الجذور الاسلامية للعلمانية

مولود مدي في السبت ٠١ - يوليو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

قد يبدو عنوان هذا المقال صادمًا للكثير من القرّاء الكرام، لكن نحن لا نخترع تاريخًا من عندنا، أو نحاول تزييف الحقائق، أو إعادة تحريف معانيها، لكن نعم العلمانية هي ذات منشأ إسلامي قبل أن تقتنصها أوروبا وتوظّفها لصالحها، لتصل إلى ما وصلت إليه حاليًا من تقدّم في جميع المجالات، فمن أسباب تغريب مفهوم العلمانية، الفكر العلماني العربي نفسه الذي ليس متفتحًا بما فيه الكفاية على الحضارات الأخرى، فهو يعتقد أن الحضارة العالمية هي في الغرب فقط، قاصدًا فرنسا وبريطانيا مهد الفكر الليبرالي، فقام بنقل الأفكار دون إدراك النموذج الكامن وراءها، ثم سيتم تجاهل الأبعاد المعرفية لها، ومن ثم يختفي المنظور النقدي وتتعايش الأفكار المتناقضة معًا، ولهذا لا يعرف أن فكر التنوير قد بدأ من الصين، ثم انتقل إلى العالم الإسلامي إذ أجمع الكثير من العلماء على أن الحضارة الإسلامية التنويرية التي بدأت في العصر العبّاسي الأول وانتهت بصعود الخليفة العبّاسي «المتوكّل» إلى الحكم، قد ساهمت بشكل لا يوصف في حفظ التراث اليوناني والإغريقي من الضياع بسبب حركة الترجمة الكبيرة التي نشطت في عصر الخليفة العبّاسي المأمون فكان هذا الخليفة يكافئ من يترجم كتابًا علميًا بالذهب، فنتجت عن هذه الترجمة الواسعة ظهور علماء كبار أمثال عمر الخيّام وجابر بن حيّان وأوّل مهندس ميكانيكي بالمعنى الحالي العالِم المنسي «الجزري».

إن المصطلحات عندما تصاغ فهي تصاغ عند بلوغ الظاهرة المقصودة النضج والذروة، ودومًا أي مصطلح في أي مجال هو يعبّر عن نضج في المسار، يعني أن ظاهرة العلمانية هي أقدم من مفهومها، ومنه العلمنة وصلت إلى النضج الذي نعرفه حاليًا على يد المجتمعات الغربية، لكن الخطأ الذي وقع فيه الكثير من المفكّرين المسلمين هو صياغة مصطلحات لظواهر لم تظهر نتائجها بعد، أي لم تنضج بعد, فكل مجدد تنويري في العالم العربي الاسلامي يتم تصنيفه اما الى " دعاة الالحاد " أو " المبتدعة ".
 
إن الأفكار عبارة عن مورّثات، تتطوّر، وتغتني بمورّثات أخرى، لذلك فهي تخضع لما يسمّى بـ«الانتقاء التاريخي»، فليس لكل الأفكار القدرة على التحوّل إلى قوّة مادية، فهناك أفكار يتم إجهاضها رغم أنّها تعتبر متقدّمة وثورية بالنسبة إلى العصر الذي ظهرت فيه، لكن السياق التاريخي لا يساعدها على أن تتحول إلى قوّة مادية. أفكار أخرى يمكن اعتبارها أقل جذرية وجدت المناخ الملائم لكي تتطوّر مثل الأفكار التي تدّعي أن العلمانية هي رواية غربية، وكأن أوروبا عبارة عن جزيرة معزولة لم تتأثر بأي حضارة، ثم أتت وصاغت وحدها مفهوم العلمانية وقامت بتطويره.
 
