). ورفض ابن عمار بن ياسر أن يضع حديثا يرويه عن أبيه ، فقتله المختار ، تقول الرواية : ( وقتل المختار محمد بنعمار بن ياسر ظلما لأنه سأله أن يحدث عن أبيه بحديث كذب فلم يفعل فقتله ).

 وكما كان المختار يصنع أحاديث تؤيده فإن خصومه وضعوا أحاديث تجعله كذابا . ومنها زعمهم ان النبى قال : ‏‏(‏إن في ثقيف كذاباً ومبيراً‏)‏‏)، وقد جاء فى ( صحيح مسلم ) ، وفسروا المبير بأنه الحجاج بن يوسف الثقفى ، والكذاب هو المختار الثقفى. ‏ومعلوم انه عليه السلام لا يعلم الغيب وليس له أن يتكلم فيه.

3 ـ وفى هذه الفتنة الثانية جاءت رواية فى المنتظم(ج 6 عام 93 ) أن ( عمر بن عبد العزيز ) فى ولايته على المدينة ضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير بن العوام خمسين سوطًا‏.‏وقيل‏:‏ مائة سوط ، تنفيذا لأمر الخليفة الوليد بن عبد الملك ، وصب على رأس قربة ماء بارد في يوم شات ووقفه على باب المسجد فمكث يومًا ومات‏. وكان السبب أن خبيبًا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلًا اتخذوا عباد الله خولًا ومال الله دولًا ‏"‏‏.هو حديث مكّار جبّار يطعن فى الخلفاء الأمويين من ذرية مروان بن الحكم بن أبى العاص .‏

إختراع الأحاديث مع أو ضد الأمويين :

1 ـ وجد الأمويون من يخدمهم فى دينهم الأرضى يسوغ لهم الظلم ، كان منهم القضاة والقصاصون الذين احترفوا اختراع القصص للدعاية للأمويين، وكان القصص وظيفة رسمية عالية الشأن فى العصر الأموى، أشهر أولئك العلماء كان الأوزاعى الذى عاش فى الدولتين الأموية والعباسية وخدمهما معا، وهو الذى أفتى للخليفة هشام بقتل غيلان الدمشقى زعيم القدرية.

2 ــ لم يكن أولئك العلماء خدما للسلطة يبررون ظلمها فقط بل على عاتق بعضهم تقع جريمة إفساد بعض الخلفاء. وقد كان الأمير الأموى الشاب يزيد بن عبد الملك مهتما بالجلوس مع العلماء ومستعدا لتعلم الورع ، وقد تأثر بالعدل الذى أشاعه سلفه الخليفة عمر بن عبد العزيز، ولما تولى الخلافة بعده عزم أن يسير سياسته فى العدل ومنع الظلم ، فلم يتركه آله الأمويون يسير بعدل عمر بن عبد العزيز أكثر من أربعين يوما، إذ بعثوا له  ( بأربعين شيخاً فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب‏.‏)( تاريخ ابن كثير ‏ج/ص‏:‏ 9/259‏)‏، وطالما أنه ما على الخليفة من حساب ولا عذاب فليظلم ما شاء له الشيطان من ظلم.وبهذه الفرية اصبح يزيد بن عبد الملك فاسقا ماجنا .

 

 

3 ـ وراجت الأحاديث كميدان للصراع السياسى برعاية القطبين اليهوديين اللذين أسلما وغررا بالمسلمين .هما رفيقان من يهود اليمن قاد كل منهما معسكرا من المسلمين يواجه به المعسكر الآخر. انهما كعب الاحبار المنحاز للامويين ورفيقه عبد لله بن سبأ الذي بدأ التشيع المعادى للأمويين، وكلاهما وضع تأويلات دينية للمعسكر الذي ينتمي اليه عن طريق وضع الأحاديث ونسبتها للنبى محمد بعد موته .

4 ــ وقد زعم كعب الاحبار علم الغيب الالهى وبأنه يقرأ التوراة والكتب السماوية السابقة التي لا يعرفها سواه ،وكان يحظى بالتصديق. واستغل علاقته بالصحابي ابي هريرة الذي كان يوالي الامويين ،وعن طريقهما نشطت الدعاية للامويين ووضعت احاديث في فضل معاوية وآله.  واستخدم الأمويون وظيفة القصص او من يقوم بالوعظ بعد الصلاة ويستخدم وعظه فى الدعاية للامويين ،وكان ابو هريرة الصحابى يروى أحاديث نبوية عن كعب ـ الذى لم ير النبى اذ أسلم فى عهد عمر ـ وكان كعب وأبوهريرة معا من اهم مصادر هذا الوعظ، ثم كان الاوزاعي في نهاية الدولة الاموية من اهم اعلام الدعاية الاموية فى جانبى القصص وتأليف الأحاديث النبوية.

5 ــ من الناحية الأخرى اخترع المعارضون احاديث تطعن في الأمويين وتؤلب عليهم وتفضح مجون خلفائهم. فعن الخليفة الماجن الوليد بن يزيد صنعوا أحاديث تزعم أن النبى محمدا قال ( .. ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له‏:‏ الوليد،لهو أشد فساداً لهذه الأمة من فرعون لقومه‏)‏‏‏‏.‏(سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له‏:‏ الوليد‏)‏‏)‏‏.‏‏(‏‏(‏لا يزال هذا الأمر قائماً بالقسط حتى يثلمه رجل من بني أمية). وقدكتبت هذه الأحاديث وراج أمرها فيما بعد فى العصر العباسى.وقد جمعها ابن كثير فى تاريخه فى حديثه عن الوليد بن يزيد.

6 ــ والشيعة نسبوا أحاديث تطعن فى معاوية وآله ورفاقه ، ومنها حديث مضحك يقول إن معاوية دخل على النبى محمد يحمل إبنه يزيد فقال النبى مشيرا اليه : رجل من أهل الجنة يحمل رجلا من أهل النار !!. ومعلوم أن النبى محمدا لم يكن له أن يتكلم فى الغيب وما سيحدث فى المستقبل، ومعلوم أيضا أن معاوية قد تزوج ميسون بنت بحدل الكلبية وأنجب منها يزيد أثناء ولايته على دمشق، أى بعد وفاة النبى محمد بثلاثة عقود.

7 ــ ومبكرا ، بدأت السبئية ـ اتباع عبد الله بن سبأ ـ بتأليه عليّ بن أبى طالب وزعم انه لم يقتل وانه سيرجع يوم القيامة ليملأ الارض عدلا ،ثم ظهرت الكيسانية تقول بأمامة محمد بن علي ابن ابي طالب  (ابن الحنفية )وتؤله الأئمة ،والكيسانية هم الذين انشأوا الدولة العباسية فيما بعد .واسفرت دعاوي الشيعة في العصر الاموي عن شيوع فكرة المهدي المنتظر، وبداية تأسيس المذهب الشيعي الذي اكتملت ملامحه في العصر العباسي .

8 ـ الخوارج كانوا ضحية حرب الأحاديث ، إذ توالى إختراع الأحاديث التى تهاجمهم ، وقد جمعها الملطى فى العصر العباسى فى كتابه ( التنبيه والرد ). منها حديث أبى هريرة المشهور :( يخرج فى آخر الزمان يقرأون القرآن فاتحته الى خاتمته لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية . )، وروى أيضا منسوبا لأبى سعيد الخدرى . هذا بالاضافة الى حديث ( ذو الثدية ) المشهور والذى ما لبث أن أدخلوه فى التاريخ لعلى بن أبى طالب فى التأريخ لمعركة النهروان تحت عنوان (.ذكر مقتل ذي الثدية) يروى ابن الأثير :( قد روى جماعة أن علياً كان يحدث أصحابه قبل ظهور الخوارج أن قوماً يخرجون يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، علامتهم رجل مخدج اليد، سمعوا ذلك منه مراراً، فلما خرج أهل النهروان سار بهم إليهم علي وكان منه معهم ما كان، فلما فرغ أمر أصحابه أن يلتمسوا المخدج، فالتمسوه، فقال بعضهم: ما نجده، حتى قال بعضهم: ما هو فيهم، وهو يقول: والله إنه لفيهم، والله ما كذبت ولا كذبت! ثم إنه جاءه رجل فبشره فقال: يا أمير المؤمنين قد وجدناه. وقيل: بل خرج علي في طلبه قبل أن يبشره الرجل ومعه سليم بن ثمامة الحنفي والريان بن صبرة فوجده في حفرة على شاطىء النهر في خمسين قتيلاًن فلما استخرجه نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع كثدي المرأة وحلمة عليها شعرات سود فغذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الطولى ثم تترك فتعود إلى منكبيه. فلما رآه قال: الله أكبر ما كذبت ولا كذبت، لولا أن تنكلوا عن العمل لأخبرتكم بما قص الله على لسان نبيه، صلى الله عليه وسلم، لمن قاتلهم مستبصراً في قتالهم عارفاً للحق الذي نحن عليه.). نعيد التذكير والتأكيد أن النبى محمدا عليه السلام لم يكن يعلم الغيب .
 والخوارج أو البدو الثوريون المتدينون لم يبرزوا فى ميدان تأليف الأحاديث ، لأنهم كانوا يفكرون بسيوفهم ولكونهم أعرابا أجلافا فلم تكن لهم خلفية ثقافية تؤهلهم لهذا المكر الثقافى أو تلك الحرب الفكرية . إستعاضوا عن هذا بأن كانوا أول من بدأ  ــ عمليا ــ بمزج الدين بالثورة الدموية واستحلال دم الأبرياء بعد تكفيرهم. وهو تشريع قاموا بتطبيقه بسيوفهم بلا رحمة فى العصر الأموى. الا انهم بمجىء  العصر العباسي كانوا قد استهلكتهم الثورات المتكررة علي الامويين وخلافاتهم المتكررة الداخلية فتضاءلت ثوراتهم بمرور الزمن مع ضعف شأن الأعراب عموما فى العصر العباسى . وعلى سنتهم سار أعراب الجزيرة العربية فى حركاتهم الثورية التدميرية من حركات الزنج والقرامطة الى الوهابية فى عصرنا ، وكلها نبتت من منطقة نجد وتوسعت فيما حولها .

 

طبيعة الأديان الأرضية المتعارضة فى العصر الاموي

 التطرف فى الزعم وفى التطبيق

1 ـ شهد العصر الاموي تطرفا نوعيا في بعض الآراء الدينية لتلك الأديان الأرضية الي درجة ان الشيعة السبئية قبل العصر الأموى بادرت بتقديس (علي ) في حياته مما اضطره لأحراقهم ، كما ان الخوارج في تطرفهم في تكفير كل   المخالفين قرنوا القول بالعمل فكانوا يستحلون دماء مخالفيهم حتى من المسالمين الذين لا شأن لهم بالحرب أو السياسة .

2 ـ الامويون بدورهم اسرفوا في انتهاك حرمة البيت الحرام وقتل أهل المدينة وسائر الرموز المتصلة بالنبى محمد وأسرته وأهله وأصحابه ، وتعدى الأمر الى القتل بمجرد الشبهة مثلما كان يفعل الحجاج وغيره ، ونسبوا جرائمهم الى الله تعالى وارادته وقضائه وقدره ومشيئته.

البساطة وعدم التأصيل الفكرى :

1 ـ ومع وجود هذا التطرف بالرأي والسلوك فى الصراع السياسي بين تلك الأديان الأرضية الا انها ظلت فى مرحلة البساطة ، فلم تتح لها الفرصة الكافية للاكتمال نظرا لأن الأمويين كانوا عربا إنحصرت إهتماماتهم فى القبائل العربية مع إحتقار غير العرب ، وغير العرب هم أهل حضارة وتدوين وثقافة . لذا إزدهر الشعر وتضاءل العلم الدينى ليصبح مجرد جلسات للسمر تجتر روايات شفهية فى التاريخ وأحاديث منسوبة للنبى وايام العرب ووقائعهم . والخلفاء الأمويون الذىن أقاموا الدولة ووطدوها ( معاوية ، مروان بن الحكم ، وعبد الملك بن مروان ) لم يكن لديهم وقت فراغ للإهتمام بالعلم ـ مع إفتراض الرغبة فيه . والخلفاء اللاحقون أمضوا وقت فراغهم فى المجون ، ثم هذا الانغماس الأموى في الفتوحات فى الشرق الآسيوى وضد البيزنطيين وفى مواجهة الثورات الداخلية التى قام بها الشيعة والعلويون والموالى والأقباط والبربر والخوارج ، بالاضافة الى الصراعات بين القبائل والتى أسهم فيها الأمويون بسبب نشرهم التعصب القبلى ، وسنعرض له لاحقا . لم تعرف الدولة الأموية هدنة . إمتلأ تاريخها القصير بحمامات الدم .  

2 ـ قصر عمر الدولة الاموية الملئ بالاحداث الهائلة الداخلية والخارجية وثقافتها العربية البدوية حال دون اكتمال الحركة العلمية الفكرية في العصر الاموي .ولذلك لم يكن هناك وقت للتأصيل الفكري لتلك الأديان فظلت فى دائرة التعبير العنيف عن الصراع الحربى والسياسى بين الدولة الأموية وخصومها، دون تدوين منظم بعقائد وطقوس ورسوم دينية .

3 ـ وهكذا ، ففى العصر الأموى كان التدين بسيطا اقتصر علي تغليف السلوكيات القائمة فعلا برأي ديني ، فالقتل تحول الي تكفير فاستحلال ،أي كان التدين في بساطته يعتبر وسيلة لتبرير الرأى السياسي مثلا ولم يكن هدفا قائما في حد ذاته. أما  في العصر العباسي فقد اكتملت ـ مثلا ـ طقوس التشيع و مراسيمة الدينية ، واصبح السعي السياسي لأقامة دولة شيعية نابعا من ذلك التدين الشيعي المكتمل بعقائده وجدلياته واركانه ورسومه وطوائفه .

بداية التشريع الفقهى للدين السنى فى العصر الأموى

1 ـ  إلا إن الأخطر فى موضوع الأديان الأرضية فى العصر الأموى أنه دارت حولها البدايات الشفهية للحركة العلمية التى قام على أساسها التشريع الفقهى لأشهر الأديان الأرضية للمحمديين . من خلالها نشأ ما أصبح فيما بعد يعرف باسم علم الحديث أو الأقوال المنسوبة للنبى محمد ، وعلم التفسير بالمأثور أو التفسيرات القرآنية المنسوبة للنبى محمد. هى كلها إفرازات لدين أرضى ينسب نفسه زورا وبهتانا للوحى الالهى ، ولكنها أخذت تتحدث فى الأمور المعيشية وتضع أحكاما شرعية لها ، وحتى تحظى هذه الآراء البشرية بالتصديق وحتى لا تتعرض للاعتراض والنقد فقد نسبها قائلوها للنبى محمد وجعلوها وحيا سماويا. وكانت تلك هى البداية الشفهية لانشاء تشريع لدين أرضى، أمكن له التسجيل والتدوين فى العصر العباسى تحت إسم السنة.

2 ـ وإنقسم هذا التشريع السنى الى مدارس مختلفة فى العصر العباسى ، بقى منها حتى الآن ما يعرف بالمذاهب الأربعة أو المدارس الفقهية السنية الأربعة ، وهى المالكية نسبة للامام مالك بن أنس فى المدينة ، والحنفية نسبة للامام أبى حنيفة فى العراق ، والشافعية نسبة للامام الشافعى فى العراق ومصر ، ثم الحنبلية نسبة للامام أحمد بن حنبل، وهى أكثر تلك المدارس تزمتا. والوهابية فى عصرنا هى آخر تجليات الفقه الحنبلى وأكثر تياراته تزمتا وتعصبا.

3 ـ هذا الدين السُّنّى ( بالذات ) وفقهه التشريعى وأحاديثه المبنية على الإفتراء هو الذى أجهض الحركة العلمية الحقيقية ( فلسفة ، طب ، كيمياء ، موسيقى ، هندسة ، جبر ..الخ ) والتى قامت على أكتاف ( الموالى ) ، بدأت بالترجمة عن اليونان ثم إستقلت تتكلم بالعربية ، وإزدهرت فى وقت قصير ثم قضى عليها الحنابلة السنيون فى العصر العباسى الثانى .

أثر الغزو العربى فى الحركة الفكرية الدينية

1 ـ الغزو العربى وتكوين امبراطورية عربية تحمل اسم الاسلام ، هو المفتاح لفهم الخلفية التاريخية لذلك الدين السنى وتراثه الفقهى.

2 ـ انشغل العرب بالفتوحات والنزاع السياسى والعسكري خلال فترتى الراشدين والأمويين ، ولم يكونوا فى الأصل أصحاب حضارة سابقة أو من الأمم ذات الشهرة فى الكتابة والتدوين. كانت الأمم المفتوحة ذات ارث حضارى متصل ومكتوب، وقد تعامل العرب معهم فى الدولة الأموية على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية ، فكان لقبهم السائد ( موالى ) أى الأتباع والخدم والعبيد سواء منهم من كان رقيقا أو كان حرا فى بلاده، اذ كان يدفع الجزية حتى لو أسلم.

3 ـ فى وقت انشغال العرب بالفتوحات والفتن والحروب الأهلية والفتن والمكائد السياسية نشأ جيل جديد من الموالى خدم كبار الصحابة ونقل حكاياتهم ، وكانت لهم خلفية علمية لم تكن موجودة لدى العرب ، وكان العلم سبيلهم فى التميز الاجتماعى فى مواجهة أسيادهم العرب، كما كانت المبالغة فى  التدين وترك الدنيا بدعوى الزهد  طريقة بعضهم فى المزايدة الدينية على العرب (المسلمين) الذين تنازعوا وسفكوا ـ فى سبيل حطام الدنيا ـ الدماء البريئة التى حرمها الله تعالى. 

4 ــ أولئك الموالى وأبناؤهم كانوا قادة الحركة العلمية فى العصر الأموى، خصوصا بعد موت المتأخرين من الصحابة ، والذين كانوا أطفالا وصبية صغارا فى حياة النبى محمد ، مثل خادم النبى الصحابى أنس بن مالك الذى توفى بالبصرة سنة 92 عن عمر يناهز 99 عاما،وهو آخر من توفى من الصحابة بالبصرة ، وعبد الله بن أوفى ت 86 وعبد الله بن الزبير 73 وابن عمرو 65  وابن عمر 74 وابن عباس 68 . جاء بعدهم من خدمهم من الموالى مثل سالم مولى عبد الله بن عمر 106، و عكرمة مولى ابن عباس الذى اخترع حديث الردة،أو قتل المرتد القائل : (من بدّل دينه فاقتلوه ) والتفاصيل فى كتابنا : حد الردة.

5 ــ ينقل المؤرخ إبن الجوزى عن الراوية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قوله  لما مات العبادلة " عبد الله بن عمر وعبدالله بن عمرو و عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير" صار الفقه فى جميع البلاد الى الموالى ، فكان فقيه أهل مكة عطاء بن رباح ، وفقيه أهل اليمن طاووس ، وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير ، وفقيه أهل البصرة الحسن البصرى ، وفقيه أهل الشام مكحول ، وفقيه أهل خراسان عطاء الخراسانى ، إلا المدينة فان الله تعالى خصّها بقرشى فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع ) ( تاريخ المنتظم 6 : 319 ـ 320 ).

6 ــ هذه الرواية تجاهلت مشاهير الفقهاء من الموالى  مثل سعيد بن جبير  ت 95 والشعبى  ت 104 و مجاهد بن جبر 104 وابن سيرين 110  ومالك بن دينار 130 وكلهم من العراق ، كما أنها تجاهلت مصر تماما ، و قد قاد الحركة الفقهية فيها بعد سالم مولى ابن عمرو فقيه مشهور من الموالى هو الليث بن سعد المتوفى 175 وكان مولى لخالد الفهمى ، وكان الليث معاصرا لأبى حنيفة فى العراق وأستاذا لمالك بن أنس فى المدينة. وعن مدرسة المدينة فقد كان فقيهها سعيد بن المسيب الذى ولد بعد سنتين من مقتل عمر بن الخطاب ، ثم عاش ليدرك الدولة الأموية معارضا سلميا لها الى أن مات فى خلافة الوليد بن عبد الملك سنة 94 ، وكان من أشهر تلامذته الزهرى  ت  124، والذى زعم الامام مالك بن أنس ت 179 الرواية عنه  . كما أن مالك بن أنس كان أستاذه فى المدينة مولى وكان أعرف بالفقه والعلم منه ، إذ جمع بين الرأى ـ أى الاجتهاد العقلى ـ  والحديث،  إنه فروخ ، أو ربيعة الرأى المتوفى سنة 136 . إلا أن العصبية العربية أشهرت مالك وتجاهلت فروخ ، أو ربيعة الرأى الذى كان أستاذا أيضا لأبى حنيفة فى مدرسة الرأى والاجتهاد.

ابن الجوزى نقل الرواية السابقة عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المتوفى سنة 182 ، أى كان معاصرا لأولئك الأعلام ولكن تجاهلهم. وقد يكون هذا التجاهل مبعثه اختلاف الرأى أو الحسد ، إذ لم تبلغ شهرة إبن أسلم أو علمه مبلغ أولئك الأعلام.

7 ــ المسكوت عنه هنا أن معظم هؤلاء الأعلام من الفقهاء لم يكونوا فقهاء بالمعنى العلمى ، بل كانوا وُعّاظا يفترون أحاديث ينسبونها للنبى وينشرونها بعد وفاته بعشرات القرون ، ويكتسبون بها جاها بين الناس وزعامة بينهم ، خصوصا مع إحترافهم الزهد عن الدنيا مقابل الأمويين الذى إحترفوا الاقتتال وسفد الدماء طمعا فى الدنيا .

على عتبة العصر العباسى

1 ـ جاء العباسيون للحكم بسيوف الفرس (المسلمين ) من أتباع أبى مسلم الخراسانى ومساعدة من قبائل العرب القحطانية ، فتحولت الكفة الراجحة للموالى فتطرف بعضهم الى درجة الشعوبية ، أى التعصب للقومية الفارسية وانتقاص العرب، بل والطعن فى الاسلام . وبعضهم اشتهر بالالحاد والزندقة التى كانت (موضة) المثقفين وكتبة الدواوين العباسية،   ولا بأس بها لدى الخلافة العباسية طالما يظل ولاء الزنديق للدولة العباسية، فاذا كان متهما فى ولائه عوجل بتهمة الزندقة وقتلته الدولة بحد الردة حتى لو كان مسلما ورعا أو شريفا علويا. كانت هذه وظيفة حد الردة الذى اخترعوه لقتل خصوم الدولة باسم الشرع، على نحو ما أوضحنا فى كتب ( حد الردة ) و( الحسبة ) وغيرها.

2 ـ واذا كان العصر الأموى قد شهد بداية الحركة العلمية فى بساطتها وسذاجتها وشفهيتها فان العصر العباسى الأول هو الذى شهد ازدهارها وتدوينها وتشعبها وتنوعها وتعقيدها من العمومية الى التخصص ومن الرواية الشفهية الى التدوين والتسجيل والنسخ والكتابة  .

وبدا واضحا أن الحضارات السابقة فى الرافدين والنيل قد تم بعثها وتلقيحها برؤي تنسب نفسها الى الاسلام وتنطق بالعربية تعبر بها عن ثقافة عباسية جمعت بين ثقافات الشعوب الخاضعة للعباسيين ـ بقدر ما تناقضت مع جوهر الاسلام ، خصوصا فى البيئات النهرية الحضارية فى مصر والرافدين .

3 ـ وكان لهذا التطور تأثيره فى الجزيرة العربية الموطن الأول للرسالة الاسلامية الخاتمة.وظهر هذا التأثير فى المدرسة العلمية للمدينة التى أنجبت الامام مالك فى النهاية وكتابه الأشهر ( الموطأ ) أقدم كتاب فى الفقه السنى .تلك المدرسة هى التى بدأت بإختراع الأحاديث ونسبتها للنبى محمد بعد موته، مما أرسى دعائم التشريع للدين الأرضى السنى فيما بعد.

4 ــ لقد تعقدت الحياة فى العصر العباسى فى بيئات الأنهار مثل العراق والشام ومصر ، بل ان دخول أبناء الأمم المفتوحة ــــ أو الموالى ــــ فى الاسلام ومعيشة بعضهم فى الجزيرة العربية جعل الحياة الصحراوية البسيطة فى مكة والمدينة أكثر تطورا. والبيئات الصحراوية بالذات منغلقة رتيبة الحركة تعيش على التقليد وتنأى عن التطور، والمدينة ومكة كانتا معا أهم الحواضر فى صحراء الجزيرة العربية. وبينما ظلت أهمية مكة سارية بالمسجد الحرام وظلت علاقتها بالتطور متجددة بالحج والعمرة فان المدينة لم تعد عاصمة المسلمين بعد مقتل عثمان ، اذ تحولت العاصمة الى الكوفة ثم دمشق ، ثم بغداد ، وأنحسرت عن المدينة الأضواء وتحول المال والقوة والاهتمام والحركة وصنع التاريخ الى العراق والشام ومصر. ولم يعد للمدينة الا أن تعيش على ماضيها حين كانت عاصمة النبى محمد ومركز القوة والسيطرة فى عهد الخلفاء ( الراشدين ) وكبار الصحابة. من هنا تخصصت المدينة فى (حكى ) أو رواية تاريخ النبوة شفهيا،اذ هو تاريخ الآباء والأجداد لمن عاش من ذرية الصحابة فى المدينة فى العصر العباسى. ثم إنتقلت من رواية سيرة النبى محمد الى إختراع أحاديث منسوبة له ، أى إنتقلت من التأريخ الى التشريع وتأسيس دين أرضى حمل فيما بعد إسم السنة.

5 ــ ولأنها بيئة ماضوية تعيش على الماضى المجيد وتنسب نفسها للنبى محمد وعصره فقد واجهتها مشكلة التأقلم مع التطورات الجديدة الآتية من البيئات النهرية ذات الحضارة القديمة من مصر والعراق وفارس والشام. لم يكن متاحا الاجتهاد العقلى الصريح لأن البيئة تنكره وتنتصر للتقليد والاحتكام للماضى. كان المتاح هو إعطاء رأى عقلى بالاجتهاد وتغطية ذلك الاجتهاد بنسبة ذلك الرأى للنبى محمد عليه السلام أو لكبار الصحابة أو لما كان يعرف بعمل أهل المدينة. أى ما تعود أهل المدينة على عمله بالتوارث من عهد النبوة. وهكذا يقول أحدهم رأيا فلا يجرؤ على نسبته لنفسه ، خشية السخط عليه فيسارع بنسبته للنبى أو لأحد كبار الصحابة.

هذا هو منهج الامام مالك الذى منع الاجتهاد العقلى أو (أن يقول أحد فى الاسلام برأيه ) اكتفاء بالحديث، وتلك مدرسة الحديث الحجازية التى واجهت مدرسة الرأى والاجتهاد العقلى فى العراق التى أنشأها أبوحنيفة .

6 ـ ثم ما لبث الحديث أن تسيد العراق والشرق الآسيوى فى العصر العباسى . بدأ هذا بالتطور الذى أحدثه فيها الشافعى 204  ت الذى أسّس الدين السنى ، وضع تشريعاته فى كتاب (الأم )ووضع منهاجه فى كتابه ( الرسالة ) . ولكن الظروف السياسية والحربية هى التى أحدثت هذا التطور . إذ أنه بقمع الثورات الفارسية المسلحة فى الشرق الآسيوى ركن أحبار المزدكية والزردشتية الى الى المقاومة السلمية ، فتكاثر منهم علماء الحديث ، وهو العلم الذى كانت ترعاه الخلافة العباسية وتستخدمه فى دعوتها وسلطانها . ومن المفارقات التاريخية أنه بالقضاء على آخر الحركات الفارسية المسلحة دخل الفّرس المثقفون فى دين الحديث والسًّنّة أفواجا ، وحملوا ( ولاءا ) عربيا ، أى يكون بالولاء تابعا لإحدى القبائل العربية . وبهذا شهد العصر العباسى الثانى نبوغ مدرسة الحنابلة نسبة للفقية الفارسى الأصل أحمد بن حنبل ، وإشتهر معه البخارى ومسلم وابن ماجه والحاكم النيسابورى والترمذى والنسائى ..الخ . وبهم تأسس الدين السُنى بفرعيه الفقه والحديث . وأصبح فيه أحبار الفُرس آلهة الدين الجديد .   

بهذا نتأهل لدخول العصر العباسى . عصر تطور الديانات الأرضية .

 

 

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثالث :

 تطور أديان المحمديين الأرضية فى العصر العباسى ( 132 ـ 658 هجرية ) (750-1258م )

 

فكرة عامة عن العصر العباسى

 

تقسيم العصر العباسى

بسبب طول العصر العباسى فقد جرى العرف بين الباحثين على تقسيمه لمرحلتين ؛ العصر العباسى الأول  ( 132 ـ 232 ) ( 750 ـ 847 ) والعصر العباسى الثانى ( 232 ـ 685 ) ( 847 ـ 1258 )

 

بين الخلافة العباسية والدولة العباسية

دمر المغول الدولة العباسية بعد تاريخ متصل استمر أكثر من خمسة قرون، ولكن الخلافة العباسية استمرت باهتة فى مصر خلال الدولة المملوكية منذ أن إحتضنها السلطان المملوكى الظاهر بيبرس فظلت فى القاهرة تعطى سلطة دينية سنية للدولة المملوكية ، الى أن سقطت الدولة المملوكية على يد السلطان سليم العثمانى سنة 921 / 1517 وهو الذى حمل معه من القاهرة آخر خليفة عباسى الى استنانبول ، ومالبث ان تولى سلاطين العثمانيين الخلافة ، وأصبح السلطان العثمانى هو خليفة (المسلمين )، واستمر هذا الأمر فيهم الى أن تم إلغاء الخلافة العثمانية سنة 1924م.

الخلفاء العباسيون

عددهم 37 خليفة ، منهم تسعة فى العصر العباسى الأول ، الذى امتاز بقوة نفوذ الخلفاء وسيطرتهم على مقاليد الأمور بدرجات متفاوتة. بينما وقع الخلفاء اللاحقون تحت سيطرة القادة الترك ثم القوى القبلية العسكرية الوافدة من الشرق مثل البويهيين والسلاجقة، وأحيانا كان يتحكم الخليفة العباسى بنفسه مستعينا بقوى محلية كما حدث للخليفة المعتضد ( 279 ـ 289 ) ( 892 ـ 902 )ومن جاء بعده الى نهاية الدولة.

أهم الخلفاء العباسيين

السفاح هو أول خليفة عباسى ، واسمه عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس  والعباس هو عم النبى محمد عليه السلام , وقد حكم السفاح أربع سنوات فقط ( 750 ـ 754 ) ومات ليترك توطيد الدولة الجديدة لأخيه الأكبر أبى جعفر المنصور ، الذى حكم أكثر من عشرين عاما( 754 ـ 775 ) ، أسس فيها بغداد ، واستأثر بالسلطة بعد أن قتل القائد الفارسى أبا مسلم الخراسانى المؤسس الحقيقى للدولة ، وتتبع الثائرين على الدولة من الفرس والعلويين أبناء عمهم على بن أبى طالب. بعده واصل ابنه ( المهدى ) ( 775 ـ 785 ) مطاردة المعارضين  المسالمين يقتلهم بعقوبة جعلوها شرعية ، وهى الردة، أى اتهامهم بالكفر ثم قتلهم بهذه التهمة، وتلك من تجليات الدولة الدينية التى اكتسبت الدولة العباسية ملامحها منذ عصر أبى جعفر المنصور ، الذى سمى إبنه ( المهدى ) أى أعطاه لقبا دينيا يسوغ له مطاردة خصومه السياسيين بتهمة الكفر ، لذا اشتهر المهدى بتتبع الزنادقة وقتلهم بسيف ( الشرع ) ، ليس هو شرع الاسلام بل شرع الدين الأرضى الذى أصبح اسمه السنة فى هذه الدولة العباسية.

تولى (الهادى) بعد ابيه (المهدى )، وقد ضاق الهادى من نفوذ أمه الخيزران فقتلته بالسم بعد عام واحد من الحكم ، وولت ابنها الرشيد،الذى نالت الدولة العباسية فى عهده ( 786 ـ 809 )أوج ازدهارها وقوتها،وقد عهد ـ كالعادة ـ لإبنيه على التوالى محمد الأمين ثم عبد الله المأمون ، وتولى الأمين أربع سنوات، وكالعادة ـ أراد نزع ولاية العهد من أخيه المأمون فتحاربا فانتصر المأمون وقتل أخاه الأمين سنة 813 وتولى بعده فحكم عشرين عاما ، واشتهر عهده بالانفتاح على الفلسفات الشرقية والغربية وأسس بيت الحكمة ، وتولى بعده أخوه المعتصم ، ولم يكن فى ثقافة المأمون، وفى عهد المعتصم ( 833 ـ 842 ) بدأت أول كارثة دفع الخلفاء العباسيون اللاحقون ثمنها ، وهى الاكثار من شراء الغلمان الأتراك والاعتماد عليهم حربيا واداريا فى الدولة ، مما مهد لهم فى التحكم فى الخلفاء اللاحقين ، كالواثق ( 842 ـ 847 ) ، ثم المتوكل ( 847 ـ 861 ) وهو الذى يبدأ به العصر العباسى الثانى، ( 847 ـ 1258 ) عصر ضعف الدولة العباسية كنظام سياسى ولكن تبدأ قوة الخلافة العباسية ( الروحية ) كرمز للدين السنى. وهذه إحدى الفوارق بين الدولة العباسية والدولة الأموية.

 

فوارق أساس بين الدولة الأموية والدولة العباسية

1 ـ مع انتمائهما معا الى قريشن والى جد واحد هو عبد مناف إلا أن هناك فروقا أساسا  بين الأمويين والعباسيين، ترجع الى وظيفة البيتين الأموى والعباسى.

الأمويون احترفوا السياسة والتجارة والحرب، بحكم قيادتهم لرحلة الشتاء والصيف ، بينما احترف العباس خدمة البيت الحرام والتجارة الدينية باسمه ، ومن أجل هذه التجارة ظل العباس فى مكة معاديا لإبن أخيه النبى محمد متحالفا مع أبى سفيان ، الى إن أدرك أبوسفيان والعباس معا أن مصلحتهما تحتم عليهما الدخول فى الاسلام فاسلما قبيل وفاة النبى محمد. بالتالى تجد الدولة الأموية أقرب الى الدولة العلمانية الاستبدادية بمقياس عصرنا ،بينما تجد الطبيعة الكهنوتية الثيوقراطية أبرز لدى الدولة العباسية ، وإن لم يخل الأمر من تدرج مبعثه طول عهد الدولة العباسية واختلاف ظروف الزمان والمكان ومراكز القوى داخل وخارج الدولتين.

من حيث ظروف الزمان فان طول الفترة التى قضتها الدولة العباسية كان له تأثيره فيها ليس فقط من حيث قوة أو ضعف الخليفة ونفوذه السياسى ، ولكن أيضا من حيث المحتوى الثقافى للدولة ومحيطها الاجتماعى المتنوع والذى أتيح له التبلور وصبغ الأجناس المختلفة ثقافيا فى إطار مجتمع يمكن أن يطلق عليه المجتمع العباسى ، دار من خلاله صراع الأديان الأرضية للمحمديين وفق منظومة  دينية تتفق فى تناقضها مع القرآن مع اختلافاتها الشكلية والسياسية.

الخلاف المكانى يكمن فى أن العراق الذى كان مركز المعارضة للدولة الأموية صار مركز الحكم للدولة العباسية، وحلت بغداد المنشأة حديثا محل دمشق أقدم مدن العالم، وإنمحى التأثر بالبيزنطيين وحل محله التأثر بالحضارة الفارسية ، وأصبحت الدولة العباسية تلتفت شرقا نحو آسيا ، أكثر من اتجاهها غربا نحو أفريقيا والبحر المتوسط وأوربا.

يمكن التوقف بالتفصيل مع ثلاثة سمات أساسية فى الاختلاف بين الدولتين: حجم الدولة ، ومراكز القوى المسيطرة فيها، وموقف الدولة من التمسح بالدين. وهى عناصر متداخلة ومعقدة ولكن نحاول تبسيطها والفصل بينها بقدر المستطاع.

2 ـ الدولة الأموية فى عمرها القصير( حوالى تسعين عاما ) وصلت فى فتوحاتها الى أقصى اتساع حققه التوسع العربى ، وقد وطدت تللك الفتوحات ، وأحكمت عليها قبضتها ، ثم ورثت الدولة العباسية هذه الامبراطورية المترامية الأطراف، ولكن لم تحافظ عليها الدولة العباسية برغم عمرها الطويل( أكثر من خمسمائة عام ).

الى آخر لحظة فى عمر الدولة الأموية كان الخليفة يسيطر تماما على كل الدولة من أواسط آسيا وحدود الهند والصين الى جنوب فرنسا وجزر البحر المتوسط، ، لم تنفصل ولاية عن الدولة الأموية ، ولم يحاول أحد الولاة أن يتمتع بحكم ذاتى فى إطار الدولة الأموية ، أو ان يتبعها روحيا وأدبيا كما كان يحدث فى الدولة العباسية.

إختلف الأمر تماما مع الدولة العباسية.

* أقام العباسيون مذبحة لاستئصال كل الأمويين ، فرّ منها عبد الرحمن بن معاوية حفيد الخليفة الأموى هشام بن عبد الملك، واستطاع فى نهاية المطاف فصل الأندلس عن الدولة العباسية وإسس دولته الأموية الزاهرة هناك سنة 138 هجرية، ومات سنة 170. إنه عبد الرحمن الداخل ( صقر قريش ) كما سماه غريمه الخليفة العباسى ( أبو جعفر المنصور ) الذى عجز عن ملاحقته فى الأندلس فقال : (الحمد لله أن جعل بيننا وبينه بحرا) . استمرت الدولة الأموية فى الأندلس فيما بين 756: 1031 م. ووصل فيها حكم الاندلس الى أوج حضارته وتأثيره فى أوربا.وتوالى بعدهم حكم أمراء الطوائف أو الولايات العربية المستقلة والمتنازعة الى ان سقطت غرناطة وانتهى حكم بنى الأحمر، وأقام الأسبان والبرتغاليون مذابح للعرب واليهود .

* وفى إطار الصراع بين العلويين وأبناء عمهم العباسيين أقام الأدارسة ملكا لهم فى مراكش، وفصلت دولة الأدارسة (788 ـ 985 ) المغرب عن الدولة العباسية مبكرا. بعد الفشل فى ملاحقة الأدارسة اضطرت الدولة العباسية لاطلاق يد الأغالبة فى حكم تونس ، فحكموها حكما ذاتيا فى إطار الدولة العباسية استمر حوالى قرن من الزمان (800 ـ 909 ) الى أن نجح الشيعة الاسماعيلية فى اسقاط الأغالبة وإقامة خلافة فاطمية شيعية فى مدينة المهدية بتونس سنة 909 . ولم تلبث تلك الدولة الفاطمية بخلافتها الشيعية أن واصلت فتوحاتها غربا الى أن إستولت على مصر فدخلت بمصر والمنطقة فى منعطف جديد.

وباتجاه الفاطميين نحو الشرق قل اهتمامهم بموطنهم الأول فى شمال افريقيا فانفصل عن الدولة الفاطمية وقامت فيه دولة دينية جديدة هى الدولة المرابطية ( 1056 ـ 1147 ) ومالبث ان إنغمست فى الصراع الدائر فى الاندلس وأسبانيا ، ثم خلفتها دولة الموحدين ( 1130 ـ 1269 ) .

*فى مصر بدأ فيها الحكم الذاتى فى إطار الدولة العباسية على يد أحمد بن طولون ، الذى أسس الدولة الطولونية( 868 ـ 905 ) وضم اليها سوريا ، وبعد سقوطها عادت مصر للتبعية الكاملة للدولة العباسية ، ثم أسس فيها محمد بن طغج الأخشيد الدولة الاخشيدية ( 935 ـ 969 ) وضم اليها سوريا كالعادة ، وانهارت الدولة الاخشيدية سلميا بين يدى الفتح الفاطمى سنة 969. ثم مالبث أن أسقط صلاح الدين الأيوبى الدولة الفاطمية وأرجع مصر والشام الى النفوذ الروحى والسلطة الاسمية للدولة العباسية سنة 1171 ، وظلت الأسرة الأيوبية تحكم مصر وأجزاء من الشام والعراق واليمن الى إن بدأ سقوطهم سنة 1250 حيث ورثهم مماليكهم ، أو الدولة المملوكية التى استمرت الى أن أسقطها العثمانيون سنة 1517. بعد قيام الدولة المملوكية فى مصر بعشر سنوات تقريبا أسقط التتار والمغول الدولة العباسية سنة 1258 وأبادوا معظم سكان بغداد والمدن الكبرى فى الشام ، وتصدى لهم المماليك وهزموهم فى موقعة عين جالوت ، وأقيمت الخلافة العباسية فى القاهرة. ثم انتقلت فيما بعد الى العثمانيين.

* كانت الأمور فى الشرق أكثر تعقيدا ، حيث نشبت الثورات ، ثم انفصل القواد وأقاموا لهم ممالك مستقلة ذاتيا ، ثم أصبحت أمواج البشر تأتى الى بغداد ـ عاصمة الدنيا فى ذلك الوقت ـ  من أواسط آسيا وأواسط أوربا من الترك والديلم والقوقاز من الرقيق أو قبائل متحركة ، يخدمون الدولة كعسكر ، ثم يتحكمون فيها كقادة بل وسلاطين .

ظلت قبضة الدولة العباسية قوية على ممالكها فى آسيا وهى الأقرب اليهم والكثر تأثيرا فيهم ، فأخمدوا كل حركات الانفصال ، التى كانت لها دوافع دينية فارسية، وكالعادة طمع القواد الأقوياء فى إقامة ممالك لهم تتمتع بالحكم الذاتى فى إطار الدولة العباسية فى عصرها الثانى ،مثل الدولة الطاهرية فى خراسان ( 820 ـ 872 )والسامانية ( 874 ـ 999).هذا بينما انفصلت تماما عن الدولة العباسية الدولة الغورية والغزنوية ( 962 ـ 1136 ) ( 1148 ـ 1215 )

3 ـ لم تتعرض الدولة الأموية لهذا  التقلب فى علاقتها بولاياتها بين الانفصال التام والحكم الذاتى لسببين أساسيين هما عمرها القصير ، واعتمادها على عنصر واحد ، هو القوة العسكرية العربية. كانت دولة عربية صرفة تتعصب للعرب ضد الأجناس الأخرى.

اختلف الأمر مع العباسيين.القوى العسكرية غير العربية التابعة للعباسيين هى السبب الحقيقى الذى ادى الى هذا الانفصال وأدى الى تفاقم الضعف فى الدولة العباسية . ونتتبع ذلك باختصار:

قامت الدولة العباسية أساسا على جيش من الفرس الخراسانيين يعاونهم فريق من القبائل العربية القحطانية التى سئمت من تلاعب الأمويين بها. حرص الخلفاء العباسيون الأقوياء على مراعاة التوازن بين عنصرى الجند من الفرس والعرب ، فأبقوا التنافس بينهما لصالح الدولة ، وفى هذا الوقت كان الخليفة يباشر كل الأمور بنفسه ، وكانت وزارته تعرف بوزارة التنفيذ . ثم اعطى الرشيد تفويضا للبرامكة ـ وزرائه ـ لتسيير الحكم باسمه ، فلما رأى نفوذهم علا قضى عليهم وحكم بنفسه منفردا.

بدأ الضعف بعده بجعله ولاية العهد ـ على العادة ـ فى إثنين من أبنائه على التوالى: الأمين ، وأمه( زبيدة )عربية هاشمية عباسية ، والمأمون ، وأمه جارية فارسية. وبسبب ضعف الأمين وانهماكه فى المجون والخمر والشذوذ الجنسى تسلط عليه القادة العرب ، ووجدوها فرصة للقضاء على نفوذ الفرس ، فقام الأمين بعزل أخيه المأمون من ولاية العهد. وقف الى جانب المأمون القادة الفرس . قامت الحرب بين الأخوين ، وكانت حربا فى الحقيقة على النفوذ بين العنصرين العسكريين ؛ العرب والفرس. وفاز المأمون ومعه ( الفرس ) فانحدر الجند العرب وأخلوا النفوذ لصالح الجند الفرس. وكان من قادة الفرس من استقل بحكم الأقاليم الشرقية البعيدة مثل الدولة الطاهرية فى خراسان.( 820 ـ 872 ).

أراد الخليفة المعتصم بعد أخيه المأمون أن يخفف من انفراد الفرس فاستقدم رقيقا من الترك كوّن منهم فرقة عسكرية ، كانوا أجلافا بدائيين فأتعبوا البغداديين ولكن استمر شراؤهم واستجلابهم.

ثم ألغى الخليفة المتوكل ( 847 ـ 861 ) العرب والفرس معا من ديوان الجندية ، وجعلها قصرا على الأتراك. فأتيح للأتراك السيطرة على الخلافة والخليفة والولايات ، وكانوا يقتلون الخليفة أو يعزلونه كيفما شاءوا ، ومن قوادهم من استقل بحكم الولايات ذاتيا كالطولونيين والأخشيديين .

لم يلبث أن ضعف القادة الأتراك وتنازعوا فيما بينهم فاستولى على مقاليد الخلافة العباسية قبائل جديدة من الديلم الفرس بزعامة بنى بويه، وقد كانوا من الشيعة واستمرت سيطرتهم على الدولة العباسية أكثر من قرن، ( 334 ـ  447 ). جاء على أثرهم السلاجقة السنيون الأتراك الذين حكموا معطم الجزء الشرقى من الدولة العباسية بالاضافة الى العراق والشام وآسيا الصغرى. وخلال أجيال متعاقبة من طغرلبك وملكشاه وسنجر حكم السلاجقة من 1038 الى 1157 .

وكالعادة ضعف الأتراك السلاجقة فاستقدموا الرقيق للتجنيد ، وبرز من الرقيق من صار أتابكيا أى قائدا. وحكم أولئك الأتابكة المدن الكبرى فى الشام والعراق ، وبمرور الزمن استغلوا ضعف أسيادهم السلاجقة فاستقلوا وكونوا أحيانا أسرات حاكمة فى المدن الهامة مثل دمشق وحلب وسنجار والموصل ..الخ.

استغلت بعض القبائل العربية فرصة الضعف العباسى فكانت تغير على قوافل الحج ، وتحاول إقامة دول لها ، مثلما حاول صاحب حركة الزنج ، ثم القرامطة. وأخيرا نجح بنو حمدان فى إقامة الدولة الحمدانية فى الموصل وحلب، وكانت لها حروبها مع البزنطيين الذين استثمروا ضعف العباسيين فقاموا بحروب وحركة استرداد وصلت الى حلب والشام ، ثم جاء على أثرهم الصليبيون،واستغلوا ضعف الاتابكة والسلاجقة المحليين فى تأسيس ممالك صليبية لهم فى القدس والشام وآسيا الصغرى . وظلت الدولة العباسية برغم كل تلك الانقسامات قائمة رسميا وشكليا ، وظل الخليفة هو صاحب النفوذ الروحى. الى أن قضى المغول على الدولة العباسية ، وانتقلت الخلافة العباسية الى القاهرة المملوكية .

 

الكهنوت العباسى

 أبو جعفر المنصور وارساء كهنوت الخلافة العباسية

مقدمة

1 ـ  هذا النفوذ (الروحى ) الدينى هو ميزة أخرى للدولة العباسية لم تعرفها الدولة الأموية وخلفاؤها.كان الخلفاء الأمويون عربا لم تكن لهم الخبرة الكافية فى براعة الاستخدام الدينى، كما أن عهدهم القصير لم يعطهم فرصة الحصول على تلك الخبرة.اختلف الحال مع العباسيين ، فلهم تراث فى الاستغلال الدينى بدأ بجدهم العباس ، ثم معرفة عبد الله بن عباس بما تيسر فى عهده من معارف قام بوصلها بالاسلام عبرما اصبح يعرف بالتفسير والحديث. وتوارث الأحفاد هذا الاهتمام العلمى ، ثم استخدموه فى طموحهم السياسى، ثم فى تأكيد سلطانهم فيما بعد ، خصوصا وأنهم جعلوا أنفسهم أوصياء على الدين وبإستغلال إسم الاسلام ، ومن خلال اسمه جعلوا أنفسهم أصحاب السلطة الشرعية السياسية فى حكم المحمديين  وفق الدين الأرضى الذى تأسس ونما وترعرع فى عصرهم ذى القرون الخمسة.

2 ـ ومن الطبيعى أن يتم هذا بالتدريج بحيث أن أقوى الخلفاء لم تكن له تلك السلطة الروحية التى حازها الخلفاء العباسيون الضعاف اللاحقون ، الذين برغم ضعفهم ومجونهم وتلاعب القادة المتغلبين بهم فقد كانت للخلافة العباسية ـ فى حد ذاتها ـ قدسية ، أكبر من شخص الخليفة نفسه.

 

بين الخليفة السفاح العباسى والخليفة المنصور العباسى

1 ــ أول خليفة عباسى كان يحمل لقبا ارهابيا هو ( السفاح ) الذى يعنى سفاك الدماء، وكان كذلك فعلا. وبهذه القسوة المفرطة كان لا يختلف عن سابقيه الأمويين.

فى أحداث 132 هجرية ، أى السنة التى أقيمت فيها الدولة العباسية و تحت عنوان (ذكر ولاية يحيى بن محمد الموصل ومن قتله بها ) يقول المؤرخ الموسوعى شهاب الدين النويرى فى كتابه ( نهاية الأرب ) فى الجزء 22 ص 58 : 

( وفى هذه السنة استعمل السفاح أخاه يحيى على الموصل، وسبب ذلك أن أهل الموصل امتنعوا من طاعة عاملهم محمد بن صول.. وأخرجوه عنهم، فكتب بذلك الى السفاح فاستعمل عليهم أخاه يحيى وسيّره اليها فى اثنى عشر ألفا ، فنزل قصر الامارة ولم يظهر لهم  ما يكرهونه ولا عارضهم فى أمر، ثم دعاهم فقتل منهم اثنى عشر رجلا، فنفر( أى تجهزوا للقتال ) أهل البلد وحملوا السلاح فأعطاهم الأمان ، وأمر فنودى : "من دخل الجامع فهو آمن "، فأتاه الناس يهرعون ، فأقام يحيى الرجال على أبواب الجامع فقتلوا الناس قتلا ذريعا، وأسرفوا فيه ، فقيل انه قتل عشرين ألفا ممّن لهم خاتم ( أى ممّن يوقعون بخاتمهم ، أى من كبار الناس ) ، ومن ليس له خاتم ما شاء الله . فلما كان الليل سمع صراخ النساء يبكين رجالهن ، فقال : " اذا كان الغد فاقتلوا النساء والصبيان " فقتلوا منهم ثلاثة أيام. وكان فى عسكره قائد معه أربعة آلاف زنجى ، فأخذوا النساء قهرا، ( أى اغتصبوهن ) ، فلما فرغ يحيى من قتل أهل الموصل ركب فى اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف مصلتة ، فاعترضته امرأة وأخذت بعنان دابته، فأراد اصحابه قتلها فنهاهم ، فقالت له : ألست من بنى هاشم ؟ ! ألست من بنى عم رسول الله ؟  أما تأنف للعربيات المسلمات أن ينكحهن الزنج ؟!! . فأمسك عن جوابها ، وبعث معها من أبلغها مأمنها. فلما كان الغد جمع الزنج للعطاء فاجتمعوا، فأمر بهم فقتلوا عن آخرهم ).!هذا الرجل يحيى بن محمد بن على بن عبدالله بن عباس استحق اعجاب أخيه الخليفة السفاح لأنه نكث بالعهد والوعد وقتل الأبرياء فى المسجد بعد أن أعطاهم الأمان ، ثم قتل النساء والصبيان لأنهم أزعجوه ببكائهم على آبائهم وأزواجهن. ثم أكتشف فى النهاية أنه من العار عليه أن يدع جنوده الأفارقة يغتصبون المسلمات العربيات، فقتل جنده الأفارقة بنفس الخداع والنذالة. الخليفة السفاح هنا يتصرف بنفس طريقة الأمويين فى القسوة المفرطة والنكث بالعهود وعدم التورع عن الاغتصاب وقتل النساء والأطفال،ثم التعصب للعرب .

