بين النظرية العلمية و الأية القرأنية

مولود مدي في الجمعة ١٩ - مايو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أنجبت الأمة الاسلامية علماء لا زلنا نفخر بهم في كل مناسبة ساهموا بشكل كبير في تأسيس العلم البشري الموجود الأن, و هؤلاء العلماء يجب أن نقف لهم تحية أجلال و أن نعيد احياء أسمائهم الغائبة في عالمنا الاسلامي, لأنك عندما تقرأ التاريخ الاسلامي و تبدأ بتقليب صفحات ذلك التاريخ تفهم مباشرة أن الأوضاع في العصر العبّاسي و الأموي و العثماني لا تساعد اطلاقا على ظهور علماء , كانت البيئة التي عاشوا فيها هي بيئة الصراعات السياسية و الفقهية و تكفير و تبديع الناس و التحكم في أنفاسهم و حركاتهم حتى أجبر العلماء على أن يحرقوا كتبهم و علمهم بأيديهم مثلما فعل العالم " أبي حيّان التوحيدي " .. التاريخ يخبرنا أن الانحدار التاريخي وقع بسبب اقفال باب العقل و الاجتهاد و توقف المسلمين عن التفكير في القرن الثاني عشر بسبب تكبيل الحريّات و صعود التيّار التكفيري المتشدد الذي جرم العقل و جعله وسيلة تؤدي بصاحبها الى الضلال عوض ان تكون وسيلة للهداية و معرفة الحقيقة فتم تقييد كل شيئ بمنطق الحلال و الحرام, و تم تحريم علوم و  دراسات لا ضلع للدين فيها, و عندما حدثت صدمة الحداثة عند المسلمين, ظهرت عقلية التوفيق بين النص القرآني المقدس و المطلق و بين النظريات العلمية القابلة للأخذ و الرّد فاصبح بعض رجال الدين يتعاملون مع كتاب مقدّس كالقران و كأنه كتاب حول نظرية الاعداد او كتاب علم الفلك و الاجرام السماوية وذلك ليس من اجل العقل و العلم و لكن من اجل تسفيه العقل و العلم بالقول بان كل شيء موجود في القران و لسنا بحاجة الى تشغيل عقولنا او الاهتمام بالبحوث العلمية التي تعتبر من اسباب قوة المجتمعات فيكفي ان تقرا القران لتكون من العارفين و العلماء وهذا ما جعل الشيخ السلفي " عمرو عبد اللطيف " يقول في قناة " البصيرة " : لقد اتفق علمائنا ان الارض مسطحة و لا يجب الاخذ بكلام علماء ناسا و ترك كلام علمائنا و قول ربنا !؟., بل و الادهى من ذلك ان بلغت شطحات بعض الاشخاص الذين يتم نعتهم في العالم الاسلامي بـ" جهابذة الامة " ان كفّروا من يؤمن بكروية الارض!, فأليس من المخزي ان نتعامل مع النص القرآني و كأنه نظرية علمية ! اليس من العار ان ثبت خطأ النظرية العلمية التي قلنا بانها موجودة في القران ان تتسبب في اهتزاز ايمان الناس ؟ الن يحسب ذلك على القران نفسه ؟ متى سيفهم البعض ان النص الديني عبارة عن نص مطلق لا يتغير و بالمقابل ليس هناك ما يسمى حقيقة مطلقة في العلم و البحث العلمي ؟ ان منطق رجال الدين الاعوج الذي لا يقبله العقل اصبح منطق الانحطاط و التردي الفكري الذي لا يملك اي اسانيد علمية بل حججه تتمثل في التكفير و التحريم.

لا يعلم البعض ان مجرد القول بان " القران يحوي كل العلوم و الفلسفات " و" ذلك الاكتشاف موجود في القران " يرتكب جريمتين, فالجريمة الاولى هي انه يلحق الضرر بقدسية النص الديني و يحاول ان يثبت صدق الله بمعارف انسانية, اي ان هذه محاولة عبثية في التوفيق بين العقل الالهي و العقل الانساني القاصر الذي لا يمكنه ان يدرك كل شيء فتصبح المعجزة الالهية الخارقة شيئا عاديا!, اما الجريمة الثانية الناتجة عن الادعاء بان القران يحوي كل العلوم ستتسبب في اهمال المسلمين للعلوم الاخرى بل سيتم اعتبار قراءة كتب اخرى غير القران كفرا فسيتحول شباب المسلمين بكل جدارة الى صنّاع قنابل مهرة و قتلة متمرسين.

