رؤية حالكة السواد

كمال غبريال في الجمعة ١٩ - مايو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

لا يعنيني إن جاءت أفكاري جميلة مريحة تجلب السعادة والأمل، أم بدت بغيضة فجة. كل ما يهمني أن تعينني قدراتي ‏‏على أن أكون أكثر اقتراباً من حقائق الواقع الصلبة.‏

توصيف حالة راهنة لا يكفي وحده للتنبوء بالمستقبل. يلزمنا رصد عدة لحظات سابقة، لنتعرف على الاتجاه المستقبلي.‏
يخسر من يراهن منا على الزمن، أملاً في تطور شعوب الشرق الأوسط. فمسيرة المنطقة الحديثة كانت محاولات استيراد ‏‏حداثة بواسطة حكام وصفوة مستغربة، وضغوط خارجية وحياتية. وكان الرد الشعبي عليها في عمومه هو ما بين جمود ‏‏ومقاومة وتيارات ارتدادية، إلى أن وصلنا لحالة الانكفاء الحالية
.‎‏ يعني هذا أن الزمن لا يلعب مع فريق الحداثة، وأن ‏‏سهم حركتنا يتجه للخلف.‏
ما يسميه البعض إرهاباً، وأخرون صحوة إسلامية، هو فيما نرى تولي شعوب الشرق الأوسط الكبير الفعل لنفسها ‏‏بنفسها. تلك الشعوب التي استكانت لستة قرون لحكم الخلافة الإسلامية العثمانية، رغم بؤس أحوالها المعيشية ‏‏والحضارية. ثم بعد انهيار الخلافة، وجدت حكامها الوطنيين باختلاف نوعيات نظمهم السياسية، يذهبون بها مختارين ‏‏أو مجبرين باتجاه هيكل دولة وطنية حديثة، وإن كان من الطبيعي مرحلياً أن تأتي نظمهم وأداؤهم حافلة بالقصور ‏‏والتشوهات، وهو ما مرت به الشعوب القابلة للتطور، وأصلحت من أحوالها ونظمها بنفسها. لكن شعوبنا سلكت طريقاً ‏‏آخر بعدما يأست من سير حكامها بها إلى حيث تريد، فكان أن أفرزت تلك النخبة، التي نسميها إرهابيين وظلاميين. ‏‏لتحقق لها شكل الحكم والحياة، ليس فقط الذي تؤمن به عقائدياً، ولكن أيضاً الذي أثبت التاريخ ارتياحها إليه، ‏‏وانصياعها له. وهو العيش في ظل هيمنة دولة دينية مقدسة، يستشعر الفرد فيها أنه منخرط في حالة ومسيرة قد ‏‏خططها الإله ذاته، وليست من صنع بشر طواغيت، اغتصبوا لأنفسهم حق ودور الإله.‏
نظرة بنورامية على مسيرة الحضارة المعاصرة، تطلعنا على أن التقدم الحضاري الهائل للعالم الغربي، أدى لوجود مسافة ‏‏كبيرة بين شعوب الشرق والغرب، تحتاج لتداركها إلى قفزة إعجازية. وجدت شعوب الشرق الأقصى نهجاً لعبور هذه ‏‏الهوة الحضارية، لتصبح كجناح للحضارة الغربية المعاصرة. فيما سقطت شعوب الشرق الأوسط الكبير، محكومة ‏‏بهويتها وثقافتها، غير القابلة لتجاوز حد معين من التحضر، أو بالأحرى المضادة لمسيرة التحضر، التي تتطلب مرونة ‏‏التغير والتجاوز المستمر للماضي.‏
هنا في الشرق الأوسط الكبير شعوب موقفها من الحضارة أشبه بما يعرف في الكون بالمادة السوداء، التي تبتلع ‏‏الحضارة وتسحقها في أعماقها المظلمة. ووفقاً لهذا التشبيه تكون موجات هجرة الشرق أوسطيين إلى العالم الغربي، ‏‏بمثابة قذائف من المادة السوداء، تسقط على الكوكب الغربي، فتبتلع حضارته في ظلماتها.‏
رغم انتماء البشر إلى أصل واحد، إلا أن ما حدث من تطور تباينت فيه الملامح البيولوجية التي تحملها الجينات، ‏‏ترتب عليه فروقاً بين مختلف السلالات، نرى بعض ملامحها ظاهرياً، ونرى بعضاً في تنوع قدرات الوعي الإنساني ‏‏والقدرات العقلية والسيكولوجية الشخصية. فالوحدة التشريحية بين كل أعراق الجنس البشري لا تعني التطابق التام بين ‏الأعراق والأفراد. اختلاف معدلات الإفرازات الهرمونية بين عرق وآخر وفرد وآخر، يترتب عليه فروقاً شاسعة، ويؤسس ‏بيولوجياً لفردانية الإنسان الفرد ‏
unique‏. وما جاءت به العولمة، هو ربط جميع الأجناس والشعوب بعضهم ببعض. ‏‏بحيث لم يعد متيسراً لشعب وجنس معين، أن يستمر في اتجاه حضاري، مضاد لما يطيقه ما يحيط به من شعوب ‏‏وأجناس.‏
صارت الطيور التواقة والقادرة على التحليق، مشدودة لأسفل بأغلال تربطها بأحجار تنحو دوماً للسقوط.‏
ربما تكون البشرية بصورة عامة قد وصلت الآن لقمة جبل الحضارة الذي تطيقه، وبدأت مسيرتها نحو النزول والسقوط.‏
فالمعضلة الراهنة هي أنه ينبغي للحفاظ على الحضارة الإنسانية، اتباع أساليب مضادة للحضارة والإنسانية. وهذا يعني ‏‏السقوط المحتوم، سواء سرنا في طريق الإنقاذ، أم استمر احجامنا الراهن.‏

اجمالي القراءات 6891