2 ــ اختلف الحال مع الخليفة الثانى أبى جعفر المنصور. الذى كان يسفك الدماء وينكث بالعهود ولكن بفتوى شرعية يصنعها له فقهاؤه . كان المنصورقد اصطنع مجموعة من الفقهاء تفتي له بما يريد ،منهم ابن ابي ليلة وابن شبرمة وابن ابي هند . ابو حنيفة وقتها كان أشهر الفقهاء ، وهو الذى ثار على الأمويين  وتعرض لإضطهادهم ، ولم يكن ممكنا أن تتجاهله الدولة العباسية الجديدة ، فكان بنضاله ضمن فقهائها . ولقد ثار اهل الموصل مرة ثانية علي المنصور ثم اخمد ثورتهم ،واشترط عليهم ان ثاروا بعدها فان دماءهم حلال . وثار اهل الموصل سنة 148هـ فاستشار ابو جعفر الفقهاء بشأنهم فقالوا :ان عفوت فانت اهل العفو وان عاقبت فبما يستحقون .ولكن ابوحنيفة قال ( انهم أباحوا لك ما لا يملكون،ولقد اشترطت عليهم ما ليس لك حين وافقوا انهم اذا ثاروا عليك فدماؤهم حلال لأنهم لا يملكون دماءهم وليس لك ان تشترط عليهم سفك دمائهم ،ارأيت إن أباحت امرأة جسدها الذي لا تملكه بغير عقد نكاح فهل يجوز ذلك ؟ ) .!! (ابن البرازى :مناقب ابن الحنفية 2/17،تاريخ الكامل لابن الاثير 5/217.) . أبوحنيفة لم يساير الخليفة في هواه ،فكان مصيره  السجن والتعذيب والقتل بالسم ، وهو أشهر علماء عصره. مصير أبى حنيفة جعل تلميذيه أبا الحسن الشيبانى وأبا يوسف يتفانيان فى خدمة الدولة العباسية ، بعد أن أرسى الخليفة الثانى أبوجعفر المنصور تبعية رجال الدين ( الأرضى ) للدولة العباسية.

3 ـ أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية هو القائل في خطبته (ايها الناس إنما أنا سلطان الله في ارضه أسوسكم بتوفيقه ورشده وخازنه علي  فيئه (ماله) أقسمه بارادته وأعطيه بأذنه .) (تاريخ الطبرى 9 / 297 )، أى أنه أول من أعلن مذهب الحاكمية الثيوقراطية ، أو الحكم الالهى المقدس:( The Divine rights of kings) الشائع وقتها فى العصور الوسطى،أو الحاكم الذى يحكم باسم الله تعالى ويستمد سلطته من الله وليس من الناس ، ويكون مسئولا ليس أمام الناس ولكن أمام الله تعالى فقط يوم القيامة. وهو أيضا الذى قام بتطبيق " الحاكمية " فتحولت الدولة العباسية الى دولة كهنوتية سنية ، أعطت مبررا للدولة الفاطمية الشيعية أن تزايد عليها فيما بعد فى الكهنوت وتأليه الخليفة الفاطمى وتقديسه على نحو ما حدث فى مصر الفاطمية.

4 ـ لم يكن للخليفة الأموى لقب رسمى دينى أو دنيوى سوى أنه خليفة ـ وهو اللقب المتعارف عليه للحاكم السياسى ـ إلا أن الدولة العباسية حرصت على أن يكون لكل خليفة لقبه الذى يطغى على إسمه الحقيقى . بدأ ذلك بأول خليفة الذى حمل لقب السفاح لارهاب المعارضين ، وتحت هذا اللقب جرت مذابح كثيرة للأمويين وغيرهم. ثم تلقب ابو جعفر بالمنصور، كناية عن انتصاره على أعدائه، ثم تلقب الخليفة  الثالث بالمهدى ، وهنا تتضح الصبغة الدينية أكثر ، ثم تتوالى فى ذرية المهدى فبعده الهادى ثم الرشيد ثم الأمين والمأمون. ثم يأتى تطور هائل ، هو إضافة لفظ الجلالة الى اللقب ، فيقال : المعتصم بالله ، وتصبح عادة بعدها لكل خليفة : الواثق بالله ، المتوكل على الله ، المعتصم بالله ، المستعين بالله ، المعتز بالله ، المهتدي بالله ، المعتمد على الله ،المعتضد بالله ..الخ ). وهكذا فى كل الخلفاء اللاحقين حتى بعد سقوط الدولة العباسية وانتقال الخلافة العباسية الى القاهرة.

فى هذه البيئة الكهنوتية ترعرعت الأديان الأرضية للمحمديين ، ولا يزال معظمها موجودا حتى الآن.

 

المنصور وأُسُس الكهنوت العباسى

صناعة الأحاديث :

1 ـ سنعرض لاحقا لموضوع تأسيس الديانات الأرضية فى العصر العباسى بوسائل متنوعة منها صناعة الأحاديث ( الشيطانية ). ونشير هنا سريعا الى دور أبى جعفر المنصور فى صناعة الأحاديث لتعضيد حكمه الكهنوتى . وبهذا صار ( ابن عباس ) جد الخلفاء العباسيين أشهر رواة الأحاديث ، وأشهر فقهاء الصحابة ــ بأثر رجعى .!!

2 ـ  وكان ابو جعفر المنصور فى اواخر العصر الأموى من (علماء ) الحديث ورواته ، وكان له ( صحابة ) . ومنهم جد راوى الحديث (حبش بن أبي الورد الزاهد ) المتوفى عام 262 ، طبقا لما رواه ابن الجوزى فى المنتظم ( ج 12 عام 262 ) قال عن جده  كان من صحابة المنصور ، قال :( وجده عيسى هو المعروف بأبي الورد ‏.‏وكان من صحابة المنصور).

3 ـ وكانت لأبى جعفر المنصور كتيبة من صُنّاع الأحاديث ، أشهرهم ( الأعمش ) ، وقد تخصصوا فى تأليف الأحاديث لصالح الخلافة العباسية . يروى ابن الجوزى :( أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر الخطيب قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن أبي بكر قال‏:‏ أخبرنا أبوسهل أحمد بن محمد بن عبد الله بن زياد القطان قال‏:‏ أخبرنا محمد بن الفرج الأزرق قال‏:‏حدثني يحيى بن غيلان قال‏:‏ حدَّثنا أبو عوانة عن الأعمش عن الضحاك بن مزاحم عن عبدالله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏"‏منا السفاح والمنصور والمهدي‏"‏‏.‏)

المنامات

1 ـ وأضاف أبو جعفر المنصور الى إفترائه الأحاديث إفتراءا آخر ساد بعده ، وهو إفتراء ( المنامات ) وهى أيضا اصبحت مع إفتراءات الأحاديث ضمن دعائم الأديان الأرضية المخترعة فى العصر العباسى والتى لا تزال تتسيد حياة المجمديين وتوردهم مورد التهلكة فى الدنيا والآخرة.

2 ـ ابن الجوزى يروى فى تاريخ المنتظم هذه الرواية : ( قال المنصور يومًا ونحن جلوس عنده‏:‏" أتذكرون رؤيا كنت رأيتها ونحن بالشراة " ؟ فقالوا‏:‏ " يا أمير المؤمنين ما نذكرها."  فغضب من ذلك وقال‏:‏ " كان ينبغي لكم أن تثبتوها في ألواح الذهب وتعلقوها في أعناق الصبيان." فقال عيسى بن علي‏:‏ " إن كنا قصرنا في ذلك فنستغفر الله يا أمير المؤمنين فليحدثنا أمير المؤمنين بها . " قال‏:‏ "  نعم.  رأيت كأني في المسجد الحرام وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة وبابها مفتوح والدرجة موضوعة وما أفقد أحدًا من الهاشميين ولا من القرشيين إذا منادٍ ينادي‏:‏ أين عبد الله؟  فقام أخي أبو العباس فتخطى الناس حتى صار على الدرجة فأخذ بيده فأدخل البيت، فما لبث أن خرج علينا ومعه قناة عليه لواء قدر أربعة أذرع وأرجح فرجع حتى خرج من باب المسجد. ثم نودي‏:‏ أين عبد الله فقمت أنا وعبد الله بن علي نستبق حتى صرنا إلى الدرجة، فجلس فأخذ بيدي ، فأصعدت فأدخلت الكعبة ،وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وبلال‏.‏ فعقد لي وأوصاني بأمته وعمّمني وكان كورها ثلاثة وعشرين كورًا . وقال‏:‏ خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة‏.‏). فى هذا المنام يزعم المنصور أن النبى محمدا عهد اليه والى ذريته بحكم أمة محمد ( المحمديين جميعا )حتى يوم القيامة، ولم ينس المنصور أن يحرم من ذلك الشرف عمه عبد الله بن على الذى نازعه من قبل فى الحكم وثار عليه وانتهى بالقتل بعد أن اعطاه المنصور الأمان .

كهنوت أبى جعفر المنصور وصل الى ثقافة العوام

1 ـ نقصد بها إشاعات أحاطت بابى جعفر المنصور بعد موته ترسم هالة حوله ، تأثرا بدوره فى تأسيس الكهنوت العباسى الدينى السياسى .

2 ـ منها ما يذكره ابن الجوزى معبرا عن ثقافة عصره فى القرن السادس الهجرى ـ بعد موت المنصور العباسى بأربعة قرون . يقول (  وكان عند أبي جعفر مرآة يرى بها ما في الأرض جميعًا ، يقال إنها نزلت على آدم وصارت إلى سليمان بن داود ثم ذهبت بها الشياطين وبقيت منها بقية صارت إلى بني إسرائيل ، فأخذها رأس جالوت، فأتى بها مروان بن محمد فكان يحكيها ثم يجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها ما يكره ، فرمى بها وضرب عنق رأس جالوت،  فلما استخلف أبو جعفر طلبها فأُتي بها ، فكان يرى فيها محمد بن عبد الله بن حسن ) . أورد ابن الجوزى هذا التفسير الخرافى لانتصار الخليفة أبى جعفر المنصور على خصمه ( محمد النفس الزكية ). مع إن إنتصار المنصور على ( محمد النفس الزكية ) وأخيه ابراهيم كان أمرا مقررا ومتوقعا لا يحتاج الى هذا التبرير الخرافى. إلا إن الكهنوت العباسى الذى أسّسه أبو جعفر المنصور خلق له هالة أُسطورية إستمروت قرونا بعده .

3 ـ ومنها هذه الرواية التى يصنع لها ابن الجوزى إسنادا كى نصدقها . قال : (‏ حدَّثنا محمد بن أحمدبن إبراهيم قال‏:‏ حدَّثنا الحارث بن محمد قال‏:‏ حدَّثنا منصور بن أبي مزاحم قال‏:‏ حدثني أبو سهل الحاسب قال‏:‏ حدثني طيفور مولى أمير المؤمنين قال‏:‏ حدثتني سلامة أم أمير المؤمنين قالت‏:‏ " لما حملت بأبي جعفر رأيت كأنه خرج من فرجي أسد ، فزأر ، ثم أقعى ، فاجتمعت حوله الأُسود ، فكلما انتهى إليه أسد سجد له‏.‏) (ج 7 عام 136   )

4 ـ ولم تتخلّف المجوسية ومنجموها عن السير فى طريق الدجل هذا . فصنعوا روايات يتنبأ فيها دجّال مجوسى بأن المنصور سيصير خليفة . تقول الرواية : ( أخبرنا ابن ناصر الحافظ قال‏:‏ أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال‏:‏ أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عبد الرحيم المازني قال‏:‏ حدَّثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال‏:‏ حدثنا أبو سهل بن علي بن نوبخت قال‏:‏ كان جدنا نوبخت على دين المجوسية وكان في علم النجوم نهاية وكان محبوسًا بسجن الأهواء. فقال‏:‏ " رأيت أبا جعفر المنصور وقد أدخل السجن فرأيت من هيبته وحالته وسيماه وحسن وجهه وثيابه ما لم أره لأحد قط‏.‏ قال‏:‏ فصرت من موضعي إليه فقلت‏:‏ " يا سيدي ليس وجهك من وجوه هذه البلاد " فقال‏:‏ " أجل يا مجوسي."  قلت‏:‏ " فمن أي البلاد أنت ؟ " فقال‏:‏ "من المدينة."  فقلت‏:‏" أي مدينة ؟ "  فقال‏:‏ " مدينة النبي صلى الله عليه وسلم."  فقلت‏:‏ " وحق الشمس والقمر إنك لمن ولد صاحب المدينة؟  " قال‏:‏ " لا . ولكنني من عرب المدينة‏.".‏ قال‏:‏ فلم أزل أتقرب إليه وأخدمه حتى سألته عن كنيته فقال‏:‏ " كنيتي أبو جعفر" قلت‏:‏ " أبشر فوحق المجوسية لتملكن جميع ما في هذه البلدة حتى تملك فارس وخراسان والجبال . " فقال لي‏:‏ " وما يدريك يا مجوسي؟ "  قلت‏:‏ " هو كما أقول فاذكر لي هذه البشرى. "  قال‏:"‏ إن قضي شيء فسوف يكون". قال‏:‏ فقلت‏:‏" قد قضاه الله من السماء فطب نفسًا . " فطلبت دواة فوجدتها،  فكتب لي : " بسم الله الرحمن الرحيم يا نوبخت إذا فتح الله على المسلمين وكفاهم مؤونة الظالمين ورد الحق إلى أهله لم نغفل عما يجب من حق خدمتك إيانا‏.‏" ...‏.‏قال نوبخت‏:‏ فلما ولي الخلافة صرت إليه وأخرجت الكتاب فقال‏:‏ " أنا له ذاكر ولك متوقع والحمد لله الذي صدق وعده وحقق الظن ورد الأمر إلى أهله‏.‏"‏).

 

 أثر الكهنوت العباسى فى بعث دين الزهد 

مقدمة :

1 ـ موقع أبى جعفر المنصور فى الدولة العباسية يشبه عبد الملك بن مروان فى الدولة الأموية. كلاهما كان قبل خلافته من الفقهاء طالبى (علم الحديث ) ثم تغير حاله تماما عندما ولى السلطة . كلاهما قام بتوطيد دولته بالحديد والنار . كلاهما استعمل الغدر ونكث العهود حتى مع أقرب أقاربه؛ عبد الملك قتل غدرا ابن عمه عمرو بن سعيد الأشدق الذى كان ولى عهده لكى يجعل ابنه ولى عهده مكانه، وابو جعفر المنصور مازال بابن عمه عيسى ابن موسى يهدده حتى تنازل مكرها عن ولاية العهد للمهدى ابن الخليفة. كل الخلفاء الأمويين اللاحقين لعبد الملك من ذريته ـ ما عدا آخرهم مروان بن محمد بن مروان ، أو ( مروان الحمار) حسب لقبه المشهورـ بينما كل الخلفاء العباسيين اللاحقين من ذرية أبى جعفر المنصور.

الفارق الهام بينهما هو كهنوتية الدولة العباسية وتخفيها خلف الدين ( الأرضى ) فى كل ما ترتكبه من آثام. لقد مر بنا من قبل أن عبد الملك توعّد من يعظه فقال : ( والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه ) وهو هنا يحتكم صراحة الى القوة غير عابىء بالقرآن. إختلف الحال مع أبى جعفر المنصور ، يروى ابن الجوزى إنه  كان يخطب فقال له أحدهم ( إتق الله ) فقال ببساطة : ( مرحبا مرحبا، لقد ذكرت جليلا وخوفت عظيما، وأعوذ بالله ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم ، والموعظة منا بدت ، ومن عندنا خرجت  ، وأنت يا قائلها فأحلف بالله ما  الله أردت بها ، وإنما أردت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر..) وعاد الى خطبته كأنما يقرأ من قرطاس ) المنتظم 7 / 341 ) .

2 ـ   فى نهاية الدولة الأموية بلغ الظلم مداه، وكان الهاشميون من أبرز ضحاياه. كان منهم طالب علم يسمى عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس الهاشمى . استضاف عبد الله هذا رفيقا له فى طلب العلم اسمه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى . لم يكن فى بيت عبد الله العباسى الهاشمى طعام يليق بالضيف فاستلقى ثم قرأ الآيةالكريمة :" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون." فى وقتها كان المثقفون يعيشون فى حلم ظهور المهدى المنتظر الذى سيدمر الظلم الأموى ويقيم العدل طبقا لدعوة سرية نشرت دعاية مركزة عن المهدى المنتظر وأحاديث نبوية كثيرة تنبىء بقرب ظهوره. الذى لم يعرفه  الطالب الضيف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن صديقه الهاشمى المنشغل بطلب العلم هو فى الحقيقة من القادة السريين لتلك الحركة السرية . بعدها بسنوات نجحت الحركة السرية فى تدمير الدولة الأموية وهلل لها المثقفون الحالمون بالعدل ، ثم كانت حسرتهم كبرى اذ تحول الحلم الى كابوس مع تولى أول خليفة عباسى تلقب بالسفاح بسبب ابادته للأموين وكل من ثار عليه. وفوجىء عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقى أن رفيقه القديم عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس هو الخليفة العباسى الثانى الذى وطد ـ بالحديد والنار ـ الدولة العباسية ، والذى سمى ابنه المهدى ليحقق نبوءة المهدى المنتظر. انه أبو جعفر المنصور، الذى قتل مئات الألوف فى سبيل توطيد الدولة الجديدة . زاره صديقه القديم ابن أنعم الأفريقى ، قال له الخليفة:" انك كنت تفد لبنى أمية فكيف رأيت سلطانى من سلطانهم ؟ فقال : يا أمير المؤمنين  والله ما رأيت من سلطانهم من الجور والظلم الا رأيته فى سلطانك " وذكّره بالأمنيات القديمة فى الاصلاح وتحقيق العدل والآية الكريمة التى استشهد بها عندما أضافه وهو فقير ثم قال للخليفة: " فقد والله أهلك الله عدوك واستخلفك فى الأرض فانظر ماذا تعمل " فقال له الخليفة : " يا عبد الرحمن انا لا نجد الأعوان" فقال له الفقيه:" يا أمير المؤمنين ، السلطان سوق نافق ، لو نفق عليك الصالحون لجلبوا اليك" يعنى لو كنت صالحا لجمعت حولك الصالحين لأن السلطان الفاسد لا يجمع حوله الا من كان فاسدا مثله. هذه القصة ذكرها ابن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم ج 7 ص 339 .). والمستفاد منها أن الفقهاء الذين آمنوا بأكذوبة المهدى المنتظر التى نشرها العباسيون فى إطار دعوتهم السرية ـ ما لبث أن راعهم قسوة العباسيين وظلمهم حين وصلوا للحكم . رأوا أول خليفة عباسى يتلقب بالسفّاح ليبيد خصومه بلا رحمة ، ثم راعهم أكثر أن الخليفة التالى قرن القسوة والظلم بالعلم بصناعة وتأليف الأحاديث ، وأنه أكثر مهارة منهم فى إصطناع الوعظ ، وأنهم لا مجال لهم فى دولته سوى الرقص على نغماته ، وإلا فمصير أبى حنيفة فى إنتظارهم ، وليسوا هم فى قامة أبى حنيفة علما وورعا وجهادا عمليا ضد الأمويين ، ومع ذلك قتله ابو جعفر المنصور لأنه رفض السير فى قطيع فقهاء السلطة . هذا الوضع العباسى نشر دينا أرضيا جديدا قديما هو ( الزهد ) . 

ونتعرض له هنا ببعض التفصيل : .

أولا :  عودة دين الزهد

1 ـ  الإسلام لا يعترف بالزهد ، فالقرآن الكريم يدعو للتمتع بالطيبات وينهي عن تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، ومفهوم الزهد لم يكن معروفا في عهد النبي عليه السلام وأصحابه ، إلا أن بيئة الشام والعراق قد عرفت الرهبانية طريقا للتعبير الصامت عن الظلم الروماني والفارسى برفض الدنيا التي احتكرتها الدوائر الحاكمة دونهم.

2 ـ والمثقفون الموالى ربما أملوا خيرا فى الحكم العربى للخلفاء الذين يحملون دينا جديدا ، ولكن ظهر لهم أن الخلفاء أكثر ظلما من الفرس والروم ، وخابت آمالهم أكثر  سريعا بدخول الصحابة فى الفتنة الكبرى والحروب الأهلية، وما نتج عنها من ظهور الخوارج باستحلال القتل العشوائى للمدنيين ، أو ما يعرف الان بالارهاب . ثم كانت القاصمة فى قيام الملك الأموى الاستبدادى يقلد ـ بمزيد من القسوة ـ الحكم البيزنطى الرومى ويتعامل مع أبناء البلاد الأصليين كممتلكات للخليفة . قسوة الأمويين فى معاقبة من يخرج عليهم تعدت كل الحدود بعد ما فعلوه بالحسين وآل بيته ، وما فعلوه بمكة والكعبة والمدينة. وكان ما فعلوه بالثائرين المسلحين من الموالى الفرس والأقباط و البربر أشد قسوة

3 ـ مع القضاء على ثورات العلويين بدءا من الحسين فى كربلاء 61 الى حفيده زيد بن على زين العابدين 122 ثم ابنه يحيى 125 ، ظهر الفقهاء ــ وفى مقدمتهم الموالى من الفرس ــ يحملون راية المطالبة بالعدل ، ولكن استطاع الأمويون قمع تلك الحركات المسلحة التى كان قوامها فقهاء انضموا الى ثورة محمد بن الأشعث التى قضى عليها الحجاج بن يوسف عام 84 فى معركة دير الجماجم ( بسبب أهرامات الجماجم للقتلى وكان معظمهم من الأسرى الثوار )، ثم تلقف راية الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والظلم الحارث بن سريج وثار فى خراسان فقضت الدولة الأموية عليه وعلى حركته عام 128 هجرية. ومن هنا آثر المثقفون الحالمون من الموالى   الرجوع الى الزهد بنفس ما كان عليه آباؤهم فى العصر البيزنطى والفارسى.

ثانيا : العباسيون والأمل الضائع أعاد دين الزهد

  1 ــ إلا أن هناك أملا لمع بين دموع المحبطين بظهور أحاديث تبشر بقرب ظهور المهدى المنتظر الذى سيملأ الدنيا عدلا بعد أن إمتلأت جورا وظلما. وقد صيغت تلك الأحاديث بمهارة بارعة تجعل المتشكك يميل لتصديقها ، فكيف بالآمل الحالم ووضح بعدها أن للمهدى دعوة سرية تتحرك بثبات فى خراسان تحمل الدعوة الى (الرضى من آل محمد ) بدون تحديد لصاحب الدعوة سوى أنه من آل بيت النبى محمد عليه السلام. بظهور الدعوة و انتشار الأحاديث عن قرب ظهور المهدى انضم الكثيرون للدعوة الجديدة فخرجت فى خراسان الى الدور العلنى المسلح بقيادة (أبو مسلم الخراسانى ) الذى نجح فى تدمير الدولة الأموية سريعا وإقامة الدولة العباسية عام 132 هجرية

2 ـ ولكن توالت المفاجآت بعدها ، إذ إتضح أن الدعوة ليست لذرية على بن أبى طالب ولكن لبنى عمومتهم العباسيين ، وكانت المفاجأة الكبرى أن أولئك العباسيين أشد قسوة من الأمويين ، وان أول ضحاياهم كانوا من أنصارهم الطامعين فى المشاركة فى السلطة فكان أن قضى عليهم الخليفة أبو جعفر المنصور ، فهو الذى قضى على أبى مسلم الخراسانى ، وهو الذى قضى على الرواندية . وهو الذى حارب أتباع أبى مسلم الخراسانى فى أقاصى الشرق ، وهو الذى عذّب أبناء عمه العلويين لمجرد الاشتباه ،وهو..وهو.. !!. لكنه هو الذى كان يرتكب كل تلك الجرائم بفتاوى دينية يصدرها له أتباعه من كبار الفقهاء لتقطع الطريق على كل من يزايد فى الدين على الخليفة . وحين امتعض ابو حنيفة ورفض أن يفتى له بما يريد قام ابو جعفر المنصور بسجنه وتعذيبه وقتله بالسم

3 ــ كانت خيبة أمل المثقفين شديدة ، فقد جاء الظلم اشد ، وجاء متوشحا بفتاوى دينية وأحاديث نبوية ، وخليفة يعلن أنه سلطان الله فى أرضهكانت خيبة أمل المثقفين الورعين في الدولة العباسية هائلة ، وكان التعبير عنها هائلا أيضا، وتمثل في الرفض الكامل ليس للدولة فحسب وإنما للدنيا أيضا التي يئسوا منها فأقاموا لهم دولة بديلة صنعوها من آمالهم المحبطة وأحلامهم التي لم يكن لها أن تحقق إلا في دنيا الخيال والأقاصيص ، واكتفي أولئك بدنياهم تلك ،وجعلوا لهم دينا هو الزهد.

ثالثا : مقاطعة العباسيين أبرز شعائر دين الزهد

1 ـ كان دخول دين الزهد يبدأ بمقاطعة الدولة العباسية ووظائفها ، وكانت الدولة تحتاج إلي أولئك المثقفين الورعين في تولي منصب القضاء فشاع بينهم تحريم تولي منصب القضاء في ظل الخلافة العباسية ، وقد نجحت دعاية الزهاد حتي أن بعض المتورعين من غير الزهاد رفض بإصرار تولي منصب القضاء مثل أبي حنيفة النعمان الذي تحمل اضطهاد أبي جعفر المنصور له . وكان الزهاد أكثرهم صرامة في رفض منصب القضاء خصوصا زعيمهم سفيان الثوري الذي هرب إلي مكة مستجيرا بالحرم من خوفه من الخليفة ، ويروي ابن الجوزي أن سفيان الثوري ظل خائفا من أبي جعفر المنصور حتي حين ذهب الخليفة إلي الحج ومات في طريقه إليهوقد كان أبو زرعة التجيبي المتوفى 153 هـ من الزهاد ، وقد أمره الوالي العباسي بمصر واسمه أبو عون بأن يتولى القضاء وقال له : إنا معشر الحكام لا يعصينا أحد فمن عصانا قتلناه ، فاستأذنه أبو زرعة ليأتي إلي أهله ، فذهب ثم عاد إلي الوالي وقد لبس أكفانه واستعد للموت وقال للوالي : نحن أولي من سحرة فرعون حين قالوا له : اقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا . ولن أتولي لك شيئا ، فعفا عنه الوالي   وكان عثمان بن طلحة أحد أولئك الزهاد في المدينة ، وقد امتنع عن تولي القضاء بها فهدده الوالي العباسي بالسياط  فأذعن . وحين جاء الخليفة المهدي لزيارة المدينة سنة160 هـ سأله أن يعزله عن القضاء وقال له : والله لو عرفت أن بلد الروم تجيرني ولا تمنعني من الصلاة لاستجرت بهم . فعزله المهدي ، وأراد إعطاءه مرتبه المتأخر وكان يرفض أخذه من قبل ، فتنازل عنه أمام الخليفة

 2 ــ والذين أكرهتهم الخلافة العباسية علي تولي القضاء تعرضوا لسخط الزهاد ، وكان من أولئك القاضي شريك النخعي ، وقد رآه أبو هاشم الزاهد يخرج من دار يحيي البرمكي فبكي وقال : أعوذ بالله من علم لا ينفع . أي كان شريك النخعي عند أبي هاشم الزاهد قد ضل سواء السبيل لأنه رضي التعاون مع العباسيين

رابعا : تأسُّس دين الزهد على أقاصيص مفتراة  

1 ـ  وبمقاطعة الزهاد للدولة العباسية (الدولة الظاهرة) يحصل الزاهد علي جواز المرور إلي الدولة (الوهمية) التي ابتدعها خيال الزهاد من أقاصيص لا تتورع عن الكذب . وقد حرصوا علي أن يكونوا وحدهم فيها ذوي شأن ، وادعوا أنهم كانوا أصحاب نفوذ فعليين ثم رفضوا الجاه والسلطان وفضلوا عليه الزهد ، وهي الأسطورة الشائعة عن ( بوذا) نراها تتكرر في مصادر التاريخ في ترجمة إبراهيم بن أدهم(ت160هـ) فيقول فيه ابن الجوزي إنه كان من أولاد السلاطين ولا يعطينا اسم والده السلطان المزعوم ، مع أن اسمه ( إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي) وليس لذلك صلة بالحكام المعروفين وقتها ، ويحكي عنه نفس القصة المشهورة عن بوذا وهي إنه خرج إلي الصيد مع الغلمان والخدم والفرسان فسمع هاتفا يدعوه للإيمان فخرج عن موكبه وتزهد وأصبح سلطانا في مملكة الزهد الخيالية.

2 ـ  وحكي إبراهيم بن أدهم نفس الأسطورة عن رفيقه في الزهد حميد بن جابر الشامي ( ت151هـ) يحكي إبراهيم بن يسار إنه كان يسير مع إبراهيم بن أدهم في الصحراء فمر علي قبر فوقف عليه إبراهيم وبكي وقال : هذا قبر حميد بن جابر صاحب هذه المدائن كلها، كان غارقا في بحر الدنيا وأخرجه الله منها واستنقذه ، وحكي أنه خرج عن سلطانه حين جاءه هاتف يدعوه للخروج من ذلك الذي سيفني إلي ما يدوم ، فخرج عن سلطانه واعتزل في الجبل حتي مات..!! 

3 ـ ويحكي ابن أدهم نفس الحكاية عن صاحبه شقيق البلخي (ت153هـ) إنه كان ذا ثروة عظيمة فخرج عنها وتزهد ،ويصف هذه الثروة بأنها كانت ثلاثمائة قرية وقد تصدق بها جميعا مكتفيا بالزهد. وكأن أولئك الزهاد ـ فى أكاذيبهم وخيالاتهم ـ يقولون للدولة العباسية إننا لا نقل عنكم جاها ولكن تركنا ذلك لأنه جاه مؤقت وفضلنا عليه النعيم الأبدي الذي يستمر في الدنيا والآخرة

4 ــ ولأن تلك الأقاصيص تعبر عن آمال المحبطين و المقهورين فقد شاعت وتناقلها القصاصون و صدقها الناس خصوصا العوام لأنها تعبر عن الطموحات المصادرة والآمال المحطمة والرغبة في تعويض النقص ، وتلك مشاعر اشترك فيها الزهاد مع عوام الشعب المقهورين أبداوإذا كانت الدوائر العباسية تتيه علي الناس بما تكتنزه من أموال فإن أولئك الزهاد في مملكتهم الوهمية كانوا يحتقرون الأموال ، ويحكون في ذلك أقاصيص تلهب خيال العوام وتفتح شهيتهم للاستماعيروي إبراهيم بن أدهم عن نفسه أن غلاما جاء من أهل أصحاب السلطان يركب فرسا ومعه بغلة وعشرة آلاف درهم بعث بها أخوته إليه ، فأمره بالرجوع وأنعم عليه بالحرية وأعطاه الأموال وأمره ألا يخبر أحدا بذلك ، ومع أنه لم يخبر أحدا إلا أن القصة شاعت ووصلتنا يحكيها ابن الجوزي مصدقا لها ، ولو حدثت تلك الرواية لكان ذلك الغلام مستحقا لجائزة نوبل في الأمانة ، ولكان لنا أن نعاتب إبراهيم بن أدهم أن حرم رفاقه الجائعين من تلك الأموال.ولكنها التعبير النفسي الصادق عن الحرمان،والحرمان أبرز النوازع النفسية في الزهد .

خامسا : البدء فى سبك الكرامات عن طريق الزُّهّاد

 1 ــ  وبعضهم لجأ إلي ادعاء الكرامات يعبر بها عن رفضه الأموال التي يستطيع أن يحصل عليها بأيسر طريق إلا أنه يرفضها ، ونري ذلك في ترجمة أبي زرعة التجيبي أحد زعماء الزهاد ، يقول أحد أتباعه وهو خالد بن الفرز إنه كان يعاني من شظف العيش فقال له : " يرحمك الله لو دعوت الله يوسع عليك في معيشتك .!"، فالتفت يمينا وشمالا فلم ير أحدا فأخذ حصاة من الأرض وقال : اللهم اجعلها ذهبا ، فأصبحت ذهبا ، ورمي بها إلي صاحبه مستنكفا منها وأمره أن ينفق منها.

2 ـ  وتتكرر نفس الأسطورة في ترجمة عبد العزيز الراسبي (ت150هـ) الذي دعا لصاحبه ( دهثم) أن يعطيه الله المال ليستعين به علي عياله ، وسرعان ما استجاب الله دعاءه فتناثر الذهب عليهما ، وتركه الراسبي معرضا عنه ومضي ، ولم يلتفت إليه!! .

3 ـ   ولعب الزهاد بمهارة في قضية الموت والآخرة إذ جعلوا أنفسهم أهل الآخرة في مقابل العباسيين ودولتهم الدنيوية ، وبذلك ضمنوا لأنفسهم التفوق الذي يحتاجون إليه لعلاج عقدة النقص المتحكمة فيهموتكفلت الكرامات التي أسندوها لأنفسهم في تأكيد ذلك المعني ، فعلي سبيل المثال قالوا إن رواد العجلي ــ أحد مشاهير الزُّهّاد ــ حين حملوه إلي قبره وجدوا لحده مفروشا بالريحان ، وأخذ القوم من بعض ذلك الريحان فمكث سبعين يوما طريا لا يتغير فافتتن به الناس ، فاضطر الأمير إلي أخذ ذلك الريحان . وانتهت الأسطورة بضياع الريحان من منزل الأمير ، ولم تذكر مصادر التاريخ اسم ذلك الأمير ولا اسم المدينة التي حدثت فيها الواقعة ، وإن ذكرت سنة الوفاة التي مات فيها أبو رواد العجلي وهي (165هـ) ، والواضح أنها إشاعة قيلت بعد وفاته وصدقها الناس وسجلها المؤرخون علي أنها حقيقة تاريخية. وبالغت روايات أخري في حكاية موت علي بن صالح والفضل بن عطية، وقد توفيا سنة 154هـ .

سادسا : نقد الزهاد لدين العباسيين

1 ـ دين العباسيين الحقيقيى هو عبادة المال ، ولذا فإن بعض الروايات التى إخترعها الزهّاد كانت تحمل انتقادا ضمنيا للدوائر المؤثرة والمحيطين بها الذين يتكالبون علي الأموال ، خصوصا الخليفة أبا جعفر المنصور الذي كان مشهورا بحب المال واكتنازه فتأتي تلك الروايات تؤكد أن الزهاد يترفعون عن ذلك المال الذي يتنازع عليه أبناء الدنيا

2 ــ علي أن بعض الروايات التي اخترعها الزهاد وذكرتها مصادر التاريخ كانت تنتقد الخليفة المنصور خصوصا عندما بني مدينة بغداد وجعلها أعظم مدينة وبني فيها قصره المعروف باسم قصر الخلد ، وقد ندد به الزهاد شعرا فقال أبو هاشم
بنوا وقالوا لا نموت 
وللخراب بني الُمبِنّي 
ما عاقل فيما رأيت 
إلي الحياة بمطمئن 
وحين خربت بعض منشآت العباسيين فيما بعد كتبوا علي جدارها
هذي منازل أقوام عهدتم 
في رغد عيش رغيب ماله خطر 
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا 
إلي القبور فلا عين ولا أثر .

سابعا : إخترع المنامات فى دين الزُّهد

1 ـ لم يتحرج الزهاد من حكاية منامات أقدموا فيها علي تزكية أنفسهم وأشياخهم ، وبعضها كانوا يمدحون فيها من مات منهم ، إذ يدعي بعضهم أنه رأي المتوفى بعد موته وهو يصف كيف أصبح منعما في الآخرة ، يقول سليمان العمري رأيت أبا جعفر القاريء في المنام بعد موته فقال لي : اقريء أخواني مني السلام وأخبرهم أن الله تعالي جعلني من الشهداء الأحياء المرزوقين ، واقريء أبا حازم مني السلام وقل له : يقول لك : إن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات..!! وبعضهم رأي أبا المعتمر التيمي (143هـ) بعد موته في المنام فسأله : ما فعل الله بك فقال : غفر لي وأدناني وقربني وعلمني

أخيرا :

الخطير هنا أن الزهد بإختراع المنامات ـ أو الوحى الشيطانى الكاذب ـ بالمنامات قد نصب من نفسه دينا أرضيا ، وإن كان دينا أرضيا مُسالما يختلف عن دين السُّنّة الى أسّسته الدولة العباسية من أحاديث وسيرة نبوية مزيفة تستحل الدماء والأموال والأعراض .

الخطير أيضا أن إفتراء المنامات إستشرى فيما بعد وبرز فيه دين التصوف بدءا من القرن الثالث الهجرى ، وما لبث أن تابعهم فيه الشيعة والسنيون . وتاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) يمتلىء بهذه المنامات مع أنه كتاب فى التاريخ ، وقد ملأ كتبه الأخرى بهذه المنامات ومنها كتابه فى مناقب ( ابن حنبل ) . وهذا يؤكّد أن أكاذيب المنامات كانت تحظى بالتصديق شأن الأحاديث المفتراة .

 

أثر الكهنوت العباسى فى خلق دين البكاء: ( هيا بنا نبكى ) ثم (هيا بنا نضحك )!!

 

مقدمة

1 ـ دين الزهد الذى بعثه من مرقده الكهنوت العباسى أنتج بدورة حركة البكّائين ، بدين جديد آخر تركّز على إتخاذ البكاء شعيرة دينية عُظمى مؤسسة على إفتراء المنامات بإعتبارها وحيا يواجه إفتراءات الأحاديث ( العباسية ) . ولم يكن هذا ــ حسب علمنا ـ مألوفا أو معروفا من قبل دينيا أو إجتماعيا . ولأنه دين عجيب غريب فلم يستمر طويلا ، إذ سرعان ما توارى بين سطور التاريخ العباسى وانتهى العلم به الى أن إكتشفناه ، ونشرنا عنه مقالة هنا فى باب ( دراسات تاريخية ) .

2 ــ البكاء من خشية الله جل وعلا وعند سماع آيات من كتابه الكريم من سمات المتقين الأبرار . منهم من عاش فى قبل نزول القرآن الكرم وقال عنهم رب العزة جل وعلا : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً (58)مريم ).

وقال جل وعلا عن إيمان بعض النصارى عند سماع القرآن الكريم :( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) المائدة )، وقال عن إيمان بعض أهل الكتاب عند سماع القرآن الكريم :(  (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) الاسراء) ، وهنا تعريض بكفّار العرب الذين قال لهم رب العزة جل وعلا : (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) النجم ). وبعض فقراء الصحابة كان من المتقين الأبرار الفقراء ، بكى حُزنا لأنه لا يجد المقدرة المالية على الخروج مع النبى فى القتال الدفاعى ، فقال جل وعلا عنهم يعتبرهم من المحسنين الذين لا حرج عليهم :( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) التوبة ) .

3 ــ البكاء هنا موقف عرضى يعبر عن مشاعر إيمانية تتجلى وليدة حدث معين. ومنه أيضا البكاء المخادع مثلما فعل أخوة يوسف المتآمرين عليه ، قال جل وعلا عنهم :( وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) يوسف ) .

هذا البكاء سواء كان بكاءا نبيلا يعبّر عن إيمان صادق أو كان بكاءا تمثيليا مخادعا ففى الحالين هو حادث عرضى مبنى على موقف . لا ينطبق على موضوعنا :( دين البكاء ) الذى كان حالة مستمرة وشعيرة دينية تعبدية ، تم إصطناع وحى كاذب لها من المنامات كما حدث مع دين الزهد الأصل الذى إنبثق عنه دين البكاء .ونعطى عنه لمحة :

أولا : إنبثاق دين البكاء من دين الزهد فى عصر المنصور
1 ــ  إختراع أقاصيص الكرامات وأساطير المنامات لم تفلح كلها في علاج عقد النقص والحرمان عند الزهاد ، إذ ظلوا منفصلين عن الواقع الدنيوي ، وكان ذلك الواقع يؤرقهم بحاجاته الملحة للطعام والكساء ومتطلبات المعيشة ، ويضاف إلي ذلك واقع القهر وجبروت التسلط للحكام الذي لا تفلح روايات الكرامات والمنامات في التخفيف منه ، ومن هنا نفهم ضرورة البكاء إذ كان المتنفس الوحيد لعلاج ذلك الانفصام بين الواقع المرير والأحلام الورديةوتحول الى دين فى عصر المنصور .

2 ــ وهكذا كان وصف البكائين من مستلزمات الزهاد في عصر أبي جعفر المنصور . وكان أشهر من وصف بالبكائين ابن أبجر(ت 150هـ) يقول عنه ابن الجوزي " وكان من البكائين" ، ليؤكد أن طائفة البكائين كانت طائفة دينية معروفة في عصر أبي جعفر المنصور

 

ثانيا : لمحات عن شعيرة البكاء
 البكاء طول العمر :

 وبعضهم كان يواصل البكاء علي سبب تافه مثل كهمس بن الحسن (ت 149هـ) القائل " أذنبت ذنبا فأنا ابكي عليه أربعين سنة ، زارني أخ لي فاشتريت له سمكا بدانق ، فلما أكل قمت إلي حائط جار لي فأخذت منه قطعة طين فغسل بها يده ، فأنا أبكي عليه منذ أربعين سنة ". والبكاء المتصل لأربعين عاما لسبب تافه كهذا يعتبر علاجا نفسيا للتكيف مع واقع يستعصي علي الحل ، ثم تحول الى عبادة دينية وهب نفسه لها .!

 قيام الليل فى البكاء :

وبعضهم كان يبكي الليل بطوله مثل هشام بن حسان (ت147هـ) حتي آثار دهشة جارته فتقول عنه : أي ذنب عمل هذا ليظل ليله باكيا ..؟!! 

الجهاد بُكاءا حتى العمى .!

1 ــ وبعضهم ظل يبكي حتي ذهب بصره مثل الحسن بن يزيد( ت 149هـ) الذي بكي حتي عمي وصام حتى صار كالعود الناشف .

2 ــ ومثل هشام بن أبي عبد الله (ت153هـ) الذي أظلم بصره من طول البكاء يقول المؤرخون " فكنت تراه يبصر إليك ولا يعرفك حتي تكلمه " .

3 ــ وظلت عبيدة بنت أبي كلاب ( ت163هـ) تبكي أربعين سنة حتي ذهب بصرها..!! 

البكاء جماعة ( مثل صلاة الجماعة ) : هيا بنا نبكى .!!

1 ـ ولأنهم اتخذوا البكاء شعيرة دينية فقد كانوا يضاهئون بها الصلاة ومواقيتها ،  يقيمون له حفلات جماعية يبكون فيها جماعات . يحكي أشعث الحداني (ت 151هـ) إنهم ذهبوا إلي حبيب أبى محمد يسلمون عليه في الصباح فأقاموا حفل بكاء فما زالوا يبكون حتى صلاة الظهر ، ثم صلوا الظهر وعادوا للبكاء حتي حضرت صلاة العصر ، وبعد صلاة العصر عادوا للبكاء حتي المغرب ثم بعد صلاة المغرب رجع كل منهم إلي داره بعد أن تواصوا علي الاستمرار في البكاء ..

2 ــ وكان بعضهم يتخذ من داره موطنا للبكاء تشارك معه فيه أسرته ليل نهار ، وهكذا كان يفعل الحسن بن صالح الذي مات بعد عهد المنصور في سنة 169 هـ وكانت تشاركه أمه وأخوه . وكذلك كان يفعل ضيغم بن مالك(ت 146هـ) وكانت تشاركه أمه ومعها أهل بيته .

التفاخر بالتفانى فى البكاء : البكاء نفاقا وطلبا للشهرة :

1 ـ  والبكاء من خشية الله تعالي من علامات التقوى والإيمان بشرط أن يكون ذلك بعيدا عن الرياء ، إلا أن أصحابنا كان يرتبط لديهم البكاء بالرياء وتغليفه بخرافات الكرامات وإفتراء المنامات ، فحققوا الشهرة بين الناس هي مطلبهم الأسمى حيث وضعوا أنفسهم في مقابل أهل الدنيا . وبشهرتهم ذكرتهم مصادر التاريخ ، والتاريخ لا يعبأ بالعوام إلا إذا وصلوا للشهرة . وأولئك أوصلهم بُكاؤهم الدينى الى الشهرة فإلتفت اليهم التاريخ يكتب عنهم .

2 ـ وبحثا عن الشهرة تنوعت أساليب بعضهم . أحدهم أعلن أنه لن يضحك أبدا ليظل وفيا لبكائه ، مثل وهيب بن الورد الذي حلف ألا يراه الله أو الناس ضاحكا أبدا، وكانوا يأتونه بالوسادة فيظل يبكي عليها حتي تبتل من دموعه ، وكان لا يأكل الفاكهة أبدا ويكشف عن بطنه فيرون فيها أثر الخضرة لأنه يكتفي بالبقول ، ويقول يخاطب نفسه " يا وهيب ما أري بك بأسا ، ما أري الفواكه ضرتك شيئا". وقد توفي سنة 153 هـ.

3 ــ ومثله ورواد العجلي (ت 165هـ) الذى أعلن أنه عاهد الله تعالي ألا يضحك حتي يري الله ، وكان يقضي ليله يصرخ فيأتي الناس يسألون أخته عن أقواله ودعائه حين يصرخ بالليل ، وقد أصابه الإجهاد من طول البكاء حتي مات

4 ــ وكانت لرباح القيسي(ت 146هـ) طريقة خاصة في إظهار بكائه ، كان يأخذ بعض رفاقه ـ حتي يروي عنه ما يفعل وما يقول ـ ويقول له : " هلم يا فلان حتي نبكي علي قصر الساعات . " ، ثم يذهب به إلي المقابر ، فيصرخ ويغشي عليه ويصحو ويبكي حاله .) ويعود رفيقه يحكى هذا عنه .

5 ـ   أما أبو عتبة الخواص (ت 162هـ) فكان أحد مشاهير البكائين الزهاد ، وكان يأخذ بلحيته ويبكي يخاطب ربه قائلا " قد كبرت فاعتقني " . وكان يسير في الشارع وقد وضع علي صرته خرقه وعلي رقبته خرقه ويهتف باكيا: " واشوقاه إلي من يراني ولا أراه."

6 ــ  وعاش عتبة الغلام إلي أن أدرك خلافة المهدي ومات 167 هـ ، وكان يترصد مجلس الواعظ عبد الواحد بن زيد حين يجتمع الناس فينطلق في البكاء حتي يشوش علي الناس فلا يفهمون كلام عبد الواحد ، وكان لعتبة بيت يتعبد به ويبكي فلما خرج إلي الشام اقفله ( وقال لأصحابه : لا تفتحوه إلي أن يبلغكم موتي ، ولما بلغهم موته فتحوه فوجدوا فيه قبرا محفورا وغلا من حديد كان يعذب نفسه بهما)  . وربما قرّر الاستقالة من البكاء وأن يأخذ منه أجازة ، فهاجر الى الشام ، تاركا بيته وقد أعدّ فيه قبرا وأدوات تعذيب ليروى أصحابه عنه أنه كان يعذّب نفسه ليس فقط بالبكاء بل بالأصفاد الحديدية .!

7 ــ وكان زمعة بن صالح (160هـ) ضيفا في بيت ابن راشد الشيبانى ، فقام الليل يصلي ويبكي حتي أيقظ أهل الدار ، وعندما اقترب الفجر أخذ يهتف في الناس يدعوهم لقيام الليل وظل كذلك إلي الفجر . وبذلك ضمن أن يروي الجميع قصته ، وسجل اسمه في صفحات التاريخ

8 ـ وعاش سعيد بن السائب إلى أن أدرك خلافة الرشيد ومات 171هـ وقد وصفوه بأنه لا تجف له دمعة ودموعه جارية أبدا ، إن صلي بكي وإن جلس بكي وإن عاتبه أحد بكي ، وكان يحلو له البكاء في حضور الناس خصوصا في مجلس سفيان الثوري كبير الزهاد الذي قال فيه : وحق له أن يبكي..!! 
إنعكاسات لحركة البكّائين

1 ـ إنتقلت حركة البكائين الى متحف التاريخ ، ولكن بعض آثارها بقيت بعدها .ليس فقط فى أنه فى خلال بحور الدموع هذه أبحر أولئك الناس إلي صفحات كتب التاريخ إلي جانب الخلفاء والوزراء والمشاهير، ولكن أيضا لأنه كان لها تأثير سلبى فى تزييف روايات تاريخية ، إصطنعها القُصّاص المعجبون بالبكّائين ، وقد وجدوهم مادة جيدة لجذب الاهتمام ، وأُعجب بها ــ أيضا ــ الوعّاظ فتلقفوا تلك الروايات الكاذبة لاحقا ونشروها فى مجالس الوعظ والمساجد ، ثم وجدت طريقها لاحقا للتدوين على أنها حقائق تاريخية وليست كذلك .أى إن حركة البكائين والزُّهاد حمّلت التاريخ العباسى بروايات كاذبة لم تحدث ، وإن كانت هذه الروايات تحظى بالاعجاب والتصديق فى عصرها . هذا مع التسليم بأنها تعبّر بصدق عن عقلية العصر وثقافته وأديانه الأرضية المؤسسة على الافتراء .

2 ــ  لقد أفسحت كتب التاريخ للقصص التي اخترعها الزهاد لتروج لمذهبهم وتعلي من شأن شيوخهم ، بل إن تأريخهم لشيوخهم امتد ليؤثر علي التاريخ للخلفاء فأضافوا روايات يحسبها القاريء العادي أنها قد حدثت فعلا، ولكن الباحث التاريخى المدقق يري فيها آثار التصنع وأصابع الزهاد .

3 ــ والأمثلة علي ذلك كثيرة منها:

3 / 1 : ـ  رواية تقول أخري إن المنصور قبل موته دخل قصرا فرأي شعرا مكتوبا علي الحائط يقول
ومالي لا أبكي واندب ناقتي 
إذا صدر الرعيان نحو المناهل 
وكنت إذا ما اشتد شوقي رحلتها 
فسارت لمحزون طويل البلابل 
وفي رواية أخري: إن الشعر يقول
ومالي لا أبكي بعين حزينة 
وقد قربت للظاعنين حمول 
وتحت الشعر : آه .. آه.. أي تأوه الشاعر وأنينه

3 / 2 : ومنها القصص التي تزعم أن بعض الزهاد استطال علي أبي جعفر المنصور في الوعظ ، وكان المنصور يبكي ويسترجع .. وكأنهم أرادوا الانتقام من سطوة المنصور فعاقبوه في تلك الروايات

3 / 3 : علي أن اخطر ما أفرزته حركة الزهد هو تشويه سيرة بعض الفقهاء الذين قبلوا التعامل مع الدولة العباسية وتولوا القضاء ، أبرز مثل لأولئك هو القاضي شريك النخعي الذي أجبروه علي تولي القضاء فحكم بالعدل وأنقذ من براثن الظلم العباسي كثيرا من المظلومين ، وظل محتفظا بولائه لأفكاره إلي أن اضطرت الدولة لعزله ، وقد شوهت روايات الزهاد تاريخ القاضى شريك بينما أعلت من شهرة عبد الله بن المبارك ، فجعلوه أبرز علماء عصره ، ولم يكن ابن المبارك متمسكا بتلك النوعية من الزهد إذ كان يتاجر ويربح ويعيش في بحبوحة من العيش ، ولأنه كان كريما مع الزهاد ينفق عليهم أمواله فأنهم أجمعوا علي فضله واعترف كبيرهم سفيان الثوري له بأنه عالم المشرق والمغرب .. ولذلك تري المبالغة في مدح ابن المبارك وتشويه سيرة أستاذه شريك النخعي .. والسبب في ذلك الميل والهوى

أخيرا : هيا بنا نضحك .!!