و المغالطة الكبرى التي ينشرها الفقهاء كلما أثير موضوع العلم و التقدم العلمي هي أن لا تعارض بين العلم و الدين, و هذه أكذوبة كبرى لا تصدر من عقل واع, فلو نجرّب ان نبحث عن ادعاء الشيوخ في مصادر الأديان الابراهيمية ( التوراة, الانجيل و القرآن ) نجد أن هناك الكثير من المعجزات التي لا يمكن للعلم أن يقبلها لأن العلم عندما يقرّ بصحة الحقائق العلمية فهو يعتمد على الكثير من المعايير و منها التجربة فهل يمكن تفسير معجزة النبي موسى الذي ضرب بعصاه البحر و انشقّ البحر الى نصفين ؟ هل يمكن تكرار هذه الحادثة لإقامة التجارب العلمية للتحقق من صحتها ؟ هل يمكن للأخ المسيحي أن يتعامل بالمنطق العلمي مع معجزة تحويل المسيح الماء الى خمر في ثانية واحدة دون أي تجارب كيميائية ؟ هل يمكن للمسلم أن يستعمل المنهج التجريبي في تفسير معجزة النبي محمد في الاسراء و ذهابه الى الأقصى دون أي وسيلة نقل أو صحن فضائي و متحديا القوى الجاذبية و ضاربا عرض الحائط كل قوانين الميكانيك ؟ و بالتالي لو كانت هناك علاقة بين العلم و الدين فلماذا هناك صراع بين بين العقل و النقل في الفقه الاسلامي ؟ و لماذا تم تكفير المذاهب و الفرق الاسلامية التي قدّمت العقل على النقل ؟ فلو قالوا أن العقل لا يخالف النقل لقلنا أن ذلك صحيح لكن ليس في عصرنا الحالي لأن في عصر النبوة معجزة الاسراء و المعراج كانت هينة على عقول الذين قبلوها و كانت السماء في تواصل مع الأرض و لهذا لم يكن هناك تعارض بين العقل و النقل و الا لتساءل المسلم لماذا لم تحدث نهارا جهارا ونرى النبي صاعدا أمامنا ؟ ان المنطق الذي تعامل فيه سلف المسلمين ساغ لهم أن يصدقوا أن اليهود في آخر الزمن سيفتن عليهم الحجر والشجر للمسلمين " ورائي يهودي يا مسلم تعال فاقتله " لأن السلاح الذي عرفه السلف هو السيف و الرمح و الدرع لكنه أصبح حديثا غير مقبول مع ظهور أسلحة جد متطورة و صواريخ كروز والقنبلة النووية التي يمكنها أن تمسح الجميع عن وجه الأرض في ثانية واحدة ، لذلك لا نجد العلم في القرآن لأن رب القرآن كان يعلم أن البشر لم ينضجوا بعد ليحدثهم حديث العلم والجينات الوراثية و الهندسة و القنابل النووية لذلك خلا من علم اليوم لذلك ايضا لا يعتبر القرآن مرجعا لأي تجارب في العلم اليوم و الا لسبقنا السلف في اختراع الصواريخ العابرة للقارات و الاسلحة البيولوجية.

ان مهمة المسلم تجاه القرآن لم تكن يوما محاولة استخراج النظريات العلمية فيه للبرهان أنه من عند الله لأن المسلم الحقيقي تكفيه الآية " اذ كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة مثله " يعني أن القرآن عندما حاول الدخول في جدال مع الذين يشككون في صحته فهو يدخل الجدال من زاوية دينية أي الجدال حول صحته يجب أن يكون ديني – ديني و ليس ديني – علمي, فمهمة الفقيه ليست في اثبات صدق الله بنظريّات علمية قد تظهر عيوبها غدا و انما العمل للربط بين أجزاء النصوص الدينية و تأويلها وفق متطلبات العصر حتى تستنبط معانيها العميقة, لقد ألحد المسلم و تخلى عن الدين بسبب هذه الجريمة الشنيعة .. جريمة التوفيق بين النص القرأني و أصبح كل من هب و دب يأتي ليستهزئ بالقرآن محاولين اثبات صدقه, و هذا ليس ذنب الذين تركوا هذا الدين بل الذين استهزأوا بآيات الله فذهبوا ليبحثوا عن صدقها في اكتشافات " الذين كفروا " و " أحفاد القردة و الخنازير " فيسارعون للشهرة و نشر تخاريفهم و عندما تظهر العيوب في النظرية لا نسمع لهم ركزا .. انه من العجب العجاب أن ترى أن المسلمين يعشقون تدمير أنفسهم بأنفسهم, ثم يسألون لماذا لا ينصرهم الله.