في رأينا المتواضع، نبدأ التأريخ لمفهوم العلمانية من بدايات الحضارة الإسلامية، وفي تلك الحقبة، كانت النظرة الدينية للأمور هي السائدة في العالم الإسلامي، فحدث شرخ في الشرعية الدينية بين الأطراف السياسية المتصارعة على الحكم، فهذا الشرخ في الحقيقة لم يحدث بسبب الفتنة التي ظهرت في عصر الخليفة «عثمان» بل حدث في السقيفة، لأن هناك في التاريخ ما يراد له أن ينسى أو يمحى، فكان الصراع بين المسلمين في بادئ الأمر صراعًا سياسيًا أي حول موضوع مَن الأجدر بالخلافة، ومع مرور الوقت أخذ الصراع منحى دينيًا، ليبلغ النضج بظهور المذاهب الإسلامية «السنّة والشيعة وغيرهم»، وهذه التيّارات تكلّمت حول مسألة الشرعية، وتحاول أن تدافع عن موقفها من خلفية دينية، وفي تلك الظروف نشأ الموقف القدري الذي يعتبر ردًّا على الموقف الأموي الجبري الذي يقول إن اختيار الحاكم هو قدر من عند الله لا يمكن ردّه، والموقف القدري هو أوّل من أثار موضوع هل الإنسان هو الذي يخلق أفعاله أم أن كل ما يحدث هو نتاج إرادة الله؟ فأدى هذا الصراع بين الموقف القدري والموقف الجبري إلى نشأة الموقف المعتزلي الذي هو تطوّر للموقف القدري، والموقف المعتزلي اهتمّ بالرد على مدافعي السلطة الأموية وأبرزهم أهل الحديث، فخرج المعتزلة بنتائج مهمّة ومنها، أن العلاقة بين الدين والإنسان هي علاقة فهم، وليست علاقة تقليد وتلقٍّ، وبالتالي في الحقيقة الصراع الذي كان بين المعتزلة وأهل الحديث لم يكن صراعًا بين العقل والنص، بل صراع بين العقل والنقل، صراع بين التفكير واللاتفكير، ثم جعل المعتزلة العقل هو المحدد لمفهوم الخير والشّر، فكانت نظرة المعتزلة للأخلاق نظرة علمانية عقلانية، وكانت علمانية أيضًا لعلاقة الإنسان بالنص الديني، أي على المسلم أن يتدبّر النص القرآني دون المرور على أي سلطة أو مؤسسة دينية، بعد ذلك بيّن المعتزلة أن التديّن يجب أن يبنى على مفهوم القناعة وليس على مفهوم اليقين، واليقين يعني أن هناك قوّة خارجية تفرض على المسلم أن يتدين تديّنًا غير عقلاني، فاستنتج المعتزلة أن التديّن هو مسلك فردي، وبهذا الطرح نفهم مباشرة أن أبرز عماد لدى العلمانية وهو ذاتية الإنسان، أي أن الإنسان يجب أن لا يخضع إلى قوّة خارجية في خياراته، وأن أي خضوع لهذه القوّة هو خضوع لسلطة قهرية، هي إحدى أفكار المعتزلة كانت موجّهة ضد آراء دينية بشرية وليس ضد النص القرآني، وكانت ضد سلطة سياسية متسربلة بالدين وتستعمله لتكريس استبدادها وإضافة الشرعية الدينية عليه بجميع الوسائل، مثل تجنيد الفقهاء، واختراع الأحاديث المنسوبة للرسول التي تجيز للسلطة الأموية الانقلاب على مفهوم الشورى، وتكفير المعارضة السياسية وإهدار دمّها، فالنتيجة المهمة التي نخرج بها هي أن العلمانية ما هي إلا نتاج النقاش الديني بين التيارات الفقهية الإسلامية، فهي ولدت في رحم هذا النقاش، ولم تأت لكي تبعد الناس عن التديّن أو لكي تنشر الإلحاد، أو فصل الدين عن الحياة مثلما يدّعي من يسمّون أنفسهم «أعداء العلمانية»، فأصحاب هذا الادعاء لم يسعفهم الحظ في الاطلاع على تاريخ الفكر الإسلامي الجبّار الذي أثر على أوروبا وظهر تأثيره بشكل واضح في الصراع البروتستانتي–الكاثوليكي.
اجمالي القراءات 8414