1 ـ فى موضوع البكّائين لا نريد للقارىء ان يخرج منه باكيا ، لذلك نختمه بسؤال : ماذا إذا وقع احد أولئك البكائين فى حبائل إمرأة لعوب ؟ الاجابة على هذا السؤال فى تلك الواقعة الظريفة التى رواها ابن الجوزى فى ( المنتظم ) وهو مرجعنا التاريخى الأصلى عن دينى الزهد والبكاء فى العصر العباسى الأول .

2 ـ  فى تأريخه للزاهد البكّاء عطاء بن يسار وأخيه سليمان بن سيار يحكى ابن الجوزى هذه القصّة : ( خرج عطاء بن يسار وأخوه سليمان بن يسار حاجّين إلى المدينة ، ومعهما أصحاب لهما ، حتى إذاكانوا بالأبواء نزلوا منزلًا ، فانطلق سليمان وأصحابه لبعض حاجتهم ، وبقي عطاء قائمًا في المنزل يصلي‏.‏ فدخلت عليه امرأة من الأعراب جميلة، فلما رآها عطاء ظن أن لها حاجة فأوجز في صلاته ، ثم قال‏:‏ ألك حاجة؟ قالت‏:‏ نعم. قال‏:‏ ما هي قالت‏:‏ قم فأصب مني فإني قد ودقت ( أى اشتقت لممارسة الجنس ) ولا بعل لي. قال‏:‏ إليك عني ! لا تحرقيني ونفسك بالنار‏...فجعلت تراوده عن نفسه ويأبى .. فجعل عطاء يبكي ويقول‏:‏ ويحك إليك عني.. واشتد بكاؤه . فلما نظرت المرأة إليه وما دخله من البكاء والجزع بكت المرأة لبكائه‏.‏ ..‏ فجعل يبكي والمرأة تبكي بين يديه . فبينا هو كذلك إذ جاء سليمان من حاجته فلما نظر إلى عطاء يبكي والمرأة بين يديه تبكي جلس في ناحية البيت يبكي لبكائها ولا يدري ما أبكاهما ، وجعل أصحابهما يأتون رجلًا رجلًا كلما أتى رجل فرآهم يبكون جلس فبكى لبكائهم لا يسألهم عن أمرهم ، حتى كثر البكاء وعلا الصوت، فلما رأت المرأة الإعرابية ذلك قامت فخرجت‏. .. )‏ 
أما كيف خرجت ؟ أخرجت تائبة ؟ أم ساخطة ؟ أم خرجت تلعن حظها التعس الذى أوقعها فى هؤلاء القوم ؟ لا ندرى.!!

 الاشارات عن الزهاد والبكائين فى تاريخ المنتظم لابن الجوزى :
ج 7 صفحات : 85ـ ، 90 ، 136 ـ ، 155 ، 188 ، 197 ، 204 ـ ، 218 ، 219 ، 227 ، 268 ، 279 ، 291 ، 319 ، 323 ، 327
ج 8 . صفحات :98 ، 77 ، 172 ،173 ، 97 ، 109 ، 117 ، 119 ، 125 ، 150 ، 186 ، 200 ، 268 ، 259 ، 280 ، 338

أثر الكهنوت العباسى فى تأليه الخليفة العباسى فى عصر ضعف الخلفاء العباسيين

تعاظم الكهنوت العباسى فى العصر العباسى الثانى

 

1 ـ تعرضنا لإعلان أبى جعفر المنصور أنه : (.. سلطان الله في ارضه.. وخازنه علي  فيئه (ماله) أقسمه بارادته وأعطيه بأذنه .) (تاريخ الطبرى 9 / 297 )، وقلنا إنه أول من أعلن مذهب الحاكمية الثيوقراطية ، أو الحكم الالهى المقدس:( The Divine rights of kings) الشائع وقتها فى العصور الوسطى،أو الحاكم الذى يحكم باسم الله تعالى ويستمد سلطته من الله وليس من الناس ، ويكون مسئولا ليس أمام الناس ولكن أمام الله تعالى فقط يوم القيامة.. وذكرنا دوره فى تأسيس هذا الكهنوت السياسى العباسى على أحاديث موضوعة ومنامات أو وحى مزعوم . وبعده تكاثرت هذه الأحاديث التى تؤكد بقاء الخلافة العباسية حتى قيام الساعة ، وصار هذا من معالم ( الدين العباسى ) .

2 ـ  بمرور الزمن تطورت وتسيدت الديانات الأرضية فى العصر العباسى الثانى من تشيع وتصوف ،وتكاثر تأليه الأولياء والأئمة من الصوفية والفقهاء وما سمُّوهم ( آل البيت ). وإذا كان مقبولا تقديس بعض العوام وجعلهم أولياء كما فى دين التصوف فمن المقبول أكثر تقديس الخليفة العباسى .

3 ــ ومن الغريب أن يتعاظم الكهنوت العباسى الدينى مع ضعف الخلفاء العباسيين ، أو أن تقوى ( الخلافة العباسية ) بنفوذها الدينى الكهنوتى ، أو ما يسمى ب ( النفوذ الروحى ) فى الوقت الذى ضعُفت فيه ( الدولة العباسية ) وإنحسر فيه نفوذ الخليفة السياسى والعسكرى. 4 ـ وقع الخلفاء العباسيون تحت سيطرة السلاطين البويهيين الذين سيطروا على الدولة العباسية أكثر من قرن، ( 334 ـ  447 ). ومع أنهم كانوا شيعة حسب المعتقد إلا إنهم إحتاجوا الى النفوذ ( الروحى ) للخلافة العباسية ــ الذى تركز فى العصر وقتها ــ لكى يحكموا بإسمها . إستمر تعاظم هذا النفوذ الكهنوتى العباسى للخلافة العباسية بمرور الزمن ، خصوصا عندما حكم الأتراك السلاجقة الدولة العباسية وأملاكها فى الشرق والشرق الأوسط ، كان السلاجقة سنيين متعصبين ، وخلال أجيال متعاقبة من طغرلبك وملكشاه وسنجر حكم السلاجقة من 1038 الى 1157 أداروا حكمهم بتقليد وتفويض من الخلافة العباسية وكهنوتها الدينى .

5 ــ بإختصار تراجع الكهنوت السياسى العباسى الذى أرساه أبو جعفر المنصور وتعاظم بديلا له الكهنوت الدينى العباسى . ونعطى لذلك مشهدين تاريخيين : فى عهد السلطان البويهى عضد الدولة أقوى سلاطين بنى بويه، وفى عهد السلطان السلجوقى طغرل بك، أقوى سلاطين السلاجقة .

المشهد الأول :

الزمان : عام 369 .

المكان : قصر الخلافة العباسية ( الحضرة )

الأبطال : الخليفة العباسى ( الضعيف ) الطائع لله . السلطان البويهى المتجبّر عضد الدولة البويهى .

شخصيات أخرى : تتبع الخليفة وتتبع عضد الدولة .

الموضوع : عضد الدولة يطلب من الخليفة الطائع أن يزيد فى لقبه وصفا جديدا ليزداد طغيانه ، ويتم منحه هذا الوصف الجديد فى إحتفال كهنوتى عباسى جرى وفق طقوس يتضح منها تأليه الخليفة العباسى وقتها .

المصدر : تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) ح 14  عام 369 .

ملاحظة : ننقل النّص التاريخى كما هو ، ومطلوب التمعُّن فيه لنتعرف على طقوس عبادة وتأليه الخلافة العباسية وقتها .

يروى ابن الجوزى : ( وسأل عضد الدولة الطائع في مورده الثاني إلى الحضرة ( أى الحضرة العباسية المقدسة ) أن يزيد في لقبه تاج الملة ويجدّد الخلع عليه ويلبسه التاج والحلي المرصع بالجواهر فأجابه إلى ذلك . وجلس الطائع على سرير الخلافة في صدر صحن السلام ، وحوله من خدمه الخواص نحو مائة بالمناطق والسيوف والزينة ، وبين يديه مصحف عثمان وعلى كتفيه البردة وبيده القضيب ، وهو متقلد سيف النبي صلى الله عليه وسلم . وضرب ستارة بعثها عضد الدولة وسأل أن يكون حجابًا للطائع حتى لا  يقع عليه عين أحد من الجند قبله . ودخل الأتراك والديلم ولم يكن مع أحد منهم حديد ، ووقف الأشراف وأصحاب المراتب من الجانبين. فلما وصل عضد الدولة أوذن به الطائع ، فأذن له ، فدخل ، فأمر برفع الستارة ، فقيل لعضد الدولة‏:‏ " قد وقع طرفه عليك فقبل الأرض .! " ، ولم يقبلها أحد ممن معه تسلمًا للرقبة في تقبيل الأرض إليه ، فارتاع زياد من بين القواد لما شاهد وقال بالفارسية‏:‏ " ما هذا أيها الملك ؟  أهذا هو الله عز وجل ؟ " .  فالتفت الى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف وقال له‏:‏ " فهّمه، وقل له‏:‏ هذا خليفة الله في الأرض. "  

ثم استمر يمشي ويقبل الأرض تسع مرات، والتفت الطائع إلى خالص الخادم وقال له‏:‏ " استدنه‏" .‏ فصعد عضد الدولة وقبل الأرض دفعتين. فقال له الطائع‏:‏ " إدنُ إلي ، ادن إلي . " فدنا ، وأكبّ ، وقبّل رجله ، وثنى الطائع يمينه عليه ، وكان بين يديه سريره مما يلي الجانب الأيمن للكرسي ، ولم يجلس. فقال له ثانيًا‏:‏" إجلس ." فأومأ ، ولم يجلس ، فقال له : " أقسمت عليك لتجلسنّ . " فقبّل الكرسي ، وجلس . فقال له الطائع‏:‏ " ما كان أشوقنا إليك وأتوقنا إلى مفاوضتك‏.‏" فقال‏:‏ " عذري معلوم‏.!". فقال‏:‏ " نيّتك موثوق بها وعقيدتك مسكون إليها‏.‏" . وأومأ برأسه ، ثم قال له الطائع‏:‏ " قد رأيت أن أفوض إليك ما وكّل الله تعالى إلي من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصتي وأسبابي وما وراء بابي ، فتول ذلك مستخيرًا بالله تعالى‏.‏" . فقال له عضد الدولة‏:‏ " يعينني الله عز وجل على طاعة مولانا وخدمته . وأريد المطهر وعبد العزيز ووجوه القواد الذين دخلوا معي أن يسمعوا لفظ أمير المؤمنين‏.‏" ، فأذنوا . وقال الطائع‏:‏ " هاتوا الحسين بن موسى ومحمد بن عمرو بن معروف وابن أم شيبان والزيني . " فقدموا ، فأعاد الطائع لله القول بالتفويض إليه والتعويل عليه.  ثم التفت إلى طريف الخادم فقال‏:‏ " يا طريف ، يُفاضُ عليه الخلع ويُتوّج‏.‏" ، فنهض عضد الدولة إلى الرواق ، فألبس الخلع،  فخرج ، فأومأ ليقبل الأرض، فلم يطق ، فقال له الطائع‏:‏ " حسبك حسبك‏." ، وأمره بالجلوس على الكرسي ، ثم استدعى الطائع تقديم ألويته ، فقدم لواءان. واستخار الطائع لله الله عز وجل وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم وعقدهما ثم قال‏:‏ " يُقرأ كتابه‏.‏". فقُرأ . فقال له الطائع‏:‏" خار الله لنا ولك وللمسلمين ، آمرك بما أمرك الله به‏ ، وأنهاك عما نهاك الله عنه ، وأبرأ إلى الله مما سوى ذلك. انهض على اسم الله‏.‏" . وأخذ الطائع سيفًا كان بين المخدتين اللتين تليانه ، فقلده إياه ، مضافًا إلى السيف الذي قلده مع الخلعة. ولما أراد عضد الدولة أن ينصرف قال للطائع‏:‏ " إني أتطير أن أعود على عقبي فأسأل أن يؤمر بفتح هذا الباب لي‏.‏"  فأُذن في ذلك . وشاهد في الحال نحو ثلثمائة صانع قد أعدهم عضد الدولة ، حتى هيئ للفرس مسقال، وركب وسار الجيش وسار في البلد‏.‏).

المشهد الثانى :

الزمان : عام 369 .

المكان : قصر الخلافة العباسية ( الحضرة )

الأبطال :الخليفة العباسى ( الضعيف ) القائم بالله.السلطان السلجوقى المتجبّر:(طغرلبـك )  .

شخصيات أخرى : تتبع الخليفة القائم وتتبع طغرلبك  .

الموضوع :  طغرلبك يطلب من الخليفة القائم تفويضا بالحكم .  ويتم منحه هذا التفويض   فى إحتفال كهنوتى عباسى جرى وفق طقوس يتضح منها تأليه الخليفة العباسى وقتها .

المصدر : تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) ح 16  عام  449

 ملاحظة : ننقل النّص التاريخى كما هو ، ومطلوب التمعُّن فيه لنتعرف على طقوس تأليه وعبادة الخلافة العباسية وقتها .

يروى ابن الجوزى : ( وفـي هـذه السنـة‏:‏ لقـي السلطـان طغرلبـك الخليفة القائم بالله ، وكان السلطان يسأل في ذلك إلى أن تقـرر كـون هـذا في ذي القعدة. فجلس رئيس الرؤساء في صدر رواق صحن السلام وبين يديه الحجّاب ، ثم استدعى نقيبي العباسيين والعلويين وقاضي القضاة والشهود . فلما تضاحى النهار كتـب إلـى السلطـان طغرلبـك بمـا مضمونـه الإذن عن أمير المؤمنين في الحضور. فأنقذ ذلك مع ابني المأمون الهاشميين ومن خدم الخواص خادمين ومن الحجّاب حاجبين . ولما وُوفق السلطان على ذلـك نزل في الطيار ( سفينة نهرية سريعة ) وكان قد زيّن ، وأنفذ إليه، فانحدر ، ومعه عدة زبازب سميريات ( سفن صغيرة )  وعلى الظهر فيلان ( إثنين من الفيلة ) يسيـران بـإزاء الطيـار . فدخل الدار والأولاد والأمراء والملوك يمشون بين يديه ونحو خمسمائة غلام تُـرك ، فلمـا وصـل إلى باب دهليز صحن السلام ، وقف طويلًا على فرسه حتى فتح له ، ونزل فدخل إلى الصحن ، ومشى وخرج رئيس الرؤساء إلى وسطه ، فتلقاه ، فدخل على أمير المؤمنين وهو على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع ، عليه قميص وعمامة مصمتان ، وعلى منكبه بـردة النبـي صلـى اللـه وعليـه وسلـم ، وبيـده القطيـب. فحيـن شاهـد السلطـان أميـر المؤمنين قبّل الأرض دفعات . فلما دنا من مجلس الخليفة صعد رئيس الرؤساء إلى سرير لطيف دون ذلك السرير بنحو قامة، وقال له أميـر المؤمنيـن‏:‏ " أصعـد ركـن الديـن إليـك وليكـن معـه محمـد بـن منصـور الكنـدري‏.‏" ، فأصعدهما إليه وتقدم ، وطُرح كرسي جلس عليه ، وقال أمير المؤمنين لرئيس الرؤساء‏:‏ " قل له يا علي‏:‏ أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفضلك آنس بقربك زائد الشغف بك . وقـد ولاّك جميع ما ولاه تعالى من بلاده ، ورد إليك فيه مراعاة عبادة ، فاتق الله فيما ولاّك ، واعرف نعمته عليك وعبدك في ذلك ، واجتهد في عمارة البلاد ومصالح العباد ونشر العـدل وكـفّ الظلم‏.‏" . ففسّر له عميد الملك القول ، فقام وقبّل الأرض، وقال‏:‏ " أنا خادم أمير المؤمنين وعبده، ومتصرف على أمره ونهيه ، ومتشرف بما أهلني له واستخدمني فيـه. ومـن اللـه تعالـى استهـداء المعونـة والتوفيق‏.‏" . واستـأذن أميـر المؤمنيـن فـي أن ينهـض ويُحمـل إلـى حيـث تُفـاض الخلـع ( لبس التشريف ) عليـه . فنـزل إلـى بيـت في جانب البهو ، ودخل معه عميد الملك ، فأُلبس الخُلع ، وهي سبع خلع في زي واحد . وتُرك التاج على رأسه . وعاد  ، فجلس بين يدي أمير المؤمنين سيفًا . ورام تقبيل الأرض ، فلم يتمكن لأجل التاج ، وأخـرج أميـر المؤمنيـن سيفـًا من ين يديه فقلّده إياه، وخاطبه بملك المشرق والمغرب . واستدعى ألوية وكانـت ثلاثـة‏:‏ اثنـان خمريـة بكتائـب صفـر وآخـر بكتائب مذهبة سمي لواء الحمد،  فعقد منهم أمير المؤمنين لواء الحمد بيده . وأحضر العهد فقال‏:‏ " يسلم إليه، ويقال له‏:‏ يقرأ عليك عهدنا إليك ويفسر لك لتعمل بموجبه وبمقتضى ما أمرنا به . خار الله لنا ولك وللمسلمين فيما فعلنا وأبرمناه . آمرك بما أمرك الله به وأنهاك عما نهاك الله عنـه ، وهـذا منصـور بـن أحمـد نائبنـا لديـك وصاحبنـا وخليفتنا عندك ووديعتنا ، فاحتفظ به وراعه ، فإنه الثقة السديد والأمين الرشيد وانهض على اسم الله تعالى مصاحبًا محروسًا‏.‏" .وكان من السلطان طغرلبك في كل فصل يُفصّل له من الشكر وتقبيل الأرض ما نمّ عن حُسن طاعتـه وصـادق محبتـه. وسـأل مصافحتـه باليـد الشريفة، فأعطاه أمير المؤمنين يده دفعتين، قبل لبسه الخلـع ، وعند انصرافه من حضرته، وهو يقبّلها ويضعها على عينيه. ودخل جميع من في الدار من الأكابر والأصاغر إلى المكان فشاهدوا تلك الحال .وخرج إلى صحن دار السلام ، فسار والخيل والألوية أمامه . ولما خرجت الألوية رفعت من سطح صحن السلام وحطت على روشن بيت النوبـة ، ومنـه إلـى الطيـار لئـلا تخـرج فـي الأبـواب فتُنكّـس،ومضـى.  وهنـأه عـن الخليفة ، وقال له‏:‏ " إن أمير المؤمنين يأمرك أن تجلس للهناء بما أفاضه عليك من نعمة وولاك من خدمته وحمل إليه خلعة. " فقـام وقبّل الأرض ، وقال‏:‏" قد أهّلني أمير المؤمنين لرتبة يستنفذ شكري ويستعبدني بما بقي من عمـري . " وأتـاه بسـدة مذهبـه وقـال لـه‏:‏ " أمير المؤمنين يأمرك أن تلبس هذا التشريف وتجلس في هذا الدست وتأذن للناس ليشهدوا ما تواتر من إنعامه فيبتهج الولي وينقمع العدو‏.‏")

 

أديان المحمديين الأرضية المناقضة للاسلام يكتمل تطورها فى العصر العباسى

مقدمة

1 ــ ملامح الدولة الدينية اكتملت في الدولة العباسية، فقد بدأت بدعوة دينية شيعية كيسانية لأمام مهدي مستتر تحت ستار الدعوة للرضى من آل محمد ،وعززت هذه الدعوة العلنية بأحاديث منسوبة للنبي انتشرت فى الآفاق تبشر بالدولة القادمة وتمهد لها. وقد عقد السيوطي في( تاريخ الخلفاء 30: 37) فصلا عن الاحاديث المبشرة بخلافة بني العباس ، بعضها يتحدث عن اسماء الخلفاء العباسيين . ويذكر ابن الجوزى فى تاريخه ( المنتظم : 7 / 335 ) حديثا يزعم أن النبى محمدا قال : ( منا السفاح والمنصور والمهدى ) هذا الحديث الكاذب رواه الأعمش ، والأعمش أحد مشاهير القفهاء ورواة الحديث العاملين فى خدمة أبى جعفر المنصور، ومعلوم ان النبي عليه السلام لا يعرف الغيب وممنوع ان يتكلم فيه وفقا لما اكده القرآن الكريم (6 / 50 )( 7 /188 ) (46 / 9).

2 ــ (عبد الله بن عباس ) جد الخلفاء العباسيين هو ابن عم النبى محمد. كان يعيش مع أبيه العباس فى مكة حين كان يناصب العداء للنبى محمد والمسلمين ، ثم أسلم فيما بعد مع أبيه وهو صبى دون الحلم، أى رأى النبى محمد ـــ ابن عمه ــــ لأول مرة حين فتح مكة. وبعد فتح مكة عاد النبى محمد الى المدينة بينما عاد ابن عباس مع أبيه الى مكة. ثم انتقل العباس وابناؤه الى المدينة قبيل وفاة النبى وشهدوا موته، واشرفوا على دفنه. فى تلك الفترة القليلة التى عاشها ابن عباس فى طفولته فى الوقت ألأخير من حياة النبى محمد لم يتح له أن يكون قريبا منه أو أن يظهر بين كبار الصحابة. وحتى المحققين من علماء الحديث فى الدين السنى فى العصر المملوكى ـ بعد انهيار السلطة العباسية ـ جرءوا على التصريح بهذه الحقيقة، فقال ابن القيم الجوزية بناءا عليها انه لم يبلغ ما سمعه ابن عباس من الرسول عشرين حديثا (الوابل الصيب من الكلم الطيب77القاهرة1952ابن القيم الجوزيه ت 751هـ ).

الا أن الدولة العباسية الدينية زورت آلاف الأحاديث ونسبتها الي ابن عباس لترفع من شأنه ومن شأنها ، وأدت تلك الأحاديث مع طول عمر الدولة الى الاعتقاد بأنها ستعيش الى قيام الساعة كما قالت تلك الأحاديث ، والدليل علي ذلك الاعتقاد ان هولاكو المغولى تأثر بهذه الاساطير وهو علي اهبة تدمير بغداد وقتل الخليفة المستعصم ، فعقد مجلسا حربيا لبحث هذا الامر ومدى خطورته المحتملة عليه اذا دمر الخلافة والدولة العباسية ، واخيرا تشجع هولاكو بنبوءة نصير الدين الطوسي الفلكي ، وهجم علي بغداد حسبا يذكر الهمداني في تاريخ المغول (الهمداني :جوامع التاريخ جـ280:278ترجمة صادق نشات واخرون    القاهرة1960 ).

3 ــ وفي عصر هذه الدولة الدينية اكتملت الحركة العلمية وعرفت التدوين والاتساع والتخصص .وتم نقل معارف الثقافة الشرقية والغربية وترجمتها الي اللغة العربية ،وانعكس ذلك علي رواج الأديان الأرضية متأثرا ببيئة ثقافية متنوعة المصادر والجذور والعقائد .

 

تطور الأديان الأرضية من فرق الى أديان مكتملة :

1 ـ ظهرت تلك الأديان الأرضية فى صورة فرق دينية ، أو ملل ونحل حسب مصطلحات العصر. بدأ بعضها بحزب سياسى أو حركة سياسية ثم تحول الى دين أرضى يحاول الانتشار من خلاله وفق ثقافة العصور الوسطى التى كانت تتمسح بالدين وتستخدمه بالتزوير لتحقيق أغراضها.

2 ـ بعضها بدأ فرقة دينية واستمر هكذا دون افتراء على الله تعالى ورسوله أو زعم للوحى ثم عمل بالسياسة فأفسدته ( مثل المعتزلة )، وبعضها نشأت مدارس فكرية دينية وفلسفية ، وما لبث أن تفرعت وانقسمت على نفسها فى اطار جدل فلسفى وفقهى وعقلى. وبعض الحركات السياسية مثل الخوارج استهلكت قوتها العسكرية في الدولة الأموية ثم فى صدر الدولة العباسية،وأتاح لها المناخ الفكرى فى العصر العباسى أن تصوغ لها بعض الفرق ببعض الآراء المختلفة . وإندثرت آراء الخوارج مع دخولهم متحف التاريخ ، ولكن بقى منهم من توسط وإعتدل ، وإقترب من الدين الأرضى السائد ، ونعنى به دين الأباضية الذى لا يزال ساريا حتى اليوم في عُمان وبعض مناطق فى شمال افريقيا .

3 ــ وبالتالى فقد اكتملت في العصر العباسى ثلاثة أديان أرضية أساسية وكبرى لاتزال سائدة حتي الان ، وهي السنة والتشيع  والتصوف ، ولا يزال أئمة هذه الطوائف هم الآلهة المقدسة لمئات الملايين من المحمديين فى هذا العصر. أبرزهم أئمة السنة فى الفقه والحديث ( أبوحنيفة ت 150) ( مالك ت  179) ( الشافعى ت 204 ) (أحمد بن حنبل ت 241 ) (البخارى  ت256 ) ( مسلم ت 261 )، وأئمة الشيعة وأولياء التصوف.

 

الدين السُّنّى فى لمحة سريعة

تقلب مفهوم السُّنة من الشرع كما جاء في القرآن الكريم الي معني سياسي منسوب للنبي في اطار الخطاب السياسي المعارض للأمويين ،ثم احتكرته الخلافة العباسية ليدل علي مدلولها السياسي في مقابل خصومها الشيعة ، ثم تحول مصطلح السنة في العصر العباسي الثانى ليدل علي نوعية الدين السائد المعترف به من الدولة العباسية .ونعطى لمحة سريعة:

1 ـ مصطلح السنة يأتي في القرآن بمعي المنهاج والطريقة أو الشرع ،وبمعني الشرع يأتي منسوبا لله تعالي (33 / 38) .

2 ـ  وفي العصر الاموى استعمل مصطلح السّنة في معرض الاعتراض علي السياسة الاموية واهمية ان ترجع الي ما كانت عليه سنة النبي ،أي طريقته العادلة فى الحكم .وبها بدأ الاستعمال السياسي لكلمة السنة وقتها .

3 ـ وحين نجح الشيعة الكيسانية في الدعوة للرضى من آل محمد ــــ الامام المختفى غير المعلوم ــــ وكان مفترضا أنه من ذرية علىّ بن أبى طالب، كان من ادبياتهم نفس الاستعمال السياسي لمصطلح السنة مع الاستعمال لمصطلح الشيعة الذى يدل على المعتقدين بأحقية ذرية على ابن أبى طالب فى الحكم. وحين ظهر ان الخليفة الموعود ليس من ذرية علي وانما من ذرية ابن عباس حدث الشقاق بين انصار العباسيين القائمين مع الخليفة العباسي وبين المطالبين بأحقية ذرية علي بالخلافة دون العباسيين .وظلت كلمة (شيعة)  أو (الصحابه) تطلق علي انصار العباسيين حتي تولي ابو جعفر المنصور الخلافة وتقاتل مع العلويين فى الحجاز والعراق فى ثورة محمدالنفس الزكية واخيه ابراهيم . عندها استبقي الخلفاء العباسيون لأنفسهم مصطلح (السنة) وأهملوا لقب الشيعة، فاصبح خاصا بخصوم الدولة العباسية والخارجين عليها ،و اضيفت للشيعة اوصاف اخري سياسية وعقيدية اهمها الرافضة .وفى عهد الخليفة المتوكل وبسبب كراهيته للمعتزلة والشيعة والصوفية تمّ إعتماد ( السُنّة ) دينا رسميا للدولة ، وبعث المتوكل بدعاة السُنّة الى الآفاق لمطاردة الأديان الأخرى والمعتزلة ونشر دين السُنّة .

4 ـ حدث تطور آخر فى مدلول مصطلح السُنّة : فالمعتزلة والفلاسفة والمثقفون ثقافة عقلية بالفلسفة اليونانية والهلينية  فى العصر العباسى الأول كانوا يطلقون على خصومهم من الفقهاء السنيين المحافظين لقب الحشوية ، لأنهم كانوا يحشون عقولهم بروايات منسوبة للنبى يؤمنون بها ويجادلون بها الآخرين بدون عقل أو منطق متمسحين بالدين ، ولم تكن لهم قدرة عقلية على الجدل مع المعتزلة أو الفلاسفة . ثم مالبث أولئك الفقهاء الحشويون بعد أن تسيدوا الساحة العباسية فدخلوا بقوة السُّلطة العباسية فى جدال مع المعتزلة ، خصوصا بعد أن (إرتدّ ) ابو الحسن الأشعرى عن فكر المعتزلة وإنضم الى الفقهاء، فأصبحت السنة تعني من ناحية العقائد والفلسفات ذلك الاتجاه الفكرى العقائدى المحافظ  الذي يمثله أبو الحسن الأشعري بعد ان ترك المعتزله ، وأصبحت السنة من ناحية الفقه والفروع تعنى المذاهب الفقهية الاربعة المنسوبة للائمة ابي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل ،هذا في عصر الاجتهاد الفقهي . ومن الطريف بعدها أن فقهاء السُنّة الذين لا علم لهم بمايسمى بعلم الكلام أو ( اللاهوت ) كرهوا (علم الكلام ) وما فيه من جدل ، ووضُح هذا فى أواخر العصر العباسى الثانى . وفيه عمّ التصنيف فى الشريعة السُّنّية أو ما يعرف بالفقه . وهذا الإنتشار فى التصنيف الفقهى كان على حساب ( الكيف ) ، فلم ينبغ فقيه يضيف جديدا أو يأتى بجديد أو بإجتهاد ، بل قام كل فقيه بالإلتزام برأى شيخ سابق فتكونت المذاهب الفقهية ، وفى تلك التصنيفات الفقهية أصبح مصطلح السُّنّة ضمن أحكام الفقه ، يشير الي درجة اقل من درجات الواجب ، فيقال هذا فرض واجب وهذا سُنّة ، أو يقال "يسنّ" بمعني يستحسن.

5 ـ وفي علم الحديث اكتملت للحديث السني مصادره وشيوخه ،وبدأ مختلطا بالفقه ، حيث كان يتم ترتيب أبواب الحديث طبقا لأبواب الفقه ، ثم انفصل الحديث عن الفقه ، وكما صار للفقه ( علم ) لأصول الفقه ، صار للحديث باب لفحص مدى صٌدقية الحديث ، أو ما يعرف بالجرح والتعديل . وهم فيه مختلفون شأن إختلاف الفقهاء السنيين فى كل صغيرة وكبيرة.

6 ـ توازى هذا مع نشأة ما يعرف بعلوم القرآن فى العصر العباسى ، وهى لإخضاع نصوص القرآن الكريم الى هوى تلك الأديان الأرضية ، تشكيكا فى آياته ، وإلغاءا لأحكامها تحت مسمى النسخ ، مع إنهم كانوا يستعملون فى الكتابة التاريخية مصطلح النسخ بمعنى الكتابة وليس الحذف ــ خصوصا فى كلامهم عن كتابة المصحف أو نسخ المصحف . لكنهم فى الكتابة الفقهية ــ بدءا من الشافعى ــ إعتبروا النسخ فقهيا يعنى إبطال وإلغاء التشريع للآية القرآنية بآية أخرى ـ ( بما يعنى أن القرآن الكريم ملىء بالعوج والاختلاف ). أو بحديث من الأحاديث التى يخترعونها لتطغى على القرآن الكريم .

دين التشيع :

1 ـ مصطلح ( شيع ـ شيعة ) يأتى فى القرآن الكريم على النحو التالى :

1 / 1 : الحزب او الطائفة عموما . يقول جل وعلا : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ )(65) الانعام ) يلبسكم شيعا أى فرقا وأحزابا . وعن فرعون وسياسته فى تقسيم المصريين يقول جل وعلا :  يقول جل وعلا :  (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص) يقول جل وعلا  عن موسى وإدراكه مبكرا أنه من طائفة مستضعفة : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) القصص )

 1 / 2 : وحين يصل الاختلاف والتفرق الى الدين ينشأ الدين الأرضى الذى لا يلبث أن يتفرع ويتقسّم . والكفر يعنى الشقاق والاختلاف ،يقول جل وعلا عن الأمم السابقة ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)الحجر ) ، ويقول جل وعلا  عن أصحاب النار المشركين : (فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً (69) مريم ).

1 / 3 : وهنا يكون التشيع يعنى فرقة دينية أو الأحزاب الدينية ، ولهذا يحذّر رب العزة المؤمنين من الوقوع فى التفرق فى الدين ، يقول جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) الانعام )  (وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)  الروم ) ، ويقول جل وعلا  عن ابراهيم إنه كان من شيعة نوح ، أى من دينه وملته : (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (82) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ (83) الصافات  )  

1 / 4 : ويأتى الفعل ( يشيع ) بمعنى ينتشر ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) النور)

2 ـ تأسس التشيع مبكرا يعنى من الناحية السياسية مناصرة حق ( على بن ابى طالب ) فى الخلافة ، بدأ بهذا بعض الصحابة كالزبير بن العوام والعباس والمقداد بن عمرو وعمّار بن ياسر . ثم تحول مبكرا الى تأليه ( على ) فيما زعمه عبد الله بن سبأ فى خلافة (على ) ، وتعددت فرق وطوائف الشيعة ،  وفى العصر العباسى اكتملت للتشيع طوائفه واسفاره المقدسة و احاديثه المقدسه وعباداته وائمته، وتفرع الى طوائف ، وانقسامات شتى.

3 ــ واتيح للفرع الاسماعيلي من الطائفة الشيعية الإمامية أن يقيم دولا ثابتة راسخة ابرزها الدولة الفاطمية التي استمرت اكثر من قرنين من الزمان وتوسعت مابين شمال أفريقيا الي مصر والشام وحدود العراق ،وكادت تقضي علي الدولة العباسية ،واستمرت فيما بين (909-1712 م ) واقامت القاهرة والازهر ، ولازالت آثارها العمرانية باقية حتي الان . كما اتيح للتشيع ان يقيم دولا متحركة مثل حركة الزنج في جنوب العراق وحركة القرامطة التي توسعت في العراق و الشام واعمدتها من الاعراب .

التصوف :

1 ـ التصوف هو الذى كان يعبّر عن دين العوام الداخلين فى دين الحُكّام ، وقد إستعاد التصوف تقديس البشر والحجر بلا تمييز تحت ستار ( الجذب والحب الالهى والوجد ) .

2 ـ وبدأ التصوف بتقديس آل البيت على هامش التشيع ، فورث إضطهادا بسبب الصراع بين السنة والتشيع ، الا إن التصوف ما لبث ان انفصل عن التشيع وتخفف من السياسة وتخصص فى تملق الحكام في أواخر العصر العباسي الثاني ، فتخلص التصوف تدريجيا من الاضطهاد ، ثم تسيد وسيطر فى العصر المملوكى ، وبعد ان كان الحنابله  المتشددون السنيون ـــ يضطهدون الصوفية فى العصر العباسى الثانى ،اصبح الصوفية بعد انتهاء العصر العباسي ومجئ العصر المملوكي هم الذين يضطهدون الحنابلة ،كما حدث في تاريخ ابن تيمية .

ونعطى بعض التفصيلات التاريخية للتوضيح .

 

صراع (الحنابلة) مع (المعتزلة) في العصر العباسي  

 

صراع المتشددين فى الدين السّنى (الحنابلة) مع ( العلمانيين المستغربين: المعتزلة) في العصر العباسي

مقدمة

1 ــ الدولة العباسية كدولة دينية ذات دين أرضى خاص اعتمدت علي فقهائها ورواة الحديث التابعين لها في تعزيز سياستها ضد الحركات السياسية المناوئة لها ، واذا قصّر احد الفقهاء في خدمة الدولة كان يتعرض للاضطهاد على قدر التقصير، وهذا ما حدث مع مالك وابى حنيفة والشافعى ، ثم ابن حنبل فيما بعد.

2 ـ الا ان الدولة العباسية فتحت ابواب الترجمة عن اليونانية والسيريانية والهندية وواكب ذلك عودة الحياة الي المدارس الفلسفية اليونانية القديمة فى الرها وجندياسبور وانطاكية وحرّان والاسكندرية، واصبح التزندق الفلسفي موضة لا غبار عليها طالما لا يعارض سياسة الدولة، وقد اشتهر من العاملين في اجهزة الدولة العباسية الكثير من الزنادقة، واشتهر شعرهم وادبهم بينما طاردت الدولة خصومها السياسيين بحد الردة وتهمة الزندقة.

3 ـ ومن الطبيعي ان ينفر الفقهاء المحافظون من هذا التيار الجديد المتأثر بالثقافة اليونانية الغربية المتأثرة بالمسيحية والثقافة الغربية وفلسفاتها ،خصوصا مع  ظهور المعتزلة الذين يقرأون الفلسفة ويقرأون التدين السائد قراءة عقلية وبصورة تخالف القراءة المحافظة التقليدية .

4 ــ وقد وقع الخليفة المأمون (813-833)في هوى ذلك التيار المعتزلى الجديد ، اذ كان شغوفا بمجالس العلم، واقتنع بمقولة المعتزلة أن القرآن مخلوق، واستعظم ان يعارضه الفقهاء المحافظون ،وكان منهم وقتها أحد من يجمع الأحاديث ــ ولم يكن مشهورا من قبل ـ ولكن صموده فى معارضة القول بخلق القرآن أشهرته . إنه ( احمد بن حنبل ) الفارسى الأصل ، وقد إنضم اليه محمد بن نوح ومحمد بن سعد المؤرخ المشهور.  صمم المأمون علي فرض رأيه عليهم بسطوة الدولة ،وبدأت بذلك محنة الفقهاء السنيين ، وإجبارهم علي القول بأن القرآن مخلوق .وتحت الضغط والتهديد تراجع الفقهاء عدا ابن حنبل ومحمد بن نوح ،  فوضعا في السجن. ومات المأمون وقد اوصى ولي عهده المعتصم بالله بالاستمرار بالقضية فأمر المعتصم بضرب ابن حنبل سنة218،وظل ابن حنبل بالسجن الي ان افرج عنه في رمضان سنة 220هـ، وشاع ضرب ابن حنبل وصار محنة كبرى يتغنى بها الفقهاء الذين حملوا فيما بعد لقب الحنابلة ، وقالوا إنه استمر اثر الضرب في جسده يتوجع منه الي ان مات سنة241 هـ( ابن الجوزي:مناقب ابن حنبل 339،346بيروت ط1،تحقيق محمد ومصطفى عبدالقادرعطا ،  المنتظم 11/43 ،تاريخ الطبري 8/631:645 ].

محنة ابن نصر الخزاعي :

وادى ما حدث لابن حنبل الي قطيعة بين الفقهاء المحافظين والعباسيين ، واستغل الفقهاءمكانتهم في الشارع ، واقد اصبح لقبهم الحنابلة نسبة لابن حنبل، وبدءوا في اثارة القلاقل ضد الدولة بحجة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد صنعوا لذلك حديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ..الخ ) ، أى أكسبوا حركتهم فى السطوة على الشارع شرعية دينية . يلفت النظر أن الخليفة الواثق صاحب الميول العلمية ( العلوم الحقيقية فى الطب وغيره ) قد أمر بالقبض علي زعيم الفقهاء الحنابلة ، وهو احمد بن نصر الخزاعي بحجة انه ينكر خلق القرآن.وحقق الخليفة معه ثم قتله بيده ،وامر بصلب رأسه في موضع وصلب جسده في موضع آخر وكان ذلك سنة231 هجرية .( ،تاريخ الطبري 9/135:140. ابن الجوزي : المنتظم 11163:165).

بسبب محنة ابن نصر الخزاعى راج حديث الحنابلة :  (من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وهذا اضعف الايمان )ليعطى للحنابلة المتشددين سطوة فى الشارع . وفعلا أصبحت لهم فى العصر العباسى الثانى سطوة فى الشارع العباسى ، ما لبث أن تضاءلت بعد تسيد دين التصوف الذى حمل شعيرة دينية مخالفة هى ( عدم الاعتراض ) . وفى عصرنا عاد للظهور حديث الحنابلة ( من رأى منكم منكرا ) يتحرك به الوهابيون الحنابلة يرهبون الناس .

إعتماد الحنبلية السنية دينا فعليا في العصر العباسي منذ عهد المتوكل واضطهاد زعماء الأديان الأرضية الأخرى :

1 ـ في هذه الفترة كان نفوذ المعتزلة سائدا في الدولة العباسية حيث كان الوزير المعتزلي محمد ابن عبد الملك بن الزيات يسيطر علي الامور ، ويستهين بولي العهد وهو أخ الخليفة الواثق الذي تولي الخلافة فيما بعد تحت اسم الخليفة المتوكل .وكان ابن الزيات يعمد الى تحقير ولى العهد هذا ليجبره على التنازل عن ولاية العهد لصالح ابن الخليفة الواثق . ولكن مات الواثق فجأة فضاعت آمال ابن الزيات وتولى ولى العهد باسم الخليفة المتوكل سنة 232/847م ، فبادر بقتل غريمه ابن الزيات وتحسين علاقته بالفقهاء الحنابلة ،فاستقبل ابن حنبل وأكرمه وارسل الفقهاء الحنابلة للتبشير بدينهم السنى في الولايات. فصار لهم جيوش من العوام.

2 ـ إنحصر نفوذ المعتزلة فى قصور الخلافة العباسية ولم يصل الى التأثير فى الشارع ، فهناك فجوة ثقافية بينهم وبين العوام وعزّزتها سيطرتهم الفوقية على الخلافة العباسية ، ولكن النفوذ الحنبلى كان مختلفا . بدأت بالخليفة المتوكل سطوة الحنابلة فأصبحوا متحكمين في الدولة وفي الشارع علي السواء ، وتناغم تعصبهم مع طبيعة المتوكل المتعصبة ، لذا عمّ التعصب عصر المتوكل فاضطهد الجميع ، فطرد العرب والفرس من ديوان الجند تعصبا منه للجند الترك ، وتعصبا ضد أهل الكتاب ألزمهم بارتداء زي معين للتحقير ،واضطهد الشيعة وهدم ضريح الحسين فى كربلاء ، وحاكم رواد التصوف فيما يعرف بفتنة سمنون ، بل اضطهد ابنه الأكبر لصالح المعتز ابنه الأصغر لأنه ابن محظيته ( قبيحة )، مما أدى الى أن يقتل الابن الأكبر أباه المتوكل ويتولى بعده باسم المنتصر. (تاريخ الطبري 9/161،ابن الجوزي: المنتظم11/206،283،222،238،265،270).

3 ـ بسيطر الحنابلة علي الشارع اضطهدوا خصومهم المعتزلة. عاش فى هذه الفترة أئمة المعتزلة مثل الجاحظ ت 255  وابى الهذيل العلاف ت 235 وابراهيم بن يسار النظام ت 231 و الجبائى ت 303 . وكان منتظرا أن يكون لهم مدارس وتلاميذ الا ان الاضطهاد أجهز على المعتزلة وأبقى أولئك الأعلام بلا تلاميذ. بل على العكس فان تلميذا للمعتزلة انقلب عليهم ليتواءم مع متطلبات العصر فأضحى اماما. انه ابو الحسن الأشعرى ت 246 . ثم كان القضاء التام على المعتزلة فى خلافة عصر الخليفة العباسى القادر بالله الذى تولى الخلافة عام  381 . وفيه راجت إشاعات الحنابلة عن المعتزلة بحيث أصبح تكفيرهم من أسس الدين السائد. وقد تأثر بهذا المؤرخ الحنبلى الخطيب البغدادى وسجلها فى ترجمته لبشر المريسى  المعتزلى وغيره . كما تأثر بهذا المناخ الخليفة العباسى القادر بالله نفسه . وقد أدرك الخطيب البغدادى خلافة القادر بالله لأن الخطيب مات عام 436 ، ومات الخليفة القادر عام 422 . وقد ترجم له أيضا فى ( تاريخ بغداد ) وقال عنه : ( رأيت القادربالله دفعات ، وكان أبيض حسن الجسم كث اللحية طويلها يخضب. ) ومدحه الخطيب فقال عنه : ( وكان من أهل الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد .) الوصف بحُسن المذهب وصحة الاعتقاد  يعنى عند الخطيب البغدادى : الالتزام بالدين الحنبلى ، وغير ذلك فهو ( البدعة ). وقد كتب القادر بالله يدافع عن مذهبه الحنبلى ، يقول عنه الخطيب: ( وكان صنف كتابًا فيه الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، أفكار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن . وكان الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه. ). وكوفىء هذا الخليفة على حنبليته يصناعة حديث يشير الى تزكيته ، ورواه الخطيب : ( لا تهلك هذه الأمة حتى يكون فيها إثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت النبى ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة . ) واستمرت خلافته  41 سنة وعشرة اشهر واحدى عشر يوما . ( تاريخ بغداد ج 4 ص 37 : 38 ) .

4 ـ ارهب الحنابلة أئمة الدين السنى نفسه من غير الحنابلة اذا خالفوهم فى الرأى. لقد اختلفوا مع الطبري فى موضوع الاستواء على العرش ـ وقد كان فى نهاية عمره امام المؤرخين والمفسرين فى عهده، وكان أعلم من ابن حنبل نفسه ـ حاصر الحنابلة الامام الطبرى في داره وهو فى شيخوخته ، ولم يرحموا توسله وإعتذاره لهم فهدموا عليه داره فمات  تحت الردم ودفن في داره ،ولم تستطع الدولة العباسية حمايته منهم . (صلاح الدين بن خليل بن ايبك الصفدى: الوافي بالوفيات 2/284.:طـ2تحقيق س0ديدرنغ1981طـ0المانيا).

خروج المعتزلة من حلبة الصراع مبكرا

1 ـ إنغماس المعتزلة فى السياسة وتحكمهم فى الخلافة العباسية أشاع جوا من الكراهية أحاط بهم ، ونشر هذه الكراهية جموع الفقهاء أصحاب الحديث ومن يتبعهم من القُصّاص ووعاظ المساجد الذين تحولت أقاصيصهم وخرافاتهم الى أحاديث فيما بعد. وقد كانوا اصحاب سيطرة على الشارع. زاد ذلك الظلم الذى إشتهر به ابن الزيات وزير الخليفة الواثق ، وقد إصطنع حجرة حديدية لتعذيب خصومه حتى الموت ، مالبث هو أن تعذب فيها حتى الموت .

2 ـ  الواقع أن خروج المعتزلة من حلبة الصراع مع دين السنة كان حتميا ليس لمجرد الأسباب السياسية المشار اليها، ولكن لأنهم لم يخترعوا دينا أرضيا ، أى لم يسندوا آراءهم الى الوحى الالهى بزعم أن الله تعالى قال كذا أو ان النبى محمدا قال كذا. ولذا ظلت آراء المعتزلة حبيسة بين حلقات العلم والفلسفة وبعيدة عن المساجد وعوام الناس ، بينما أتيح للسنة والشيعة والصوفية نشر آرائهم على أنها وحى سماوى قاله الرسول أو قيل منسوبا لله تعالى فى منام أو هاتف. وبالتالى لا بد من الايمان به أو الكفر به وليس هناك موقف وسط ، شأن كل ما يخص الدين.

3 ــ وبينما كان المعتزلة قلة مثقفة فإن الانخراط فى أديان السُّنّة والتشيع والتصوف لا يستلزم مؤهلات علمية ، بل مجرد ترديد لأقاويل وإرتداء لباس معين ــ أحيانا . وهذا شجع العوام على الانخراط فى هذه الأديان الثلاثة مما ضمن لها الانتشار والاستمرار حتى فى ظل الصراع بينها .

4 ـ وبخروج المعتزلة من الساحة بقى الدين السنى يصارع التشيع ثم التصوف معا. وتوارثناها فى عصرنا نحمل أوزارها . كلها تشترك فى تقديس النبى محمد والصحابة (أو بعضهم ) وتقديس الأئمة والقبور ، وكل دين منهم له أئمته وقادته وآلهته وأسفاره المقدسة . أنتهى العصر العباسى ولكن لا يزال أئمته أئمة حتى الآن ، من مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى الى جعفر الصادق والغزالى والكلينى ..الخ ..

5 ـ يتقدم العالم من حولنا بيما لا زلنا نقدس هذه الآلهة العباسية .!!

 

الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى 

  

اولا : الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى الأول ( 132 ـ 232 )

1 ـ اشتعل الصراع الحربى بين المتشيعين لعلى بن أبى طالب وأبنائه والدولة الأموية. تلون هذا الصراع بحرب كلامية بدأ فيها اختراع الأحاديث كحرب دعائية. اشتهر أبو هريرة بانحيازه للأمويين واختراعه أحاديث فى فضل معاوية ومن معه وفى التقليل من شأن على ، وقتها كان عبد الله بن عباسّ هو خصم أبى هريرة، إذ اشتهر ابن عباس بالدفاع عن بنى عمه من العلويين فى مواجهة الأمويين والزبيريين معا.  وكان من الطبيعى أن يرد معسكر العلويين  بوضع أحاديث فى فضل علىّ وآله وتسميتهم بآل البيت. اقتصرت الحرب الكلامية بالأحاديث على مجرد الرواية الشفهية ، ثم اتسع مجالها وتنوعها وتم تدوينها فى العصر العباسى حيث حملت الأحاديث الموالية للسلطة العباسية اسم السنة أو بتعبيرنا دين السنة.

2 ـ ونجحت دعوة سرية للشيعة فى تدمير الدولة الأموية سنة 132، وانجلى الأمر ليتضح أن القادة السريين للدعوة الجديدة ليسوا من نسل علىّ بن أبى طالب ، بل من بنى عمومتهم العباسيين. لذا استجد  صراع مسلح بين العباسيين والعلويين فى ثورة محمد النفس الزكية، وبعد قتله و سجن أتباعه من كبار العلويين سنة 145 هجرية استمر الصراع العسكرى بين العباسيين والعلويين فى الحجاز،وكان منها ثورة الحسين بن على من نسل الحسن بن على ، وقد هزمه العباسيون فى موقعة ( فخ ) فى خلافة الهادى سنة 169 هجرية .

وقد نجا من مذبحة ( فخ ) اثنان  هما: يحيى بن عبد الله الذى فرّ الى بلاد الديلم وأعلن الثورة فى أواسط آسيا فخدعه هارون الرشيد باعطائه الأمان ثم سجنه وقتله. أما الأخ الثانى فكان ادريس بن عبد الله الذى فرّ الى مصر سنة 172 هجرية ثم هرب منها الى المغرب الأقصى حيث أعلن ثورته، فبعث له الرشيد من قتله بالسم سنة 177. ولكن كانت جاريته حبلى فانتظر أتباعه البربر الى ان وضعت طفلها فأسموه ادريس وبايعوه بالخلافة . وأقاموا به دولة الأدارسة فى المغرب. وتتابعت ثورات أخرى للعلويين والشيعة ، مثل ثورة محمد الديباج ابن جعفر الصادق ، وقبله فى سنة 179 قتل الرشيد أخا للديباج هو موسى الكاظم ابن جعفر الصادق لأنه شكّ فيه. وكانت دولة الأدارسة ارهاصا بقيام الدولة الفاطمية الشيعية التى تأسست على أنقاض الأغالبة فى تونس ، ثم زحفت الى مصر والشام وأجزاء من العراق ، فى القرن الرابع الهجرى.

3 ـ في كل تلك الحروب بين العلويين والعباسيين فيما بين المغرب الأقصى وأواسط آسيا اشتعلت بينهما الحرب الدعائية التى تعتمد أساسا على الأحاديث. وهنا استدعى العباسيون اسم أبى هريرة ـ بعد موته بقرنين وأكثر ـ وأكثروا من صنع الأحاديث واسنادها اليه فأصبح أكبر راوية فى الدين السنى، وأضافوا اليه جدهم عبد الله بن عباس . ومع انهما معا ـ ابوهريرة وابن عباس ـ أقل الصحابة صحبة للنبى محمد الا إن العباسيين جعلوهما أكبر رواة الأحاديث فى الدين السّنى ، والأكثر شهرة وعلما بين الصحابة.

وفى العصر العباسى الأول ظهر أئمة الفقه ، وكان الفقيه الذى يخرج عن الدولة العباسية مستقلا برأيه يتعرض للاضطهاد كما حدث مع الشافعى ومالك ، وربما يتعرض للسجن والاغتيال كما حدث لأبى حنيفة، وقد قتلته الدولة العباسية وقامت بترويض تلميذية أبى يوسف وأبى الحسن فخدما الدولة العباسية و أسسا مدرسة فقهية ( حكومية ) متجاهلين معاناة واستقلالية استاذهما أبى حنيفة .