أليست محاولة مجاراة الغرب الذي الى وصل الى هذا التقدم العلمي بالجهد و اعمال العقل بمجرد القول بأن كل شيء موجود في القران هو شعور بالقزمية و عقدة النقص ؟ اذا كان كل شيء موجود في القران لماذا لا نسبق الغرب في الاكتشافات اذن و لماذا لا يحطّم المسلمين الرقم القياسي في نيل الجوائز العلمية و جائزة نوبل ؟ بل لماذا نحن متخلفين ان كانت لدينا جميع الحقائق العلمية ؟  ان الإعجاز العلمي بنسخته الحالية والذي يحاول عبثا التوفيق بين النص الديني والعلم الحديث ظهر بعد فشل العرب والمسلمين في معركتهم ضد الحداثة، أي أن ظهوره كان مجرد رد فعل على شيوع التكنولوجيا والتفكير العلمي، أي أن وهم الاعجاز العلمي ليس الا بمثابة مخدّر للمسلم لكي لا يشعر بالفارق الحضاري بينه و بين الغرب.

 ان محاولة حشر الدين في العلم و البحث العلمي لا يخدم لا الدين و لا العلم, فماذا قدّم عرّاب الاعجاز " زغلول النجّار " للعلم باكتشافاته ؟ متى رأيناه في قائمة الجوائز العلمية العالمية ؟ هل هناك نظرية في الفيزياء أو الفلك أو الطب ادّعى أنه اكتشفها في القرآن و تحمل اسم " نظرية زغلول النجّار " ؟ و مشكلة أمثال النجّار أنهم ينتظرون اكتشاف الحقائق العلمية من طرف العلماء المختصين الحقيقيين، ليقوم النجّار ومن معه بالبحث لها عن مقابل في الجمل القرآنية عبر التأويلات المغالية والتخريجات الغريبة والمتعسفة, وللاسف ملأت حكاياته وخرّافاته العالم الاسلامي ضجيجا حتى افسدت عقول الناس واصبحوا اقرب الى الاعتقاد بالخرافة والاسطورة منهم الى الاعتقاد بالعلم.

لقد نسي المسلمون ان النظريات العلمية و الاختراعات و الاكتشافات ووصول الانسان الى القمر لم تأتي من كتب دينية, و انما هي نتاج البحث العلمي و تطبيق المنهج التجريبي و أيضا اتصاف العلماء الكبار بالموضوعية و البعد عن التحزّب او التعصب للدين, كان الشغل الشاغل للعلماء هو معرفة كيف يسير هذا الكون و ماهي القوانين التي تحكمه وليس أن يحاولوا اثبات صحّة معتقداتهم, وهذه القوانين العلمية هي قوانين نسبية وتتميز بالقصور وهذا طبيعي لأن الانسان ليس منزّه عن الخطأ, فكيف يتجرأ تجّار الدين على خلط النسبي القابل للأخذ و الرد بالمطلق الالهي الذي لا مجال للأخذ و الرد فيه ؟ ان الأديان عبارة عن أمور متعلقة بالاختيارات الحرة للأفراد، وهي تقوم أساسا على التصديق والتسليم, فهل قوانين الميكانيك و الطاقة و البيولوجيا تمّت صياغتها بالتصديق و التسليم الجازم ؟ و من يقول ان الاعجاز العلمي ساهم في اسلام الكثير من العلماء و الملاحدة فهذه حجة مردودة لسبب واحد .. وهي أن القرآن كان حاسما في مسألة الوحدانية بحيث أقرّ بوجود اله واحد فقط لا شريك له عكس اغلبية الديانات الأخرى التي تقرّ بوجود أكثر من اله وهو ما يتوصل اليه من يحاول أن يثبت أن هناك صانع واحد للكون ولكن هذا ليس اعجازا فهناك من يؤمن بوجود الله و هو ليس مسلما اصلا و هم اللادينيين اللذين لا يعترفون لا بالاسلام و لا بالقرآن, كما أن التوحيد كان متواجدا منذ الاف السنين قبل نزول القرأن.