العصر العباسى عموما هو الذى شهد تدوين الدين السنى و تلوينه ليواجه الدين الشيعى الذى أتيح له أيضا التدوين والتلوين وسط مناخ ثقافى متسع باتساع الحركة العلمية والانفتاح على الثقافات اليونانية والشرقية.

4 ـ وكانت للتشيع مهارته الكبرى فى التسلل الى دين السّنة باصطناع الرواة والتخفى وراء أسماء الأئمة السنة وبذر أحاديث شيعية الهوى داخل الدين السنى ، وذلك موضوع شرحه يطول. إلا إن مهارتهم الكبرى تجلت فى انشاء فرق جديدة تبدو بعيدة ظاهريا عن التشيع.  بعض هذه الحركات والتيارات ما لبث أن ابتعد عن التشيع ـ منشئه الأصلى ـ بعد أن حظى بأتباع كثيرين. أهم تلك التيارات المعتزلة ثم التصوف.

5 ـ ولد تيار المعتزلة قريبا جدا من التشيع مخاصما للدولة الأموية فاكتسب لقب ( المعتزلة ) الذى يعنى الخروج عن التيار الأساسى للدولة والمجتمع. وبالمناسبة فان ( الرافضة ) من ألقاب التشيع التى سادت فيما بعد وأصبحت علما على الشيعة، واللقبان معا ( المعتزلة والرافضة ) يرمزان الى نظرة الدين السنى السائد الى مخالفيه فى الفكر والعقيدة.وكان أبوحنيفة فى أواخر الدولة الأموية أحد قادة المعتزلة وظل طيلة حياته معاديا لرواة الأحاديث ونسبتها للنبى محمد ، وخصومته مع الأوزاعى وفقهاء العباسيين معروفة.ومهما يكن فقد خرج المعتزلة من حلبة الصراع الدينى وأفسحوا المجال للسنة والتشيع ثم التصوف الدين الأرضى الوافد فى القرن الثالث الهجرى.

الصراع الحربى والدعائى بين دين السنة ودين الشيعة فى العصر العباسى الثانى

( 232 ـ 658 )

 شهد العصر العباسى الثانى ضعف الخلفاء العباسيين وتحكم القوى العسكرية فيهم. وأصبحت الخلافة العباسية مجرد رمز للدين السنى بينما يتحكم فى الدولة قادة وافدون بجحافل عسكرية من أواسط آسيا أتت لبغداد طلبا للسيطرة والسلطان.

بدأ العصر العباسى الثانى بالخليفة المتوكل الذى حكم فيما بين ( 232 ـ 247 ) وهو أسوأ خليفة عباسى فى ميدان التعصب. وقد أسقط العرب والفرس معا من الجندية وأحلّ محلهم الأتراك ، فتلاعب الأتراك بالخلافة والخلفاء فى عصر قوتهم فيما بين ( 232 ـ 334 ) .

ثم سيطر بنو بويه على الدولة العباسية (334 ـ 447 ) وكان هواهم مع الشيعة إلا إنهم خضعوا للخلافة العباسية التى أصبحت رمزا دينيا يمنحهم شرعية سياسية للحكم .  ثم تلاهم السلاجقة ( 329 ـ 552 ) وكانوا متعصبين للدين السّنى فاضطهدوا الحجاج الأوربيين الآتين الى القدس فشجعوا المتعصبين الأوربيين على التنادى الى الحملات الصليبية التى أقامت ممالك لها فى سوريا والعراق وآسيا الصغرى وأسقطت دول السلاجقة فى تلك المناطق .

وغابت الخلافة العباسية بضعفها وانحلالها عن الصراع ضد الصليبيين فقام بالجهاد دول سنية متتابعة ومستقلة فى اطار الخلافة العباسية، وسرعان ما تنهار فيرثها قادة جدد من أتباعها.

بدأ ذلك بقيام دول الأتابكة فى عواصم الشام والعراق على أنقاض السلاجقة. واشتهر عماد الدين زنكى فى الموصل بالحرب ضد الصليبين فاشتهر ، وكان فى الأصل تابعا للملك السلجوقى محمد بن ملك شاه ، فأقام دولة بنى زنكى . وخلفه ابنه نور الدين زنكى فى جهاده ضد الصليبيين . وبرز من قواده آل أيوب ، ومنهم صلاح الدين الأيوبى الذى أقام الدولة الأيوبية على أنقاض الدولة الزنكية وضم اليها مصر بعد القضاء على الدولة الفاطمية فيها. ثم ورث المماليك سادتهم الأيوبيين وأجهزوا عليهم ثم على الوجود الصليبى.

ثالثا :دول التشيع المناوئة للعباسيين فى العصر العباسى الثانى

1 ـ فى العصر العباسى الأول أقام الشيعة دولة الأدارسة فى المغرب الأقصى  فأقام العباسيون دولة الأغالبة فى تونس لتمنع امتداد الدعوة الشيعية الى مصر.

2 ـ فى بداية العصر العباسى الثانى قامت فى مصر دولتان مستقلتان ذاتيا فى اطار التبعية للدولة العباسية هما الدولة الطولونية ( 254 ـ 292 ) ثم الدولة الاخشيدية ( 323 ـ 334 )

3 ــ أثناء الدولة الأخشيدية فى مصر والشام نجح الفاطميون الشيعة فى اقامة خلافتهم فى المهدية بتونس سنة 296 بقيادة عبيد الله المهدى. وساءت الأحوال فى مصر أواخر الدولة الاخشيدية مما سهل على الفاطميين فتح مصر وجعلها مركزا للخلافة الفاطمية ، وأسست القاهرة والأزهر سنة 358 أو 972 ميلادية.

4 ـ وبدأ الصراع بين دينى السنة والشيعة يأخذ مجرى جديدا باقامة ملك الفاطميين فى مصر والشام وتوسعه فى أجزاء من العراق بل فى ضواحى بغداد نفسها حين استطاع البساسيرى دخول بغداد والدعاء فيها للخليفة الفاطمى المستنصر سنة 450 .

5 ــ اضطهد الفاطميون أتباع الدين السنى فى دولتهم ، وكان القتل والصلب جزاء من يعلن دينه السنى أو يضبط متلبسا بحب أبى بكر وعمر. وأسهب المقريزى فى ( الخطط ) فى ذكر أحداث من هذا النوع. ولكن ما لبث أن ضعف الخلفاء الفاطميون وتحكم فيهم وزراؤهم ، وبات من المضحك التوفيق بين مزاعم التأليه التى تحيط بالخليفة الفاطمى وضعفه أمام وزرائه.

6 ــ أدى الصراع مع الصليبيين ومع السنيين سياسيا وعسكريا الى التعجيل باسقاط الدولة الفاطمية ، فقد تنازع شاور وضرغام وزيرا العاضد الفاطمى وتسبب صراعهما فى إحراق الفسطاط ، واعطيا فرصة للصليبيين والزنكيين فى التنافس على الاستيلاء على مصر وخليفتها الفاطمى العاضد المغلوب على أمره . إستعان نور الدين زنكى ــ المسيطر على الشام والذى يتولى حرب الصليبيين ــ بقائده شيريكوه الأيوبى واخيه نجم الدين أيوب وابنه صلاح الدين الأيوبى على إنقاذ مصر من الصليبيين فأصبح شيريكوه الأيوبى وزيرا للعاضد الفاطمى وفى نفس الوقت تابعا للدولة الزنكية السنية التى تدين بالولاء للخليفة العباسى. مات شيريكوه وتولى ابن أخيه صلاح الدين الأيوبى فقام بحلّ المشكلة بقتل الخليفة العاضد وسجن ذريته وإلغاء الخطبة للفاطميين واعلان تبعية مصر للخلافة العباسية . وأقام صلاح الدين فى مصر والشام الدولة الأيوبية ( 567 ـ 648 ).

7 ــ وقبل سقوطها كانت الدولة الفاطمية قد أفرزت أكبر عنصر تخريب أرعب الناس نحو قرن ونصف قرن من الزمان. انها طائفة الباطنية أو الحشاشين الذين أنشأهم الحسن الصباح فى قلعة آلموت فى قزوين فى أواسط آسيا. كان الحسن الصباح فى مصر حين توفى الخليفة الفاطمى المستنصر487 . وتدخل الوزير الأفضل ونقل ولاية العهد من نزار الى أخيه الأصغر المستعلى مخالفا عقيدة الشيعة فى كون الامامة بالنّص. ترتب على هذا انقسام التشيع الفاطمى الاسماعيلى الى نزارية ومستعلية. وتزعم الحسن الصباح جبهة المعارضة النزارية مفارقا مصر ، ثم استولى بالحيلة على قلعة آلموت وربّى فيها أتباعه الفداوية أو الفدائيين الانتحاريين، وكان يرسلهم لاغتيال خصومه من السلاطين والخلفاء والوزراء والفقهاء والصليبيين. واستمر الباطنية ينشرون الرعب بين المحمديين والصليبيين الى أن اجتثهم هولاكو أثناء زحفه الى بغداد. وقد استيقظ صلاح الدين من نومه ليجد خنجرا تحت وسادته جاء تحذيرا له من الباطنية. وبسبب شهرتهم فى الاغتيالات السياسية فقد اشتق الصليبيون كلمة الاغتيال من اسم الحشاشين فقالوا (Assasination).

أخيرا : إختراع التصوف السنى بديلا للتشيع فىى مصر

1 ــ كل ذلك كان حاثا لصلاح الدين الأيوبى على مواجهة التشيع فكريا بعد القضاء على الدولة الفاطمية سياسيا.ونجح صلاح الدين فى مواجهة التشيع باختراع مزيج من دينى السنة والتصوف ، هو التصوف السنى.

2 ــوبينما سقطت كل تلك الدول من عباسية وسلجوقية وأيوبية ومملوكية وعثمانية..الخ، فان الذى بقى هو الدين السنى الصوفى أو ما يعرف بالتصوف السنى الذى أرساه صلاح الدين الأيوبى( ت 589 ) ولا يزال دينا للأغلبية من المحمديين حتى الآن .

3 ــ وقبل الدخول فى توضيح التصوف السنى وتوضيح للمسرح السياسى الذى تمت فيه ولادته وانتشاره نعطى فكرة سريعة عن دين التصوف وعلاقته بالاسلام.

 

لمحة عن دين التصوف من بدايته الى سيادته تحت مسمى التصوف السُّنّى

 مقدمة :

1 ـ دين السُّنّة ظهر وتبلور فى ركاب الخلفاء القرشيين يعبّر عن التسلّط والهيمنة والسيطرة والحكم . وظهر وتبلور الدين الشيعى معبرا عن الثقافة الفارسية الشعوبية وحقدها على خلفاء الفتوحات أبى بكر وعمر وعثمان والأمويين ومن إنحاز اليهم ، ومن عادى عليا بن أبى طالب . ثم ظهر ونشأ وتطور دين التصوف يعبر عن عقائد العوام ، من أبناء أهل الكتاب الذين دخلوا فى الاسلام وقد ترسّخ لديهم تقديس البشر والحجر وإسباغ الصفات الالهية عليهم من علم الغيب والتصرّف فى العالم بالمعجزات والكرامات والشفاعة يوم الدين . ولكى يقدس الصوفية أولياءهم من العوام فقد جعلوا كبار الآلهة عندهم هم أبرز الآلهة فى دينى السُّنّة والتشيع ، أى تقديس آل البيت بالمفهوم الشيعى والخلفاء الراشدين وكل الصحابة بالمفهوم السُّنى ، ثم إلحاق أولياء التصوف العوام عن طريق انتحال النسب العلوى ( الأشراف ) .

2 ـ وسبق لنا هنا نشر موسوعة التصوف المملوكى .ونوجز منها إشارات عن التصوف وتطوه.

 أولا : تناقض التصوف مع الاسلام 

1ـ  بداية الاختلاف فى أساس التشريع

 فى الإسلام: أساس التشريع لله جل وعلا وحده، والقرآن الكريم يحكم على النبى والمسلمين.   أما التصوففالشيخ الصوفى هو المشرع لأتباعه حسبما يوجهه هواه أو ذوقه أو حاله ، وهم يضفونعلى ذلك التشريع البشرى سمة الشرعية بدعوى أن الصوفى أوتى الكشف أو العلماللدنى من الله أو الوحى الألهى، مع أنه لا وحى فى الدين بعد اكتمال نزول القرآن .

وأضفاء الوحى وعلم الغيب والمعجزات والشفاعة إلى الشيخ الصوفى معناه تأليهه وعبادته وطلب المدد أو العون منه . وهذا كله لا يكون إلا لله تعالى وحده ، دون النبى محمد نفسه.

2 ـ الاختلاف الرئيس : تأليه الشيخ الصوفى

 فى الاسلام يكون لله وحده علم الغيب والشفاعة والتصريف فى الدنيا والآخرة ، إلا أننا لانجد صوفيا إلا وادعى لنفسه أو لشيخه لوازم التصوف من الولاية والكرامات والعلماللدنى ودعا الآخرين للاعتقاد فيه ، مع أن الاعتقاد لا يكون الا فى الله وحده إلها ووليا مقدسا لا شريك له، نطلب منه وحده جل وعلا المدد والعون .

3 ــ العقيدة هى ذروة الاختلاف بين الإسلام والتصوف

  عقيدة الإسلام لا إله إلا الله ، والله الاله الواحد، لا يشبه أحدا من خلقه ، ولا يشبهه احد من خلقه ( ليس كمثله شىء)  (الشورى 11 )  وصفات ال له لايوصف بها غيره ، فالله واحد فى ذاته ، واحد فى صفاته ، إذا هو أحد متفرد عن باقى خلقه( قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد).

أما عقيدة التصوفالحقيقية فهى (لا موجود إلا الله )  أو ما يعرف بوحدة الوجود والتى تعنى أن العالم جزء من الله، أو أنه هو عين الله ، أو أنّه لا فارق بين الخالق والمخلوق ، وأن الخلق امتداد وفيض من الخالق ، وأن علاقة الخالق والمخلوق  كمثل البحر وأمواجه ، وأن الصوفى الحق هو الذى يدرك ذلك ويهتكالحجاب ويعلن اتحاده بالله أوحلول الله فيه . وبالقطع فهذ العقيدة تناقض عقيدة القرآن .

التصوف والقرآن الكريم ودين السُّنة

1ـ  لفظ التصوف لم يرد فى القرأن الكريم ، اللهم إلا إشارة للرهبنة(57 /27)، وهى  ليست فى صالح المتصوفة الذين يحاولون ربط التصوف بالرهبنة والزهد.

2 ـ ولم يجرؤ مؤلفو الأحاديث المزيفة على كتابة حديث واحد ينسبونه للنبى محمد عليه السلام فيه لفظ التصوف  لعلمهم أن كلمة التصوف لم يعرفها عصر النبى محمد ،فاكتفوا بوضع أحاديث فيها لفظ الفقر والفقراء، حيث كان الفقر من مصطلحات التصوف ويدل عرفا على الصوفية وقتئذ، مع دلالة الفقر على الاحتياج للمال فى كل عصر.

3 ــ وقد ورد لفظ التصوف لأول مرة فى التراث العربى فى كتاب الجاحظ ( البيانوالتبيين). وقد توفى الجاحظ عام 255 هجرية .

4 ــ وقد كان ابن خلدون أقرب للصواب حين قال عن التصوف فى ( المقدمة ) (أنه من العلومالحادثة فى الملة )، وخطأ ابن خلدون فى أنه اعتبر التصوف علما ، وليس التصوف علما حيث لا عقل فيه ولا منهج ، وإنما هو ذوق وهوى، ودين جديد  يخالف الإسلام ، وقدظهر بعده بقرنين .

نوعا التصوف

1- والتصوف نوعان : دينى و فلسفى ، وإذا كان التصوف الدينى يناقض دين الإسلام الذى لا مجال فيه لتقديس غير الله ، فإنالتصوف الفلسفى مرفوض أيضا، لأن الفلسفة الدينية للتصوف  تعزز بالجدل عقائد وحدة الوجود ومقولات التصوف الدينى.

2 ـ  ولأنه دين جديد فقد أدخل التصوف مصطلحات دينية مستحدثة فى الحياة الدينيةللمحمديين لم تكن معروفة من قبل .ومن المصطلحات الدينية الجديدة التى استحدثها دين التصوف : الكرامة ، المريد، المقام ،الوقت  الحال ، القبض ، الصحو والسكر ، الذوق  الشرب ، المحو والإثبات ، الستر والتجلي،المحاضرة والمكاشفة ، الحقيقة والطريقة ، الوارد، الشاهد، السر، المجاهدة ، الخلوة ، الزهد،الولاية ، .. إلخ ، ولكل منها مدلول  فى دين التصوف ، وسطرت فى ذلك الكتب ،وبالطبع هم مختلفون فى معناها وعددها.

وبعض هذ الألفاظ كان مستعملا فى الإسلام بغير ما يقصده الصوفية ، إلا أنهمأولوها وأستحدثوا لها مدلولات جديدة تخرج عن الإسلام مثل (الولى والولاية ).

3 ــ وموضوعات التصوف الدينى والفلسفى  تتمثل فى الشطحات ،وأحوال الفناء والحلولوالاتحاد والتحقق بالحق ، والاشراق ، وهى تخرج عن نطاق الإسلام .

4 ـ عقائد التصوف ثابتة،ولكن التعبير عنها يتراوح بين صراحة بعض الصوفية ،أو نفاق بعضهم ، لذا هناك من أعلن دينه الصوفى معلنابالصريح تأليه نفسه أو أنه جزء من الله أو أنه هو الله أو أن الله تعالى قد حلّ فيه، وهناك من ألمح وقال بالاشارة والرمز، يستوى فى ذلك إذا كان التصوف فى بدايته أو فى أثناء قوته وسطوته.

ثانيا : كيف ظهر دين (التصوف السنى ) وكيف ساد وانتشر ؟

 1 ـ فى فترة حكم المتوكل ومن خلفه حيث تحكم القواد الأتراك ( 232 ـ 334 ) زاد نفوذ الحنابلة ـ وهم أشد السنيين تعصبا ـ وسيطروا علي الشارع ، واضطهدوا المعتزلة وكل من يخالفهم فى الرأى . فى نفس الوقت تكاثر أئمة الكذب على الله تعالى ورسوله ، وتتابعت كتبهم تؤطر للدين السنى بزعم ان ما تكتبه هو وحى سماوى تنسبه للنبى محمد عليه السلام بعد موته بأكثر من قرنين. هذا ما ارتكبه ابن حنبل ت 241 والبخارى 256 ومسلم 261 وأبو داود  275 والترمذى 178 والنسائى 303 وابن ماجه 275 . وقد أصبحوا فى العصور اللاحقة وحتى اليوم آلهة معصومة من الخطأ فى الدين السّنى ، لا يجوز الاقتراب منهم الا بالمدح والتبجيل ، ومصير من ينتقدهم أو يناقشهم هو الاتهام بالكفر بالدين السّنى أو ( انكار السّنة ). ابن حنبل فلم يكن فقيها وانما كان من أصحاب الحديث وكانت مؤلفاته فى الحديث فقط ، وحتى لم يرتبها ترتيبا فقهيا مثلما فعل البخارى ومسلم وغيرهما. ولكن نفوذ الحنابلة جعله اماما فى الفقه واسس له مدرسة فقهية لا تزال سارية، ومنها نبعت الوهابية فى العصر الحديث.

2 ـ وكان التصوف وقتها يخطو خطواته الاولي ،ولكن لاحقت الدولة العباسية اربابه بالمحاكمات ،واشهرها محاكمة سمنون الذي اعتقل فيها كل ارباب التصوف فأظهروا التقية ،الا ان الدولة العباسية قتلت الحلاج سنة309 بسبب صراحته في اعلان عقيدته والشكوك السياسية التي احاطت به ،حيث اتهم بالتشيع والعمل مع القرامطة الثائرين على الدولة العباسية .وكان ذلك في خلافة المقتدر العباسي (295-320)(908 - 932)[ المنتظم13/201].

ظهر التصوف من جيب الساحر الشيعى ، حيث كان معروف الكرخى مسيحيا ثم أسلم وصار شيعيا من أتباع العلويين ثم بدأ يتكلم فى التصوف مبكرا. جاء المتوكل فاضطهد آباء التصوف الأوائل الآتين بعد معروف الكرخى ، وفى ( فتنة سمنون ) اعتقل المتوكل كل أئمة التصوف من مصر ( ذو النون المصرى ) والعراق ( الجنيد ) وغيرهم. وفى أثناء ثورات القرامطة اعتقلت السلطات العباسية الحلاج سنة 301.وبعد جدل سياسى أعدموه سنة 309 .

هذه الهجمة العنيفة على دين التصوف الوليد جعل الجنيد ( سيد الطائفة ) يختفى ويتستر بتدريس الفقه السنى وينهى أتباعه عن مطالعة كتب ( التوحيد الخاص  ـ يعنى التصوف ـ إلا بين المؤمنين به، ). ويقول فى دروسه العلنية( مذهبنا هذا مقيد بأصول الكتاب والسنة ) ( ومن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به  فى هذا الأمر) أى لا يصبح شيخا صوفيا. إلا أنه ـ وحسبما ذكر الشعرانى فى ترجمته فى الطبقات الكبرى  كان لا يتكلم فى التصوف الا بين من يثق فيهم من تلامذته وبعد أن يغلق أبواب داره ويضع المفاتيح تحت وركه ويقول : أتحبون أن يكذّب الناس أولياء الله تعالى وخاصّته ويرمونهم بالكفر والزندقة ؟.

 فى نفس الوقت هدم العباسيون ضريح الحسين فى كربلاء واضطهدوا الشيعة وألزموا النصارى واليهود بزى معين للتحقير.هذا هو كشف حساب الدين السنى فى عصر المتوكل وخلفائه.

3 ـ ودفعت الدولة العباسية الثمن سريعا اذ سيطر عليها بنو بويه الشيعة وأذاقوا الخلفاء العباسيين النكال مع انهم كانوا يحكمون باسمهم.

 فى فترة بنى بويه ( 334 ـ 447 ) الكارهين للدين السنى  لم يظهر أئمة فى الدين السنى يتفوقون على أساتذتهم البخارى ومسلم وغيرهم، بل على العكس تشجع الشيعة فى شمال أفريقيا ففتحوا مصرسنة 358  وتحولت الى مركز للدعوة الشيعية. ولم يجد الفاطميون صعوبات كبيرة فى نشر دينهم فى الشام وضمه اليهم ـ وقد كان تابعا للعباسيين ـ اذ كان بنو بويه فى بغداد  لا يمانعون. أى حوصر الدين السّنى بين بنى بويه فى بغداد والفاطميين فى مصر والشام وأجزاء من العراق نفسه. واستفاد التصوف من محنة الدين السنى وغلبة الدين الشيعى فانتشر ونما على المستوى النظرى الفلسفى والمستوى الشعبى الميدانى.

4 ـ ثم تغير الحال لصالح دين السنة بمجىء الأتراك السلاجقة المتعصبين للدين السنى. ولكن فى فترة حكمهم ( 329 ـ 552 ) كان التصوف قد نما و لم يعد بالوسع القضاء عليه. فلم يعد من طريق أمام السنيين الا بالتصالح معه واحتوائه.

5 ـ فى هذه الفترة عاش القشيرى ( 376 ـ 465 ) مهندس ما يسمى بالتصوف المعتدل الذى سار على منوال الجنيد فى التقية. وقد كتب القشيرى رسالته المشهورة فى الدفاع عن التصوف وقام بالهجوم على رعاع الصوفية المنتشرين فى عهده ليسحب البساط من تحت أقدام الحنابلة المتشددين وليقنعهم بمقولة التصوف الملتزم بدين السّنة وفق ما قاله الجنيد من قبل.

وفى مقدمة رسالته هاجم القشيرى جماعات الصوفية فى عهده ورماهم باعتناق عقائد الحلول بالله تعالى و زعمهم اتحادهم به ، واسقاط الفرائض الاسلامية والوقوع فى الزنا والشذوذ على أنها مما يقربهم الى الله زلفى!!. والغريب أنه فى باقى الكتاب يقرر نفس العقائد والسلوكيات بصورة غير مباشرة ومدافعا عن شيوخ التصوف السابقين الذين قالوا نفس الشىء.

وصارت طريقة مرعية لمدعى الاعتدال من الصوفية بعد القشيرى أن يهاجموا المعاصرين من شيوخ التصوف وان يدافعوا عن الشيوخ السابقين وأن يقرروا نفس العقائد والسلوكيات الصوفية فى سطور جانبية أو مؤلفات جانبية يقولون أنها فى علم المكاشفات لا يفهمها الا الواصلون من ( أرباب الحقائق ).

ومن يراجع تاريخ المنتظم لابن الجوزي الفقيه الحنبلى يجد نفوذ الحنابلة نافذا من عهد المتوكل الي أن تقهقر تدريجيا حيث عاش ابن الجوزى نفسه فى القرن السادس الهجرى ليشهد تغير الاحوال واشتداد عود التصوف في مواجهة الحنابلة ،وبعد ان كان الحنابلة يضطهدون التصوف نرى ابن الجوزي يكتب (تلبيس ابليس) يهاجم الصوفية في اكثر ابوابه ويتحسر كيف اصبح فقهاء الحنابلة يدخلون مؤسسات التصوف وكيف اصطلح الذئب الحنبلي علي الغنم الصوفي (تلبيس ابليس :164،166،167.القاهرة ـ بدون تاريخ).

وكان هذا ارهاصا ببداية عهد نفوذ التصوف وولادة ( التصوف السُّنّى )

6 ــ ولادة التصوف السُّنى الفكرية كانت ثمرة لجهد الغزالى ت  505 ، وكان اكبر فقيه وأكبر صوفى فى العصر العباسى السلجوقى. وفى كتابه المشهور(احياء علوم الدين)مزج فيه الفقه ( المعبر عن الدين السنى ) بالتصوف ، وبعثر عقائد التصوف بين سطور الاحياء ، ثم أفرد لها كتابه ( مشكاة الأنوار ) الذى أكد فيه عقائد الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. وعلى نفس الطريق سار آخرون كان آخرهم فى القرن التاسع الهجرى ـــ السادس عشر الميلادى ــ عبد الوهاب الشعرانى الذى عاصر نهاية العصر المملوكى وصدرا من العصر العثمانى ( 898 ـ 973 ) وظلت مؤلفاته الكثيرة مهيمنة على عقلية الأزهر طيلة العصر العثمانى.

 نعود للعصر السلجوقى السنى وقد كان أبو حامد الغزالى فيه زعيم الفقهاء والصوفية معا، مع انحيازه للتصوف على حساب الفقه. كان الغزالى مؤمنا بفلسفة الاشراق الاغريقية والتى تعنى فيض العلم اللدنى الالهى على العارف أو الولى الصوفى عن طريق الرياضات الروحية. وهذه الفلسفة الأفلوطينية الحديثة كانت فى صراع مع الفلسفة العقلية لأرسطو. وورث الغزالى عداء الفلسفة الأرسطية وأتباعها من المعتزلة وغيرهم من فلاسفة المسلمين ، وهاجمهم فى كتبه داعيا الى وقف الاجتهاد العقلى وأنه ( ليس فى الامكان أبدع مما كان ) ثم هاجم برفق شيوخ الدين الصوفى الذين يعلنون عقائد الحلول والاتحاد .

هوجم الغزالى بقسوة مما جعله يؤلف كتابه ( اشكالات الاحياء ) ليدافع عن كتابه، إلا إن جهده فى النهاية أسفر عن تقرير التصوف كمبدأ وحصر الانكار على بعض أشخاص من الصوفية المتطرفين. وهذا ما سار عليه شيوخ الدين السنى بعد عصر الغزالى وهم الذين  توارثوا الاحتفاء بالغزالى بعد موته وأطلقوا عليه لقب ( حجة الاسلام ) كما لو أن الاسلام تركه خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام بلا قرآن وبلا حجة طيلة خمسة قرون الى أن جاء الغزالى.

بالغزالى تمت فى عصر السلاجقة العباسى ولادة ( التصوف السنى ) فكريا وثقافيا، واصبح الدين المستنسخ من التصوف والسنة محتاجا الى رعاية سياسية ليصمد أمام التشيع و دعاته من الفداوية او الباطنية الحشاشين الذين سبقوا عصرهم فى غسيل مخ الأتباع بحيث ينتحر أحدهم طاعة للأوامر.

7 ـ وهنا جاء دور صلاح الدين الأيوبى المتوفى سنة 589، وعلى يديه تمت الولادة السياسية للتصوف السنى.هناك جانبان غامضان فى شخصية صلاح الدين الأيوبى يفسرهما هذا السياق عن الصراع بين دينى السنة والتشيع.

الأول ان صلاح الدين سبق الجميع فى استعمال الحرب الفكرية فى مواجهة الدولة الأيدلوجية التى تقوم على عقيدة معينة ولا يكفى القضاء عليها عسكريا وسياسيا بل لا بد من مطاردة عقائدها الدينية بعقائد أخرى تتداخل معها وتعارضها فى نفس الوقت. الغريب أن من جاء بعد صلاح الدين لم يفعل مثله. الوالى محمد على باشا الذى قضى على الدولة السعودية الأولى عسكريا سنة 1818م اكتفى بذلك وترك العقيدة الوهابية تنمو وتعيد أقامة الدولة السعودية الثانية، ثم الثالثة الحالية. عبد الناصر الذى قضى على الاخوان المسلمين ـ وهم صناعة وهابية سعودية ـ اكتفى بوضعهم فى السجون تاركا الفكر الوهابى حرا طليقا بدون نقاش. مما أسهم فى مساعدة الاخوان حين عادوا فى عصر السادات ، فاستطاعوا فى مدة قصيرة التحكم فى العقلية الدينية وتوجيهها لمصلحتهم. هؤلاء القادة العسكريون من محمد على باشا الى عبد الناصر الى جنرالات الأمريكان فى عصرنا لم يبلغوا عبقرية صلاح الدين الأيوبى فى استعمال الحرب الفكرية ضد عدو سياسى يقوم على دين معين أو يستخدم ايدلوجية معينة.

 الجانب الآخر الغامض فى شخصية صلاح الدين هى تسامحه مع الصليبيين فى حروبه بحيث كان يطلق سراح الأسرى منهم بالآلاف ويعطيهم الفرصة للدخول فى حرب أخرى ضده ، وفى نفس الوقت كان لا يتسامح مع الشيعة او الصوفية المتطرفين .

حين بنى جوهر الصقلى القاهرة لتكون عاصمة للدين الشيعى بنى أيضا الأزهر قاعدة لدين التشيع فى الحرب الفكرية ضد الدين السنى. وبعد الغاء الخلافة الفاطمية انتقم  صلاح الدين الأيوبى لدينه السنى باغلاق الأزهر وانشاء خانقاه سعيد السعداء لتعيد نشر الدين السنى المختلط بالدين الصوفى الصاعد وقتها، واستورد صوفية سنيين وجعل لهم شعائر دينية تجتذب اهتمام المصريين وتبعدهم عن الدين الشيعى .لم يكن هذا حبا فى التصوف بدليل أنه سنة 587 قتل شهاب الدين  السهرودى فيلسوف الاشراق وزعيم التصوف المتطرف. كان هدف صلاح الدين ارساء معالم الدين المستنسخ الجديد المعروف بالتصوف السنى والذى لا مجال فيه لمتطرفى التصوف أو متطرفى الحنابلة فى نفس الوقت.

8 ـ بعد صلاح الدين تم تطبيق الدين الجديد ( التصوف السنى ) بمقولة الجمع بين الحقيقة والشريعة، أى الحرص على وجود (الحقيقة) أو العقيدة الصوفية على أساس أنها خاصة بالعارفين من الأولياء أصحاب العلم اللدنى ، وانه محظور على غيرهم التكلم فيها أو الاعتراض عليها،مع الحرص على (الشريعة ) أى التمسك بالمذاهب الفقهية الأربعة فى الفروع أو العبادات.

وتسامح السنة فى تقديس شيوخ التصوف ( المعتدلين ) واعتبارهم أولياء الله، كما اعترف الصوفية بتقديس أئمة المذاهب الفقهية الأربعة وجعلوا لهم مناقب وكرامات مثل المعهود لشيوخ التصوف. وانضم الى قائمة التقديس آل البيت والصحابة جميعا خلافا للشيعة الذين يقولون بكفر أبى بكر وعمر وعثمان وسائر من يبغضهم الشيعة من كبار الصحابة.

9 ـ انتشار دين التصوف السُّنّى منذ القرن  السادس الهجري

من العوامل التي ساعدت علي انتشار التصوف السنى وتسيده ضعف الحكام وظلمهم وشقاقهم فيما بينهم من سلاجقة وايوبيين الي ان ورثهم المماليك الذين تفوقوا علي الجميع في الظلم والقسوة . وهذا الصنف من الحكام لا يستريح الي فقيه حنبلي يقول له افعل أو لا تفعل ويسيطر على الشارع بحديث ( من رأى منكم منكرا فليغيره ) لأنه لا يعرف سوي العنف والسيف ويريد رجل دين ينافقه ويوافقه وينشر السلبية و( عدم الاعتراض ) والخنوع والخضوع للمستبد ويعتبر ظلمه عقابا الاهيا للرعية . ومن هنا وجد الحكام الظالمون ضالتهم في الصوفية الذين يجيدون فن الدعاء للحاكم وتقعيد اسلوب النفاق له .

وتقرب الصوفية للعوام بكل الطرق فلم يعد التبحر في العلم طريقا للولاية و انما مجرد الادعاء بالعلم اللدني والكرامات يفتح الابواب لكل طموح من العوام ليكون شيخا صوفيا طالما وجد من يصدقه من المريدين والاتباع .

والعوام يجدون لدي التصوف كل ما يريدون اذا صاروا أتباعا للشيوخ الصوفية ، فاصحاب الهوى في الانحلال الطبيعي والشاذ يجدون مسوغا دينيا لدي الصوفية يحل لهم ما يشاءون، وهواة الغناء والرقص يجدون مجالا لهم في الحفلات والموالد الصوفية ، وهواة المآدب والطعام والرحلات يجدون ما يريدون خلال الموالد والنذور والسياحة الصوفية، ثم في النهاية يجد العوام طريقا بسيطا للتدين خلال  ما تعوده اسلافهم وهو تجسيد الاله في قبر مقدس (ضريح ) وفي شيخ مقدس حي او ميت ، ويعتقد انه يدخل الجنة من  خلال علاقته المادية المباشرة بذلك الاله المادي الذي يراه ويلمسه .أما المثقفون من الفقهاء فقد ضعف مستواهم العلمي بقدر ما زاد خضوعهم للسلطة القائمة ورأوا مصلحتهم في مسايرة الوقت.

10 ـ الطرق الصوفية

تحول التصوف النظرى الفلسفى المحصور بين النخبة الي طرق صوفية شعبية متعددة ومتفرعة ومتزايدة، سندها الأساس سلاسل من العهد عبر الشيوخ، يزعمون انها انتقلت الي الشيخ الحالي من السابقين عبر الزمن الي ان تصل الي (علي )ابن ابي طالب ثم الي النبي ثم الي جبريل ثم الي الله تعالي ، وهو نفس النسق الذي اعتمده الدين السني في تزييف  الاحاديث عبر سلاسل الرواة من شيخ معاصر الي النبي او الي الله تعالي في الحديث القدسي .

وادت كثرة الطرق الصوفية وتشعبها وسهولة تكوينها الي ان انتظم في سلك التصوف الجميع بالاعتقاد او بالاسترزاق من العوام والفلاحين الي الفقهاء والامراء والسلاطين، واصبح التصوف هو الدين الواقعي المتسلط في بلاد ( المسلمين ) وحل فى المركز الأول محل الدينين السني والشيعي .

11 ــ سطوة التصوف السُّنّى على دين السُنّة

وإذا كان التصوف في حقيقته ابنا للتشيع متفقا معه في الأساسات وبعض الشكليات وتقديس الأئمة من آل البيت فانه لم يضف جديدا للدين الشيعي، ولكنه حين ساد في عالم الدين السني فانه في الحقيقة سلب الدين السني ابرز خصائصه، واصبح مصطلح السنة مجرد شعار سياسي تتمسك به الدولة المملوكية التي تأخذ شرعيتها السياسية من وجود خليفة عباسي ضمن حاشية السلطان بعد تدمير الدولة العباسية علي يد المغول. ومن هنا أصبح مصطلح السنة مجرد واجهة تواجه بها الدولة المملوكية اعداءها الشيعة ، بالاضافة الى انهم جعلوا السنة خاصة بالعبادات أو" الشريعة " مقابل " الحقيقة " أى  العقائد الصوفية من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود التى تناقض عقيدة الاسلام .

عقائد السنة التي فهمها ائمة الفقه السني تخالف عقائد التصوف ، بل ان ائمة الفقه السني الذين شهدوا بدايات التصوف انكروا عليه مثل الشافعي وابن حنبل ، واكثر من هذا حارب الحنابلة اللاحقون التصوف في ما بين القرن الثالث الي الخامس من الهجرة .ولكن أتيح للتصوف فى العصر المملوكى أن يتسيد الحياة الدينية للمحمديين ، وهذا ما سنتوقف معه فى الفصل التالى.

 

نماذج تاريخية واقعية للأديان الأرضية فى العصر العباسى

 مقدمة :

1 ـ ما نسميه بالديانات الأرضية كانوا يسمونه ( الملل والنحل ) . وهو باب للّاهوت ، أو ما أطلق عليه فيما بعد ( علم التوحيد ) أو ( أصول الدين ) ، وهو الذى يبحث فى العقائد والاختلافات فيها ، والتى تشعبت وتأسست عليها أديان أرضية أو على حد قولهم ( ملل ونحل )

2 ـ أول من كتب فى الملل والنحل هو الامام أبو الحسن الأشعرى  ت 330 فى كتابه المشهور ( مقالات الاسلاميين وإختلاف المُصليين ) ، ثم تبعه أبو الحسين محمد بن احمد الملطى  ت 377 . ثم كتب الامام ابن حزم الظاهرى الاندلسى ت 456 كتابه ( الفصل فى الملل والأهواء والنحل ) وتابعه الشهرستانى ت 548 فى كتابه ( الملل والنحل ) .

أولئك كانوا من السنيين ، كتبوا عن ملتهم السُنية يناضلون عنها كما كتبوا عن ملل وأديان غيرهم ينقدونها . ولم يتيسر لنا أن نتعرّف على صحّة نقلهم لآراء خصومهم . ربما يقوم بذلك باحثون من الشباب .

3 ـ ونعطى نماذج تاريخية واقعية للأديان الأرضية فى العصر العباسى من خلال كتاب( التنبيه والرد ) للملطى فى القرن الرابع الهجرى عن أشهر الأديان الثلاثة فى عصره فى كتابه ( التبيه والرد على أهل الأهواء والبدع )، والمؤلف :- محمد بن أحمد بن عبدالرحمن. فقيه شافعى من رواة الحديث . توفى فى عسقلان سنة 377 هـــ . والكتاب :- من أقدم المصادر فى أحوال الفرق والنحل والملل ، وذكر ما لم تذكره باقى كتب الملل والنحل ، ومنهجه أنه يذكر الفرقة وآرائها ومعتقداتها ويرد عليها من خلال دينه السنى . وواضح أنه ينقل آراء تلك الملل من الشائع فى عصره عنهم سواء من أدلتهم وتأويلاتهم أو مما يمارسونه من سلوكيات مرتبطة بمعتقداتهم .

أولا : 

يقول الملطى عن عقيدة دين السنة: 

( قال محمد بن عكاشة رحمه الله : أن معاوية بن حماد الكرماتى ، عن الزهرى قال ( من اغتسل ليلة الجمعة وصلى ركعتين قرأ فيهما : ( قل هو الله أحد ) ألف مرة رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى منامه . قال محمد بن عكاشة قدمت عليه ليلة جمعة  أصلى الركعتين أقرأ فيهما أقرأ فيهما ( قل هو الله أحد ) ألف مرة طمعا أن أرى النبى صلى الله عليه وسلم فى منامى فأعرض عليه هذه الأصول، فأتت على ليلة باردة فاغتسلت وصليت ركعتين ثم أخذت مضجعى فأصابنى حلم ، فقمت ثانية وصليت ركعتين ، وفرغت منهما تقريبا قبل الفجر فاستندت إلى الحائط ووجهى إلى القبلة إذ دخل على النبى صلى الله عليه وسلم ووجهه كالقمر ليلة البدر ، وعنقه كأبريق فضة فيه قضبان الذهب على النعت والصفة ، وعليه بردتان من هذه البرود اليمانية قد إتزر بواحدة وارتدى بأخرى ، فجاء واستوفز على رجله اليمنى وأقام اليسرى ، فأردت أن أقول : حياك الله فبادرنى وقال : حياك الله ، وكنت أحب أن أرى رباعيته ـ أى سنته الرابعة ـ المكسورة فتبسم فنظرت إلى رباعيته فقلت يا رسول الله إن الفقهاء والعلماء قد اختلفوا ..وعندى أصول السنة أعرضها عليك فقال: نعم ، فقلت :- الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله والصبر على حكم الله، والأخذ بما أمر الله والنهى عما نهى الله عنه والإخلاص بالعمل لله ، والإيمان بالقدر خيره وشره من الله ، وترك المراء والجدال والخصومات فى الدين ، والمسح على الخفين ، والجهاد مع أهل القبلة ، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة ، والإيمان يزيد وينقص قول وعمل ، والقرآن كلام الله، والصبر تحت لواء السلطان على ما كان فيه من جور وعدل ، ولا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا ، ولا ينزل أحد من أهل التوحيد جنة ولا نارا ، ولا يكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب وإن عملوا الكبائر ، والكف عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. فلما أتيت : والكف عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بكى حتى علا صوته – وأفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علىّ ، قال محمد بن عكاشة : فقلت فى نفسى:" علىّ إبن عمه وختنه" فتبسم عليه السلام كأنه علم ما فى نفسى. قال محمد:قدمت ثلاث ليا متواليات أعرض عليه هذه الأصول، وعيناه تهملان بالدموع قال : فوجدت حلاوة فى قلبى وفمى فمكنت ثلاث ليال لا آكل طعاما  ولا أشرب شرابا حتى ضعفت عن صلاة الفريضة فلما أكلت ذهبت تلك الحلاوة ، وكفى بالله شهيدا )) التنبيه والرد : 15-17

التعليق :-

هنا نرى الملطى يدافع عن دينه السنى بالإسناد والوحى الكاذب ؛ فهو يروى روايه يذكرها عن محمد بن عكاشة الذى يقول أنه أخبره معاوية بن حماد الكرمانى الذى يروى عن الزهرى ثم يزعم الزهرى أن من أغتسل ليلة الجمعة وصلى ركعتين يقرأ فيهما ألف مرة سورة " قل هو الله أحد " يستطيع أن يرى النبى محمد فى منامه . وقد فعل محمد بن عكاشة ذلك فرأى النبى فى المنام ، فسأله عن أصول دين أهل السنة وأخذ منه الإجابة .وبذلك الإسناد فى الرواية وبالمنام الذى يتضمن وحيا جاء من النبى يقيم محمد بن عكاشة والملطى أسس الدين السنى .وأسس الدين السنى بهذا تستند ليس إلى  القرآن الكريم . فلم يرد فيما قاله الملطى  آية قرآنية، ولكنها تقوم ردا على الأديان الأخرى مستندة على أكاذيب منسوبة للنبى محمد على أنه قالها لأحدهم فى المنام .

وبالنظرة السريعة إلى أصول السنة نراها ردا على القدرية والمعتزلة والخوارج والشيعة ..

القدرية كانوا يقولون بمسئولية الإنسان على أفعاله الظالمة حتى لا يتحجج الحاكم بأن الظلم الذى يرتكبه قد أراده الله تعالى وقدره سلفا .ويرد الملطى عليهم بأن أصول السنة هى " الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله تعالى والصبر على حكم الله ... والإيمان بالقدر خيره وشره من الله " وبناءا عليه فإن أى ظلم يقع لابد من التسليم به لأنه من الله .ثم يؤكد على براءة السلطان من الظلم ويأمر بالصبر " تحت لواء السلطان على ما كان فيه من جور وعدل ولا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا." والواضح هنا أن دين السنة يعبر عن السلطان الظالم الحاكم.

وفى الرد على الخوارج يقول: " النهى عن الخروج على السلطان مهما بلغ جوره . وعدم تكفير المسلم العاصى الذى يرتكب كبائر الذنوب "

وفى الرد على الشيعة " النهى على سب الصحابة ويؤكد على أفضلية الصحابة وفق ترتيب الخلفاء الراشدين بأن يكون ( علىً ) فى المؤخرة وتفضيل ( عثمان ) عليه .

ولا ينسى أن يجعل من أسس الدين السنى المسح على الخفين ( الحذاء ) وهو ابتداع جديد جاء به التشريع فى الدين السنى ولم يرد فى القرآن الكريم .

ثانيا :

ويقول الملطى عن التشيع وطوائفه ويسميهم الرافضة وأهل الضلال :

(إن أهل الضلال الرافضة ثمانى عشر فرقة يتلقبون بالإمامية . وأنا أذكرها إن شاء الله على رتبها:

فأولهم الفرقة الغالية من السبئية وغيرهم ، وهم أصحاب عبدالله بن سبأ ، قالوا لعلى عليه السلام : أنت أنت . قال . ومن أنا ؟ قالوا : الخالق البارىء، فاستتابهم فلم يرجعوا ، فأوقدوا لهم نارا ضخمة وأحرقهم ،وقال مرتجزا :

لما رأيت الأمر أمرا منكرا                       أججت نارى ودعوت قنبرا

فى أبيات له عليه السلام ، وقد بقى منهم إلى اليوم طوائف يقولون ذلك .. ...

وهم يقولون  إن عليا ما مات ولا يجوز عليه الموت ، وهو حى لا يموت.

والفرقة الثانية من السبئية يقولون أن عليا لم يمت وإنه فى السحاب ، وإذا نشأت سحابة بيضاء منيرة صافية موعدة قاموا إليها يبتهلون ، ويتضرعون ويقولون " لقد مر بنا عليّ فى السحاب ".

والفرقة الثالثة من السبئية هم الذين يقولون ، إن عليا قد مات ، ولكن يبعث يوم القيامة ويبعث معه أهل القبور حتى يقاتل (المسيح )الدجال ويقيم العدل والقسط فى العباد والبلاد ، وهؤلاء لا يقولون إن عليا هو الله ولكن يقولون بالرجعة .

والفرقة الرابعة من السبئية يقولون بإمامة على ، ويقولون : هو فى جبال رضوى حى لم يمت ويحرسه على باب الغار الذى هو فيه تنين وأسد، وإنه صاحب الزمان يخرج ويقتل المسيح الدجال ويهدى الناس من الضلال ويصلح الأرض بعد فسادها .

الفرقة الخامسة : هم القرامطة ،والديلم ، وهم يقولون ، إن الله نور علوى لا تشبههة الأنوار ولا يمازجه الظلام ،وأنه تولد من النور العلوى النور الشعشانى فكان منه الأنبياء والأئمة فهم بخلاف طبائع الناس ، وهم يعلمون الغيب ويقدرون على كل شيىء ولا يعجزهم شيىء ويقهرون ولا يُقهرون ويعلمون ولا يُعلّمون ، ولهم علامات ومعجزات وآمارات ، ومقدمات قبل مجيئهم وظهورهم وبعد ظهورهم يُعرفون بها ، وهم مباينون ( مختلفون ) لسائر الناس فى صورهم وأطباعهم ، وأخلاقهم وأعمالهم . وزعموا أنه تولد من النور الشعشانى نور ظلامى وهو النور الذى تراه فى الشمس والقمر والكواكب والنار والجواهر الذى يخالطه الظلام ، وتجوز عليه الآفات والنقصان ، وتحل عليه الآلآم والأوصاب ، ويجوز عليه السهو والغفوات والنسيان والسيئات والشهوات والمنكرات ، غير أن الخلق كله تولد من القديم البارىء وهو النور العلوى الذى لم يزل ولا يزال ولا يزول سبب الحوادث وأبدع الخلق من غير شيىء كان قبله ..فيصفون الله عز وجل كما يصفه الموحدون مع قولهم أنه نور لا يشبه الأنوار. ثم يزعمون أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات نافلة وليست فرضا.. وزعموا أنه لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا نشور ، وأن من مات بلى جسده ، ولحق روحه بالنور الذى تولد منه حتى يرجع كما كان .وقوم منهم يقولون بتناسخ الروح .وزعموا أن كل ما ذكر الله عز وجل فى كتابه من جنة ونار وحساب وميزان وعذاب ونعيم فإنما هو الحياة الدنيا فقط من الأبدان الصحيحة  والألوان الحسنة والطعوم اللذيذة والروائح الطيبة والأشياء المبهجة التى تنعم بها النفوس . والعذاب هو الأمراض والفقر والآلآم والأوصاب وما تتأذى بها النفوس. وهذا عندهم الثواب والعقاب على الأعمال. وهم يقولوا بالناسوت فى اللاهوت على قول النصارى سواء ، يزعمون أن الإنسان هو الروح فقط وأن البدن هو مثل الثوب الذى هو لابسه فقط ، ويزعمون أن كل ما يخرج من جوف واحد منهم من مخاط ونخاع ورجيع وبول ونطفة  ومذى ودم وقيح وصديد وعرق فهو طاهر ونظيف ، حتى ربما أخذ بعضهم من رجيع ( براز ) آخر وأكله لعلمه أنه طاهر ونظيف . وزعموا أن من قال بهذا القول واعتقد هذا المذهب فهو مؤمن ونساؤهم مؤمنات محقنوا الدماء محقنوا الأموال ، ومن خالفهم فى قولهم واعتقادهم فهو كافر مشرك حلال الدم والمال والسبى. ويسمى بعضهم بعضا المؤمنين والمؤمنات. وزعموا أن نساء بعضهم  حلال لبعض ، وكذلك أموالهم وأبدانهم مباحة من بعضهم لبعض لا تحظير بينهم ولا منع ، فهذا عندهم محض الإيمان ، حتى لو طلب رجل منهم من أمرأة نفسها أو من رجل أو من غلام فامتنع عليه فهو كافر عندهم خارج من شريعتهم ، وإذا أمكن من نفسه فهو مؤمن فاضل. والمفعول به من النساء والرجال أفضل عندهم من الفاعل ، حتى يقوم الواحد منهم من فوق المرأة التى لها زوج .. فيقول لها طوباك يا مؤمنة ، وهكذا يقول للرجل والغلام إذا أمكن من نفسه. وكذلك أموالهم وأملاكهم لا يحظرونها ومن بعض على بعض مباحة بينهم. وهم فى الحرب لا يدبرون حتى يقتلوا، ويقولون : حياة بعد القتل والموت إنا نخلص أرواحنا من قذر الأبدان وشهواتها ونلحق بالنور. وهم يرون قتل من خالفهم، لا يتحاشون من قتل الناس، وليس عندهم فى ذلك شيىء يكرهونه، فأما شرب الخمر والمنكر والملاهى وسائر ما يفعله العصاة فهو عندهم شهوات إن شاء فعلها وإن شاء تركها ولا يرون فيها وعيدا ولا فى تركها ثوابا ..

والفرقة السادسة : هم أصحاب التناسخ وهم فرقة من هؤلاء الحلولية يقولون أن الله عز وجل نور على الأبدان والأماكن، وزعموا أن أرواحهم متولدة من الله القديم وأن البدن لباس لا روح فيه ولا ألم عليه ولا لذة فيه، وأن الإنسان إذا فعل الخير ومات صار روحه الى حيوان ناعم مثل فرس وطير وثور .. يتنعم فيه ثم يرجع إلى بدن الإنسان بعد مدة ، وإذا كان نفسا خبيثة شريرة ومات، صارت روحة فى بدن حمار أو كلب أجرب يعذب فيه بمقدار أيام عصيانه ثم يرد إلى بدن الإنسان ، ولم تزل الدنيا هكذا ، ولا تزال تكون هكذا ..

وأما الفرقة السابعة من الحلولية فهم الذين يقولون : أن الله تبارك وتعالى بعث جبريل إلى علىّ فغلط جبريل وذهب إلى محمد عليه السلام فاستحيا الرب وترك النبوة فى محمد صلى الله عليه وسلم وجعل عليا وزيره والخليفة بعده .

والفرقة الثامنة من الحلولية زعموا أن محمدا وعليا شريكان فى النبوة وأن الرسالة إليهما وأن طاعتهما ومعصيتهما واحد لا فرق بينهما، وأن عليا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. والفرقة التاسعة : هم المختارية الذين يقولون بنبوة المختار بن أبى عبيدة ، وينحون نحو التناسخية من الحلولية..

والفرقة العاشرة هم السمعانية الذين يقولون بنبوة ابن سمعان وينحون نحو التناسخ أيضا .والفرق الحادية عشر : هم الجارودية ، وهم الغالية والتناسخية ، لا يفصحون بالغلو ، ويقولون أن الله عز وجل نور وأرواح الأئمة والأنبياء منه متولدة ، وينحون نحو التناسخ ، ولا يقولون بإنتقال الروح من جسد إنسان إلى جسد غير إنسان بل يقولون بإنتقال الروح من جسد إنسان ردىء إلى جسد إنسان ..ممرض فتعذب فيه مدة بما عمل من الشر والفساد ثم تنتقل إلى جسم متنعم قتنعم فيه طول ما بقيت فى الجسد الأول ..

الفرقة الثانية عشر من الإمامية : هم أصحاب هشام بن الحكم يعرفون بالهشامية وهم الرافضة الذين روى فيهم الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يرفضون الدين ، وهم مشتهرون بحب علي رضى الله عنه فيما يزعمون ..وهم أيضا ملحدون ، لأن هشاما كان ملحدا دهريا ، ثم انتقل إلى الثنوية والمانية ( نسبة الى مانوى  الفارسى ) ..فزعم هشام لعنه الله أن النبى عليه الصلاة والسلام نص على إمامة علىّ فى حياته بقوله "" من كنت مولاه فعلىّ مولاه "" وقوله لعلىّ " أنت منى بمنزلة هارون مون موسى إلا أنه لا نبى بعدى " وبقوله "" أنا مدينة العلم وعلىّ بابها "" وبقوله لعلىّ: " تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله "" وأنه وصىّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته فى ذريته وهو خليفة الله فى أمته ، وأنه أفضل الأمة وأعلمهم ، وأنه لا يجوز عليه السهو ولا الغفلة ولا الجهل ولا العجز، وأنه معصوم، وأن الله عز وجل نصبه للخلق إماما لكى لا يهملهم وأن المنصوص على إمامته كالمنصوص على القبلة وسائر الفرائض ، وأن الأمة بأسرها من الطبقة الأولى بايعوا أبا بكر الصديق رضى الله عنه فكفروا وارتدوا وزاغوا عن الدين، وأن القرآن نسخ وصعد به للسماء لردتهم ، وأن السنة لا تثبت بنقلهم إذ هم كفار ، وأن القرآن الذى فى أيد الناس قد ..وضع أيام عثمان ، وأحرق المصاحف التى كانت قبل، وأن الأمة قد داهنت وغيرت وبدلت ونافقت لأحقاد كانت لعلىّ فيهم من قتله آبائهم وعشيرتهم مع النبى صلى الله عليه وسلم فى غزواته، وأن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم أجمعين عندهم من شر الأمة وأكفرهم يلعنونهم ويتبرؤن منهم، وأنه ما بقى مع على عليه السلام إلا أربعة : سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد بن الأسود ، وأن أبا بكر مر بفاطمة بنت النبى محمد  عليه السلام فرفس فى بطنها فأسقطت وكان سبب علتها وموتها ، وأنه غصبها ضيعة "فدك".فذكر أشياء كثيرة مما كاد بها الإسلام من المخاريق والأباطيل والزور التى لا تجوز عند العلماء ولا تخفى إلا على أهل العمى والغباء ، وأنه ليس لله حجة على خلقه فى الدين والشريعة فى كتاب ولا سنة ٍولا إجماع إلا من قبل الإمام الذى اختصه الله لدينه على كتمان ، وتقية ، وإخفاء ..فأباح بهذا القول المحارم وأطلق كل محذور ، إذ لا حجة لأحد بزعمه فى حلال أو حرام مع أشياء كثيرة يطول ذكرها من نحو هذا الكلام ٍالذى فيه هدم الدين .

والفرقة الثالثة عشر من الأمامية هم الإسماعيلية ، يتبرؤون ( أى يتبرءون من أبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية ..الخ )ويتولون ( أى يناصرون ويقدسون عليا وذريته )، ويقولون بكفر من خالف عليا ، ويقولون بإمامة الأثنى عشر(إماما) ويصلون الخمس ويظهرون التنسك والتأله والتهجد والورع ولهم سجادات وصفرة فى الوجوه وعمش فى أعينهم من كثرة البكاء والتأوّه على المقتول فى كربلاء : الحسين بن على ورهطه ، رضى الله عنهم ويدفعون زكاتهم وصدقاتهم إلى أئمتهم، ويتحنئون بالحناء ويلبسون خواتمهم فى أيمانهم ويشمرون قمصانهم وأرديتهم كما تصنع اليهود .. وينوحون على الحسين عليه السلام ، واعتقادهم العدل والتوحيد والوعيد وإحباط الحسنات مع السيئات ويكبرون على جنائزهم خمس ويأمرون بزيارة قبور السادة .

والفرقة الرابعة عشر من الأمامية . هم أهل قم : قولهم قريب من قول الإسماعيلية غير أنهم يقولون بالجبر والتشبية، يجمعون بين الظهر والعصر فى أول الزوال ، وبين  المغرب والعشاء فى جوف الليل آخر وقت المغرب عندهم ، ويصلون صلاة الفجر بين طلوع الفجر الأول ..ويمسحون فى الوضوء بالماء على ظهور أقدامه وأسفلها ، ولهم طعن على السلف وشتم عظيم حتى يبلغ الواحد منهم أن يأخذ شيئا ..يحشوه تبتا أو صوفا يسميه أبا بكر ، وعمر ، وعثمان رضى الله عنهم ويضربه بالعصى حتى يهريه ليشفى فى ذلك ما فى قلبه فى الغل للذين آمنوا، مع أشياء يقبح ذكرها من مذاهبهم ..

والفرقة الخامسة عشر هم الجعفرية يشبه قولهم قول الإسماعيلية.

والفرقة السادسة عشر : القطعية العظمى : الذين يقطعون على محمدا وعليا عليهما السلام ويقولون قول الجعفرية ويتبرءون ويتولون .( أى يقطعون الامامة بعد محمد وعلى )

والفرقة السابعة عشر القطعية القصرى : الذين يقطعون على الرضا ويقولون لا إمام بعده رضى الله عنه ، ويقتدون بمن قبلهم من أخوانهم القطعيه العظمى فى جميع مذاهبهم .

والفرقة الثامنة عشر هم الزيدية : أصحاب زيد بن على رضى الله عنهما وهم أربع فرق :فالأولى من الزيدية أعظمهم قولا وهم الذين يكفّرون الصدر الأول وسائر من ينشؤا أبدا إذا خالفهم، ويرون السيف والسبى واستهلاك الأموال وقتل الأطفال واستحلال الفروج ( يعنى استحلال السبى واغتصاب نساء من يخالفهم فى الدين والملة )، وليس فى الإمامية أكثر ضررا منهم فى الناس ، إنما هو بقدر ما يخرج الواحد منهم يضع السيف والحريق والنهب والسبى ولا يقصدون ولا يرعون، وكان منهم علي بن محمد صاحب البصرة سبى العلويات والهاشميات والعربيات وباعهن مكشفات الرؤوس بدرهم وبدرهمين وأفرشهن الزنوج والعلوج واستباح دماء المسلمين وأموالهم واهراق الدماء وقتل الأطفال وأحرق المصاحف  والمساجد وكان يقول ( لا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) وكان يستحل كل ما حرم الله .( يقصد صاحب ثورة الزنج فى العصر العباسى )

والفرقة الثانية من الزيدية : يكفرون السلف ويتبرؤن ويتولون ولا يرون السيف ولا السبى ولا استحلال الفروج ولا الأموال .

والفرقة الثالثة من الزيدية يقولون أن الأمة ولت أبا بكر رضى الله عنه إجتهادا لا عنادا وقصدوا فأخطأوا فى الإجتهاد وولوا مفضولا على فاضل فلا شيىء عليهم وإنما أخطأوا فى ذلك ولم يتعمدوا فقالوا بالنص ولم يتبرأوا ولم يكفروا أحدا .. يظهرون زهدا وعبادة وخيرا ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقولون بالعدل والتوحيد والوعيد .

والفرقة الرابعة من الزيدية هم معتزلة بغداد .. يقولون بإمامة المفضول على الفاضل ويقولون أن عليا عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقه بالفضل أحد من الأئمة ، وزعموا أن إمامة المفضول على الفاضل جائزة لما ولى النبى صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص على فضلاء المهاجرين والأنصار فى غزوة ذات السلاسل..)

( 18ـ 19 )  ( 32: 34 ) (156 – 164 )

التعليق

اهتم الملطى بتتبع الشيعة وسائر طوائفهم، فكرر الكلام عنهم فى أكثر من موضع فى كتابه، ولكنه تحامل عليهم أكثر من غيرهم ،يبدو هذا من غيظه من هشام بن الحكم وفرقته مع أنهم أقل تطرفا من بقية طوائف الشيعة فى الاعتقاد وسفك الدماء، والسبب هو أن هشام تخصص فى الهجوم على أعلام الصحابة وتزييف الأحاديث والأحداث مستعملا طريقة السنيين فى تدعيم الرأى.

كما أن الملطى أضاف للشيعة قائد حركة الزنج، ولم يكن شيعيا ، ولكنه سفاح مغامر ارتدى التشيع غطاء لحركته العسكرية ثم تحول عنه سريعاالى مذهب الخوارج ، ولأنه ليس شيعيا فقد كان يقتل المنتسبين لذرية علىّ  ويبيح لجنده من الزنوج وغيرهم اغتصاب واسترقاق النساء العلويات وبيعهن بأرخص الأثمان.

الغريب ان الملطى يضيفه الى الزيدية. والزيدية هم أكثر الشيعة اعتدالا وهم ينتمون الى زيد بن على زين العابدين بن الحسين، وهو الذى ثار على الأمويين فخذله ـ كالعادة ـ أتباعه العراقيون ففشلت ثورته وقتله الأمويون فى خلافة هشام بن عبد الملك.

مع ذلك فان الملطى توسع فى تفصيلات عقائد الشيعة فى عصره، والتى تردد المعتقدات الفارسية القديمة من وجود الاهين أحدهما للنور والخير والآخر للظلام والشر.والتبرؤ من أعداء علىّ وموالاة على ّ وبنيه ـ والذى يتحدد به دين التشيع ـ هو أيضا صورة من العقيدة الفارسية فى وجود اله الخير واله الشر، فقد جعلوا عليا اله الخير الذى يجب موالاته كما جعلوا آلهة الشر والظلام متجسدين فى ابى بكر وعمر وعثمان ومعاوية ..الخ. وهى أيضا رؤية قومية فارسية ، لأن أبابكر وعمر وعثمان هم الذين دمروا امبراطورية الفرس الكسروية واحتلوا بلادهم واستعبدوا أهاليهم.

بعد المسح الذى أجراه الملطى لطوائف الدين الشيعى فى القرن الرابع الهجرى اندثرت فيما بعد بعض الطوائف التى ذكرها وبقيت أخرى مثل زيدية اليمن والاثناعشرية الامامية فى ايران والدرزية فى لبنان وفلسطين،وأتباع أغاخان الاسماعيلية فى الهند وأوربا وأمريكا. واستجدت فرق شيعية مثل النصيرية العلوية الحاكمة الآن فى سوريا ، وخرجت عن التشيع طوائف مثل البابية والبهائية.

ثالثا :

وقال الملطى عن الصوفية وقد سماهم : الروحانية

( وهم أصناف ، وأنما سموا الروحانية لأنهم زعموا أن أرواحهم تنظر إلى ملكوت السموات  وبها يعاينون الجنان ويجامعون الحور العين. ..

ومنهم صنف من الروحانيين زعموا أن حب الله يغلب على قلوبهم ، وأهوائهم ، وأرادتهم حتى يكون حبه أغلب الأشياء عليهم ، فإذا كان منزلته عندهم كانوا عنده بهذه المنزلة ، ووقعت عليهم الخلة من الله فجعل لهم السرقة والزنا وشرب الخمر والفواحش كلها على وجه  الخلة التى بينهم وبين الله لا على وجه الحلال ولكن على وجه الخليل كما يحل للخليل الأخذ من مال خليله بغير أذنه . منهم رباح وكليب كانا يقولان بهذ المقالة ويدعوان إليها .

ومنهم صنف من الروحانية زعموا : أنه ينبغى للعباد أن يدخلوافى مضمار الميدان حتى يبلغوا إلى نهاية السبقة من تضمير أنفسهم وحملها على المكروه، فإذا بلغت تلك الغاية أعطى نفسه كل ما تشتهى وتتمنى .. منهم ابن حيان كان بقول هذه المقالة .

ومنهم صنف يقولولون : عن ترك الدنيا إشغال للقلوب وتعظيم للدنيا ومحبة لها ولما عظمت الدنيا عندهم تركوا طيب طعامها ولذيذ شرابها ولين لباسها ..فأشغلوا قلوبهم بالتعلق بتركها .. حتى لا يشغل القلب بذكرها ، ويعظم عنده ما ترك منها ( ورباح وكليب ) كانا يقولان هذه المقالة .

ومنهم زعم ان الزهد فى الدنيا هو زهد فى الحرام فأما الحلال فمباح لهذه الأمة من أطايب الطعام ....وإن الأغنياء أفضل منزلة عند الله من الفقراء لما أعطوا من فضل أموالهم ، وفضول من نوائب حقوقهم وأدركوا من منتهى رغباتهم) . (93-94 )

التعليق:

اهتم الملطى اكثر بالتشيع والمعتزلة والقدرية، وواضح فى كتابه إلمامه بمقولاتهم واهتمامه بالرد عليهم من واقع رؤيته لدينه السنى. إلا إنه لم يكن على دراية بالتصوف فى عصره، ، لذلك نرى الملطى يسمى الصوفية الروحانية ، ولا يذكر أحدا من شيوخ الصوفية المشهورين فى عصره مع إن عصره حفل بأعلام التصوف وروّاده الأوائل.

أكثر من ذلك أنه خلط بين الزهد والتصوف وجعل الزهاد ضمن الصوفية، مع وجود فوارق أساسية بين الفريقين فى العقائد والسلوكيات والطقوس الدينية.

وقد يكون للملطى عذر فلم يكن التصوف قد دخل دور الانتشار بعد، ولم تكن صورته قد إتضحت بمثل ما إتضحت معالم التشيع والسنة وبقية الفرق والملل والنحل.

هذا ..

وقد ذكر الملطى تفاصيل عن آراء الخوارج واشهر طوائفهم . ولم نعرض لما قاله عنهم لأنه لم يكن لهم تأثير فى عصر الملطى .

 

 

 

 

 

الفصل الرابع :

 تسيد دين التصوف السنى فى العصر المملوكى

( 648 ـ 921 ) ( 1250 ـ 1517 )

 

لمحة عن الدولة المملوكية:( 648 هــ – 921 هــ ) – ( 1250 م – 1517 م )

مقدمة :

يعتبر قيام الدولة المملوكية حدثا فريدا فى التاريخ الإسلامى ، حيث حكم المماليك وهم رقيق الأمويين أملاك أسيادهم الأيوبيين ، وتقودهم فى بادء الأمر إمرأة ـ هى شجرة الدر ـ كأول وأخر سلطانة فى تاريخ المسلمين . وهذا الوضع لم يكن له أن يستمر إلا بقوة المماليك ودهائهم وضعف الأيوبيين وتناحرهم وقوة مركز مصر فى العالم الإسلامى على أنها الملجأ الوحيد لإنقاذ المنطقة من الصليبيين والخطر المغولى القادم .

 وقد استطاع المماليك تأكيد نفوذهم بإرهاق الوجود الصليبى ثم إزالته نهائيا فى نفس الوقت الذى قضوا فيه على الخطر المغولى ، وبمطاردة المغول فى الشام لم تقم للدولة الأيوبية قائمة فى الشام بعد أن انتهت من مصر .

وهكذا ورثت الدولة المملوكية الفتية العروش الأيوبية فى مصر والشام .

 

 أولا : خطوات أقامة وتوطيد الدولة المملوكية فى مصر

1 ــ يظهر أن المماليك لم يفكروا فى الخروج على طاعة الأيوبيين ، إذ قضوا على حملة لويس التاسع التى غزت مصر واحتلت ميناء دمياط، وأسروا لويس التاسع، وحفظوا السلطة كاملة لتوران شاه ولى العهد الأيوبى فى وقت حرج ، كان فيه أبوه الملك الصالح أيوب ميتا وهو بعيد فى العراق ، ولو كان لديهم الطموح لاستغلوا تلك الجروح القاسية فى مصلحتهم ، إلا أن أقصى ماكانوا يطمعون فيه هو العرفان بالجميل من السلطان الشاب الغائب الذى حفظوا له ملكه . ولكنهم فوجئوا بنكرانه الجميل ورأوه لا يختلف فى شيىء عن صغار الأيوبين فعاجلوه بالقتل قبل أن يوقع بهم ، فقتل توران شاه كان عملا وقائيا فى أوله كما يظهر من إستقراء وقائع التاريخ .

2 ــ إلا أن القضاء على توران شاه أوقع المماليك البحرية فى مشكلة من يخلفه. ولإنقاذ الموقف فقد تُوّجت شجرة الدر سلطانة ـ وهى أرملة الملك الصالح أيوب – وهى إمرأة أظهرت حنكتها السياسية وقت الشدة -  وبدأت الدولة المملوكية بشجرة الدر سلطانة تحميها سيوف المماليك البحرية، وبدأت الدولة الجديدة تفاوض الملك الفرنسى الأسير لويس التاسع فى مدى التنازلات التى يجب أن يدفعها والفدية المطلوبة منه حتى يطلقوا سراحه.

3 ــ  وإذ إنتهت الدولة المملوكية من ذلك حتى واجهت عدة مصاعب أهمها :-

* الخليفة العباسى والرأى العام الإسلامى

1 ـ لم يستسغ الخليفة العباسى – وهو يمثل الرأى العام المسلم – أن يتولى الأمر إمرأة ولو كانت شجرة الدر. بعث الخليفة العباسى المستعصم بالله يتساءل هل خلت مصر من الرجال حتى يولوا أمرهم إمرأة .

2 ــ وتحاشيا لإغضابه والرأى العام معه فقد تم حل المشكلة بأن تتزوج شجرة الدر من أيبك الداودار ، وبذلك أصبحت شجرة الدر تقاسم زوجها السلطة وتحكم من وراء الستار. وإذ انتهت تلك المشكلة فقد اتجه المماليك لحل مشكلة أخرى .

*المصريون والأعراب والشيعة :

1 ــ لم يرض المصريون أن يحكمهم رقيق هم مماليك الايوبيين؛ يقول المؤرخ المملوكى أبو المحاسن (  لم يرضوا بسلطان مسّه الرق ،وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهو يسمعونه ما يكره حتى فى وجهه إذا ركب فى الطرقات) ولذا اشتد المماليك فى قسوتهم على العامة المتذمرين من توليهم السلطة حتى أن المقريزى وأبا المحاسن يقولان أن الصليبيين لو ملكوا مصر ما فعلوا بالمصريين كما فعل بهم المماليك فى بداية عهدهم.

2 ــ ولا ريب أن المصريين وإن خضعوا بالقهر والذل للقوة الجديدة إلا أن القهر لا يعنى إلا الحقد الدفين المكبوت ، وقد استغل هذا الشعور بعض العلويين وجمعوا إلى جانبهم كثيرا من الأعراب وأعلنوا الثورة وأن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للأرقاء .

وهذا ما فعله حصن الدين ثعلب الذى أقام دولة عربية مستقلة فى مصر الوسطى ومنطقة الشرقية فى بداية الدولة المملوكية ، مستغلا قوة الأعراب . وحاول حصن الدين الإتصال بالناصر الأيوبى عدو المماليك ، إلا إن عقد الصلح بينهما أضاع أمل حصن الدين فعول على الإعتماد على جهوده الذاتية .

3 ـ وبعد أن فرغ السلطان أيبك من الخطر الأيوبى الخارجى قام بتوطيد سلطانه فى الداخل فأرسل أقطاى زعيم المماليك البحرية بجيش تمكن من هزيمة الأعراب فى بلبيس. وطلب حصن الدين الأمان فأمنه المعز أيبك ، ثم اعتقله وقتل أصحابه،  وعامل الأعراب بالعسف حتى ذلّوا وقلّوا على حد قول المقريزى .( السلوك  1/2/370 ، 372: 379 ، 381 ، 382 ، 385: 386 ) ، وكانوا القوة العسكرية الوحيدة وقتها بين المصريين .

4 ــ والواقع أن توطيد الدولة المملوكية بدأ حقيقة فى عهد قطز الذى انتصر على الخطر المغولى وفى عهد الظاهر بيبرس الذى قلّم أظافر المغول والصليبيين.

 

ثانيا : المماليك والشام

1 ــ كان الشام الخطر الأكبر على الدولة المملوكية الناشئة، ففيه الصليبيون. ومفهوم أنهم أعداء للسلطة الجديدة التى أبادت حملة لويس التاسع، وفي الشام أيضا الملوك الأيوبيون الذين لن يسامحوا فى سقوط مصر فى يد مماليكهم وعبيدهم بعد أن قتلوا ابن عمهم توران شاه .

2 ــ ثم كان الخطر الأكبر على الجميع وهم المغول الذين اكتسحوا فى الجولة السابقة الدولة الخوارزمية ثم عادوا فى هذه الجولة فاكتسحوا قلاع النزارية الباطنية فى آلموت ثم دمروا بغداد والخلافة العباسية سنة 658، وتهاوت أمامهم العروش الورقية لبنى أيوب وسلجوق فى الشام والعراق ، ووقع على كاهل المماليك فى بداية دولتهم أن يتعاملوا مع ذلك الخطر بعد أن انحدر للشام واتجه لمصر .

3 ــ وقد أفلحت الدولة المملوكية فى مدّ سلطانها على الشام حتى الفرات . بل وصلت إلى ما أبعد ما وصلت عليه دولة صلاح الدين فى عهد الظاهر بيبرس الذى أخضع الأرمن ودمر عاصمتهم وامتد ملك الدولة المملوكية فى عهده إلى اقصى إتساعه .

 ولنتبع خطوات المماليك فى ضم الشام وتعاملها مع تلك القوى .

 الورثة الأيوبيون فى الشام :

1 ــ تزعمهم الناصر داود الذى استولى على دمشق فى الصراع ضد المماليك بعد تولى شجرة الدر السلطنة. الناصر داود كان أكبر الورثة الأيوبيين ثم أن مركزه الجديد فى دمشق يفرض عليه أن يحدد موقفه من القاهرة . وتحالف الناصر داود مع الصليبين وبدأ الصراع بينه وبين المماليك فى غزة سنة 648  فهزمه أقطاى كبير المماليك البحرية .

2 ــ ولم ييأس الناصر داود فجمع أقاربه من الملوك الأيوبيين وزحف بهم إلى مصر ، ودارت معركة كبيرة عند الصالحية وانهزم فيها الناصر داود مع كثرة عساكره لأن المماليك الذين فى جيشه إنضموا إلى الجيش المملوكى  المصرى ، وأسر المعز أيبك جملة من الملوك الأيوبيين ومعهم بعض الأمراء المتعاونين معهم .

3 ــ وفى عام 649 إستولى الأمير أقطاى على الساحل الشمالى ونابلس إلى ممر الشريعة، فأرسل الناصر داود حملة إلى غزة ، فخرج السلطان المعز أيبك بجيشه إلى الصالحية، ودارت مفاوضات بينهما طالب فيها المماليك باعترافه بحمكهم مصر وجزء من الساحل الشامى.  وفى سنة 651 تقرر الصلح على أن يكون للمماليك مصر والأردن وللناصر ما وراء ذلك، وأن يضم المماليك غزة والقدس ونابلس والساحل كله وأن يطلق المماليك الملوك الأيوبيين الأسرى ( السلوك 1/2/370 ، 379 ، 381 : 382 ، 385 : 386 )

4 ــ وواضح أن المماليك نجحوا فى أن يمدوا سلطانهم إلى جنوب الشام مع الساحل، وقد وافقهم السلطان الناصر داود ، ونال لنفسه الشام الشمالى ؛ أى أملاك أقاربه الملوك الأيوبيين المأسورين عند المماليك منذ معركة الصالحية، وقد اشترى داود حريتهم من أسر المماليك بعد أن اتفق مع المماليك على اقتسام الشام .

ثم كان الإمتحان الأكبر لدولة المماليك الناشئة أمام المغول .

المماليك والمغول

1 ــ كان المغول أكبر خطر هدّد المنطقة. تحركوا من أقصى الشرق يدمرون كل جزء من العالم مروا به، فقضوا على امبراطورية الصين وتجمعات الترك الرعويين، وما لبثوا أن هزموا الدولة الخوارزمية بعد عدة جولات. بعدها انفتح الطريق أمامهم للدولة العباسية ، فدمروا بغداد وقتلوا الخليفة العباسى وسكان بغداد. وسار الرعب فى ركابهم ، وسبقتهم فى القدوم للشام سُمعتهم الوحشية فاستسلم لهم بعض الأمراء الأيوبيين بلا قتال ، كحاكم حمص الذى خدم هولاكو وسار فى صحبته والناصر داود حاكم دمشق وحماه. وتوغل المغول فى الشام متجهين لمصر، وبعث هولاكو برسالة إلى المماليك يطلب خضوعهم.

2 ــ بعد إغتيال أيبك بتدبير شجرة الدر كان قطز يتولى نيابة السلطنة للسلطان الصبى (على بن أيبك)، وانتهز الفرصة فأعلن نفسه سلطانا ليواجه الخطر القادم. وأثناء الإستعداد الحربى أرسل مقدمة جيشه إلى غزة يقودها بيبرس. وهزم بيبرس الحامية المغولية فى غزة ، فكان أول نصر على المغول. وقتهاهلك منكوخان الخان الأكبر للمغول، وخوفا من ضياع حقه انسحب هولاكو بجزء من جيشه عائدا  إلى قراقورم عاصمة المغول فى الشرق وترك الباقى تحت قيادة كتبغا ليواجه المماليك.

3 ــ وسار السلطان قطز قرب عكا، ثم جاءته أخبار أن كتبغا عبر نهر الأردن وأنه نفذ على الجليل الشرقى ، فسار قطز مسرعا إلى الجليل الشرقى ، فوصل عين جالوت قبل وصول المغول.

معركة عين جالوت ( 658 هــ - 126 م)

1 ـ وقدم كتبغا ولم يعلم أن جيش المماليك قد سبقه، وأخفى قطز معظم قواته ولم يعرض أمام العدو إلا المقدمة التى يقودها بيبرس، ووقع كتبغا فى الفخ فهجم على مقدمة الجيش بكل قوته فتقهقرت أمامه واستدرجته إلى التلال فأحاطت به جموع المماليك وطوقته، وأبلى كتبغا بلاءا حسنا فى القتال دون جدوى إذ أن الهزيمة الكاملة حاقت بالمغول لأول مرة فى تاريخهم ( السلوك 1/2/141 ، 415 ، 416 ، 417 : 419 ، 422:425 ، 427: 433 ) .

2 ـ وتعتبر عين جالوت من المعارك الفاصلة فى التاريخ العالمى إذا بها اندحر المغول شرقا. واكتسبت الدولة المملوكية الوليدة احترام المسلمين فقد أنقذوهم ليس فى الشرق الأوسط فحسب وإنما فى أفريقيا كلها.

ومن ناحية أخرى عجل القضاء الحربى على المغول بدخول بعضهم فى الإسلام حين أسلمت القبيلة الذهبية التى تحكمت فى العراق وكونت به دولة مغولية مسلمة.

واستولى قطز على سائر بلاد الشام حتى الفرات وخضع له أمراء الشام الأيوبيون.

وعجلت هذه المعركة بزوال الصليبين إذا أن المماليك المنتصرين عزموا على التخلص النهائى منهم، فتابع بيبرس ــــ الذى قتل قطز وخلفه فى الحكم  ــــ الجهاد ضد الصليبين والمغول معا ، وتأكدت بذلك سلطة المماليك كأكبر قوة فى مصر والشام .

الظاهر بيبرس والمغول

1 ــ تمكن بيبرس بعد أن تسلطن من الإستحواذ على إمارات الأيوبين فى الشام، وعاقب الملوك المسيحيين المتحالفين مع المغول مثل ملك أرمنيا وأمير أنطاكية الصليبى. وفى هذه الأونة أعلن بركة خان زعيم القبيلة الذهبية إسلامه وتحالف مع بيبرس وتعاونا معا فى إمداد كياكوس السلجوقى بجند تمكن به من استعادة ملكه فى الأناضول .

2 ــ مع تحالفه مع الأرمن والصليبين لم يستطع هولاكو الإنتقام من المماليك، بل انشغل بهجوم بركة خان عليه فتمكن بيبرس من توفير وقته لإجهاد الوجود الصليبى إلى أن انتهى نهائيا فى عهد الأشرف خليل بن قلاوون ( عن غزوات بيبرس ضد المغول " السلوك 1/2/465 : 473 : 474 ، 495 ، 497 ، 600 : 602 604 : 607 ، 628: 629 ، 633 ")

3 ــ وحتى تستكمل مصر المملوكية مظاهر زعامتها للعالم ( الإسلامى ) فقد دعا السلطان الظاهر بيبرس أحد الأمراءالعباسيين ونصبه خليفة عباسيا فى القاهرة. إلا أن بيبرس تخوف من طموح الخليفة الجديد فحجز عليه، ثم تخلص منه بأن بعثه بجيش صغير ليحارب المغول فهزم وقتل، وعين آخر محله. ومن وقتها اقتصر دور الخليفة بعد ذلك على مبايعة كل سلطان ( السلوك 1/2/448 : 449 ، 451 ، 453 : 457: 463 ، 467 ، 477 : 479 ) وأصبحت الخلافة العباسية عقدا تتزين بها القاهرة المملوكية التى أضحت حاضرة العالم ( الإسلامى ) بدلا بغداد ..

المماليك والصليبيون

1 ــ ارتفع شأن المماليك بانتصارهم على حملة لويس التاسع، ثم ارتبط توطيد الحكم المملوكى فى عهد الظاهر بيبرس بحروب نشطة ضد الأمارات الصليبية فى الشام.

2 ــ على أن جهد بيبرس تركز فى حرب الصليبيين والأرمن والمغول معا. وكان شعلة من النشاط الحربى لا تتوقف ، فقد هزم الأرمن ونهب مدنهم ليؤمّن ملكه فى حلب وشمال الشام، ولم يترك الفرنجة يستريحون فأكثر من الإغارة عليهم حتى أصبحت حياتهم فى عكا لا تطاق، ثم فاجأ أنطاكية واقتحمها ودمرها بمن فيها، وبسقوط أنطاكية فى يد بيبرس انهار الصليبيون فى شمال الشام حتى أن الدواية تخلوا عن قلاعهم المجاورة لأنطاكية ( من غزوات بيبرس ضد الصليبين " السلوك 1/2/483 : 487 ، 488 : 491 ، 519 ، 513 ، 524 : 530 ، 543 ، 533، 557 : 560 ، 564 : 571 ، 585 : 588 ، 590 : 595، 618 : 628 )

3 ــ وتابع قلاوون جهد سلفه بيبرس فاستولى على حصن المرقب الحصين وأخرج عنه الأستبارية، ثم أتم الإستيلاء على اللاذقية وفتح طرابلس، ونقضت عكا الهدنه فتجهز للقضاء عليها- وكانت المعقل الأخير للصليبين – إلا أنه مات قبل القضاء عليها.

4 ـ وأتم ابنه ذلك العمل عملا بوصية أبيه. وبإستيلاء الأشرف خليل بن قلاوون على عكا سلمت صور وبيروت وانطرطوس وعثيلت وأرواد. وظلت جيوش المماليك تزرع الساحل الشمالى من أقصاه إلى أدناه بضعة شهور وهى تدمر أى أثر للفرنج فى المنطقة.

وأنهى المماليك بذلك الحروب الصليبية التى بدأت قبل ذلك بنحو قرن ونصف القرن.(السلوك : 1/3/747 ، 753 : 754 ، 762 : 766 ) 

 

ثالثا: السلاطين المماليك وتوارث السلطة: المماليك وفنّ التآمر

 

مفتاح الشخصيه المملوكيه كنظام سياسي- هو المساواه بينهم جميعا في الأصل و النشأه والتفاضل بينهم يكون بالمقدره القتاليه والدهاء السياسي. فكلهم جئ به من بلاده الاصليه رقيقا لينخرط في سلك المماليك ثم ليتدرج بكفاءته السياسيه و الحربيه حتى يصل الي السلطنة، والعبرة بملكات المملوك و قدراته فقط ، لذا نجد بعض الغرائب، فالظاهر بيبرس كان في الاصل مملوكا للامير البندقدار، ونسب اليه فقيل بيبرس البندقدارى، واعتقة سيده، ثم وصل بيبرس بدهائه وقدراته الي ان اصبح سلطانا وسيده السابق مجرد تابع صغير له في دولتة، ومهارة بيبرس تتجلى في قدراتة الفائقة على المؤامرات والدهاء مع نشاطه الحربى.

وحين يصل المملوك بدهائه وحذقه في المؤامرات الى السلطنة فإنة يواجه مؤامرت الاخرين الي ان يموت ميتة طبيعية أو نتيجة المؤامرة، وقد يصبح القاتل هو السلطان التالى .وهكذا تدور السياسة المملوكيه في حلقة لا تنتهى من الدسائس والمؤامرات.

وقبل ان نعرض للتفاصيل نضع بعض الملاحظات التى تقعد سياسة المؤامرات المملوكيه :

1-أن معرفة المماليك بفن المؤامرات بدأ قبل قيام الدولة المملوكية، فقد تعلم  المماليك فن المؤامرات في القصور الأيوبية أثناء خدمتهم الملوك الأيوبيين، إذ برع الايوبيون في التآمر ضد بعضهم البعض مستخدمين مماليكهم ضمن أدوات الدسائس، فكان مماليك السلاطين الايوبيين عنصرا في تدبير المؤامرات.والمماليك البحرية شاركوا في مؤامرات الصالح ايوب ضد بقية الأيوبيين، ثم تآمرالمماليك ضد ابنه توران شاه وقتلوه وأقاموا دولة المماليك البحرية. واستكثر احد أعلامهاالسلطان قلاوون في شراء المماليك وأسكنهم برج القلعة وهم (المماليك البرجيه). وبكثرتهم تعلم المماليك البرجية فن المؤامرات في سلطنة آل قلاوون الي ان قامت دولة المماليك البرجية، بعد أن تعلموا فن التآمر خلال الدولة المملوكيه البحريه، تماما كمافعل البحرية اثناء الدولة الايوبية.                                                      

2- قد تنتهي المؤامرة بقتل السلطان وحينئذ يتولي القاتل السلطنة طالما كان كفئا ، وبذلك يصبح قتل السلطان مسوغا شرعيا لصلاحية القاتل للسلطنة شأن شريعة الغاب ، وذلك هو الغالب في السلطات العسكرية ، فالاقوى بالجند والأتباع والنفوذ هوالأغلب. لم يخضع الامراء المماليك إلا لمن هو أقوى منهم ليكون السلطان عليهم، وإلاّ فهو قرين لهم وند. لذا فعند موت السلطان فحظ ابنه ان يكون مجرد فترة انتقالية، يتصارع فيها كبار الأمراءللوصول الى أعلى منصب بجوار السلطان الصغير ليتمكن بعدها من عزله او قتله.

ومن عجب ان اغلب السلاطين كان يعهد لابنه بالسلطان بعده ، ويخدع نفسه ويصدق نفاق اتباعه فيخيل له انهم سيرعون حقه عليهم بعد موته في رعايتهم لأبنه ولى العهد، فيأخذ عليهم العهود والمواثيق بأن يخلصوا لابنه بعد موته ، ويقوم السلطان فى حياته بالتمكين لأبنه ولى عهده  ما استطاع، ومع ذلك فان اخلص من يقوم بأمر ابنه في حياته هو اول من يعزله بعد فترة انتقالية معقولة ويتسلطن بدلا عنه ، وينشئ اتباعا جددا من المماليك الذين يشتريهم ، ويبعد عنه رفاقه السابقين في المؤامرات واعداءة طبعا، وبعد ان تقترب منيته يظن ان الامور قد استتبت له فيأخذ العهد لإبنه من كل الأمراء، ويأتمن عليه اقرب اتباعه، إلا ان القصة تتكرر بحذافيرها ويعزل التابع ابن سيده السلطان السابق، وتتكررالقصة مع كل سلطان، وتستمر المؤامرات. بهذا قامت الدولة المملوكية البحرية، وبهذا استمرت، وبهذا نشأت الدولة المملوكية البرجية ، وبهذا استمرت الي ان سقطت الدولة المملوكية، وبعد ان سقطت استمر المماليك في الحكم في اطار الدولة العثمانية فاستمرت مؤامراتهم ،حتي قضي عليهم (محمد علي ) في مذبحة القلعة فأراح واستراح.

ونعود الي استعراض سريع للدولة المملوكية من خلال مؤمرات امرائها وحكامها:

1-اثناء الدولة الايوبية :وقبل ان تقوم دولة المماليك شارك المماليك في حوادث الخلافات المستمرة بين ابناء البيت الايوبي ، فالمماليك (الصلاحية ) الذين اشتراهم صلاح الدين الايوبى علا شأنهم علي حساب المماليك (الاسدية ) الذين اشتراهم أسد الدين شيركوه. تذمر المماليك الاسدية أثناءحكم صلاح الدين إلا إن قوة شخصيته وإنشغالهم بمواجهةالحروب الصليبية لم تسمح بتطور الامر.

 بعد موته استغل أخوه الملك العادل استياء الاسدية من علو نفوذ الصلاحية فتحالف معهم ضد المماليك الصلاحية حتي ضم مصر، فعلا شأن المماليك الاسدية وضعفت المماليك الصلاحية. ثم أنشأ العادل مماليك له عرفوا بالعادلية، واولئك كان لهم دور بعد موت العادل حيث كرهوا سلطنة ابنه الكامل فاضطهدهم وكوّن مماليك له عرفوا بالكاملية، وبدورهم فانهم كرهوا تولية ابن سلطانهم الكامل واسمه العادل الثاني فاعتقلوه وسلطنوا أخاه الاكبر الصالح ايوب على مصر.

وأكثر الصالح ايوب من شراء مماليك جددا وأسكنهم في الجزيرة النيلية المواجهة للقاهرة فعرفوا بالبحرية نسبة لبحر النيل. كالعادة كره المماليك البحرية ابن سلطانهم الصالح ايوب وهو توران شاه ـ اذ كان كأسلافه يضطهد مماليك ابيه ويعول علي انشاء عصبة مملوكية جديدة تدين بالولاء له، لذا لم يكافئهم علي جميلهم حين حفظوا له ملكه بل بادرهم بالعداء فقتلوه وأقاموا دولتهم .

فالمماليك منذ بداية الدولة الايوبية هم الأعرف بفنون المؤامرات، وكان وصولهم للسلطة بمؤامرة أطاحت بحياة توران شاه،وعلي ذلك الدرب سارت دولتهم .

2-وبتولي المماليك السلطنة اتخذت مؤامراتهم طابعا محليا داخليا فيما بين المماليك انفسهم للوصول الي الحكم او الاحتفاظ به.

بعد قتل توران شاه بتدبير شجرة الدر وتنفيذ المماليك البحرية بزعامة اقطاي وبيبرس اتفقوا علي تولية شجرة الدر أرملة الملك الصالح أيوب، واستنكر الخليفة العباسي ان تتولي امرأة حكم المسلمين في مصر فكان لابد لشجرة الدر ان تتزوج إما أقطاي الزعيم الحربى للمماليك البحرية وإما ايبك زعيم المماليك السلطانية. ورأت شجرة الدر ان نفوذها من الممكن ان يستمر مع ايبك زعيم البحرية دون اقطاي القاتل الخشن فتزوجت ايبك، وبذلك اصبح المماليك قسمين يتآمر كل منهما ضد الآخر، بادرأقطاي  بالهجوم فهاجم جنوده القرى والضواحى حتي يثبت أن السلطان الجديد غير قادر علي حفظ الأمن، وفي نفس الوقت خطب الي نفسه اميرة ايوبية وطلب من شجرة الدر ان تخلي لها مكانا في القلعة.

وتآمرت شجرة الدر وايبك علي قتل اقطاي وشارك في المؤآمرة قطز الساعد الايمن لأيبك، وكان قطز صديقا لبيبرس وهو الساعد الايمن لأقطاي -وخدع قطز بيبرس واقنعه بسلامة نية شجرة الدر في دعوة اقطاي لمقابلة شجرة الدر. وحين دخل اقطاي الي القصر السلطاني حيل بينه وبين جنوده وقتل .والقيت رأسه الي اتباعه ففروا وهربوا من مصر وكان من بينهم بيبرس .

وصفا الجو لأيبك وشجرة الدر، إلا ان الخلاف ما لبث ان شب بينهما اذ كانت شجرة الدر امرأة طموحا تنشد الاستقلال بالسلطة وتري زوجها الذي كان تابعا سابقا لها مجرد اداة لتنفيذ مآربها. وايبك من ناحيته عزم علي التحرر من قبضتها والاستئثار بالنفوذ، واستوحش كل منهما من الاخر، واعلن ايبك انه سيخطب الي نفسه نفس الاميرة التي كان اقطاي سيخطبها لنفسه سابقا، وليزيد من اغاظة شجرة الدر رجع الي زوجته السابقة(ام علي) فاستعملت شجرة الدر كل دهائها حتي اقنعت ايبك بالصلح معها،وحين جاء يقضي معها الليل كانت ليلته الاخيرة. وثارت المماليك علي شجرة الدر ونصبوا ابنه عليا الطفل سلطانا ، وشفت ام علي غليلها من غريمتها شجرة الدر فأمرت الجواري أن يقتلنها ضربا بالقباقيب.

وتولي قطز الوصاية علي السلطان الصغير علي بن ايبك.وأقبل الزحف المغولى فعقد قطز مجلسا اعلن فيه أن البلاد في خطر وان السلطان الجديد لا يستطيع ان يقوم بالامر، وعزله وتولى مكانه. ولتوحيدالجهود ضد المغول فقد بعث السلطان قطز لصديقه اللدود بيبرس وأمراء البحريه الفارين ليتعاونوا معه ضد الخطر المغولى ، فأتوا إليه من الشام.

وبعد إنتصار قطز على المغول تآمر عليه المماليك البحرية بقيادة بيبرس إنتقاما من مقتل سيدهم اقطاى وقتلوا قطز في طريق العودة . وتم تنصيب بيبرس سلطانا. وقام بيبرس بتوطيد الدولة المملوكية ورفعة شانها في الشام والعراق والحجاز، وحاول في أخريات حياته أن يوطد الامر لابنه سعيد فولاه العهد من بعده، وحتى يضمن ولاء المماليك له من بعده فقد زوج إبنه من بنت الأمير قلاوون الالفى كبير المماليك وجعله نائبا لابنه، وأخذ العهد لابنه في إحتفال كبير اقسم فيه قلاوون وكل أمراء المماليك علي الاخلاص ( لسعيد بركة بن الظاهر بيبرس ) ولى العهد بعد ابيه .

ولكن ذلك كله لم يجد نفعا، إذتآمر على (سعيد بركه) من قام بأمره بعد ابيه، ولم تعن المصاهرة أو الايمان المغلظه شيئا عند قلاوون الذى أرغم صهره سعيد بركةعلى التنازل سنة  678 ، وتولى مكانه. وظلت اسرة قلاوون في الحكم نحو قرن او يزيد 678-784. 

ولكن متاعب قلاوون لم تنته بإعتقال المماليك الظاهريه اتباع الظاهر بيبرس وإحلال مماليكه محلهم ،إذ ثار عليه أقرانة من الامراء كما فعل الامير سنقر نائب الشام، فاستكثر قلاوون من شراء مماليك له لتوطيد سلطته، وأقام لهم ابراجا خاصه بالقلعة فعرفوا (بالمماليك البرجيه) . وأولئك هم الذين تآمروا على إغتصاب السلطه من ابناء واحفاد سيدهم قلاوون، ثم استطاع احدهم فى النهايه وهو برقوق إقامة الدولة المملوكيه الثانية أوالبرجية بعد الدولة المملوكيةالبحرية.

3-قبل قيام دولة المماليك البرجية أسهم المماليك البرجية في الفتن في دولة أبناء قلاوون فى نهاية الدولة البحرية، وشاركتهم فى التآمر في ذلك بقايا المماليك البحرية.

تآمربعض المماليك البحريه على قتل الاشرف(خليل ابن قلاوون )الذى فتح عكا وانهى الوجود الصليبى ، فقتل بيدرا السلطان الاشرف خليل وأعلن نفسه سلطانا إلا إن أمره لم يتم، فقد تمكن المماليك البرجيه اتباع البيت القلاوونى من قتل الامير بيدرا.

ثم تنازع المماليك البرجية حول من يتولى السلطة، ثم إتفقوا على تولية الصبى (محمد بن قلاوون) السلطه بإسم الناصر محمد. وكالعادة تحكم نائب السلطان ــ وهو الأمير كتبغاـ في شئون السلطان الصغير القلاوونى الناصر محمد، ثم عزله ونفاه الى قلعة الكرك فى الأردن وتولى كتبغا السلطنة سنة 694.  ثم تآمر على كتبغا حليفه الامير لاجين (وهو احد قتلة الاشرف خليل بن قلاوون) وكان لاجين قد اختفى ثم ظهر وتحالف مع كتبغا، وبتأييده تولى كتبغا السلطنة، ثم تنازعا فانتصر لاجين وهرب كتبغا فتولى لاجين السلطنة، وظل فيها إلى أن قتله إثنان من صغار المماليك، ولم يتمتعا بتأييد الامراء الكبار فأعدموهما، وأعادوا السلطان محمد بن قلاوون للسلطنة للمرة الثانيه (689-708).

الا ان الناصر محمد وقع في ايدى الاميرين المتحكمين فيه (بيبرس وسلار) فاضطر للفرار بنفسه للكرك فتسلطن بيبرس الجاشنكير،إلا إن أمره لم يتم فقد ثارعليه العوام والجند وتمكن الناصرمحمد من الرجوع ، واسترد عرشه وقتل بيبرس الجاشنكير وسلار ، وحكم مستبدا بالامر حتى وفاته.

وهكذا بدأ المماليك البرجية في التآمر اثناء الدولة البحريه القلاوونية، وقد اتخذ تدخلهم في بداية الامر مظهر الدفاع عن آل قلاوون بقتلهم بيدرا قاتل الاشرف خليل بن قلاوون ثم ما لبثوا ان تحكموا في اخيه الناصر محمد، ثم تطور نفوذهم اخيرا حتى تولى احدهم وهو الظاهر بيبرس الجاشنكير الحكم كأول سلطان برجى فى الدولة البحرية، ومع تهاوى عرشه سريعا إلا ان ذلك كان ارهاصا بقيام الدولة البرجية على يد برقوق فيما بعد.

ولقد انعكس نفوذ المماليك البرجيه على  مصير السلاطين من ابناء واحفاد الناصر محمد بن قلاوون بعد وفاته ، فكثر توليهم وعزلهم تبعا لمؤامرات كبار الامراء البرجية ، حتى انه في العشرين سنة الاولى بعد موت الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من اولاده (741-762). وفى العشرين سنة التالية تسلطن اربعة من احفاده، وبعضهم تسلطن وعمره عام واحد كالسلطان الكامل شعبان بن الناصر محمد ، وبعضهم لم يبق في الحكم إلاشهرين مثل الناصر احمد بن الناصر محمد. وفي ظل الاضطراب وعدم الاستقرار أتيح لبرقوق كبير المماليك البرجية الوصول للسلطنة أخيرا. أى إنه بعد ان جرب المماليك البرجية التحكم في ابناء الناصر محمد بن قلاوون تولوا الحكم وساروا بنفس اسلوب المؤامرات.

4- وقد عمرت دولة الممماليك البرجية اكثر من مائة واربعة وثلاثين سنة (784-922)، حكم فيها ثلاثة وعشرين سلطانا ،ومنهم تسعة حكموا مائة وثلاث سنوات ،وارتبط بهم تاريخ الدولة البرجية ،وهم برقوق مؤسس الدولة وابنه فرج و شيخ وبرسباي وجقمق واينال ،وخشقدم وقايتباي وقنصوه الغوري .

وقد تمكن برقوق بسلسلة من الدسائس والمؤامرات ان يقيم الدولة البرجية وتغلب علي مصاعب عديدة وصلت الي درجة عزله من السلطنة الا انه عاد وانتصر ، فلقد غدا ابناء الناصر محمد بن قلاوون لعبة في ايدي الامراء البرجية الذين تنافسوا علي الوصول الي درجة الاتابك أي نائب السلطنة للسلطان القلاووني الصغير. وتبلور النزاع اخيرا بين اميرين كبيرين هما بركة وبرقوق ، وانتهي الصراع بينهما بانتصار برقوق علي منافسه بركة، والتزم بركة أمام القضاة الاربعة باعتزال السياسة وأن يترك ذلك لبرقوق وحده، أى أصبح برقوق هو المرشح عن البرجية او الجراكسة للتحكم في السلطان القلاووني الصغير كالعادة، إلا أن برقوق كان يريد ان يخلع السلطان المغلوب علي امره ويحكم هو رسميا ، ولذلك خشي من منافسه القديم بركة فاعتقله في الاسكندرية واوعز الي واليها فقتل بركة في السجن . وثار اتباع بركة فأعلن لهم برقوق ان قتل بركة تم بدون علمه، وسلم لهم والي الاسكندرية فقتلوه واسترضاهم بذلك .

وتفرغ برقوق بعد ذلك لخلع السلطان ( علي ) القلاوونى، وكان الرأي العام يعطف علي ابناء البيت القلاووني ولا يميل الي خلعهم من السلطة الرسمية، وقد سبق ان الجنود والعوام ثاروا علي بيبرس الجاشنكير حين خلع الناصر محمد بن قلاوون وتعاطفوا مع الناصر محمد حين هرب الي الكرك حتي رجع وانتصر علي غريمه. وبرقوق يدرك ذلك جيدا، لذا عمد الي تخدير الرأي العام فاستضاف شيخا صوفيا معتقدا أي يعتقد الناس في ولايته ـ وهو الشيخ علي الروبي، وقد اعلن الروبي ان برقوق سيلي السلطنة يوم الاربعاء التاسع عشر من رمضان سنة 785 ،وان الطاعون وكان وقتها ساريا سيرتفع عن القاهرة ثم يموت الطفل علي، والمعلوم ان الصوفي يحظى باعتقاد العامة في علمه للغيب، واذ هيأ برقوق الاذهان لما سيحدث فقد قتل السلطان الصغير واشيع موته ودفنوه في نفس اليوم ، ثم عين بعده اخاه امير حاج، ثم عقد مجلسا بالخليفة العباسي والقضاة الاربعة والامراء فعزلوا امير حاج وبايعوا برقوق في التاسع عشر من رمضان سنة 785 هـ أي في نفس الوقت الذي اعلنه الشيخ الروبي سابقا .

ثم عمد برقوق للتخلص من الامراء  الذين ساعدوه وقضي عليهم بالقتل والنفي واعتقل الخليفة العباسي، وفي هذه الظروف مات الشيخ الروبي ميتة غامضة مما يعزز الشك في أن للسلطان برقوق يداً في مقتله، وبذلك ضمن برقوق لنفسه ان ينفرد بالامر ولا يكون لأحد عليه فضل او نفوذ باعتباره شريكا في المؤامرة .

الا أن برقوق أخذ من مأمنه كما يقال، فقد ثار عليه الأمير يلبغا والى الشام فأرسل  اليه برقوق مملوكه منطاش علي رأس جيش لإخضاعه، إلا إن يلبغا اتفق مع منطاش علي عزل برقوق ، فاستدار منطاش بجيشه ومعه يلبغا بجيشه الي القاهرة لعزل برقوق ، فهرب برقوق الي الكرك، ودخل منطاش ويلبغا الي القاهرة، واعيد السلطان امير حاج القلاوونى للعرش، وكما كان متوقعا دب الخلاف بين منطاش ويلبغا وانتصر منطاش ، وفي هذه الاثناء هرب برقوق من الكرك واعد جيشا ، وانضم اليه انصاره ،والتقي مع مملوكه السابق منطاش في موقعة شقحب وانتصر عليه، وعاد برقوق الي السلطنة للمرة الثانية سنه 797 .

5- ومات برقوق سنة 801 وتولي ابنه الناصر فرج . وقد اضطر فرج للاختفاء بسبب مؤامرة حتي اعاده الامير يشبك. ثم ثار عليه الاميران شيخ ونوروز فتنازل لهما. وثار النزاع بين شيخ ونوروز ، وانتهي بمصرع نوروز وسلطنة شيخ.

بعد موت السلطان شيخ تولي ابنه احمد تحت وصاية الامير ططر الا ان ططر سلبه السلطنة وتولي بعده . ومات ططر واخذ العهد لأبنه محمد بن ططر تحت وصاية برسباي الا ان برسباي ما لبث ان عزل ابن السلطان ططر وتولي مكانه. وتوفي الاشرف برسباي وعهد الي ابنه يوسف بن برسباي تحت وصاية الامير جقمق ، وبالطبع تسلطن جقمق، وحين مات جقمق عهد الي ابنه عثمان ابن جقمق بوصاية اينال فعزله اينال وتسلطن مكانه.

  وسادت فترة من الضعف في الدولة البرجية وتولي فيهم سلاطين ضعاف، وكثر فيهم العزل والتولية، حتي ان بعضهم كالسلطان خير بك لم يمكث سلطانا الا ليلة واحدة سنة 872  .

ثم انتعشت الدولة مؤقتا بتولي السلطان قايتباي الذي حكم تسعة وعشرين عاما، و تنازل في السنة الاخيرة لأبنه محمد بن قايتباي الذي دفع حياته ثمنا لمغامرات الكبار . وتعاقب جملة من السلاطين الضعاف حتي تولي قنصوة الغولي سنة 906 فأعاد الاستقرار الي حين. ثم انتهي امره وامر الدولة المملوكية في مرج دابق سنة 922 ، وقتل العثمانيون السلطان طومان باى وأصبحت مصر ولاية عثمانية .( عن كتاب : شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى للمؤلف : 93 : 106 . ط القاهرة 1984 )

 

 لمحة عن دين التصوف السنى المملوكى

 

  1 ـ فى العصر المملوكى جمع دين التصوف السنى بين تناقضات دينى التصوف والسنة لصالح التصوف الذى سيطر على أفئدة الناس متمعا بالحظوة لدى المحكومين والحاكم على السواء. كما جمع التصوف السنى ـ كدين أرضى جديد ـ بين المتفق عليه بين دينى التصوف والسنة وهو تقديس البشر من أئمة وصحابة وآل البيت والأولياء الصوفية السابقين دون نقد أو سب لأحد كما يفعل الشيعة. واشترك الفريقان فى الحج الى الوثن المنسوب للنبى محمد عليه السلام فى المدينة وفى تقديس بناء الكعبة والحجر الأسود.

معروف أنه ليس فى الاسلام تقديس لبشر أو حجر .الحجر الأسود مجرد حجر لتحديد بداية الطواف،والطواف بالكعبة ممنوع فيه لمس الكعبة حتى لا تتحول الى وثن مقدس، والكعبة مجرد بناء حجرى غير مقدس، وقع وأقيم أكثر من مرة، إنه فقط يحدد مكانا اختاره الله تعالى ليتجه اليه المؤمنون فى الصلاة وفى الحج. 

لم يقتصر الأمر فى دين التصوف السنى على تقديس الكعبة بالمخالفة لعقيدة الاسلام وانما تعدى الأمر ليصبح تقديسا لكل الأضرحة المقامة على جثث أو ذكرى الأولياء الصوفية وغيرهم من الأئمة والصحابة والأولياء الصوفية.كان الفقهاء والقضاة ـ ممثلوا السنة ـ هم قادة الاحتفال بالموالد الصوفية وروّاد التبرك بالأولياء الصوفية أحياءا وأمواتا.

2 ـ اصطنع التصوف السنى مرجعية مزيفة ربطته بالاسلام عن طريق تأويل قوله تعالى ( ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) يونس 62 ) على أساس أنها تعنى فقط الأولياء الصوفية، وتناسوا الآية التالية( الذين آمنوا وكانوا يتقون ) التى تجعل ولاية الله صفات عامة لكل مؤمن وتقى قبل وبعد نزول القرآن الكريم. كما تجاهلوا هجوم  القرآن الكريم على اتخاذ المشركين لأولياء مقدسة بزعم أنها تقربهم لله تعالى زلفى ويعتقدون فيها النفع والضرر والشفاعة والحياة الأبدية فى القبور،وهو بالضبط ما كان يفعله عرب الجاهلية وندد به القرآن ثم عاد المسلمون اليه تحت عباءة التصوف السنى ـ ولا يزالون يفعلون.

كما اعتمد التصوف السنى المرجعية المزيفة التى ارساها الشافعى فى  (الرسالة ) والتى أوّل من خلالها الأمر الالهى بطاعة الرسول بأنها طاعةالأحاديث التى تم تدوينها ونسبتها كذبا للرسول محمد عليه السلام بعد وفاته بقرنين وأكثر. وبالتالى فقد تحول أئمة الحديث الذين ماتوا فى القرن الثالث الهجرى فى العصر العباسى الى آلهة معصومة فى دين التصوف السنى بحيث أصبح نقد البخارى كفرا، وكان من المعتاد أن يعقد العصر المملوكى فى رمضان من كل عام ( ميعادا ) لترتيل البخارى، وتنافست المؤسسات الصوفية فى تقسيم البخارى الى أجزاء أو ( ربعات ) أى أرباع مثل المصحف ، وعكفوا عليه حفظا وترتيلا دون فهم بمثل ما كانوا يفعلون مع القرآن الكريم .

كان البخارى أكثر كتب الحديث تقديسا فى العصر المملوكى، وورثنا منه هذا التقديس. والسبب فى تفضيل العصر المملوكى للبخارى أنه بدأ بارساء عقيدة الاتحاد الصوفية فى حديث مشهور يزعم أن الله تعالى قال : ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ) ثم ينتقل الى تقرير عقيدة الاتحاد والحلول زاعما أن الله تعالى يقول عن الولى الصوفى : (كنت يده التى يبطش بها وقدمه التى .. الخ ).

3 ـ كان الصوفية الأوائل يكرهون الحديث ويقاطعون مجالسه لأنه يعبر عن دين السنة المخالف لدينهم ، واقرأ ما كتبه فى ذلك ابن الجوزى فى كتابه ( تلبيس ابليس ).ولكن عقد الصلح بين دينى السنة والتصوف ترتب عليه اشتغال كبار الصوفية بالحديث،أى بتأليفه ووضعه وتزويره ونشره.و تبارى أئمة التصوف اللاحقون  فى تأليف أحاديث ( نبوية ) تدافع عن عقائد التصوف ومقالاته. ووضع الأحاديث فى تدعيم التصوف السنى اشتهر به الغزالى ت 505 فى كتابه (احياء علوم الدين) الذى قال عنه النووى ( كاد الاحياء أن يكون قرآنا ).  وقد قام الامام العراقى بتخريج ـــ أو نقد ـــ الأحاديث التى ذكرها الغزالى فى ( الاحياء ) وأثبت بطلان معظمها بمنهج المحدثين، وقال عن المئات منها أنه ( لا أصل لها ) أى أنها لم تعرف من قبل، أى أن الغزالى هو الذى اخترع ذلك الحديث بنفسه.

استمرت صناعة الحديث تتكاثر بعد الغزالى، حتى أن علماء الحديث الحنابلة أنفسهم كتبوا ينتقدون تلك الكثرة من الأحاديث. وأبرز من كتب فى الأحاديث الموضوعة  ابن الجوزى فى ( الضعفاء والمتروكين ) وفى كتابه ذى الأجزاء الستة ( غريب الحديث ) وقد كتبه سنة 581.  وعلى نسقه كتب ابن تيمية رسالته ( أحاديث القصّاص ) وابن القيم فى ( المنار المنيف فى الصحيح والضعيف ) والسيوطى فى ( اللآلىء المصنوعة فى الأحاديث الموضوعة ). والطريف أن السيوطى جمع كل الأحاديث المتداولة فى عصره فى كتابيه ( الجامع الكبير ) و( الجامع الصغير ) واخترع السيوطى نفسه عشرات الأحاديث ملأ بها رسائله والتى لا تزال مخطوطة لا تجد من يجرؤ على نشرها .

4 ـ وبدأ الصوفية الأوائل دينهم بانتحال الوحى الالهى عن طريق الهاتف أو رؤية الله تعالى أو الرسول فى المنام زاعمين أن الله تعالى أو الرسول خاطبهم بهذه الطريقة. وبذلك لم يكونوا محتاجين لاختراع أحاديث نبوية واختراع سند ورواة لها. والمتطرفون منهم زعموا أن العلم اللدنى الالهى يفيض فى قلوبهم نابعا من الله تعالى بدون واسطة طبقا لنظرية الاشراق الغنوصية التى تجعل العلم الالهى يتدفق على قلب العارف من الله تعالى مباشرة، فيقول أحدهم ( حدثنى قلبى عن ربى ..) أو ( قيل لى .. ).

وهوجم الصوفية الأوائل بسبب هذه المزاعم، إلاّ أن الغزالى ملأ كتابه (الأحياء ) بالمنامات والهواتف ومزاعم أخرى من نوعية أن الله تعالى ( أوحى لبعض الصالحين ) أو ( أوحى لبعض الأنبياء ) ويذكر آراءه بزعم أنها وحى الاهى لبعض الصالحين أو لبعض الأنبياء دون أن يذكر اسما أو أن يحدد ماهية الكتاب السماوى الذى يزعم أنه ينقل عنه، وبذلك جعل آراءه وحيا سماويا، أى جعلها دينا أرضيا وفق عادة مخترعى الأديان الأرضية. وهو إفك يهون الى جانبه إفك مسيلمة الكذّاب الذى لم يزد عن ادعاء النبوة فجاء أولئك يزعمون الألوهية والجلوس فى الحضرة الالهية ورؤية الله تعالى فى المنام وفى اليقظة وحلوله فيهم أو اتحادهم به. وهذا ما اجتهد الغزالى فى تسويغه فى مواضع شتى نثرها بدهاء شديد بين سطور (الأحياء ) مستعملا أكاذيب المنامات والوحى حتى اكتسب الوحى الصوفى مصداقية فى العصور التالية ولم يعد محلا للانكار.

بعد التسليم بمبدأ الوحى للولى الصوفى أصبح معتادا فى العصر المملوكى الاعتقاد فى قدرة ( المجاذيب ) أوالمختلين عقليا على محادثة الله تعالى بزعم أن عقولهم قد (جذبتها الحضرة الالهية).

 وبتكاثر مزاعم المنامات والهواتف وفى ادعاء المنامات والكرامات والهواتف جرؤ على انتحالها بعض الفقهاء المتأثرين بالتصوف. كان منهم السيوطى الذى لم يكتف بتزييف الأحاديث وانما كان يزعم أن رسول الله محمدا عليه السلام كان يسعى اليه فى اليقظة  ليسأله عن الحديث والتفسير ويقول له : هات يا شيخ الحديث . وهذا ما ذكره الشعرانى عنه فى طبقاته الصغرى.

5 ـوعموما كان الصوفية نوعين : نوع ادعى الاعتدال وتسويغ التصوف عن طريق الحاقه بالسنة لمنع السنيين من الانكار على التصوف ، وانصب عملهم على تأطير عقائد التصوف والتعبير عنها بالرمز ومحاولة تسويغها . النوع الآخر جاهر بعقيدته الصوفية شعرا أو نثرا كابن عربى والجيلانى.

وبعضهم قرن التصريح عن عقيدته الصوفية باعلان كفره بالاسلام  ومنهم:

الشيخ ابن البققى المصرىالذى اشتهر فى القرن التاسع الهجرى بالانحلال والاستهزاء بالدين والافطار فى رمضان بغير عذر،(... وانه كان يضع الربعة الشريفة- أى المصحف – تحت رجليه ويصعد فوقها يتناول حاجة له من الرف ) ( ابن حجر : الدرر الكامنة 9/329 ).

ومنهم الشيخ الصوفى المشهور فى القرن السابع عفيف الدين التلمسانى ت 690 ، قيل عنه" نسبت اليه عظائم فى الأقوال والفعال والعقائد فى الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض " وأنه لا يحرم الزنا بأى امرأة، ويحل الزنا بالأم والبنت ويقول : وانما هؤلاء المحجوبون  - أى غير الصوفية – قالوا حرام فقلنا حرام عليكم ".

وقال عنه ابن تيمية " هو من حذاق القائلين بالاتحاد علما ومعرفة". ونشرح باختصار بعض هذا الكلام لنفهم كلام ابن تيمية عن التلمسانى : الاتحاد فى مصطلح الصوفية هو اتحاد الصوفى بالله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، والحلول يعنى عندهم حلول الذات الالهية بالصوفى ، أما وحدة الوجود فهى عندهم تعنى انه لافارق على الاطلاق بين الخالق والمخلوق، وأن لا وجود لله خارج المخلوقات فهو عين المخلوقات !! وأشهر من أعلن هذا الحلاج وابن الفارض وابن عربى وكان عفيف الدين التلمسانى هذا تلميذا لابن عربى . ونتابع ابن تيمية وهو يتحدث عنه : وكان يظهر المذهب بالفعل فيشرب الخمر ويأتى المحرمات وحدثنى الثقة أنه قرأ عليه – كتاب – فصوص الحكم لابن عربى، وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين ، فلما رآه يخالف القرآن قال له – أى للتلمسانى – هذا الكلام يخالف القرآن ، فقال : القرآن كله شرك وانما التوحيد فى كلامنا.. وحدثنى عن من كان معه ومع آخر نظير له فمرا على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم ، فقال له رفيقه : هذا أيضا هو ذات الله ؟ فقال : وهل هناك شىء يخرج عنها ؟ نعم الجميع فى ذاته"!!

وتكررت نفس القصة فى الاسكندرية فى القرن التاسع يرويها الفقيه البقاعى فى تاريخه " قال أحدهم لرفيقه ان الله تعالى هو عين كل شىء ، فمر بهما حمار فقال : وهذا الحمار ؟ فقال : وهذا الحمار . فروث الحمار من دبره فقال : وهذا الروث ؟ فقال : وهذا الروث "

(تاريخ ابن كثير 13 /326 – ابن العماد الحنبلى : شذرات الذهب 5 /412 – ابن تيمية مجموعة الرسائل والمسائل 1/145- تاريخ البقاعى  -مخطوط ورقة 123)

6 ـ وبعضهم تخفى خلف ادعاء الجنون أو ( الجذب ) أى أن الله تعالى (جذب روحه ) اليه فأصبح بروحه يجالس الله فى حضرته بينما يعيش بجسده بين الناس، وهذا هو مدلول المجذوب فى العصر المملوكى. وبتسيد التصوف السنى فى أواخر العصر المملوكى أصبح من لوازم الاعتقاد فى الشيخ الصوفى جرأته فى الشطح ـ أى سب الله تعالى ورسله الكرام ـ واشتهر بذلك مدعو الجنون من المجاذيب، وكان يسعى الى التبرك بهم شيوخ الفقهاء والقضاة وهم أعمدة السنة فى دين التصوف السنى.  وهناك فى الجزء الثانى من كتاب الطبقات الكبرى للامام الصوفى الفقيه عبد الوهاب الشعرانى تفاصيل مذهلة كتبها الشعرانى عن شيوخ المجاذيب المعاصرين له ، وهو يؤرخ لهم مفتخرا بما يقولون وما يفعلون لأن عصره كان يعتقد فى شيوخ الصوفية ويؤلههم. والشعرانى هو اِشهر شيوخ القرن العاشر الهجرى والذى أدرك أواخر العصر المملوكى وعاش ردحا من الزمن فى العصر العثمانى. وسيطرت مؤلفاته الكثيرة على الأجيال اللاحقة حتى عهد قريب. ونستشهد ببعض ما قاله عن أشياخه :

"كان الشيخ ابراهيم العريان رضى الله عنه يطلع المنبر ويخطب عريانا قيقول : السلطان ودمياط وباب اللوق وبين القصرين وجامع ابن طولون الحمد لله رب العالمين" فيحصل للناس بسط عظيم "

الشيخ شعبان المجذوب " كان يقرأ سورا غير السور التى فى القرآن على كراسى المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد ، وكان العامى يظنها من القرآن الكريم لشبهها بالآيات فى الفواصل ، وقد سمعته مرة يقرأ على باب دار فصغيت لما يقول فسمعته يقول: وما أنتم فى تصديق هود بصادقين .. ولقد أرسل الله لنا قوما بالمؤتفكات يضربوننا ويأخذون أموالنا وما لنا من ناصرين" ،  ثم قال : اللهم اجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز فى صحائف فلان وفلان الى آخر ما قال..وكانت الخلائق تعتقده اعتقادا زائدا ولم أسمع احدا ينكر عليه شيئا من حاله ، بل يعدون رؤيته عيدا عندهم "

الشيخ محمد الخضرى قال عنه الشعرانى: كان يتكلم بالغرائب والعجائب .. ما دام صاحيا فاذا قوى عليه الحال تكلم بالفاظ لا يطيق أحد سماعها فى حق الانبياء " .. " وجاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة .. فطلع المنبر.. ثم قال: وأشهد أن لا اله لكم الا ابليس عليه الصلاة والسلام" فقال الناس : كفر . فسل السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس عند المنبر الى أذان العصر ، وما تجرأ أحد أن يدخل" ونكتفى بهذا ومن أراد المزيد فعليه بالطبقات الكبرى للشعرانى- الجزء الثانى .وهو مطبوع ومتداول .

7 ـ وساعد على تردى الحال غياب فضيلة الأمر بالمعروف الاسلامية والنهى عن المنكر والتى تطرف الحنابلة فحوّلوها فى العصر العباسى الى إكراه فى الدين وتسلط على الناس واعتداء عليهم وتدخل فى حريتهم الشخصية وبها اضطهدوا مخالفيهم من الصوفية والشيعة وأهل الكتاب. جاء التصوف بتطرف مضاد وهو عدم الاعتراض وعدم الانكار، والتسليم لكل انسان بحاله. وبعقد الصلح بين التصوف والسنة لصالح التصوف فقد تم التخلى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى دين التصوف السنى وحل محله عدم الاعتراض وعدم الانكار فى الحياة الدينية والاجتماعية. وانتقل هذا الى الحياة العلمية والعقلية فتحول الاجتهاد الى تقليد وتحول التقليد فى العصر المملوكى الى جمود وتخلف فى العصر العثمانى. وبالتالى فقد أصبح البحث فى النواحى التى يتناقض فيها دينا التصوف والسنة من المحرمات. ومن يجرؤ على هذا من الفقهاء فمصيره الاضطهاد مهما بلغ شأنه ومهما كانت الحجج التى يستند اليها.

وهذا يفسر الاضطهاد الذى وقع على ابن تيمية ومدرسته.

وفى نفس الوقت فان أوباش الصوفية الذين يعلنون عقائد التصوف الأصلية من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ـ على نسق الحلاج ـ كان مصيرهم أيضا المحاكمات والاتهام بالردة واحتمال القتل مالم يتظاهروا بالجذب .وأحيانا كان يتم الصفح عنهم بحجة الجنون. والتفاصيل فى بحثنا الذى صادره الأزهر سنة 1979 ثم نشرته المحروسة فى القاهرة فى ثلاثة أجزاء سنة 2005 تحت عنوان ( الحياة الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف) . وهو منشور الآن هنا .

 

خضوع الفقه السنى لدين التصوف السُّنّى المملوكى

 

أثر التصوف فى إفقار الحياة العقلية والفقهية

 الفقه كان ولا يزال هو المعبّر عن الدين السُنى والتشريع السنى. فماذا كان حاله تحت سيطرة التصوف السُّنى المملوكى ؟

1 ــ تأثر علم الفقه بالمستوى الهابط للحياة العقلية فى العصر المملوكى، والتى أرهقها التصوف بالاعتقاد فى الخرافات وبقيم التقليد والجمود وكراهية استعمال العقل، وسيادة مبدأ ( ليس فى الامكان أبدع مما كان ) الذى أرساه الغزالى ونتج عنه وضع المتاريس امام حركة الاجتهاد والابتداع ، بل أصبح الابتداع رذيلة دينية فقيل عنه ( بدعة ) وزعموا أن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار. هذا فى الوقت الذى أصبح فيه جهل أولياء التصوف منقبة يتعاملون معه بالتقديس على أنه نتاج ( العلم اللدنى ) الالهى بزعمهم .

2 ــ فى العصر المملوكى انقرض المعتزلة والفلاسفة العقليون ووضعت مؤلفات فى تحريم علم المنطق كتبها السيوطى وغيره، وفى نفس الوقت انتشرت مؤلفات جديدة فى خرافات تقديس الأولياء وتأليف كرامات لهم وتقعيد التعامل معهم وفق أصول التعبد.

 فى هذا الجو الهابط الخامل تعذر التجديد والاجتهاد إلا نادرا ، تجد هذه الندرة العلمية فيما كتبه ابن خلدون فى مقدمته المشهورة، وفى بعض لمحات قليلة كتبها أئمة الفقهاء الحنابلة ( المغضوب عليهم ) من العصر كابن تيمية وابن القيم والبقاعى وبعض المؤرخين الأفذاذ كالمقريزى.

3 ــ فى مقابل هذا التجديد المحدود تجد السياق العام يتركز فى تلخيص ما قاله السابقون ، ثم شرح التلخيص وتأليف ملخصات شعرية للمتون واعادة شرحها، أو التعليق والشرح على الكتب الأساسية للعصر العباسى كما فعل ابن حجر والعينى والقسطلانى فى شرحهم للبخارى.

وبمرور الأيام تحول التقليد الى جمود ونضبت الحياة العلمية تماما فى أواخر العصر المملوكى ، ثم أصبحت جهلا مركبا فى العصر العثمانى الى أن صحا شيوخ الأزهر على مدافع نابليون وحملته الفرنسية التى اقتحمت القاهرة فهرع شيوخ الأزهر يدافعون عن الوطن بقراءة الأوراد الصوفية(دلائل الخيرات ) وكتاب البخارى.

4 ــ الكتابة فى الفقه السُّنّى  تأثرت بهذا التطور الهابط . كان هناك صعود فى تاريخ المسلمين الحضارى فى القرنين الثالث والرابع من الهجرة ، حمل معه إزدهار الكتابة الفقهية  فى القرن الثالث من الهجرة حيث ظهر أئمة الفقه ، ثم حافظت الكتابة الفقهية على مستواها قليلا  فى القرن الرابع حيث كان هناك نوع من التجديد فى التفصيلات رقصا على ما قيل من قبل ، ثم بدأ المستوى فى التراجع مع القرن الخامس مع زحف التقليد رويدا رويدا مصاحبا للتصوف، ثم إزدادت سيطرة التصوف بدخول العوام شيوخا فيه فازداد التراجع والتقليد وتحولت خرافات التصوف الى عقائد تتمتع بالتقديس والتسليم على حساب العقل ، ثم إنتهت الحياة العقلية الى تحت الصفر وفاز التصوف على الحياة العقلية كلها بالضربة القاضية فى العصر العثمانى.

5 ـ وكان الفقه السُّنّى بالذات الأكثر تأثرا .

لهذا لم يشهد العصر المملوكى أئمة فى الفقه بعد أئمة المذاهب الأربعة ، برغم توفر كل الامكانات التى تعين على التفرغ العلمى من كثرة المؤسسات التعليمية وازدهار الوقف عليها وكثرة المناصب فيها. السبب أن كل تلك المؤسسات كانت بيوتا للصوفية فى حقيقتها، وكان التصوف أهم دروسها، مع إنه لم يكن علما ، بل تضييعا للوقت فى اللهو واللعب بحجة الدعاء لصاحب الوقف والزعم بالتشفع له يوم القيامة . تخرج في هذه المؤسسات الصوفية  مئات الآلاف من ( العلماء والفقهاء ) إزدحمت بهم المؤلفات التاريخية فى العصر المملوكى من طبقات الفقهاء ( الشافعية وغيرهم ) وطبقات المفسرين وطبقات المحدثين وغيرهم . كان أغلبهم من العوام ، وغاية المشاهير منهم أن يكونوا مقلدين للعلماء السابقين وفق قاعدة هذا ما وجدنا عليه آباءنا.

6 ـ بل أصبح الاختلاف مع ما كتبه الأئمة الأربعة وأئمة الحديث فى العصر العباسى خروجا على الدين السنى نفسه لأنهم صاروا فى عقيدة العصر آلهة معصومة من الخطأ. يكفى ان ميعاد البخارى فى المؤسسات التعليمية كان يعنى ختم كتاب البخارى فى موعد معين وفى احتفالية رسمية وشعبية حيث يرتلون البخارى كما يرتلون القرآن، ويقسمون به أغلظ الأيمان. أما كتب الفقه الكبرى كالأم للشافعى فكان الاقتراب منها لا يكون إلا عن طريق مؤلفات أخرى تشرح وتعيد انتاج بعض ما قاله الشافعى وغيره. فى هذا الجو المعادى للتجديد نفهم محنة ابن تيمية ومدرسته التى حاولت أن تجتهد فى اطار الدين السنى خارجة عن المألوف العقلى ومصطدمة ببعض أئمة التصوف فى عصره.

تأثر أنواع الكتابة الفقهية بدين التصوف السُّنّى المملوكى

الفقه النظرى  

الفقه النظرى هو تلك الكتابات الفقهية الكلاسيكية التى تأثرت بمنهجية الشافعى فى كتابه الضخم (الأم ) وبالقواعد المنهجية التى وضعها فى " الرسالة ".

أهم ملامح الفقه النظرى :

1 ـ  الاعتماد على تأليف الأحاديث المنسوبة للنبى محمد عليه السلام ، وجعلها تحمل الرأى الذى يريد الفقيه قوله دون الحاجة الى استدلال عقلى . هذا مع أن العصر التاريخى للفقيه وجامع الأحاديث هو المسرح الذى تم فيه كتابة الفقه و الحديث ، وجاءت هذه الكتابات تعبيرا عن هذا العصر ثقافيا وعن عقليات المؤلفين ولا صلة لها مطلقا بالنبى محمد عليه السلام . وبالتالى فان التاريخ نفسه هو الفيصل فى فهم عقليات أولئك الأئمة وكتاباتهم الفقهية والحديثية بدون اعتبار للأفك الذى اخترعوه حين نسبوا آراءهم للنبى محمد عليه السلام بعد موته بقرنين وأكثر.

2 ـ المنهج الصورى ـ أو التصورى ـ للأحكام ووضع حكم فقهى لها. أى يتصور حدثا ثم يضع له حكما فقهيا ، مثل قوله : أن فعل كذا فالحكم فيه كذا. هذا المنهج التصورى له بالطبع أصل نسبى فى الواقع الذى عاشه الفقيه، الا أن الفقيه بالغ وأوغل فى التنظير مبتعدا عن ذلك الواقع. ثم انتقل من التنظير الى الاستقراء أى محاولة تعميم الحكم بالبناء عليه والتوسع فيه الى درجة  تغطية كل الصور العقلية الممكنة افتراضا .

تأثير التصوف السنى المملوكى فى الفقه النظرى 

1 ـ كان هذا المنهج الصورى مقبولا نوعا ما فى عصر الازدهار العلمى والنضج العقلى فى العصر العباسى الأول . الا أنه تحول الى بلوى فى العصور اللاحقة التى سيطر فيها التصوف وانتشرت فيها خرافات الكرامات والمنامات وانقطع الاجتهاد وحل محله الجمود والتقليد والتأخر والتخلف بالتدريج.

2 ـــ  التنظير الفقهى فى هذا العصر وصل الى افتراضات مضحكة بذيئة كقولهم ( من اضطر الى أكل لحم نبى هل يجوز له ) ( من حمل قربة فُساء هل ينتقض وضوؤه ) ( من كان لذكره فرعان ووطأ زوجته فى قبلها ودبرها هل يجب عليه غسل واحد أو غسلان ) ( من زنى بأمه فى نهار رمضان فى جوف الكعبة عامدا ماذا عليه من الاثم )( من وقع من سطح منزله على جسد إمرأة نائمة فزنى بها ماذا عليه من الإثم ) . وقد كان ابتلاؤنا فظيعا بهذا الفقه فى التعليم الأزهرى. وهو فى النهاية مع خيالاته المريضة البعيدة عن الواقع الا انه كان انعكاسا أمينا للعقلية ومستواها.

من المؤلم بل من المفجع أن فقهاء الوهابية فى عصرنا يمارسون هذا النوع من الفتاوى السّامة المهلكة عن الزنا بالمحارم وجهاد المناكحة ـ يقومون بتشريع وتسويغ الانحلال الخلقى السائد فى مجتمعات المحمديين المنغلقة.

3 ــ نعود الى الفقه النظرى الاستقرائى ونقول إن الشافعى قد أخذ عن مالك الانحياز الى مدرسة الحديث فى موسوعته ( الأم ) فاخترع على منوال مالك آلاف الأحاديث وإصطنع لها إسنادها مزعوما يربطها بالنبى محمد عليه السلام زورا وبهتانا . وفى هجرته للعراق تعلم من البيئة العراقية غرامها بالمنهج الصورى الاستقرائى فجاء كتابه (الأم ) مزيجا من الحديث المخترع المنسوب للنبى محمد عليه السلام والفقه التصورى النظرى الاستقرائى. ثم قام الشافعى بتقعيد تشريع الدين السُّنّى فى رسالته المشهورة ، وجعل أحاديثه المفتراة هى ( الرسول ) الواجب طاعته ، والذى به يمكن إلغاء تشريعات القرآن الكريم ــ بزعم النسخ ، أى إن السُّنّة تنسخ بزعمه القرآن الكريم وتشريع رب العالمين جلّ علا .

4 ــ هذا الفقه النظرى الصورى أو التصورى ــ الذى وضع الشافعى أُصوله ــ لم يكن فى أغلبيته شديد الالتصاق بحركة المجتمع ولم يكن قوى التأثير فيها وان كان نابعا منها ومن خيالات الفقيه وتصوراته ومعبرا عن مستواه الثقافى والعقلى. على أن بعض " الأحاديث " التى صنعوها لتحمل آراءهم الفقهية فى الفقه النظرى كان انعكاسا لبعض المظاهر الحياتية وقتها ، فقد كانت تلك الأحاديث رد فعل للمتطلبات الحياتية وانعكاسا للتطور السائد  حتى فى البيئة المحافظة التقليدية كالمدينة. وكان الأمر أكثر وضوحا فى البيئات النهرية خصوصا فى العراق حيث التنوع الثقافى والعنصرى والجنسى والاختلافات السياسية والمذهبية والدينية ، وتحولها الى أحزاب متصارعة بالبنان واللسان والسنان. وكان اختراع الأحاديث أهم سلاح فى الخلافات الفقهية والمذهبية والسياسية والحزبية والطائفية والقبلية ( نسبة للقبيلة ) والقطرية( نسبة للقطر).

5 ـ هدأت هذه الخلافات الفقهية فى عصر التقليد والجمود مع سيطرة دين التصوف السُّنّى المملوكى . لأن مجالات المناظرات لم تتطرق الى المسائل الخلافية بين المذاهب أو بين أعلام الفقه والحديث ، بل أصبحت مسابقات بين أفذاذ الفقهاء المملوكيين فى مدى ما يحفظه أحدهم من صحيح البخارى سندا ومتنا . وهذا أيضا كان إنعكاسا أمينا لثقافة العصر المملوكى والجهل المسيطر عليه .

فقه الحيل

1 ـ أنتج العراق هذا النوع الفقهى الذى يريد الالتفاف على الفرائض الشرعية بأنواع من الحيل ، فالذى لا يريد الصلاة يخترعون له حيلة فقهية ، والذى يريد الللقاء الجنسى بزوجته فى نهار رمضان يقولون له : ( سافر بها ) فإذا سافر بها حلّ له الافطار وبالتالى أن ينام معها فى نهار رمضان .

بدأ فقه الحيل بما يعرف بمدرسة الرأى التى تزعمها الفقيه الثائر ابو حنيفة (ت 150)، ثم تطور بعده ليصبح منهجا متكاملا يتطرف فى استعمال الحيل بذكاء فى مقابل مدرسة الحديث الفقهية المحافظة التى تطورت بعد الشافعى بظهور ابن حنبل الذى جعل كتاباته الفقهية أحاديث خالصة فيما يعرف ب(مسند أحمد ). وتفنّن أبو يوسف صاحب أبى حنيفة فى التحايل على الشريعة الاسلامية لارضاء نزوات الخلفاء العباسيين المهدى والرشيد والمأمون . ونسبوا كثيرا من فتاوى فقه الحيل الى أبى حنيفة ، وبها تخصص الفقه الحنفى بهذا التحايل على الشرع الالهى ، وتناسوا أن تلك الأوامر التشريعية هى مجرد وسائل للتقوى، واذا كنا نتحايل على شرع الله تعالى فلا مجال للتقوى فى القلوب.

2 ــ فقه الحيل كان تعبيرا أمينا عن التلون الذى ساد العصر العباسى ، فقد أعطى مشروعية زائفة للجمع بين المظهر الدينى والانحلال الخلقى والعقيدى. كان النتاج الطبيعى للتدين المظهرى السطحى الشكلى الذى أعادته الحركة الوهابية لعصرنا وربطته بالاسلام زورا وبهتانا. كان المجون على أشده فى القصور العباسية والحانات الشعبية ، وكان على الجانب الآخر حركات دينية فاعلة ومساجد مأهولة وثقافة دينية يختلط فيها الصحيح بالفاسد مع ظلم اجتماعى وقهر سياسى وخلافة كهنوتية تنتسب للنبى عليه السلام وتشجع الرواية عنه وعن ابن عمه ابن عباس وهو جد الخلفاء العباسيين. 

3 ــ  تقلص فقه الحيل فى العصر المملوكى بالتدريج لأنه يحتاج الى نوع من الاجتهاد لم يكن موجودا وقتها . وكان الفقيه الحنبلى ابن القيم فى القرن الثامن الهجرى آخر من أشار اليه فى كتابه ( إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان ).

الفقه الوعظى

1 ـ واذا كان فقه الحيل استجابة طبيعية للبيئة العباسية ومعبرا عنها بصورة غير مباشرة فان الفقه الوعظى كان الأكثر تعبيرا عن عصره والأكثر قربا من علم التاريخ، وهو يعنى التعليق بالنقد والانكار على بعض ما يقع فيه الناس من أخطاء ، والحكم عليها فقهيا بالحرام أو المكروه. واذا كان الفقه النظرى يتخيل حدوث فعل ثم يعطيه حكما فقهيا كقولهم ( ان فعل كذا فهو حرام أو حلال او مندوب أو مكروه) فان الفقه الوعظى يحكى الواقعة الحقيقية التى تحدث أو اعتاد الناس فعلها ثم يعلق عليها بالاتكار معطيا ما يراه حكما فقهيا لها.

2 ــ هنا يتحول الفقيه ـــ دون أن يدرى ـــ الى مؤرخ . بل ومؤرخ موثوق به لأنه ــــ دون أن يدرى ايضا ـــ قد ذكر ملامح تاريخية اجتماعية ثمينة بدون تهويل أو تضخيم يتفوّق بها على المؤرخين المشهورين لأن العادة أن المؤرخ المعاصر للحدث لا يهتم بالتفصيلات الاجتماعية الحياتية العادية، ويركز على الأحوال السياسية ثم يلّون الأحداث برؤيته الشخصية.

3 ــ ميزة الفقه الوعظى من الناحية الفقهية أنه يصاحب تطور المجتمع بالنقد والتعليق يجرى معه وخلفه يطلب الاصلاح من وجهة نظر الفقيه المؤلف بالطبع.

4 ــ لم يظهر الفقه الوعظى فى العصر العباسى الأول ، بل نشأ مع ابى حامد الغزالى ( ت 505 ) بين ثنايا كتابه ( احياء علوم الدين). ثم أفرد له الفقيه المؤرخ الحنبلى عبد الرحمن بن الجوزى ( ت 597 ) كتابا خاصا هو ( تلبيس ابليس ).

5 ـ  ثم إزدهر الفقه الوعظى فى العصر المملوكى إذ أثار الفقهاء حجم الانحلال الذى عمّ المجتمع فهبوا ينكرون عليه ، وشمل إنكارهم الجميع .

أبرز من كتب فى الفقه الوعظى فى العصر المملوكى الفقيه المغربى الصوفى ابن الحاج العبدرى ت 737 ، فى كتابه ( المدخل ). وقد سجل لمحات من حياة ساكنى القاهرة المملوكية ، وشمل كتابه ذو الأجزاء الثلاثة إنكارا على النساء والفقهاء والصوفية ، وتسجيلا واقعيا لتأدية العبادات من صوم وصلاة وتوسل بالأولياء والموالد وتعامل فى الأسواق وما يتخلل ذلك من ملامح عصيان ، يذكرها ابن الحاج ثم يعلق عليها بالوعظ والحكم الفقهى الذى يراه من داخل التصوف السنى الذى يؤمن به .

ثم ابن القيم الجوزية الحنبلى فى كتابه ( اغاثة اللهفان من مكائد الشيطان ) ، وإن كان مُقلّا فى ذكر الأحداث التاريخية الاجتماعية مع الاستطراد فى الانكار بلهجة الفقهاء الحنابلة .

ثم جاء الشعرانى فى نهاية العصر المملوكى وبداية العصر العثمانى ممثلا للفقهاء والصوفية مع إنتمائه الأساس للتصوف . وقد هاله تطرف الانحلال فكتب كثيرا من المؤلفات فى الفقه الوعظى ليبرىء منها دين التصوف وليمدح نفسه ويهاجم منافسيه من شيوخ وأولياء التصوف الذين كانوا يزاحمونه على المريدين والنذور . أشهر  كتبه :( لطائف المنن ) ( الكبرى والوسطى والصغرى ) و( تنبيه المغترين ). هذا مع دفاعه عن إنحلال شيوخه الخلقى والعقيدى فى كتب أخرى مثل ( الطبقات الكبرى ) و ( الطبقات الصغرى ) واليواقيت والجواهر  و( قواعد الصوفية )، وغيرها .

 

 خضوع الفقهاءالسنيين لدين التصوف السُّنّى

 

أثر التصوف السُّنى فى تنوع الفقهاء بين التصوف والسُّنّة

أصناف شيوخ التصوف السنى :

ولقد أسفر دين التصوف السنى عن كتابة تراث مختلط متنوع ، بعضه ينتسب للتصوف فقط وآخر ينتمى للفقه فقط وثالث يجمع بينهما. هذا التراث ملأ مكتبة بغداد التى  دمرها المغول سنة 658 ، ثم أعاد العصر المملوكى كتابة ذلك التراث والزيادة عليه وشرحه وتلخيصه والتعليق عليه.

الباحث فى هذا التراث لا بد له أولا أن يفهم الفوارق الأساسية بين أديان السنة والتشيع والتصوف ومصطلحات وعقائد وأدبيات كل منها قبل وبعد العصر المملوكى ، مع فهم كامل للخلفيات السياسية والاجتماعية لتلك الفترة الزمنية لأنها التربة التى نبتت وازدهرت فيها الحياة الدينية الواقعية للمسلمين ودينهم العملى وهو ( التصوف السنى ).

من يبحث كتب الحديث والعقائد والفقه العادى النظرى والفقه الوعظى بدون ذلك الفهم لا بد أن تصيبه نعمة الجهل التى يتحلى بها الشيوخ فى الأزهر والباحثون الأفندية المترفون السطحيون المتفرنجون .

ولتوضيح الأمر لدى الباحثين الجادّين فى التراث والعقائد الدينية للمسلمين فان أعلام التصوف السنى من الفقهاء و الصوفية ينقسمون الى فئات أربع حسب تاريخهم وتراثهم المكتوب :

1 ـ صوفية فقهاء: أى هم صوفية فى الأصل ولكنهم تخصصوا فى الفقه وبرزوا فيه ، وإنصبّ تراثهم وتاريخهم فى الدفاع عن التصوف وربطه بدين السنة ، وقدهاجموا صعاليك الصوفية فى عهدهم لسحب البساط من تحت أقدام الفقهاء السنيين المنكرين عليهم وحتى ينحصر الانكار على بعض الصوفية دون مساس بدين التصوف نفسه. بدأ هذا على استحياء بالقشيرى المتوفى (465 ) ثم توسع فيه الغزالى ( ت 505 ) وتزعمه الشعرانى 973 فى العصرين المملوكى والعثمانى.

2ـ فقهاء صوفية: وهم معظم القضاة ومعظم المؤرخين وعلماء الحديث والفقه الذين عملوا فى المؤسسات الصوفية ودانوا بالعقيدة الصوفية بدرجات متفاوتة دون نقد لعقائد التصوف تأثرا بالتقليد ووفقا لقاعدة هذا ما وجدنا عليه آباءنا. والأمثلة كثيرة من ابن الحاج العبدرى 737 والذهبى 748 و السبكى 771 وابن خلدون 808 والمقريزى 845 وأبى المحاسن 874 وابن حجر 852 والعينى 855والسخاوى المؤرخ المحدث 902  والسيوطى ت 911 وزكريا الأنصارى رفيق السيوطى.

3 ـ  صوفية فقط : يجمع بينهم كراهية الفقه المعبر عن دين السنة وفى المقابل كانوا يؤمنون  بعقائدهم الصوفية من وحدة الوجود ( الاعتقاد بأن الله تعالى هو نفسه المخلوقات والمادة ) والاتحاد بالله تعالى و الحلول فيه وادعاء الالوهية. وكان العصر يسمح لهم بذلك اذا قالوها فى صورة شعرية أو بزعم الشطحات وغيبة العقل والوجد و" الحال الصوفى ". وكان أتباعهم يكتبون فيهم المدائح والمناقب ويؤلفون فى حقهم الكرامات .

أولئك الصوفية كانوا أنواعا شتى  :

* نوع تبحر فى التصوف النظرى الفلسفى وقواعده ، مثل أبى  مدين الغوث التلمسانى 594 و ابن عربى 638 وابن الفارض 632 و عبد الحق ابن سبعين 667  وعفيف الدين التلمسانى 690 والقاشانى 735 وابن عطاء السكندرى وعبد الكريم الجيلى وزروق الفاسى. كانوا قلة مالبث أن اختفت عندما عمّ الجهل وتسيد التصوف العملى القائم على انتشار الطرق الصوفية ودخول العوام فيها.

* نوع تخصص فى التصوف العملى بانشاء الطرق الصوفية وجمع الأتباع لأغراض سياسية أو دنيوية . والى هذا الصنف ينتمى كبار الأولياء الأولياء المقدسين حتى الآن مثل أحمد الرفاعى 578 واحمد البدوى 675  وابراهيم الدسوقى 676 وأبو الحسن الشاذلى 656 ومحمد وفا 765 .. الخ

* ومنهم من كان مدعيا للجنون أو ( مجذوب ) أى ـــ بزعمهم ــ جذب الله تعالى نفسه ليجلس فى الحضرة الالهية يينما يبقى جسده فى الأرض. ومنهم من زعم العلم اللدنى الالهى ــ وكان يفخر بأنه لا يقرأ ولا يكتب مثل الحنفى والفرغل والمنوفى و الخواص والدشطوطى. كانوا يتحدثون بالعلم اللدنى يقولون جهلا مركبا وخرافات ، ولكن كان أتباعهم يكتبون فى مناقبهم وكراماتهم كتبا خاصة مثل ( مناقب القطب الأمثل سيدى محمد الفرغل ) واسم (فرغلى)  المنتشر فى صعيد مصر منسوب الى هذا الولى الأمى الموجود ضريحه فى صعيد مصر وهو يحظى بالتقديس حتى الآن  ، و ( السّر الصفى فى مناقب سيدى الحنفى ) تأليف الشيخ البتنونى  و ( مناقب سيدى المنوفى ) لابن اسحاق خليل المالكى.

والشعرانى كتب فى مناقب أولئك الأولياء الصوفية الأميين ، وأضفى عليهم صفات الألوهية ، وهم كثيرون فى الجزء الثانى من كتابه ( الطبقات الكبرى ) . بل ونقل عن شيخه ( الخواص ) الكثير ، منها ما كان فى عقائد التصوف ومنه ما كان فى ( التفسير ) ، وكان يتعامل مع ما ينقله عن شيخه الخواص يالتقديس يعتبره مثل القرآن الكريم . وظهر فى العصر المملوكى ( البرجى ــ المماليك البرجية ) نوع جديد من الكتابة التاريخية الصوفية ، هو كتب المزارات . إعتاد المصريون والقادمون لمصر زيارة قبور الأولياء تبركا بها ، وكانت هذه السياحة الدينية تجارة زاهرة ، ويكفى أن الرحالة الذين زاروا مصر المملوكية سجلوا زيارتتهم لمقابرها مثل ابن بطوطة وابن ظهيرة . ولأنها أصبحت صناعة فقد إحترف بعضهم مهنة ( المرشد السياحى ) أو ( مشايخ الزيارة ) تخصصوا فى معرفة طرقات القرافة وإرشاد الزوار للقبور المشهورة وأن يحكى للزوار كرامات أصحاب تلك القبور ، وصار لبعض القبور تخصص فى الكرامات . وبعض مشايخ الزيارة كتب فى هذه النوعية( كتب المزارات )  ، يصف معالم القرافة ومناقب الأولياء وكراماتهم المزعومة المشهورة ، والتى كانت فى العصر المملوكى التى كانت كالدليل السياحى لمن يزور الترب ومقابر الأولياء، ويعطى تاريخا لبعض الأولياء الموتى وكراماتهم، كما فعل ابن الزيات  814 فى كتابه ( الكواكب السيارة فى ترتيب الزيارة ) والسخاوى الصوفى 900فى كتابه ( تحفة الأحباب ).أو يجمعونهم فى تراجم عامة مثلما فعل الشعرانى فى ترجمة مشاهير الأولياء فى ( الطبقات الكبرى) و ( الطبقات الصغرى )، وعلى مثاله كتب المناوى 1031 طبقاته الكبرى والصغرى.

4 ـ فقهاء فقط ، وكلهم حنابلة .

مثل ابن الجوزى 597 ابن تيمية 728 وابن القيم الجوزية 751 وابن كثير774  ثم البقاعى 885. هؤلاء رفضوا عقائد التصوف الصريحة مثل الاتحاد ووحدة الوجود والحلول ، كما لم يذعنوا لقيم التصوف الداعية الى عدم الاعتراض، لذا أحيوا الانكار الحنبلى القديم . إلا أنهم انكروا فقط على شيوخ التصوف المعاصرين لهم مع الاحترام للصوفية السابقين والتسليم بدين التصوف نفسه منخدعين بمقالة الجنيد سيد الطائفة الصوفية الذى ربط التصوف بالسنة.

هؤلاء الفقهاء الحنابلة اصطدموا بالفكر السائد فى عصرهم وحاولوا اعلاء شأن الجزء السنى على الجزء الصوفى فى دين التصوف السنى ، فكان نصيبهم الاضطهاد مع علو قدرهم علميا واجتماعيا.

اضطهاد ابن تيمية في العصر المملوكي

1 ـ خلافا للسائد المعروف عن ابن تيميه فقد كان ابن تيمية مؤمنا بالتصوف السُنّى ، كان يُسلّم لاولياء التصوف ويعتقد في ولايتهم وكراماتهم وشفاعاتهم يقول ابن تيمية (ان الصوفية مجتهدون في طاعة الله) ويقول عن الجنيد احد ائمة التصوف السابقين (فإن الجنيد قدس الله روحه كان من ائمة الهدى ..)غاية ما هناك ان ابن تيمية يري ان طوائف من اهل البدع قد انتسبوا للتصوف وليسوا منهم كالحلاج ويعتقد ابن تيمية في كرامات الاولياء حتي فيمن يعتبرهم من أولياء الشيطان . ولكنه تعرض للإضطهاد حين إعترض على أشهر الأولياء الصوفية ابن عربى الذى كتب فى عقيدة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود . عندها لم تنفعه مكانته فتعرض للإضطهاد .

2 ـ بدأت محاكمة ابن تيمية حين احتج علي كتاب الفصوص لابن عربي الذي يصرح بعقيدة الصوفية في وحدة الوجود أو انه لا فارق بين الله والكون ،وكان ذلك في شهر رجب 705هـ في الشام ، وكان الشام تابعا للسلطنة المملوكية ،وكان السلطان الفعلي وقتها بيبرس الجاشنكير الذي اغتصب الحكم من السلطان الشرعي محمد بن قلاوون ،وكان ابن تيمية باعتباره اكبر فقهاء عصره يؤيد حق الملك الشرعي الناصر محمد بن قلاوون ، ومن هنا كان الجاشنكير غاضبا عليه فأيد الصوفية في اضطهاده .

3 ـ  ثم عقدت لأبن تيمية محاكمة اخرى في مصر حيث اعتقلوه في جُبّ القلعة وارادوا الحكم بقتله ،وانصبت محاكمته حول امور فقهية لأن خصومه منعوه من مناقشة عقائد ابن عربي خوف الفضيحة، ومع ذلك ارادوا الحكم بقتل ابن تيمية في تلك الخلافات الفقهية اليسيرة . واثناء اعتقاله في السجن حاولوا الحصول علي اعترافه بعقائدهم ويعرضون عليه الصلح والافراج ولكنه رفض ، وفي النهاية افرجوا عنه ونفوه الي الاسكندرية علي امل ان يقتله اعداؤه فيها ، الا انه صار له اتباع في الاسكندرية ، ثم اطلق بيبرس الجاشنكير سراحه . واستمرت المناوشات بينه وبين الصوفية حتي انهم عادوا لمحاكمته وسلطوا عليه سفهاءهم  فضربوه والحوا علي السلطان في سجنه فسجنه.

4 ـ واسقطت ثورة شعبية مصرية السلطان بيبرس الجاشنكير و قد تخلى الصوفية والجند عن الجاشنكير فهرب وجئ بالسلطان الشرعي محمد بن قلاوون صديق ابن تيمية، وكان وقتها ابن تيمية معتقلا . وأعدّ الصوفية العدة لإستقبال السلطان الناصر محمد الذي سبق وان تخلوا عنه من قبل ليستعيدوا مكانتهم عنده وليكفروا عن تخليهم عنه من قبل.

وصحيح ان السلطان الناصر محمد بن قلاوون افرج عن ابن تيمية واتباعه واكرمه وجعل ابن تيمية مستشارا له ، الا ان السلطان الجديد استجاب لدسائس شيوخ الصوفية ، وكانت لديه هواجسه من شخصية ابن تيمية وكثرة اتباعه وشدته فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فصدق الاشاعات الصوفية عن الطموح السياسى لابن تيمية. وكان الناصر محمد ابن قلاوون قد تعلم الكثير من عزله مرتين من السلطة ، ويريد الاحتفاظ بسلطنته الثالثة مستبدا بدون أى نقد لذا  انحاز الي الصوفية مضحيا بصديقه القديم ابن تيمية ، فاقام للصوفية اكبر خانقاه وهي خانقاه سرياقوس وافتتحها في حفل جامع سنة 725هـ ، وفي السنة التالية امر باعتقال صديقه القديم ابن تيمية بسبب فتوي سابقة له عن تحريم زيارة القبور.

5 ــ  وحمل الاعتقال الاخير لابن تيمية كل الحقد الصوفي عليه ،اذ كان يفرح بالسجن حيث يتفرغ للعبادة والتأليف ، الا ان خصومة الصوفية في سجنه الاخير منعوه من الكتابة، مما اثر تأثيرا سيئا علي نفسيته فمات بعد عامين من السجن سنة 728هـ 1327م .

6 ــ وأدى إضطهاده الى تطرفه فى الإفتاء بالقتل على أهون الأسباب ، وسنعرض لهذا بالتفصيل فى الفصل الخاص بالوهابية حيث أحيت الوهابية دين ابن تيمية وطبقته بالحديد والنار ــ ولا تزال .!!

اضطهاد الفقيه البقاعي

1 ـــ أجهض  الصوفية حركة الفقيه البقاعي سنة 875هـ في سلطنة قايتباي المملوكي أي بعد موت ابن تيمية بنحو قرن ونصف القرن،

2 ـ و قد ترسم البقاعي طريق ابن تيمية في الايمان بالتصوف السُّنّى وتقديس من أسماهم ( أهل الله ) من أولياء التصوف الأوائل ، ولكنه وقع فى الخطيئة الكبرى وهى الانكار علي المتطرفين الصرحاء من شيوخ التصوف ، فقد هاجم ابن عربي وابن الفارض ، وله في ذلك كتابان: ( تنبيه الغبي الي تكفير ابن عربي )، و ( تحذير العباد من اهل العناد القائلين بالاتحاد.) . 

3 ــ وقد اذاع انتقاده وتكفيره للشيخين المقدسين ابن عربي وابن الفارض اللذين ماتا قبل البقاعي بنحو قرنين ونصف القرن ، فاضطهد عوام الصوفية الشيخ البقاعي الي ان جعلوه يغادر مصر الي سورية. ولحقت كراهيتهم بمؤلفاته وتاريخه (تاريخ البقاعي ) فلا تزال في معظمها اسيرة النسيان المتعمد والسرقة والتحريف مع  انه سبق عصره في اجتهاد مبتكر في علم التفسير.

4 ــ وقد عرضنا بالتفصيل لمحنة ابن تيمية والبقاعى فى موسوعتنا عن التصوف المملوكى .

.

 

 

 

 

الفصل الخامس :

صراع أديان المسلمين الأرضية فى الدولة العثمانية وتسيد دين التصوف السنى

 

  الدولة العثمانية فى لمحة عامة

 

إختلاف الرأى فى الدولة العثمانية:

1 ـ بعض الباحثين لا يرى فى الدولة العثمانية إلا الاستبداد والظلم والتخلف والمذابح والعزلة عن العالم التى فرضتها الدولة على ولاياتها العربية مما أدى إلى نشر الفقر والجهل والمرض. يرى آخرون أن الدولة العثمانية أوقفت وصول البرتغاليين إلى البحار الشرقية والجزيرة العربية والبحر الأحمر،ومنعت تقدمهم الى جدة حيث كانوا يريدون الهجوم على مكة وهدم الكعبة ثم الزحف على المدينة المنورة لنبش القبر المنسوب للنبى محمد عليه السلام. كما إنها حمت شمال أفريقيا من وقوعه تحت سيطرة البرتغال والأسبان.

2 ـ الواقع أن الدولة العثمانية لم تكن بدعا فى استبداها ومظالمها، فلم تختلف فى مجال  الاستبداد والفساد والظلم عما سبقها وما عاصرها من دول عربية تنتمى للاسلام أو دول أوربية تنتمى للمسيحية، إلا أن الدولة العثمانية كانت أكثر التحاما بأوربا وصراعا معها، كما استمرت فى الوجود الى عصر التطور والنهضة الأوربية، وتقاعست فيه عن الاصلاح حيث كانت تعيش فترة ضعفها واضمحلالها وتكالب الدول الأوربية عليها.

3 ـ مسيرة الدولة العثمانية والحكم الحقيقى عليها تحدده ثلاث عوامل متداخلة، هى  ظروف الزمان والمكان والانتماء الرسمى للاسلام.

*من حيث الموقع لم تتكون الدولة العثمانية فى قلب العالم العربى والاسلامى كالدول الأموية والعباسية والفاطمية، بل قامت واتسعت فى آسيا الصغرى فى مناطق الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، لذا قامت منذ نشأتها بالتوسع باسم الجهاد تهاجم أوربا وتتوسع على حسابها. *من حيث الزمان فقد تكونت الدولة العثمانية وتطورت من إمارة الى امبراطورية فى وقت تداعت فيه الدول الكبرى وسقطت لتتيح الفرصة لتأسيس الدولة العثمانية وتطورها.

سقطت دول الأتراك السلاجقة فى آسيا الصغرى، وأسقط العثمانيون دولة المماليك العجوز المسيطرة على قلب (العالم الاسلامى) والحجاز، كما أسقطوا الامبراطورية البيزنطية الأكثر عجزا وشيخوخة وحلت محلها وتوسعت فى أوربا على حساب الامارات المتاخمة لها.

واجهت الدولة العثمانية ــ  فى شبابها ـــ زحف الأسبان والبرتغال فى عصر قوتهما .

وبعد تحول اسبانيا والبرتغال الى قوة من الدرجة الثانية واجه العثمانيون وقت ضعفهم مولد وتطور امبراطوريات أقوى فى فرنسا وانجلترة. كما شهدت الدولة العثمانية نهضة عدوتها أوربا وقوتها وثراءها بسبب استعمارها واستغلالها  ثروات العالم الجديد، وبهذه القوة التفتت أوربا وأتحدت حول شىء واحد هو الانتقام من العثمانيين وطردهم من القارة الأوربية.

عزّز ذلك تطور الدولة الروسية فى الشمال الأوربى والآسيوى ،وقد قامت سياستها الخارجية على أساس التهام الجزء الأكبر من الدولة العثمانية، لسببين: سعى روسيا للزحف جنوبا نحو البحار الدافئة ، وكان وجود الدولة العثمانية عائقا دون تقدمها،   وتحرير الشعوب السلافية أبناء جنسها من الحكم العثمانى فى البلقان وما حوله.

زاد من القوة الأوربية دخولها عصر النهضة والتقدم الصناعى والمعرفى والحربى فى وقت ضعف العثمانيين ووقوعهم فى الجمود والتخلف فى مجالات العلم والتسليح والتصنيع .

ولت أوربا وجهها شطر الدولة العثمانية فى شيخوختها لتنتقم منها ما فعلته سابقا بأوربا وبالدولة البيزنطية.

*فى نفس الوقت لا نغفل التأثير الدينى فى الصراع العثمانى الأوربى.

قبل ظهور الدولة العثمانية احتدمت الحروب الصليبية فى الشرق الأوسط وآسيا الصغرى، كما احتدم صراع آخر فى شبه جزيرة ايبريا بين المسلمين والمسحيين الأسبان والبرتغاليين. بعد إنهاء الوجود الصليبى فى المشرق وإنهاء الوجود العربى المسلم فى شبه جزيرة ايبريا ركن المسلمون المنتصرون المماليك الى صراعات داخلية وشىء من الحروب الخارجيةفى الشرق بينما واصل الأسبان البرتغاليون حربهم الصليبية ضد المسلمين فى شمال أفريقيا وعملوا على الوصول الى الهند والتحكم فى تجارة الهند الشرقية بعيدا عن تحكم المماليك والعالم الاسلامى ، كما أرادوا الوصول الى الحبشة المسيحية والتحالف معها لقطع النيل عن مصر والتوغل الى قلب العالم الاسلامى والجزيرة العربية من خلالها. فى هذا الجو المحتدم بالصراع تمت ولادة الدولة العثمانية وتوسعها على حساب القوة المسيحية الكبرى فى شرق أوربا والتى تمثلها الامبراطورية البيزنطية العجوز. وبهذا دخلت الدولة العثمانية منذ ولادتها حمأة الصراع الاسلامى المسيحى وحملته الى وسط أوربا غازية فاتحة مهاجمة. ومن ثم جاء انتقام أوربا منها فى عهد ضعفها.أى كان الاسلام الذى حملته الدولة العثمانية مسوغا لتوسعها أبان قوتها قد قوبل بحركة صليبية أوربية لمناوأة الدولة العثمانية أثناء قوتها ثم للاجهاز عليها فى فترة ضعفها.

4 ـ لقد عاشت الدولة العثمانية أكثر من ستة قرون واجتاحت جيوشها أقاليم شاسعة فى جنوب شرق أوربا ووسطها ، وهى أقاليم لم تخضع قط لأى حاكم مسلم وأحرزت بإسم الأسلام إنتصارات باهرة خاطفة ، وامتلأت قلوب الحكومات الأوربية والشعوب هلعا وفزعا من هذه الدولة الإسلامية الطارئة عليها فى عقر دارها. وتعرضت الدولة فى مسيرتها فى أوربا لتكتلات صليبية دولية تنادت بها البابوية فى روما وأسهمت فيها دول أوربية عديدة . وتبادلت الدولة العثمانية مع الدول الأوربية الإنتصارات والهزائم. ولم تترك أوربا للدولة العثمانية فرصة أن تلتقط أنفاسها الى أن أسقطتها فى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.

هذا الصراع الحربى بين العثمانيين والغرب صاحبه صراع فكرى ايدولوجى، فالهجوم على الدولة العثمانية اشتد من جانب المؤرخين الأوربيين خصوصا المتحمسين منهم دينيا وعرقيا قاموا بتشويه سيرة العثمانيين، وانتقل جانب من هذا الهجوم الى مثقفى المسلمين والعرب مع الانفتاح على الغرب وانتقال المؤثرات الحضارية والتحديث الى مصر وسوريا ولبنان وتونس وغيرها، فأصبح التحديث مرتبطا بالهجوم على الجمود الذى تمثله الدولة العثمانية بترهلها وضعفها واستبداها ونظامها العتيق . زاد فى الموضوع ارتكاب العثمانيين ـ وقت ضعفهم ـ مذابح للمسيحيين تزامنت مع تكوين طبقة مسيحية مثقفة فى سوريا ولبنان تربت على أيدى المدارس التبشيرية الفرنسية والأمريكية، مما عجل بالدعوة الى الاستقلال عن العثمانيين والقومية العربية لمواجهة الجامعة الاسلامية العثمانية التى دعا اليها الأفغانى واستثمرها سياسيا السلطان عبد الحميد الثانى لانقاذ دولته ولتخويف انجلترة وفرنسا باثارة مسلمى الهند وشمال أفريقيا ضدهما.

سقوط الدولة العثمانية لم ينه الحرب الفكرية التى لا تزال مشتعلة بشأنها.

الطامحون لإحياء الخلافة ـ بعد سقوط الخلافة العثمانية ـ يدافعون عن الدولة العثمانية ويبررون أخطاءها، بينما العلمانيون والمستغربون والقوميون يهاجمون الدولة ولا يرون فيها الا الوجه السىء . وأكبر حجتهم هو جمود العثمانيين وفسادهم واستبدادهم. وقد تناسوا أن جمود العثمانيين يرجع أساسا الى دين التصوف السنى الذى إعتنقه العثمانيون على أنه الاسلام، ومن خلاله تعلموا الثقافة العربية الرائجة وقتها والتى تتركز فى التقليد دون الاجتهاد. هذا ما تعلمه العثمانيون الذين كانوا فى الأصل قبائل تركية بسيطة جاهلة فما لبث أن تأقلموا بالأعراف السائدة فى المنطقة وساروا عليها. هذا بالطبع لا يعفيهم من المسئولية بعد أن صار لهم السلطان وتحتم عليهم السير فى طريق التقدم والاصلاح فأعرضواعنه، مع إنه كان قريبا لهم لدى عدوهم الذى يجاورهم.

 

نشأة الدولة العثمانية وتطورها

منطقة السهول الاستبسية الواسعة فى أواسط آسيا مسئولة عن إحداث تغييرات تاريخية عالمية كانت تقع فى أوربا والشرق الأوسط ، ويدفع ثمنها العرب والمسلمون والأوربيون المسيحيون على السواء. فى هذه السهول الممتدة تعيش قبائل رعوية شديدة البأس تحترف الإغارة والسلب والنهب والقتل ، فاذا حل الجفاف وتكاثف عددها رحلت الى الغرب نحو أوربا وبلاد المسلمين . كان أشدهم بأسا قبائل المغول والتتار التى أقامت امبراطورية هائلة على حساب أوربا والمسلمين وأهلكت ملايين البشر. زحف المغول والتتار أحدث قلاقل وحركات هجرة داخل أوربا وبلاد المسلمين وداخل آسيا نفسها ، فبعض القبائل الواقعة فى طريق الزحف المغولى ـ مثل القبائل التركية ـ كانت تفر منه أو من مناطق نفوذه ، مما أوجد سببا آخر للنزوح من أواسط آسيا الى الغرب.

ينتمى العثمانيون إلى قبيلة تركية تصادف سنة 1232 أثناء ترحالها فى وهاد الأناضول أن شاهدت جيشين يقتتلان أحدهما أكبر عددا من الآخر ،فانضمت القبيلة التركية إلى جانب الجيش الضعيف وأنقذته من الهزيمة وحققت له الأنتصار. بعد المعركة تبين للقبيلة التركية أنها ناصرت أقارب لها ينتمون إلى الأتراك وهم الترك السلاجقة والذين كانوا يحاربون جيشا مغوليا ينتمى إلى أقطاى بن جنكيز خان . وتقديرا للجميل قام السلطان علاء الدين الأول " 1219 – 1235 " سلطان دولة الأتراك السلاجقة بإقطاع أرطغرل رئيس تلك القبيلة التركية منطقة حدودية من دولته التى كانت تجتاز دور الأضمحلال . بعدها عيّنه السلطان السلجوقى محافظا للحدود فأعطاه الفرصة للاغارة على الدولة البيزنطية التى كانت تجتاز دور الاحتضار.تحت شعار الجهاد نجح طغرل فى التوسع غربا على حساب البيزنطيين فاستولى على مدينة" أسكى شهر " ومات ارطغرل عن 93 عاما وخلفه فى الحكم أبنه عثمان سنة 1299 وهو الذى سميت بإسمه الدولة العثمانية.

كان المغول هم أصحاب الفضل فى تأسيس إمارة لتلك القبيلة التركية الهاربة من المغول والتائهة فى جبال الأناضول، فلولا هجوم المغول على دولة الأتراك السلاجقة ما تأسست إمارة لتلك القبيلة التركية تابعة للأتراك السلاجقة. ومن حيث لا يدرون ـ أيضاـ فقد أسدى المغول جميلا آخر للامارة العثمانية الصغيرة، إذ أعطوها فرصة الاستقلال عن الدولة السلجوقية التركية فى الاناضول، فقد أغار المغول سنة1300 على دولة الأتراك السلاجقة فى أسيا الصغرى فأسقطوها، فأعلن عثمان إستقلاله بالمنطقة التى يحكمها.

إهتم عثمان بدعم الجيش وتنظيم الحكومة فاعتبر المؤسس الأول للدولة العثمانية. عمل عثمان على تدعيم  دولته وزيادة العنصر البشرى الكفء فيها بمصاهرة الدول أو الكيانات السياسية المجاورة،والحصول على الرقيق بكل  وسيلة من مختلف البلاد وتربيتهم وتدريبهم ليكونوا جنودا مخلصين للدولة،وتوظيف المغامرين ذوى الكفاءة من القادة ، كان منهم ميخائيل البيزنطى المرتد عن المسيحية، والذى جعله عثمان نائبا له فى ميادين الحرب.

ومضى عثمان يوسع بقعة بلاده على حساب البيزنطيين فوصل إلى البسفور، وقبيل وفاته سنة 1326 فتح ابنه أورخان مدينة بروسا فأوصى عثمان بنقل رفاته إلى بروسا فى كنيسة القصر التى حولوها إلى مسجد. مات عثمان بعد أن أرسى سياسة راسخة لدولته قام على تنفيذها السلاطين الأقوياء من ذريته تدفعهم وتساعدهم الروح الدينية الجياشة والطبيعة العسكرية الصارمة والموقع الجغرافى لإمارتهم الشابة وسط كيانات  سياسية فى دور الأضمحلال.

 

تقرير تاريخى موجز فى توسع الدولة العثمانية

1 ـ السلاطين العظام هم عشرة أولهم عثمان الأول وأخرهم السلطانة سليمان المشرع، وقد حكموا فترة حوالى 267 عاما:(1299-1566 ) وتميزوا بالتوسع الأقليمى المرحلى فى القارات الثلاث وإرساء القوةاعد والأنظمة العسكرية والأدارية والسياسية ، وكانوا مركز الثقل فى الأمبراطورية التى أقاموها. أما المجموعة الثانية فهم 26 سلطانا أولهم السلطان سليم الثانى أبن السلطان سليمان المشرع وينتهون بالسلطان محمد السادس وهو أخر سلاطين الدولة،وقد حكموا حوالى 357 سنة: ( 1566- 1920 ). وفى عهدهم توقفت حركة التوسع وانهالت الهزائم على الدولة وتدهورت أحوالها واستقلت عنها معظم أقاليمها ثم سقطت.

وسبب الأضمحلال أنهم واجهوا الزحف الأستعمارى الأوربى فى أشد مراحله بشخصياتهم الضعيفة الماجنة تاركين الأمور فى أيدى الحريم السلطانى والقواد ومراكز القوى ولم يفكروا فى تطوير أنظمة الدولة لتواكب الأوضاع الجديدة فى أوربا .ٍ

ينتهى العصر الذهبى للدولة العثمانية بوفاة السلطان سليمان المشرع سنة 1566 وفيه بلغت الأوج فى النفوذ الدولى والقوة الحربية والتوسع الأقليمى ، بينما يتميز العصر الثانى بسلاطين ضعاف أطلق على عدد كبير منهم السلاطين " التنابلة " ،لأنهم انغمسوا فى المجون فأصبحت الدولة فى يد مراكز قوى تتكون من الأنكشارية والحريم السلطانى والأغوات الخصيان وأخذت الدولة تفقد ممتلكاتها رويدا رويدا فى أوربا وأفريقيا وأسيا .

وكانت معاهدة كارلوا فيتس فى 26 يناير 1699 أول معاهدة تفرضها عليها أوربا كدولة منهزمة . وتعاقب فرض المعاهدات الجائرة عليها . واستطال أضمحلالها حوالى مائة وخمسين عاما . ويعد مؤتمر برلين الأوربى سنة 1878 هو بداية النهاية لها إذ تكتلت عليها روسيا والنمسا والمجر وبريطانيا وفرنسا والدول البلقانية الناشئة التى كانت من قبل خاضعة للعثمانيين ونجحت فى تمزيق أوصال الدولة العثمانية .

واستطاع السلطان عبدالحميد الثانى فى ظروف قاسية أن يحافظ على تماسك ما تبقى من الدولة حتى عزله الأنقلاب العسكرى سنة 1909 ونجح الأنقلابيون فى الوصول للسلطة ولكن انهزموا فى مغامرات خارجية ، فسقطت الدولة العثمانية فى أعقاب الحرب العالمية الأولى بعقد هدنة مدروس 30 أكتوبر 1918 ومعاهدة سيفر 10 أغسطس1920 وأصبحت مجرد تركيا . 

2 ـ تشغل الدولة العثمانية حيزا كبيرا فى تاريخ العالم الإسلامى وتاريخ العالم الأوربى المسيحى. امتدت فتوحاتها إلى آسيا وأوربا وأفريقيا وغدت دولة أسيوية أفريقية أوربية.

أبان قوتها كان جيشها أكثر الجيوش الأوربية تعدادا وأحسنها تدريبا وأعظمها تسليحا وأكملها تنظيما. عبرت جيوشها البحر من الأناضول إلى أوربا عام 1356 على عهد السلطان أورخان ثانى السلاطين العثمانيين، ومضت فى زحفها تكتسح أقاليم أوربية عديدة، فاستولت على بلاد اليونان بما فيها شبه جزيرة المورة ، وبلغاريا ، والصرب والمجر ، وترنسلفانيا والبوسنة والهرسك والبانيا والجبل الأسود، واستمرت فى زحفها لتصل مشارف فيينا عاصمة النمسا فى أواسط أوربا، فكانت الدولة العثمانية هى أول دولة مسلمة فى التاريخ الأوربى تصل بجيوشها الجرارة إلى قلب أوربا. ثم حلّ بالدولة العثمانية أعراض الضعف والشيخوخة فى وقت إزدادت فيه أوربا قوة فأطلقوا عليها(رجل أوربا المريض)الذى  تسابقت  الدول الأوربية على موته واقتسام تركته. ولولا رغبة إنجلترة فى الابقاءعلى ( الرجل المريض ) لتنفرد بتركته ما بقيت الدولة العثمانية حية الى الربع الأول من القرن الماضى.

 

الدولة العثمانية المحمدية و( المحمديون ) فى لمحة عامة

 

  صراع الدولة العثمانية والدولة الشيعية الايرانية الصفوية ، وكان يحكم الأخير الشاه إسماعيل الصفوى ( 1501 ـ 1524 )

 

إسماعيل الصفوى هو المؤسس الحقيقى للدولة الصفوية واتخذ المذهب الشيعى مذهبا رسميا للدولة وعمل على نشره فى العراق ونجح فى ذلك إلى حد بعيد . ثم حاول نشر هذا المذهب فى الأناضول وهى الموطن الأصلى للدولة العثمانية .

ولقى المذهب الشيعى استجابة واسعة من رعايا الدولة وبخاصة فى شرقى الأناضول واشتهر هؤلاء الشيعة بإسم قزلباش أى أصحاب الرؤوس الحمراء . فهب السلطان العثمانى سليم الأول – ( 2151 – 1520) لإستئصال الخطر الشيعى الزاحف عليه وانتصر على الشاه إسماعيل فى موقعة جالديران فى أغسطس 1514 ودخل فى العام التالى تبريز العاصمة  وهرب الشاه إلى جوف بلاده . واستولى سليم على كثير من بلاد أرمينيا الغربية وما بين

النهرين وتبليس وديار بكر وجميع الأراضى الجنوبية حتى الرقة والموصل وهبط بالدولة الصفوية إلى دولة من الدرجة الثانية ، ثم عاد سليم إلى أستطنبول ليعد العدة لصراع حربى ضد أقاليم الشرق العربى الأسلامى .

فتح الشام ومصر

وفى هذا الصراع ضد الأقاليم العربية الأسلامية فى الشرق ظهرت الدولة العثمانية لأول مرة فى تاريخها كدولة من دول البحر الأحمر . ولى سليم مجهه شطر بلاد الشام، وكان جزءا من دولة المماليك الشراكسة وانتصر فى معركة مرج دابق أغسطس / آب 1516  على السلطان الغورى وتساقطت فى يديه تباعا المدن الرئيسية : حلب ، وحماه ، وحمص ، ودمشق وانساب جنوبا ودخل فلسطين ودخل مصر حيت انتصر على السلطان طومان باى أخر سلاطين دولة المماليك الشراكسة فى معركة الريدانية فى يناير كانون الثانى 1517 ودخل سليم القاهرة فى اليوم السادس والعشرين من ذات الشهر.وهزم طومان باى آخر سلطان مملوكى وشنقه، وانهى الدولة المملوكية سنة921 هجرية / 1517 م.    

دخول الحجاز وبعض مناطق اليمن تحت السيادة العثمانية .

وفى أثناء إقامة السلطان سليم فى مصر استقبل وفدا من أعيان الحجاز بعث به الشريف بركات أمير مكة المكرمة . وكان على رأس هذا الوفد أبنه ( أبو نمي ) وحمل معه رساله من والده أعلن فيها  الشريف بركات قبوله دخول الحجاز تحت السيادة العثمانية وأرسل مع أبنه مفاتيح الكعبة الشريف وبعض مخلفات رسول الله صلوات الله عليه، فدخل الحجاز دخولا تلقائيا وسلميا تحت السيادة العثمانية .

ونهج هذا النهج الأمراء الذين كانوا يحتلون وقت ذاك بعض مناطق فى اليمن . على هذا النحو دخلت فى خلال سنة واحدة 1516 – 1517 أربع أقاليم إسلامية عربية هامة هى : الشام ثم مصر ثم الحجاز ثم أجزاء من اليمن تحت الحكم العثمانى ، وزاد عدد رعاياها المسلمين العرب زيادة كبيرة للغاية .

وأصبح البحر الأحمر بحيرة عثمانية تقريبا فمصر والحجاز  واليمن تطل على أجزاء طويل من ساحلية الشرقى والغربى، وتدعم الطابع الأسلامى العثمانى للبحر الأحمر حين فتح السلطان سليمان المشرع ( 1520 -1566 ) الذى خلف والده سليم الأول كلا من مصر وسواكن عام 1557 منتهزا فرصة اندلاع حربا أهلية فى الحبشة.  وقد نجحت الدولة فى تخفيف الضغط البرتغالى على التجار العرب والأمارات العربية الساحلية ، كما أوقفت الأعتداء البرتغالى إلى حد جعله يعجز عن أن يمد مواقعه إلى داخل البحر الأحمر وإلى الولايات العربية الداخلية ، وحطمت المحاولات التى بذلها البرتغاليون لتكوين جبهة مسيحية منهم ومن الأحباش ضد القوى العربية والأسلامية فى البحر الأحمر وشرقى أفريقيه .

وقد فتح السلطان سليمان المشرع إقليم العراق عام 1534 وامتد النفوذ العثمانى إلى الأحساء المطل على الخليج العربى ثم إلى بعض الأمارات ومشيخات الخليج ، كما استولى على عدن ومن ناحية أخرى أنشئت ثلاث ولايات عثمانية فى شمال أفريقيه : هى الجزائر ثم طرابلس ثم تونس ، وبذلك امتد الوجود العثمانى إلى الحوض الغربى للبحر المتوسط .

وعلى هذا النحو اتسع الوجود العثمانى من الجزائر غربا إلى الخليج العربى شرقا ومن حلب شمالا إلى خليج عدن وبحر العرب جنوبا ، وزاد عدد الرعايا العرب فى الدولة زيادة كبيرة فأصبحت ذات صبغة عربية قوية بعد أن كانت ذات طابع أناضولى أوربى ، كما أنها غدت تضمن ــ فضلا عن قلب الأسلام مكة المكرمة والمدينة المنورة ــ العواصم والأمصار الأسلامية الكبرى مثل دمشق عاصمة الدولة الأموية وبغداد عاصمة الدولة العباسية التى كانت مركز إشعاع حضارى للعام والقاهرة التى كانت عاصمة الدولة الأيوبية والفاطمية ودولتى المماليك حيث قام بها الأزهر والقيروان فى تونس والكوفة والبصرة ، وكان يطلق عليها المصران.

 الطبيعة السياسية للحكم العثمانى:

 

لم تهتم الدولة العثمانية بالشئون الداخلية للولايات التابعة لها فى مجالات الزراعة والتجارة والمواصلات والطرق والقنوات والموانىء،ولم تهتم بالتعليم العام أو بالصحة العامة أو بالمرافق العامة، ولم تواكب التطور  الذى أخذت به الدول الأوربية.

 مارست سلطانها فى نطاق ضيق للغاية لم يتجاوز المحافظة على الأمن الداخلى وجمع الضرائب بطريقة غير مباشرة عن طريق الألتزام فى الريف ، وتنظيم الطوائف فى المدن وتنظيم القضاء على أساس المذهب الحنفى، وكان القضاء يشمل القضايا الجنائية والمدنية والأحوال الشخصية .

هذا النطاق الضيق جعل سلطان الدولة العثمانية محدودا على رعاياها فكان سطحيا بعيدا عن التغلغل فى حياة الجماهير، ولم تفرض الدولة على الأقاليم التى فتحتها تعديلات جوهرية إلا ما كان يتعارض منها مع سياسدة الدولة، فيما عدا ذلك تركت رعاياها يمارسون حياتهم وفق الأسلوب الذى يألفونه محافظين على لغاتهم وثقافاتهم وعاداتهم وأديانهم ، بل تركت لبعض العناصر الأصلية نصيبا فى حكم البلاد مع وضع ضمانات تكفل لها الحفاظ على السيادة والسيطرة  والحصول على الجزية المقررة .

ولذا ظل الوالى العثمانى فى مصر ينحصر اهتمامه فى جمع الضرائب وتحصيل الجزية تاركا مقاليد الأمور فى أيدى المماليك الذين استمروا فى الحكم تحت مظلة الدولة العثمانية وباسمها. وتحيّن الأمير المملوكى (على بك الكبير )الفرصة فاستقل عن الدولة العثمانية ردحا من الزمن، ثم عادت مصر الى التبيعية العثمانية عن طريق أمير مملوكى آخر هو محمد بك أبو الدهب الذى كان مملوكا سابقا لعلى بك الكبير. وإذ أبقى العثمانيون على المماليك ـ حكاما تحت سيطرتهم الاسمية ـ فالمنتظر أن تظل بقية النواحى الاجتماعية والاقتصادية والحياة الدينية على حالها، فالدولة العثمانية فى نهاية الأمر تنتمى الى قبائل الترك التى لا تحمل خلفية حضارية تمكنها من إحداث تغيير حضارى أو فكرى، بل إنها إكتسبت حضارتها من رعاياها ومن المنطقة التى أقامت فيها دولتها.

ولذلك اعتنقت ـــ  تحت اسم الاسلام ـــ الدين الأرضى السائد فى الأناضول ، وهو دين التصوف السنى. ولم يكن لها علم بالاسلام الحقيقى الذى كان عليه خاتم النبيين عليهم السلام . بل إنها توسعت وأصبحت إمبراطورية بالجهاد السُّنى الذى يعنى الغزو والاحتلال والسلب والنهب ودفع المقهورين الجزية ـ لا فارق بين ( المحمديين السنيين أو الشيعة أو المسيحيين الأوربيين ). وكل هذا بدأه خلفاء قريش من أبى بكر وعمر ، وهو مناقض لشريعة الاسلام .

 

 ملامح دين التصوف السنى فى الدولة العثمانية

1 ـ الملامح السنية:

كان للمفتى أو" شيخ الأسلام " مركز مرموق فى الدولة العثمانية، فهو المشرف على الهيئات القضائية والدينية وهو الذى يصدر الفتاوى للسلطان فيما يخص شن الحرب أو عقد المعاهدات. وكان أستخدام شعار الجهاد مما يعزز دور الهيئة الدينية فى إعداد الجند للمعارك

وحرصت الدولة على تطبيق الشريعة السلفية طبقا للمذهب الحنفى مع المحافظة على التقاليد. ولم تكن تسمح بأحد بإنتهاك حرمة شهر رمضان بالأكل والشرب علنا طوال شهر الصيام، وكانت تشرف أشرافا فعليا على تنظيم الحج إلى الحجاز، وهذا مع أن سياستها ألا تهتم بالشئون الداخلية للولايات إلا أن الحج جعلته من أولويات أهتماماتها فعملت على تيسيره بحفر الآبار وحراستها وتشييد الفنادق وأقامة المخافر، وكانت تتحرك كل سنة أربع قوافل حج رئيسية من كافة أنحاء الدولة فى مواعيد محددة وبنظام رتيب وفى حماية عسكرية  يقودها قادم يسمى سردار الحج ويرأس كل قافلة كل قافلة " أمير الحج" .

2 ـ الملامح الصوفية

من مظاهره أن الدولة العثمانية تركت مشايخ الطرق الصوفية يمارسون سلطات واسعة على الموردين والأتباع .وانتشرت هذه الطرق الصوفية انتشارا واسعا حتى أن حياة الجماهية كانت أكثر خضوعا لتأثير مشارخ الطرق الصوفية أكثر من رجال الدولة الرسميين . ومدت يد العون إلى بعض الطرق الصوفية وكان من أهم الطرق الصوفية النقشبندية والمولوية و البكتاشية و الرفاعية والأحمدية والخلوتية والكزرونية .

إستخدم محمد الفاتح إسطورة تاريخية عن مشاركة الصحابى أبى أيوب فى حصار الأمويين للقسطنطينية عام 670 لشحن جيشه لفتح القسطنطينية . كان شائعا أن أبا أيوب الأنصارى قد استشهد فى هذه الحملة الخاسرة ، وأنه أوصى بدفن جثته فى أقرب موقع من القسطنطية . أشاع محمد الفاتح العثور على قبر الصحابى أبى أيوب الأنصارى على مقربة من أسوار القسطنطية . وأقام محمد الفاتح مسجدا على هذا القبر المزعوم ، وإستخدم تقديس هذا القبر فى شحن وحشد جيشه عقب فتح القسطنطينية ، ونجح فى هذا فأحدث تغييرا حاسما فى تاريخ العالم وقتها . وبعد فتح القسطنطينية ــ بإسم الاسلام ــ أطلق محمد الفاتح أسم اسطنبول عليها ، وقام بتحويل كنيستها المشهورة آيا صوفيا الى مسجد . فتحول السلطان محمد ( الى محمد  الفاتح ) وواجه أوربا فى عُقر دارها بالجهاد السُّنّى ردا على الحملات الصليبية والدول الصليبية التى قضى عليها المماليك من قبل . وكان ظهور الجهاد العثمانى السُّنّى مواجهة للجهاد الصليبى الى تزعمته اسبانيا والبرتغال بعد إجتثاث المسلمين من ( الأندلس ).

 نعود الى محمد الفاتح ومسجده الذى أقامه على القبر المزعوم للصحابى أبى أيوب الأنصارى ، ونقول إن السلاطين العثمانيين حافظوا على تقليد جديد إبتدعوه لتدعيم سلطتهم الدينية ( السنية الصوفية ) فاعتادوا أقامة حفل دينى رسمى فى ضريح أبى أيوب عقب إعتلاء كل سلطان جديد للعرش ، فكان السلطان يذهب فى موكب رسمى حافل إلى هذا المسجد ، ثم يدخل إلى ضريح أبى أيوب الأنصارى ويتسلم من يد شيخ الطريقة المولية " بيوق جلبى " سيف السلطان العثمانى الأول الجد الكبير للسلاطين العثمانيين .

 

سياسة الدولة العثمانية فى التعامل مع الشيعة داخلها

فى حربها ضد الدولة الصفوية إستأصلت الشيعة من الأناضول ومنعت زحف المذهب الشيعى على الشرق العربى الأسيوى وعلى مصر.

 أما الوضع فى العراق فقد كانت له أوضاع خاصة . كان موطن العتبات أو المزارات المقدسة ويضم آثارا للشيعة . وكان الشاه إسماعيل الصوفى قد نجح كما ذكرنا فى نشر المذهب الشيعى فى ربوع العراق وأصبح الشيعة يشكلون قطاعا رئيسيا من قطاعات السكان ولهم تقاليدهم وعاداتهم ولا يرضون عنها بديلا إذ أصبحت جزءا من عقيدتهم الدينية . ولما فتح السلطان سليمان المشرع العراق ودخل بغداد فى ديسمبر – كانون الأول – عام 1534 ـــ حيث أقام أربعة أشهر  ـــ عمل خلالها على إرضاء مشاعر أهل السنة وأهل الشيعة معا ، ورصد أوقافا ينفق إيرادها على أهل المذهبين معا ، وخرج من بغداد فى رحلة تعرف فيها على قبر الأمام أبو حنيفة وأعاد بناء ضريحه إرضاءا لأهل السُّنّة ، وكان الشيعة من أهل فارس قد دنسوا رفاته وهدموا القبة والضريح . وفى نفس الوقت حرص السلطان سليمان على زيارة  العتبات المقدسة للشيعة خصوصا فى كربلاء . وكانت المنطقة التى تحيط  بكربلاء تغمرها المياه وتصل للعتبات المقدسة ، فأمر ببناء سور يسمى السليمانية حول المدينة لوقايتها من مياه الفيضان ، ثم وسع من ترعة الحسينية كى تنساب فيها المياه على مدار السنة فزرعت المنطقة حول العتبات المقدسة بالبساتين وحقول القمح . وزار السلطان القبر المقدس للأمام (على ) فى النجف.  وهكذا انتهج السلطان سليمان المشرع تجاه أهل السنة والشيعة فى العراق سياسة تنم عن الحكمة والحصافة وسعة الأفق.

 ملاحظة:

 ( المعلومات التاريخية مستقاة من كتاب : الدولة العثمانية دولة اسلامية مفترى عليها للأستاذ الدكتور عبد العزيز الشناوى :1 / 33 ، 34 ،35 ، 39 ، 40 ، 345 ،  28،29 ،

33 ، 34 ،35 ، 39 ، 40 ، 54 – 59 ، 64 ، 186 – 190، 345 ) أما التحليل فهو لنا .

 

 

أثر الصراع الشيعى السنى فى إسقاط الدولة المملوكية وإحتلال العثمانيين مكانتها  

 

ظهور اسماعيل الصفوى الصوفى الشيعى خطرا يهدد العثمانيين والمماليك

 

مدخل:

1 ـ تسيد التصوف السنى الحياة الدينية لأغلب المسلمين فى العصر العثمانى، ومع ذلك فقد بقى التشيع دينا أرضيا ثابتا يستعصى على الاستئصال،لتجذره فى الثقافة الفارسية القومية بالذات، كما ظهر فى كتاب الملطى ( التنبيه والرد ) عن انتشار التشيع فى أنحاء فارس وأقاليمها ، ومنها انتشرت سيطرته على قلوب طوائف شتى من العرب المسلمين. ثم انتشر التصوف وتسيد وتوسط معسكرى السنة والتشيع .

2 ــ وكما احتمى دين السنة بالتصوف وأنتج نسخة معدلة باسم التصوف السنى فقد فعل التشيع نفس الشىء وأنتج التصوف الشيعى. ولأن التصوف منذ البداية ابن للتشيع، فقد اختلف الأمر بين التصوف السنى والتصوف الشيعى. ففى التصوف السنى كانت الغلبة لعنصر التصوف أكثر منها للسنة التى تركزت معالمها فى دين التصوف السنى فى مجرد اداء الصلاة والصوم والحج والزكاة، ونظام القضاء، بينما تمت للتصوف السيطرة الكاملة على العقائد والثقافة والفكر والحياة الاجتماعبة باسرها. إختلف الأمر فى التصوف الشيعى الذى كان فيه التصوف مجرد قشرة رقيقة بينما كان الجوهر شيعيا محضا. واستعمل الشيعة هذه القشرة الصوفية للتسلل للأخرين وخداعهم من خلال التصوف الذى كان القاسم الأعظم المشترك فى الحياة الدينية للمسلمين منذ العصر المملوكى السابق على العصر العثمانى.

3 ــ إعتنق العثمانيون الاسلام شكليا ورسميا ولكن الذى اعتنقوه فعليا كان الدين الأرضى السائد فى الأناضول وقتها وهو التصوف السنى.ومالبث أن أصبح العثمانيون عنصرا فى الصراع بين دينى التصوف السنى والتصوف الشيعى. فالتصوف الشيعى هو الذى أنشأ الخصم الشرس للدولة العثمانية ، وهو الدولة الصفوية الفارسية الشيعية بقيادة اسماعيل شاه الصفوى أو الصوفى حسبما كانت تذكره المراجع التاريخية المعاصرة له.

4 ــ الصراع بين الدولتين الصفوية والعثمانية كان صراعا بين دينين أرضيين هما التصوف السنى والتشيع الصوفى.وقد تغلب التصوف السنى ممثلا فى الدولة العثمانية، لكن ذلك لم يقض على التشيع، وإن كان قد هزم الدولة الصفوية الشيعية وسارع بها الى نهايتها.

الصراع بين الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية هو الذى أدى الى تدمير الدولة المملوكية السنية وحلول الدولة العثمانية محلها فى زعامة العالم الاسلامى.

الدولة العثمانية السنية الشابة هى التى أسقطت الدولة المملوكية السنية العجوز بعد هزيمة السلطان الغورى ومقتله أمام العثمانيين فى مرج دابق سنة 922هـ .

5 ــ والغريب أن الدولتين العثمانية والمملوكية  كانتا تدافعان معا عن دين التصوف السنى ضد عدو مشترك هو اسماعيل الصفوى حاكم ايران المتشيع الذى يسعى لنشر التشيع فى البلاد المجاورة طمعا فى مد نفوذه السياسى .وقد أدى خطره على العثمانيين والمماليك الى تحالفهما ضده. قابل الشاه اسماعيل هذا التحالف السنى ضده بالوقيعة بين عدويه السنيين ـ المملوكى والعثمانى ـ فاجتذب المملوكى إلى صفه وجعله يحارب العثمانيين على غير استعداد تام منه لحربهم وعلى غير نية حقيقية من العثمانيين لتدمير الدولة المملوكية .

وانتهى الأمر بانهيار الدولة المملوكية بسرعة لا يتخيلها المرء حين يتذكر أن قدوم الغورى لحلب كان لمجرد حجة الإصلاح بين السلطانين المتنازعين ( الصفوى والعثمانى ). وهذا الأنهيار المفاجىء سببه ضعف الدولة المملوكية من الداخل بعد إنهيار إقتصادها بسبب كشف البرتغاليين لطريق رأس الرجاء الصالح وتحول تجارة الهند اليه ، وضياع هذا المورد الضخم من خزانة الدولة المملوكية التى كانت تسيطر على الطريق المعروف والمألوف بين الهند وأوربا.

6 ــ والعلاقات بين اسماعيل الصفوى والغورى وسليم العثمانى متشابكة غامضة، ولتيسيرها على القارىءنقسمها الى مرحلتين :ظهور الصفوى خطرا يهدد العثمانيين والمماليك على السواء، ثم تحالف الغورى مع الصفوى وأثره فى انهيار الدولة المملوكية.

المرحلةالأولى :ـ ظهور اسماعيل الصفوى الصوفى الشيعى كخطر يهدد العثمانيين والمماليك . 

1 ــ فى سنة 905 ظهر ببلاد العجم شاه اسماعيل بن الشيخ حيدر الذى ينتمى الى الشيخ صدر الدين موسى بن صفى الدين اسحاق الأردبيلى . وكان صفى الدين اسحاق الأردبيلى شيخا صوفيا فى مدينة أردبيل .وخلفه بعده ولده صدر الدين موسى الذى حاز على احترام السلاطين واعتقادهم فيه كولى صوفى صاحب كرامات ، وكان ممن اعتقد فيه السلطان تيمورلنك.

2 ــ فيما بعد تحول حفيده حيدر الى التشيع ، يجمع بين التصوف والتشيع لصالح التشيع ، فكثر اتباعه ومريدوه بأردبيل فخافه السلطان جهان شاه صاحب اذربيجان فأخرجهم من أردبيل، فتوجه الشيخ حيدر إلى ديار بكر وصاهره حسن الطويل . ولما استولى صهره حسن الطويل على اذربيجان عاد الشيخ حيدرإلى أردبيل وتزايد اتباعه، فلما توفى حسن الطويل تزوج الشيخ حيدر من ابنة السلطان يعقوب فولدت له شاه اسماعيل سنة 892 هجرية.

3 ــ وشارك الشيخ حيدر فى النزاعات السياسية المسلحة باتباعه الذين عرفوا بالقزلباش، أى الرأس الأحمر.  وقتل الشيخ حيدر وأسر ولده اسماعيل وهو طفل ، فعرف اسماعيل الكفاح والهزائم منذ صغره، وتابع أباه فى طريقه معتمدا على دعوته الشيعية حتى تزايد امره، يقول عنه المؤرخون المعاصرون له (واستولى على ساير ملوك العجم و خراسان واذربيجان وتبريز وبغداد وعراق العجم وقهر ملوكهم وقتل عساكرهم بحيث قتل ما يزيد على الف الف، وكان عسكره يسجدون له )( أخبار القرن العاشر مخطوط 41 ، تاريخ القدس مخطوط 67 )  .

 خطر اسماعيل الصوفى على الدولة العثمانية  

1 ــ اتجهت الفتوحات العثمانية قبل سليم الأول إلى البلقان وأوربا ثم تحولت فى عهد سليم نحو الشرق لأول مرة حيث انشغل سليم  بمواجهة الخطر الشيعى الزاحف من الشرق إلى قلب  الأملاك العثمانية ممثلا فى اسماعيل الصفوى الذى كان بإمكانه أن يترك الغرب وشأنه ويواجه غزاة السهوب الأوراسية ، خاصة وأن العثمانيين لم تكن لهم مطامع فى الدول (الاسلامية) المجاورة، خصوصا الدولة المملوكية. والدولة المملوكية فى مصر والشام اكتفت بموقف الدفاع من الهجوم الايرانى دون إحتكاك بالدولة العثمانية أو حتى الصفوية .

2 ــ ولكن مطامع الشاه اسماعيل الصفوى كانت واسعة المدى، شجعها تراخى السلطان العثمانى بايزيد الثانى( والد سليم ) ، فأخذ الصفوى ينشر دينه الشيعى فى عمق الاناضول العثمانية وحول قونية ، أملا فى استخدام دين التشيع سياسيا فى إنتزاع تلك المناطق العثمانية وضمها الى الصفويين.

3 ــ وتمخضت جهوده عن ثورة مسلحة قادها داعى الدعاة الشيعى ( الشاه قول ) ضد العثمانيين والذى استطاع هزيمة الصدر الأعظم العثمانى وقتله . بل أن الصلة توثقت بين الثائر الشيعى ( الشاه قول ) وبين الأمير قرقد ابن السلطان بايزيد الثانى الطامع فى عرش ابيه، واعتنق التشيع الأميران شاهنشاه ومراد ابنا الأمير احمد اخى السلطان سليم ، وهذا معناه أن التهديد الشيعى الصفوى وصل الى داخل الأسرة العثمانية الحاكمة وفى صميم وطنها  على السواء.

4 ــ لذا كان الخطر الشيعى هو الدافع لثورة الأمير سليم على أبيه السلطان بايزيد واخوته، وساعدته الانكشارية، فقد وجدت فيه رجلها المنشود الذى يصمد امام الشاه اسماعيل الصفوى ، فأجبروا بايزيد الثانى على التنازل عن السلطنة لابنه سليم.

5 ــ ولم يكن سليم بعيدا عن الخطر الشيعى حيث ابعده أبوه إلى طربيزون واليا عليها ، فراقب تحركات اسماعيل الصفوى العسكرية ودسائسه وتصرفات أخيه قرقد بن السلطان بايزيد ، وقد غضب  سليم من تساهل والده تجاه ثورة (الشاه قول ) الشيعية.

6 ــ بتولى سليم العرش العثمانى وطد مركزه الداخلى وتفرغ لمواجهة الشاه، فذبح الشيعة فى الأناضول ونقل باقيهم إلى اوربا العثمانية ليضمن مؤخرته فى أى صراع مع الشاه.

خطر اسماعيل الصوفى على الدولة المملوكية 

1 ـ كان صراع  الدولتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية يستلزم تدخل الدولة المملوكية ليس فقط لأنها المتزعمة للعالم الاسلامى وقتها، ولكن لأن حدودها تتاخم الدولتين المتنازعتين  ولا بد ان تتأثر بالنزاع المسلح القائم على حدودها. وكان تدخلها يعنى إنحيازها لدولة ضد أخرى، وترجيح كفتها .

2 ـ وكان متوقعا إنضمام السلطان الغورى المملوكى إلى العثمانيين السنيين ضد الشاه الشيعى الذى بدأ بالعدوان على الممتلكات المملوكية فى الشرق ، لولا أن الشاه اسماعيل الصفوى استطاع استقطاب الغورى إليه بما أوتى الشيعة من مقدرة على الدسائس وبما لهم من اعوان داخل الدولة المملوكية، وبذلك تمكن الشاه الشيعى أن يتحاشى اتحاد القوتين السنيتين على حربه واحتل مقعد المتفرج يشهد دولة سنية فتية ــ لا مطامع لها ــ ( الدولة العثمانية )تجهز على رفيقة لها هرمة ( الدولة المملوكية ) أتى بها الشاه الماكر من مأمنها لتلقى مصرعها عند حدوده دون أن يمد لها يد العون.

3 ــ ونعود إلى ترتيب الحوادث التاريخية وفق ما ذكره المؤرخ ابن إياس بالسنين لتوضيح هذه النتيجة غير المتوقعة والتى غيّرت التاريخ الاقليمى والعالمى، مع ملاحظة أن الشاه اسماعيل الصفوى كان لقبه فى المراجع التاريخية وقتها ( اسماعيل الصوفى ) لأنه واجه التصوف السنى بالتصوف الشيعى مستغلا الجذور الصوفية لدى أسلافه.

فى تاريخه ( بدائع الزهور ) يقول ابن أياس المؤرخ المعاصر لهذه الفترة :ـ

فى سنة 908 ( جاءت الأخبار من حلب أن خارجيا ـ(ـ يعنى ثائرا معاديا من خارج الدولة المملوكية )  تحرك على البلاد  ( يعنى هاجم الحدود المملوكية ) يقال له شاه اسماعيل الصوفى ، فلما جاءت الأخبار إلى القاهرة اضطربت الأحوال وجمع السلطان ( قونصوه الغورى )الأمراء وضربوا مشورة ( أى تشاوروا ) فى أمر الصوفى وعين السلطان تجريدة ( أى حملة عسكرية) ).

وفى سنة 913 ( وفيه جاءت الأخبار من عند نائب حلب ( أى والى حلب المملوكى حيث كانت تابعة للدولة المملوكية وقتها ) بأن اسماعيل شاه الصوفى قد تحرك على ( أى هاجم ) بلاد السلطان، ( يعنى الدولة المملوكية ، حيث كان السلطان هو المالك للدولة وفق ثقافة العصور الوسطى ) ووصل أوائل عسكره إلى مالطية، وحكوا عنه أمورا شنيعة فى أفعاله، فلما بلغ السلطان ذلك تنكد إلى الغاية، وجمع الامراء، وضربوا شورة فى أمر الصوفى ، فأشار الأمراء بأن يرسل إليه تجريده، فنادى للعسكر بالعرض، ( أى أمر بحشد القوة العسكرية فى القلعة مركز الحكم المملوكى فى القاهرة ) فطلع العسكر قاطبة إلى القلعة ، فعرضهم ، وكان قاصد ابن عثمان حاضرا ،( القاصد يعنى المبعوث أو السفير ، والمعنى أنه قد حضر العرض العسكرى مبعوث السلطان العثمانى) .. ثم جاءت الأخبار بأن عساكر الصوفى عدت ( أى إجتازت وعبرت )من الفرات ووصلت إلى أطراف بلاد السلطان، وأن على دولات ( ممثل السلطة المملوكية هناك ) جمع التركمان وتحارب معهم واستعد العسكر بعد اهمال .. وانفق السلطان على العسكر(أى امر بصرف مستحقاتهم المالية) بعد إن كان قد أخر النفقة، ثم عزم السلطان على قاصد بن عثمان فى قاعة البحرة (أى أقام حفل تكريم للمبعوث العثمانى فى قاعة الاحتفالات بالقلعة )، فأظهر فى ذلك اليوم غاية العظمة برسم جماعة القاصد، وعند انصرافه اخلع عليه ( أى أكرمه بأن أعطاه زيا للتشريف والتكريم وفق المتبع وقتها ). ويذكر ابن ياس انه قد حضر من لدن العثمانيين مبعوث فوق العادة فأكرمه الغورى، ويقول ابن اياس ( ثم حضر قاصد من عند على دولات واخبر بأنه كسر ( أى هزم )عسكر اسماعيل الصوفى، وارسل عدة من رءوس القتلى واسيرا من الأمراء على رأسه طرطور أحمر، ( وكان أتباع الشاه اسماعيل الصوفى يعرفون بالقزلباش،أى أصحاب الرأس الأحمر ) فعلق السلطان الرؤوس على باب زويلة، وابطل أمر التجريدة التى عينها إلى الصوفى .. واخلع على قاصد ابن عثمان خلعة سنية ). ثم بعث الشاه اسماعيل الصفوى برسل للغورى يعلمون الغورى ان ما وقع من عسكره حدث بدون علمه، فأكرم الغورى القاصد وجماعته ( وكانوا فى غاية الغلاسة ) على حد قول ابن اياس.

تحليل ما سبق :

1 ــ ابن اياس لم يكن ينقل وجهة النظر الرسمية للأحداث وانما كان يعبر عن رؤية الشارع المصرى فى تلك الفترة، وظهر هذا من خلال تعبيره عن الاستفزازات التى قام بها اسماعيل الصفوى على الحدود المملوكية والتى ترد اخبارها من الوالى المملوكى فى حلب .

2 ــ وحين سجل ابن اياس أخبار الصفوى وصفه ( خارجيا تحرك على البلاد يقال له شاه اسماعيل الصوفى ) وكان ذلك سنة 908 من الهجرة، فكانت المعرفة بالصفوى ضئيلة لم تسمح لابن اباس إلا بالاقتضاب فى القول، ولكن لم يمنعه الاقتضاب من ذكر اضطراب الاحوال فى القاهرة بسبب هجوم على الحدود البعيدة مما يدل على اهمية الأمر رغم قلة المعلومات لدى الرأى العام الذى يمثله ابن اياس ، وأدى ذلك الاضطراب إلى عقد مجلس سلطانى للتشاور أسفر عن ارسال حملة تأديب. اما حديث ابن اياس عن الصفوى سنة 913 ففيه تفصيل كثير لتحركاته وموقف الغورى ومواجهة امراء الحدود المملوكية للهجوم الصفوى الشيعى .ولكن الجديد الذى أورده ابن اياس هو حضور مبعوث عثمانى لدى الغورى، وأكرامه لذلك (القاصد )، ثم حضور مبعوث عثمانى آخر تمتع بإكرام الغورى ،ووصفه ابن اياس بقوله ( ثم حضر من لدى العثمانيين أحد من خواص السلطان العثمانى فكرمه السلطان ) أى أن هناك مراسلات بين العثمانيين والمماليك استهدفت مواجهة الخطر الشيعى المشترك. وكانت تلك المناوشات التى قام بها اسماعيل الصفوى من قبيل جس النبض قبل دخوله فى معركة حاسمة ضد الدولتين.

سياسة الشاه اسماعيل الصفوى مع السلطان الغورى

1 ـ  والمتوقع أن تصل هذه الاتصالات بين المماليك والعثمانيين إلى تحالف مشترك بينهما لمواجهة الخطر الايرانى الشيعى المتزايد لولا أن غيّر اسماعيل الصفوى خططه تجنبا لتحالف غريميه السنيين عليه. فأوقع الغورى بين تهديد داخلى يقوم به الشيعة فى مصر ضد الدولة المملوكية السنية بالاضافة إلى تهديده الخارجى ليجبره على التحالف السرى معه ضد العثمانيين.

2 ــ ويلاحظ أن الشيعة قد قاموا بثورتهم فى الصعيد سنة 911 بإيعاز من اسماعيل الصوفى، ولكن بفشل ثورتهم بحث الصوفى عن حلفاء آخرين، أو كما يقول ابن اياس ( قبض على جماعة من عند اسماعيل الصوفى ومعهم مكاتبات منه إلى بعص ملوك الفرنج بأن يكونوا معه عون على سلطان مصر، وأنهم يأتون مصر من البحر ( أى يهاجمون مصر من البحر ) ويأتى هو من البر.. ومما يذكر أن الفرنجة قد استولوا فى هذا الشهر  على طرابلس الغرب ..وقد قبض شريف مكة على ثلاثة منهم متنكرين ...)

3 ـ وفى تلك الاثناء كان عسكر الصفوى يهاجم اطراف البيرة ـ وهى إمارة حدودية فاصلة بين المماليك والصفويين ـ فتصدى له حاكمها ازبك خان، فانتصر عليه الشاه اسماعيل الصفوى وقتله، يقول ابن اياس :( فتنكد السلطان ( الغورى ) لهذا الخبر واقام الامراء عنده الى قريب الظهر يتشاورون بسبب ذلك، وكان ازبك خان ضد الصوفى، وكان مشغولا بمحاربته عن ابن عثمان وسلطان مصر، فلما اشيع قتل ازبك خان خشى السلطان من أمر الصوفى أن يزحف على البلاد ) .

4 ــ واتبع الصفوى سياسة التهديد مع الغورى، فبعث له بمبعوث يحمل رأس ازبك خان مع ابيات من الشعر يفخر فيها بقوته ودينه الشيعى ، ورد الغورى عليه بأبيات شعرية صنعها له صفى الدين الحلبى. ومع انه أقام الاحتفالات لمبعوث الشاه اسماعيل الصفوى الا أنه منع الناس من زيارته وجعله كالمعتقل فى القلعة .

5 ــ ووجد اسماعيل الصفوى فى الاعراب اعوانا له فى مصر فثاروا علي الغورى، أو كما يقول ابن اياس ( تحالفت سبع طوائف من العربان بأن يكونوا يدا واحدة على العصيان )،هذا فى الوقت الذى وصلت فيه عساكر الصفوى إلى البيرة وانضمام جماعة من عساكرها إلى الصفوى.

6 ــ وخاف الغورى تحركات الأشراف ـ أى مدعى الانتساب للنبى محمد ـ  وكانوا ميالين للدين الشيعى فاخرج عنهم (شيئا من الجهات الموقوفة عليهم )أى حاول مصادرة الأموال الموقوفة عليهم ( وعقد مجلسا بالقضاة الاربعة للبحث فيمن اتهم بادعاء النسب الشريف )أى حقق فى معرفة أنسابهم المتصلة بالنبى محمد عليه السلام ليعرف من إندس فيهم ، مخافة ان يكون بينهم من ادعى النسب وهو جاسوس للشاه الصفوى.

7 ــ ثم وصل مبعوث من اسماعيل الصفوى بعبارات (يابسه ) على حد قول ابن اياس، فرد الغورى عليه بمثلها. وقد رد الصفوى بالمثل فسب مبعوث الغورى وشتمه، أو بتعبير ابن إياس ( افحش الصوفى فى حق تمرباى قاصد الغورى ). ومع ذلك وربما بدافع الخوف والملق فإن الغورى قد أوكب المواكب لمقابلة مبعوث الصفوى، وكان غليظا شديد البأس. ثم وصل مبعوث السلطان بايزيد العثمانى، ويقول ابن اياس ( واشيع أنه تنازل عن الحكم لولده سليم، وجاء الخبر بوفاته، وبكى عليه السلطان) .

8 ـ وعلى عكس ما خطط له الشاه اسماعيل الصفوى ( الصوفى ) فقد أدت جهوده إلى تقارب بين العثمانيين والغورى ظهرت فى اكرام القاصد العثمانى كما اتضح من كلام ابن اياس ، بل أن الغورى توسط للصلح بين الامير قرقد الذى جاء لمصر مغاضبا لأبيه السلطان بايزيد وبالغ فى اكرامه واستجاب لشفاعته فى بعض الامراء ثم عاد الامير العثمانى لبلاده شاكرا.

وبعث الغورى الأموال ليشترى الاخشاب والبارود والحديد من الدولة العثمانية، فرد السلطان سليم العثمانى المال وبعث بمراكب محملة بها مجانا ، ووصل من لدنه مبعوث برسالة يمتدح فيها الغورى ويستفسر عن وصول تلك المراكب. وبعد ذلك بعام ارسل الغورى مبعوثا لشراء مهمات اخرى فاكرمه السلطان سليم الذى كان قد أرسلها فى مراكب موسوقة على حد قول ابن اياس .

9 ــ وكان فرار الامراء العثمانيين ،أبان التنازع على العرش، فرصة يتلقفها الحكام المجاورون للضغط السياسى على الدولة العثمانية، وقد آوى السلطان برسباى اميرا عثمانيا،واحتفظ به ورقة رابحة ضد عمه مراد العثمانى.واختلف الحال  فى عهد الغورى اثناء صفائه مع سليم. ولقد فر الامير سليمان إلى الغورى وفر والده احمد بك من اخيه السلطان سليم إلى الشاه اسماعيل الصوفى الصفوى . ولم ينشرح الغورى لفرار الامير سليمان اليه، وخشى من اغضاب السلطان سليم فبعث قاصدا لسليم يهنئه بالملك ( ولنسج المودة بينهم ) .

ورغم اضطراب الأحوال فى القاهرة وانتشار الطاعون فى مصر وتوعك الغورى إلا أنه بعث بالأمير أقباى الطويل مبعوثا للسلطان سليم على هيئة حسنة لم تتفق لمبعوث قبله حتى عدّ إبن إياس ذلك من النوادر. ويذكر أن الغورى حين عزم على محاربة سليم استقدم الامير العثمانى قاسم بن احمد سرا نكاية فى عمه .

 

المرحلة الثانية : تحالف الغورى المملوكى مع اسماعيل الصفوى الصوفى وأثر ذلك فى انهيار الدولة المملوكية

  فشل سياسة الصفوى مع الغورى  

1 ــ عن الشاه اسماعيل الصفوى وأتباعه ( القزلباش ) يقول السلطان العثمانى بايزيد فى رسالة للغورى ( واما قصة غلبة الفرقة الضالة القزلباشية فى البلاد الشرقية فإنها بلية عامة ظهرت فى تلك النواحى ، فدفعهم لازم، بل واجب على الأدانى والأقاصى..لأنهم أهل البدع والضلالة وأصحاب الشر والشقاوة، كلهم روافض( أى شيعة ) ..).

وقد ارسل الغورى إلى بايزيد الثانى رسالة يحث فيها على محاربة القزلباش وعرض عليه المساعدة وقال بوجوب محو ( فئة الصوفية والملاحدة القزلباش ) وأنه اصدر أوامره إلى أمراء الحدود للاستعداد بجنودهم ، كما ارسل إلى ولايات الحدود لجمع الجنود ،وأن الامير جلال الدين قانصوه سيشترك فى الحرب بجنوده مع العثمانيين ضد القزلباش.  واضح هنا وصفهم بالشيعة الروافض وبالصوفية أيضا . أى هو تصوف شيعى فارسى فى مواجهة تصوف سُنّى مملوكى عثمانى .

2 ــ واخفق الشاه اسماعيل فى سياسته فى تخويف الغورى ولم يجن منها إلا مزيد التقارب بين الغورى والعثمانيين .

الصفوى يغيّر سياسته ويستميل الغورى ضد سليم العثمانى

1 ـ ويبدو أن الشاه إسماعيل الصفوى / الصوفى قد أدرك فشل سياسته مع الغورى ، وأنها أدت الى مزيد من التقارب بين الغورى والسلطان سليم العثمانى ، وفى تحالفهما ضده خطورة محققة عليه ، خصوصا وهما ينتميان الى دين واحد ( التصوف السُنّى ) . ولا بد أنه شعر بخطورة السلطان سليم بعد والده المسالم ، وشعر باقتراب اللحظة الحاسمة للصراع بينه وبين السلطان الجديد المتحمس للقضاء على الخطر الشيعى ، وعليه فلا بد من تغيير سياسته مع الغورى ليقطع طريق التحالف بينهما ضده.

2 ـ فعل الشاه أكثر من هذا . لم يكتف بازالة الخلاف بينه وبين الغورى ، بل وعقد تحالفا معه ضد سليم العثمانى . وتم هذا التحالف بينهما فى جو من السرية التى اتقنها دعاة الشيعة.

3 ـ كان للشاه اسماعيل عملاؤه فى الدولة المملوكية التى كتنت تمتد من ليبيا غربا الى العراق شرقا ، ومن جنوب آسيا الصغرى شمالا الى شمال السودان جنوبا ، بما فى ذلك الحجاز . هذا الاتساع أتاح للشاه اسماعيل زرع خلايا شيعية تعمل له ، حيث يوجب التشيع على معتنقيه الولاء للدين الشيعى  قبل الولاء للوطن وللدولة . وقد كانت جماعات التشيع تأتى الى القاهرة بالذات تحمل راية التصوف السنى ، ويحمل أربابها لقب ( الشريف ) يزعمون الانتساب الى (آل البيت ) ، وبهذا الطريق يحظون بالولاية والنفوذ فى مصر . وكانت مصر المملوكية سوقا رائجة لهذا الإفك . وبهذا توافد لمصر جواسيس للشاه اسماعيل ، وتوصل احدهم عن طريق أعوانه إلى ان يصل الى داخل القلعة بل أن يكون نديم السلطان الغورى، إنّه ( الشريف العجمى الشنقجى ) الذى قام بدور هام فى عقد التحالف السرى بين الغورى واسماعيل الصفوى ضد العثمانيين .

4 ـ يقول ابن اياس ( حضر إلى الابواب الشريفة العجمى الشنقجى نديم السلطان الذى كان توجه بأفيال إلى نائب الشام ونائب حلب ( للاستعانة بها فى حرب العثمانيين ). وقد أبطأ مدة طويلة حتى أشاعوا موته غير مرة، ( أى أكثر من مرة ) فظهر أن السلطان كان أرسله إلى شاه اسماعيل الصوفى فى الخفية فى خبر سرّ للسلطان بينه وبين الصوفى ( اسماعيل الصفوى ) كما أشيع بين الناس ذلك .. فلما كان يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر خرج السلطان ... قاصد نحو البلاد الشامية والحلبية ).

5 ــ ابن إياس كان يؤرخ من الشارع بعيدا عن مكائد القصور ، ولا يعرف ما يدور فى القلعة مركز الحكم المملوكى . كان يرصد ما يُشاع فى الشارع . وقد شاع بين القاهريين هذا الخبر الذى سجله ابن اياس فى تاريخه . ومنه نفهم وجود إتفاق سرى بين بين الغورى واسماعيل الصفوى عقده ذلك الجاسوس المسمى بالشريف العجمى الشنقجى ، وأنه تنفيذا لهذا الاتفاق فقد خرج الغورى بجيشه الى مرج دابق لمؤازرة الصفوى ضد سليم ، فلم يرجع الغورى ، إذ مات تحت سنابك الخيل ، وانهزم جيشه ، وسقطت دولة المماليك العتيقة. وسببها هو ذلك الجاسوس الشيعى الذى تملّك عقل الغورى وجعله يخرج من مأمنه الى مهلكه .!! 

6 ــ وفى كتابه ( الكواكب السائرة فى أخبار المائة العاشرة ) يقول المؤرخ الغزى المعاصر لهذه الفترة ( قبل معركة مرج دابق قرّب الغورى إليه أعجميا ، كان ينسج المودة فى الباطن بينه وبين  شاه اسماعيل ، حتى أخرجه من مصر لقتال سليم ، بحجة الاصلاح بينه وبين الصوفى ).أى وصلت أنباء هذا التحالف السرى بين الغورى والصفوى الى (غزّة ) وسجله المؤرخ الغزى ، ومع ذلك لا نعلم شيئا عن بنود هذا الاتفاق ، سوى أن هذا الجاسوس  السرى الصوفى الشيعى كان قوى التأثير على الغورى بحيث إستطاع أن يخرج الغورى ( الطاعن فى السّن )  من مأمنه الى مقتله . بوسائل لا نعرف عنها شيئا ..

ولكن ما أثر ذلك التحول الجديد على العلاقات العثمانية المملوكية ؟

1ـ قبل سلطنة الغورى استمرت العلاقات العثمانية المملوكية طيبة طالما لم يقع تدخل من جانب احدهما فى شئون الامارات الواقعة بينهما، والتى كان بعضها مشمولا بحماية المماليك والآخر تحت حماية العثمانيين شأن الامارات الصغيرة على حدود الدول الكبرى .ومع ما كان يحدث بين الجانبين من شقاق مبعثه التنافس إلا أنه سرعان ما  يعود الصفاء بينهما كما حدث من تنازع بين محمد الفاتح والظاهر خشقدم حول امارتى زى الغادر وفرغان ، وذلك التنازع بين قايتباى وبايزيد الثانى بسبب الأمير على دولات . ولكن الحال اختلف بظهور الشاه إسماعيل الصفوى / الصوفى الشيعى ، ظهر مناوئا للفريقين المماليك والعثمانيين معا، فتسبب فى قضاء العثمانيين على دولة المماليك العتيدة .

2 ـ  ولم تكن هناك نزاعات حدودية بين المماليك والشاه اسماعيل الصفوى على عكس الحال بين المماليك والعثمانيين . وحتى لا نظلم الغورى نقول إنه ربما أحسّ بالخطر من تحول موازين القوى الى جانب العثمانيين بعد أن إنتصر سليم العثمانى على غريمه الشاه اسماعيل الصفوى فى موقعة جالديران سنة 920 هجرية ، وخشى أن يطمع سليم العثمانى ويضم اليه بعض الامارات الخاضعة للدولة المملوكية والتى تجاور الدولة العثمانية . يؤيد هذا تحرك الغورى لنجدة الصفوى فى جالديران . يذكر ابن اياس أن الغورى قام بتحريك بعض قواته إلى حلب بالقرب من المنطقة التى دارت فيها الحرب بين سليم العثمانى واسماعيل الصفوى ( جالديران ) ، وكانت حُجّة الغورى :( حتى نرى ما يكون من أمر الصوفى وابن عثمان ) . وعرف سليم اثناء تحركه إلى جالديران بأن الصفوى طلب مساعدة الغورى ضد العثمانيين وأكد ذلك له تحرك بعض فرق الجيش المملوكى إلى حلب .  

3ـ ـ أثناء معركة جالديران لم يحدث تصادم مباشر بين القوات المملوكية والعثمانية اثناء حربها مع الصفوى، وان قام أمير مرعش التابع للمماليك باعاقة الامدات العثمانية اثناء القتال مما أثار سليم فقتل أمير مرعش وبعث برأسه إلى الغورى، فغضب الغورى وقال(  ايش ارسلى هذه الرءوس .؟!. أهى رءوس ملوك الفرنج انتصر عليهم ؟) واضطرب الأمر فى القاهرة خاصة وقد ضم سليم إليه إمارة مرعش.

4ـ ويذكر أن الغورى حزن حين علم بانتصار سليم على حليفه الصفوى فى جالديران . قال ابن اياس : ( لم يرسم السلطان بدق الكوسات (أى الطبول )، لهذا الخبر، وكذلك الأمراء اخذوا حذرهم من ابن عثمان ) . والطريف أن الغورى أرغم نائبه فى الشام على أن يصهر إليه ليضمن ولاءه فى الحرب المقبلة بينه وبين سليم.

5 ــ أى ظهرت بوادر التحالف السّرى الذى عقده الجاسوس الشيعى ( الشريف العجمى ) بين الغورى والصفوى ، فأرسل الغورى جيشا يتابع الموقف ، وقام أمير مرعش بتحركات ضد سليم مما جعل سليم يقتله ويضم إمارته الى الدولة العثمانية ، ثم يرسل برأس هذا الأمير الى الغورى ، دليلا على توتر العلاقة بينهما . وتطور هذا التوتر الى حرب .

قبل الحرب بين الغورى وسليم 

1 ــ بعد أن إنتصر سليم على الصفوى فى جالديران عزم على الاجهاز عليه نهائيا فتجهّز لذلك حربيا ينوى مطاردة الصفوى فى عقر داره فارس . خاف الغورى أن يقضى سليم على اسماعيل الصفوى ثم يستدير اليه لينتقم منه . فى نفس الوقت حاول الصفوى إنقاذ نفسه من حرب لا يتحملها بعد هزيمته مع العثمانيين، فعمل الصفوى على أن يضرب سليم بالغورى ريثما يعيد تنظيم قواته ليجهز على المنتصر منهما، فجعل الغورى يأتى ليصطدم بالعثمانيين المتجهين نحو فارس فكانت نهاية الغورى .

2 ــ استعد الغورى وجهز عسكره ( وحلّف امراءه ( أى جعلهم يقسمون على المصحف )على أن يكونوا يدا واحدة، واشاعوا عزم سليم على حرب مصر ). أى أنهم تجهزوا لحرب العثمانيين واشاعوا العكس أن سليم هو الذى ينوى الحرب.

3 ــ وتحرك الغورى بجيوشه نحو حلب فأحس سليم بالخطرالصفوى المملوكى ، فأرسل رسولين للغورى محاولا تحييده ، ويقول فى رسالته يعلل للغورى حربه للصفوى وشيعته:( ... إن الطائفة الباغية التى اجتمعت فى البلاد الشرقية حصلت منها أذية للعباد وتخريب للبلاد وسفك للدماء ... فلا جرم تضاعفت الاجور فى غزوهم وجهادهم ). وفى نهاية الرسالة يلتمس من الغورى ومن الصالحين ( الدعوات الصالحات لاعلاء كلمة الله وتنفيذ احكام الشريعة ).

ظروف قرار السلطان سليم بحرب الغورى

1 ــ أخبر جاسوس صوفى شيعى العثمانيين بأن القزلباش ( جيش الصفوى ) سيعاونون الغورى، مما أكد شكوك العثمانيين فى تحالف الغورى مع الصفوى .

2 ـ وأرسل الغورى لسليم يعلل مجيئه بالجنود للشام بالصلح بينه وبين الصفوى لدفع الضرر عن أهل المنطقة، ويتحدث على لسان الشاه اسماعيل قائلا عنه إنه قرر ألا يحارب العثمانيين بعد هربه الاخير منهم.  واثناء مقام سليم فى قونية اخبرته الجواسيس بقدوم الغورى فلم يغيّر السلطان سليم إتجاهه لمواجهة الغورى ، بل استمر فى طريقه ليحارب الصفوى ، ولكن وصول الغورى بنفسه على رأس جيشه الى حلب قلب الموازين.  بوصول الغورى الى حلب أدرك سليم دقة موقفه العسكرى، فجيش المماليك خلفه و قريب جدا منه، وهو الجيش الذى هزم قوات ابيه فى الماضى، فإذا إنضم الى جيش الصفوى فستكون كارثة عليه.

3 ــ وقع فى يد سليم كتاب بعثه الغورى إلى اسماعيل الصوفى يتضمن ( أننى معك عليه وممسك قطرى حذرا من أن يفر إليه .. ) وافاد الجواسيس أن الغورى طلب المساعدة من الصفوى فى حرب سليم..

4 ـ ودارت مراسلات بينهما . وفيها استنفد سليم كل الوسائل السلمية من شرح اهدافه للغورى، حتى أنه خاطبه فى رسالة بقوله ( أنت والدى اسألك الدعاء ) ويطلب فيها اعادة الود والصداقة وأنه مستعد لاعادة امارة مرعش.إلا أن الغورى اصر على حجته، وان هدفه الصلح بين الصفوى وسليم وطلب من سليم فى نفس الوقت جميع الاراضى التى كانت سابقا لأمير مرعش ليحكمها ابن  سليم الذى الذى فر إليه، واشترط على سليم ان يمتنع عن محاربة الصفوى . ولأن البعثة العثمانية التى ارسلها سليم وخولها عقد الصلح تعرف أن سليم لن يوافق على الشرط الاخير ( أن يحكم ابن سليم الخائن لأبيه إمارة مرعش ) فقد ترددت فى موقفها أمام الغورى،فما كان من الغورى إلا أن اعتقلهم، معلنا لسليم العداء. ثم أرسل من طرفه بعثة عسكرية إلى سليم بحجة عقد الصلح، وفهم سليم أن غرضه هو التهديد فأمر بقتلهم ، لولا توسط وزيره يونس باشا.

5 ــ وقد اعلن سليم فى 30 جمادى الآخر 922  أن المماليك إنما خرجوا متجهين نحوه ، فقرر مجلس حربه فى 5 رجب 922 (أن  الحرب مع الغورى لا يمكن تفاديها وأن على السلطان( سليم ) أن يصرف نظره مؤقتا عن متابعة حربه مع فارس ) . حدث هذا بعد أن  تأكد العثمانيون من هدف الغورى من المجئ بنفسه وجنوده.  

6 ــ تلك هى الظروف التى اكتنفت قرار الحرب فى المجلس العثمانى الذى أعلن بعده سليم الحرب على الغورى وبعث يقول له:( ولما كانت همتنا العالية وعزيمتنا القوية منصرفة إلى الديار الشرقية (أى مملكة الصفويين الشيعية فى فارس) لإحياء الشريعة الغراء ( أى التصوف السنى ) اتضحت لنا بعض تصرفاتك التى لا تليق والتى قصدت بها تقوية ذلك الملحد المفسد ذى العادات السيئة الذى لا يدين بدين ، فقصدت اليك ذاتنا الهيمايونية لأنك أسوأ منه .!). أى انه حتى حين أعلن سليم الحرب على الغورى فإن اسماعيل الصفوى استحوذ على ذهنه ورسالته.

 ولكن هل كان سليم يطمع فى الاستيلاء على الشام ومصر ؟

1 ــ إن إستقراء الحوادث التاريخية ينفى ذلك، فليست لسليم اطماع حتى فى ممتلكات غريمه اسماعيل الصفوى الذى بدأ بالاعتداء على سليم فى عقر داره، والذى كان ظهوره قلبا فى استراتيجية الدولة العثمانية السنية المتجهة فى فتوحها نحو أوربا المسيحية.

2 ــ وقد صرح سليم فى رسالته  للغورى فى محرم 922 بأن غرضه من تأديب القزلباش ( كان لمجرد اظهار النواميس الآلهية والشرائع النبوية .. ولم يخطر ببالنا الشريف حقيقة طمع فى المملكة أو استيلاء على الديار واكتفينا بتفريق شملهم وكسر أنوفهم ... ويعلم الله ـ وكفى به شهيدا ـ أنه لم يخطر على البال قط طمع فى أحد من سلاطين المسلمين أو فى مملكته أو رغبة فى الحاق الضرر به، لم يحدث ذلك لأن الشرع الشريف ينهى عنه ) وإذا كان هذا هو الحال مع الصفوى فكيف يطمع سليم فى حين سابق ـ فى الدولة المملوكية ؟

3 ــ لقد تساقطت أمام سليم بلاد الشام التابعة للغورى بعد مقتل الغورى وهزيمة جيشه، وزين له عملاؤه ـ ومنهم بعض المماليك الذين إنضموا اليه ـ أن يستولى علي الشام .وبعث سليم يستميل طومان باى يطلب طاعته ، وكان طومان باى هو الذى خلف الغورى فى السلطنة المملوكية فى مصر . وكرر سليم هذه الدعوة لطومان بعد هزيمة طومان وفراره للصعيد.

وقد رضى طومان بأن يحكم مصر باسم العثمانيين ولكن قتل بعض المماليك رسل العثمانيين ففشلت الوساطة.

4 ــ والواقع أن سليم كان متخوفا من توغله فى الشام ومصر لأن ذلك لم يكن فى تخطيطه سلفا، وحين أصيب ببعض الخسائر صاح فى  خاير بك ـ  الأمير المملوكى الخائن الذى إنضم اليه ضد سيده الغورى : ( أنت اغررتنى وطمعتنى فى أخذ هذا الأقليم فأنظر كيف وحين تصنع وتدبر نفسك كيف تتصرف وإلا فهى براسك ). وحين أسر طومان باى قال له سليم : ( والله ما كان قصدى أذيتك ونويت الرجوع من حلب، ولو أطعتنى من الأول وجعلت السكة ( أى العملة النقدية ) والخطبة( أى خطبة صلاة الجمعة ) باسمى ما جيت لك و لا دست أرضك ) .أى لو أعلن رسميا دخوله فى طاعة سليم ما حاربه سليم ولا اقتحم مصر.

 

تآمر اسماعيل الصفوى على السلطان سليم العثمانى بعد وفاة الغورى    

1 ــ ولا بد أن الصفوى قد فوجىء بالإنهيار السريع للدولة المملوكية غنيمة سهلة أمام خصمه اللدود. وهذا الأتساع الجديد للدولة العثمانية ـ علاوة على ما فيه من مكاسب لسليم ـ فقد سد الطريق امام اسماعيل الصفوى للتوسع غربا، ولم يعد أمام الصفوى إلا مواصلة ما برع فيه من دسائس، اعتمادا على أعوانه من الشيعة فى سوريا ومصر، ولم ينقطع عن نشاطه حتى مات  بعد عمر قصير لم يتجاوز ثمانية وثلاثين عاما سنة 930 .

2 ـ ولقد أرسل الصفوى رسالة إلى سليم بعد عودته من القاهرة إلى دمشق يقول له فيها : ( ملكت كثيرا من البلاد،استوليت على مصر خاصة وأصبحت خادم الحرميين الشريفين، والآن أرضك أرض الأسكندر.لقد زال ما كان بيننا ولن يعود مرة أخرى.عد إلى مملكتك وأعود أنا إلى مملكتى. لنصُن دماء المسلمين سويا . اننى سأحقق رغبتك ومُنيتك أيا كانت ). ولم يطمئن سليم إلى هذه الرسالة المعسولة ورفض عقد الصلح مع الشاه اسماعيل، وأرسل الصدر الأعظم بيرى محمد باشا على رأس ألفى جندى إلى ديار بكر لمراقبة تحركات الشاه .

3 ــ هذا ، بينما واصل اسماعيل الصفوى تآمره على العثمانيين فى الشام اعتمادا على ما فيها من شيعة دار بعضهم فى أسواق دمشق يندبون الحسين بعد سقوط الدولة المملوكية .

4 ــ وراهن اسماعيل الصفوى على أطماع الأمراء المحليين فى الشام .

وبدأ بابن حنش الأمير العربى الشيعى المقيم فى صيدا، وفى تاريخ ابن طولون رائحة علاقات خفية بين ابن حنش والشاه اسماعيل الصفوى ، وثار ابن حنش على الحكم العثمانى الجديد وانضم لثورته أمير شيعى آخر هو ابن حرفوش فى سهل البقاع وابن فخر الدين المعنى الدرزى. واستفحل أمر الثورة بعد مغادرة سليم دمشق إلى حلب، وانتهت الثورة بمقتل ابن حنش وابن حرفوش وهزيمتهما على يد جان بردى الغزالى وكان سليم لايزال فى حلب.

ولم ييأس اسماعيل الصفوى فجرب حظه مع الأمير جان بردى الغزالى الذى عينه سليم نائب الشام ، فثار جان بردى الغزالى على أسياده الجدد العثمانيين وفشل أيضا. 

5 ــ وامتد نشاط الصفوى إلى مصر بعد وقوعها تحت سيطرة سليم .

أثناء قتال سليم مع اسماعيل فى تبريز تسلل الشيخ الصوفى ظهير الدين الأردبيلى ووصل الى أن يكون من حاشية السلطان  سليم. وكان ذلك الشيخ من كبار دعاة الشيعة السريين التابعين لإسماعيل الصفوى،وقد خدع السلطان سليم بتصوفه السُّنّى فأخذه سليم معه إلى عاصمة الدولة العثمانية ، وعيّن له كل يوم ثمانين درهما. واستغل الأردبيلى وضعه الجديد لصالح سيده اسماعيل الصفوى فاستمال أحمد باشا مملوك سليم ووالى مصر وجعله يعتنق التشيع ، ويثور على الدولة العثمانية، وانتهى الأمر بمقتله بعد فشل ثورته.

6 ــ وهكذا انتصرت الدولة العثمانية على الدولة الصفوية ، وانتصر مع الدولة العثمانية دينها الأرضى ( التصوف السنى) بينما ضاعت فرصة التشيع فى الانتشار متخفيا بالتصوف.

7 ــ بل أتيح للتصوف أن يتحكم فى العصر العثمانى على حساب العناصر السنية التى تقلص دورها فى تأدية الفرائض شكليا فى مساجد تمتلىء بأضرحة الأولياء الصوفية وتستخدمها لعبادتهم أصلا ، وتحمل أسماءهم. هى صلاة ولكن للأولياء المقدسين باسم التصوف .

( المعلومات التاريخية عن الصراع بين الغورى وسليم والصفوى مستقاة من مصادر تاريخية كانت معاصرة للأحداث وقتها، وبعضها لا يزال مخطوطا والبعض الآخر تم نشره ، وهى كالآتى:

مخطوطات فى دار الكتب المصرية :

 اخبار القرن العاشر. مخطوط 41 ،

تاريخ سليم والغورى . مخطوط 13 ، 14 رقم 376 ، تاريخ تيمور ،

تاريخ المقدسى . مخطوط 67 ، 68 رقم 2026

تاريخ مرعى الحنبلى . مخطوط 133 :134 ،

البكرى: ولاة مصر. مخطوط 22 رقم 2407 تاريخ تيمور

عيون الأخبار. مخطوط 2/ 533

تاريخ القدس.  مخطوط 67

مصادر أصيلة منشورة :

تاريخ ابن اياس 4/ 39 ، 118 . 4/ 39 ، 118 ـ 118 : 123 ـ118 : 123ـ4/ 191 ، 205 ـ4/ 191 ، 205 ـ4/   219 : 221 ، 57 ، 260 ، 265 ، 271 ـ 4/ 152 :167 ، 186 : 187 ـ4/ 196 ، 285 ـ4/ 196 ، 285 ـ4 / 289 ، 324 ـ 5 / 35 ، 38 ـ5/22 ـ

4/ 462 : 463 ـ 4/ 398 . 399 ، 402 : 404 ـ4 / 471 : 475 ، 483 .

 تاريخ ابن حجر :انباء الغمر 3/ 499: 500

تاريخ ابن طولون : 2/ 78 : 79 ، 74 : 75 ـ، 2 /23 ، 2/ 78 : 79 ، 74 : 75

تاريخ الغزى ( الكواكب السائرة ) 1/ 297 ،216 ، 159، 216 ، 159 ،

 تاريخ ابن زنبل الرمال: واقعة الغورى وسليم  ط 62 70، 133 : 136 )

 

 

 

 

 

 

 

الخاتمة

العبرة من تلك العلاقة المعقدة بين تركيا العثمانية وإيران الصفوية ومصر المملوكية

 

مقدمة

1 ــ نحن ننقّب فى التاريخ بحثا ونكتشف ما لم يكن معروفا من قبل ، ليس هذا للتسلية وإنما للعبرة والعظة . فالتاريخ يعيد نفسه إذا كانت الشعوب تعيش ماضيها وتجتره فى واقعها المعاصر . وهذا يحدث عندما تسيطر عليها الأديان الأرضية فتجعلها تعبد ما وجدت عليه أسلافها ، وتصبح أديانها السلفية متحكمة ليست فقط فى حياتها الدينية بل أيضا فى حياتها الفكرية والتشريعية والسياسية ، وبالتالى يتكرر الماضى ولكن بأشخاص مختلفة ومسميات مختلفة . لا تجد هذا فى الغرب الذى دخل فى الجديد وفى التجديد منذ أن فرض حظر التجول على الكنيسة وحصرها داخل حيطانها وإنطلق يسير فى الأرض ويبحث فى الكون فاستعمر بلاد المحمديين ، ولا يزال متسيدا عليهم حتى الآن لأنهم لا تزال بينهم نفس أديانهم الأرضية منذ العصر العباسى وحتى الآن .، ولا يزالون يقدسون أصنامهم ويقتتلون فيما بينهم ، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى غيرهم ،

2 ـ وبالتالى ففى هذه الحالة فإن بحث الأوضاع السياسية الراهنة فى دول المحمديين يستلزم التعمق فى بحث جذورها التاريخية ، فالتاريخ هنا فعلا يعيد نفسه . يكفى أن ترى الأشكال الغبية لمقاتلى داعش ، ولا فارق بينهم وبين جيش آل سعود فى دولتهم الأولى ( 1745 : 1818 ) وهم يكررون ما كان يحدث من الحنابلة فى العراق العباسى . ويكفى أن أبا بكر البغدادى يحاول إعادة فتوحات أبى بكر بن ابى قحافة . ويكفى أن مجازر داعش هى نفسها مجازر القرامطة ، وحتى فى نفس الأماكن فى العراق والشام ، وفى الموصل والرقة تحديدا ، ويكفى أن قتل الشيعة زائرى كربلاء لا يزال يتكرر من العصر العباسى وحتى الآن . الخلاف هو فى أسماء الأشخاص ونوعيات السلاح . ولكنها نفس الأديان الأرضية التى تجعل البشر يجترون الماضى حتى فى اللحية والنقاب والختان والجلباب .

3 ـ والهدف من هذا الكتاب عن نشأة وتطور أديان المحمديين الأرضية هو التأكيد على أن الاسلام لا صلة له على الاطلاق بما يجرى الآن لأن ما يحدث هو مناقض للاسلام ، والمسئول عنه ديانات المحمديين الأرضية . نقول هذا للوعظ والتنبيه والتحذير . وهذا هو ما بوسعنا . والله جل وعلا هو المستعان .

أولا : الأضلاع الثلاثة فى الشرق الأوسط الآن وفى الماضى :

1 ـ فى عصرنا الراهن ــ عصر الحضيض ــ نرى ثلاثة اضلاع رئيسة لما يسمى بالشرق الأوسط الذى يتوسط بلاد المحمديين . هذه الأضلاع هى مصر وتركيا وايران . إيران بدينها الشيعى الامامى الأثنى عشرى ، وتركيا برئيسها الذى يريد إرجاع عظمة العثمانيين ، ثم مصر بنظامها العسكرى الذى يسير بالضبط على سُنّة العسكر المملوكى فى الاقطاع وفى إحتقار الشعب المصرى وتعذيبه . الفارق هو عظمة مصر فى الدولة المملوكية ( كانت أمبراطورية ، وآثارها المعمارية حتى الآن هى أهم الآثار فيما يسمى بالعصر الاسلامية ) والحضيض الذى وصلت اليه مصر فى عصر العسكر ( المصرى ) الذى لا مثيل لخيبته ولا نظير لخيانته .

2 ـ فى عصرنا الراهن ــ عصر الحضيض ــ نرى اللُعبة المفضّلة ، وهى خلط السياسة بالدين الأرضى . الدين الأرضى السائد حتى الآن هو دين التصوف السُّنّى . يعتنقه أكثر من 70% من المحمديين . الأقليات هى الشيعة ثم السنيون الوهابيون ثم الصوفية الخالصون بطرقهم الصوفية ومعتقداتهم فى الحلول والاتحاد .

3 ـ حين شبّ فى تركيا إنقلاب عسكرى ـ سارع كثيرون بالتنديد به وبالسرور حين قضى عليه أردوغان ـ كتبت متمنيا لو كان هذا الانقلاب العسكرى قد نجح . هذا مع التسليم بأنه سىء ، ولكن ليس له ظهير ايدييولوجى دينى ، وبالتالى فسيسقط وسيكون مثل ما سبقه من انقلابات عسكرية مجرد خطوات فى التحول الديمقراطى ، هذا التحول الديمقراطى الذى يستمر أجيالا حتى تتغلغل ثقافة الديمقراطية . أى إن الانقلاب العسكرى كان من صالح تركيا على المدى القصير والبعيد أيضا . ولكن الذى ليس من صالح تركيا وجيرانها ـــ فى موقعها الفريد بين  الغرب والشرق ــ أن يتأسس فيها حُكم دينى يختلط فيه التعصب الدينى بالعنصرية التركية ، وهذا يتمثل فى اردوغان ، وتُفصح عنه سياساته . وهو الآن بعد وقت قصير من نجاحه فى إخماد الانقلاب يتحول الى ديكتاتور، ويقوم بتصفية خصومه ، ويخلق له خصوما فى الداخل ، ثم يتحرش بأوربا ليخلق له خصوما فى الخارج . وبتخويف الشعب التركى بالأخطار الداخلية والخارجية يتربع السلطان العثمانى الجديد(أردوغان) يمثّل (الاسلام) أمام الغرب (المسيحى ).!.

4 ـ أيران بجمهوريتها ( الاسلامية ) تزعم أنها تمثل ( التحرر الاسلامى ) . بدأ الخومينى بإعلان تصدير الثورة ( الاسلامية ) بما يعنى تثوير ( المسلمين ) ظاهريا وتحويلهم الى التشيع عمليا ليكونوا تبعا لايران . ونشرت إيران الدعوة الى ( التقريب ) بين المذاهب ، وهى دعوة قلنا عنها فى حينها فى الثمانينيات ـ أن ظاهرها الرحمة وباطنها الشقاء ، لأنه تقريب لصالح التشيع . واذكر فى جلسة للترويج لهذا التقريب ــ وكنت وقتها سُنيا معتدلا ـ أننى قلت لهم وقد أتوا بالأموال:(عليكم مواجهة الأحاديث المنسوبة للنبى والى تؤطّر الخلاف السنى الشيعى وتجعله دينا . وقلت للشيخ الشيعى الداهية المبتسم : (عليكم أولا بالتقريب بين المذاهب الشيعية المختلفة ). وأذكر أن كلامى أغضب الجميع لأنه كان فى الصميم . فشلت دعوة ايران الى التسلل بتشيعها داخل مجتمعات المحمديين السنيين الصوفيين بزعم التقريب بين المذاهب فرفعت شعارا آخر هو الوقوف ضد الشيطان الأكبر أمريكا واسرائيل ، وبالتالى تقود هى المحمديين فى هذه المواجهة ، وهى مواجهة تشمل أتباع أمريكا من المحمديين وهم أعدى أعداء ايران والتشيع ، إنهم السعودية ودول الخليج ..ومصر التى أصبحت بالعسكر المصر الخائب الخائن مطية لشيوخ الخليج .

5 ـ العنصر الثالث هو مصر بنظامها العسكرى الخائب الخائن . به فقدت مصر مكانتها ، وأتاحت لدول قزمية ( قطر والامارات ) ودولة مؤقتة ( السعودية ) أن تغتصب الدور المصرى وأن تعلو فوق جثّة مصر تلعب دورها . وبدلا من أن تكون مصر الضعيفة المغلوبة على أمرها تابعة لإحدى القوتين الفاعلتين ( تركيا / ايران ) أصبحت تابعة لدول الخليح ( الفارسى ). وبهذا تصدرت السعودية لمواجهة ايران الشيعية . وبما أن السعودية مهما أوتيت من بترول فلا تستطيع مواجهة ايران فقد تغلغت ايران ــ بعد تحييد مصر ـ ووصل نفوذها يتحكم فى العراق وفى اليمن ولبنان بل ويتمدد الى فلسطين ، وينتشر تشيعها فى شمال أفريقيا .

6 ـ هنا نرى الماضى يتكرر فى علاقات معقدة بين الأطراف الثلاثة ( أيران / تركيا / مصر ). مصر فى ضعفها تماثل ضعفها فى عهد السلطان الغورى حين كانت نمرا من ورق. ايران فى عنفوان قوتها الآن تماثل وضعها تحت قيادة اسماعيل الصفوى . وتركيا بسلطانها الصاعد الواعد يسعى لإعادة أمجاد العثمانيين . وكما كان هناك عدو يتربص بالجميع ممثلا فى أوربا ( أسبانيا والبرتغال ) فقد ظهر هذا العدو الآن مع تغيير الشخصيات والأماكن ، يمثله صعود اليمين المُصاب بالهلع من الاسلام ، أو الاسلاموفوبيا ، لا فارق هنا بين هولندا المحايدة واليمين الفرنسى والأمريكى .

ثانيا : أمل الشيعة الدائم فى الوثوب للسلطة

1 ـ دين التصوف يمثل العوام بما لديهم من خنوع وخضوع للحاكم . أقصى طموحهم السياسى الرقص فى مواكب السلطان . دين السُّنّة يمُثّل التسلط والهيمنة والتوحُّش المُستقى من تاريخ الخلفاء القرشيين . دين التشيع لا يقل عن دين السُّنّة تعطشا للسلطة وسعيا لها وحرصا عليها ، ولذلك فهو المُعارض دائما للحاكم السُنى ، وهو فى موقع المقاومة يتلقى ضربات الحاكم السنى، ويتفنن فى الكيد له بحركات سرية تسعى لقلب نظام الحكم، ثم إذا وصل للحكم تغيرت سياسته من التقية والمهادنة الظاهرية الى التسلط والاستبداد والهيمنة والتوحش. هنا لا فارق بين عصف ايران بالأقلية العربية السنية داخلها فى عربستان ، وبين عصف السعودية بالشيعة فى الأحساء والمنطقة الشرقية . وعندما ساد التصوف سارع السنيون والشيعة فى صراعهما على السلطة الى ركوب موجته للسيطرة على العوام والاستقواء بهم. ودار الصراع بين التصوف السنى والتصوف الشيعى كما رأينا فى صراع الشاه إسماعيل الصوفى ( نسبة الى دينه ) الصفوى ( نسبة الى بيت أسرته ) مع الدولة العثمانية بدينها التصوف السنى .

2 ـ  إنتهت العلاقة المعقدة بين الأطراف الثلاثة ( سليم العثمانى واسماعيل الصفوى الايرانى والغورى المملوكى المصرى ) بفوز سليم وتحكمه فى مصر والعراق والشام والحجاز واليمن وشمال أفريقيا ـ عدا المغرب . وتحولت مصر من دولة رائدة الى ولاية عثمانية . لا ننسى أن هذا التحول ليس فقط فى مصر ، بل هو تحول على مستوى العالم ، سيطرت به الدولة العثمانية على البحر الأحمر وجنوب البحر المتوسط ، وتضاعفت مساحتها وأصبحت تتزعم ( العالم ( الاسلامى ) فى مواجهة العالم ( المسيحى ). لا ننسى ايضا أن هذا التحول تسبب فيه جاسوس شيعى صوفى هو الشريف العجمى الذى تسلل الى مجلس الغورى فى القلعة والى قلبه وسيطر عليه وجعله يسير الى مقتله . تحول هائل بدأ به جاسوس شيعى فارسى أنتج هذا كله.هنا نشير الى عبقرية الشيعة فى فنّ التآمر وخبرتهم العريقة فيه. وهذا يذكرنا بدسائس الشيعة وبولائهم الى دينهم وليس الى الوطن الذى يعيشون فيه وينتمون اليه . ليس هذا كلاما عاما ينطبق على جميع الشيعة بل على الناشطين المتدينين منهم فحسب . وليس هذا لوما للشيعة الناشطين المتدينين ، بل هو ردّ فعل طبيعى لاضطهاد عايشوه من السنيين الحنابلة ، ثم إستمر وتطور وتزايد بظهر الوهابية . وإذا كان وطنك لا يحميك فلا عليك إذا إلتجأت الى دينك لتحمى نفسك .

3 ـ عاش الشيعة معظم تاريخهم فى خندق المقاومة ، فجعلوا ( التقية ) معلما من معالم دينهم يدافعون به عن وجودهم وعن عقيدتهم التى تُغضب السنيين حين يلعنون عائشة وأبا بكر وعمر وعثمان . وأملا فى تغيير الأوضاع لصالحهم فلا تنقطع مكائد الشيعة وسعيهم لإقامة مُلك لهم . من مكائدهم ما نجح ، ومنها ما فشل. منها ما نجح كليا ومنها ما نجح جزئيا . ولكل حالة ظروفها الموضوعية ، ولسنا هنا فى التفصيل والشرح لأنه يخرج عن منهج هذا الكتاب . ونكتفى بإشارة موجزة .

4 ــ بعد سقوط الدولة الفاطمية وتأسيس الدولة الايوبية مكانها نشطت حركة شيعية سرية تتستر بالتصوف لتعيد الحكم الشيعى فى المنطقة . كادت تنجح وقت ضعف الأيوبيين وتنازعهم لولا أن إنتزع المماليك الحكم وأثبتوا أهليتهم له ، خصوصا فى عهد الظاهر بيبرس . فى مرحلتهم الأخيرة قاد هذه الحركة السرية قائد مجهول يزعم الجنون جاء ليستقر فى بلد مصرى مجهول ( طنتدا ) هو ( أحمد البدوى ) ، وعاونه عملاء له منتشرون فى مصر وخارجها ، أبرزهم الشاذلى وابراهيم الدسوقى . وكان لهم عميل أصبح شيخا للسلطان الظاهر بيبرس هو الشيخ خضر العدوى . أحسّ الظاهر بيبرس بهذه الحركة السرية فتحرك يستكشفها ، وخاف البدوى وأعوانه فتمسكوا بتصوفهم . وانتهت الحركة السياسية الى فشل سياسى ، ولكنها أنتجت طرقا صوفية شهيرة منسوبة لأولئك المتآمرين والذين اصبحوا آلهة فيما بعد . التفاصيل فى كتابنا المنشور بالقاهرة عام 1982 ، وهو منشور هنا أيضا .

ثالثا : مصر الآن مطمع ايران والسعودية

1 ــ بين الأعمدة الثلاثة تحتل مصر الركن الأهم . وحتى مع الحضيض الذى أوصلها اليها العسكر الخائب الخائن فإن التسابق على مصر يجرى بين ايران والسعودية .

2 ـ العسكر المصرى الخائب الخائن يلتزم بأوامر السعودية فى تجريم التشيع خوفا من تحول مصر من وهابيتها الى التشيع . وبنفس القدر تتمنى ايران أن تنشر التشيع فى مصر لتكمل حصار السعودية ولتكمل السيطرة على العالم ( العربى ) .

3 ــ  ينسى أولئك وهؤلاء أن مصر لا يمكن أن تكون شيعية على الاطلاق . قد تصبح سنية متشددة ( وهابية ) لبعض الوقت ، ولكن لا يمكن أن تكون شيعية طول الوقت . لقد حكم الفاطميون مصر وأقاموا عاصمتها الحالية ( القاهرة ) والأزهر الذى تفتخر به مصر ، وأحدثوا تغييرا جوهريا إذ دخل المصريون أفواجا فى ( الاسلام ) إسما وفى التشيع فعلا فى العصر الفاطمى. ولكن سرعان ما نبذوا التشيع وتهكموا على تقديس الامام الخليفة الفاطمى . ولم يستسيغوا الهجوم على أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة . وحاولت الدولة الفاطمية قبيل سقوطها إجتذاب المصريين ببناء ضريح الحسين فقام المصريون بتقديس الحسين مع تقديسهم لكل الخلفاء ( الراشدين ) . أى إن المصريون مع  تقديسهم آل البيت ، ولكنهم يرفضون النيل من أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة. وبالتالى فلا يمكن أن يكوا شيعة .

4 ـ تركيا ليست لها ايدلوجية دينية ،  هى لها تاريخ عثمانى يمكن أن تفخر به ، ولكن لا يحمل للمصريين إلا ذكريات سيئة . ثم إن تركيا ظلت فترة مستغرقة فى علمانيتها تتجه بقلبها نحو أوربا . ثم إذا إتجهت أخيرا نحو العرب ومصر فليس لها ثقل يوازى دول الخليج بايدلوجيتهم الوهابية . موقع تركيا لا يؤهلها لقيادة العرب ولا المسلمين . موقع تركيا يوقعها فى مشاكل مع اوربا ومع ايران ومع الأكراد . لم تلتفت الى العرب إلا بسبب الشاه اسماعيل الصفوى . لولاه لظلت تتجه غربا نحو اوربا ..وهى لا تزال كذلك .

5 ـ أى يبقى التنافس بين ايران والخليج على ( مصر). ومصر لايمكن أن تكون شيعية ولا يمكن أن تظل وهابية . وإن عاجلا أو آجلا فستعود مصر الى تدينها ( التصوف السنى ) المعتدل . وعندها ستقضى قضاءا تاما على الوهابية ودولتها السعودية .

أخيرا :

1 ـ الصراع السنى الشيعى أو ( الايرانى السعودى ) أحرق العراق ودمّر سوريا واليمن وليبيا ، ويهدد مصر والسودان وشمال أفريقيا . ليس من مصلحة الأسرة السعودية قيام دولة قوية فى الرافدين أو فى مصر أو اليمن. وليس من مصلحتها قيام دولة غير وهابية تجاورها . لذا أشعلت الأسرة السعودية الحرائق ونشرت حمامات الدم لتحمى سلطانها .

2 ـ إن سبيل النجاة من طوفان الدمار القادم هو فى إقامة نظام حكم ديمقراطى علمانى حقوقى فى مصر ، به تستعيد مصر مكانتها ودورها ، وبه يسقط حكم آل سعود ( محور الشّر ) ، وبه يعود التوازن بين القطبين الحقيقيين فى المنطقة ( ايران ومصر ) ، وبه يتم تحجيم إيران وحصرها داخل حدودها ، وبه يتم تحجيم اردوغان وتحريره من أوهامه العثمانية.

3 ـ بدون ذلك فالدمار قادم ..

4 ــ والله جل وعلا غالب على أمره .!!

اجمالي القراءات 12994