لقد تناسى اللذين يتاجرون بالقرآن الكريم و الاسلام من ابن زغلول الى مرجعيتهم ابن قرضاوي و خليفتهم ابن مرسي رضي الله عنه أن العلم خاضع دوما لمبدأ التراكم المعرفي, فمثلا في علم الكيمياء عندما حاول الانسان أن يعرف مما تتكون المادة, تساءل أولا ثم افترض أنها مكونة من جزيئات يمكن رؤيتها, لكن مع مرور الزمن عدل عن رأيه بسبب التجربة ووجد أن المادة مكونة أيضا من جسيمات أصغر من الجزيئات في المادة هي الذرة بل و اكتشف أن ما بين الذرّات هناك فراغات لا متناهية في الصغر بتجربة " روذرفورد ", و مر الزمن حتى اكتشفوا في المادة أن هناك جسيمات أصغر من الذرات بكثير و هي  " الكوارك " لكل ما كان لهذا أن يحدث لولا تساؤل الانسان عن حقيقة المادة ... فتقدم العلم دائما مرتبط بالتراكم حيث أصبح من المستحيل أن تقوم ببحث علمي في موضوع معين دون أن تستعين بأطروحات العلماء السابقين و بدون أن تنكر فضل اللذين سبقوك و تضيف عليها جديدك, لكن هل خضعت النصوص القرأنية لتراكم معرفي ؟ هل النصوص القرأنية خضعت للتجربة و المناقشة حتى دوّنت ؟.

الطريف أن السواد الأعظم من أمثال زغلول النجّار و قرضاوي و ابن عريفي و ابن الوهّاب أو ابن الزرقاوي لا يعرفون الا القليل جدّا عن العلم الحديث و مناهجه و طرقه في البحث و التجربة, غير أنهم يقفون مصدومين مندهشين من منجزات العلم و العقل الانساني و تطبيقاته العملية, لذا هم مضطرون للتعامل مع نتائجه حتى في حياتهم اليومية و العادية, فأغلب مشايخ الوهّابية و السلفية يمتلكون حسابات في " التويتر " و " السنابشات " و يستعملون أخر ماركات الهواتف المحمولة الغربية, و مع ذلك يكفّرون الغرب ويحذّرون من التشبه بهم رغم أن التشبه الذي حذّر منه القرأن هو التشبه بهم في أمور الدين أما هم فلا .. فكل شيء حلال عليهم, فلا بأس اذن باستغلال الدين لأغراضهم الشخصية.

ان ما زاد الطين بلة هو تحريم الفكر و اعمال العقل و تفضيل النص عليه و تجريمه باختراع معايير فقهية لاستنباط الاحكام الشرعية و أكثر المعايير اثارة للاستنكار منطق سد الذرائع – المنطق الذي حول المسلمين الى اناس غرباء عن البشرية – بمنع الحركة خشية كذا وكذا فيظل الإنسان كامن لا يتحرك فإذا ظل الإنسان بدون حركة يتخلف عن الركب، ويعجز عن رؤية من وصل قبله ويظل مشغول دائما بالخوف من الكفر حتى يتقدم غيره , فتسبب في تحجّر عقل المسلم الذي اصبح يائسا من اللحاق بالغرب فيطمئنه شيخه بانه لا داعي للقلق فلديه القران – ويا ليته عمل بما فيه - اما الغرب فيعض علينا الانامل من شدة الغيظ,  ان تحريم السؤال ولّد في المسلمين عقدة الخوف من الكفر مثل ما يدّعي " حجة الاسلام " الغزالي الذي أمر بمنع الناس في البحث و التفكير في الأمور الفلسفية قائلا " فيجب كف الناس عن البحث عنها وردهم إلى ما نطق به الشرع ففي ذلك مقنع للموفق فكم من شخص خاض في العلوم واستضر بها ولو لم يخض فيها لكان حاله أحسن في الدين مما صار إليه. ولا ينكر كون العلم ضارا لبعض الناس كما يضر لحم الطير وأنواع الحلوى اللطيفة بالصبي الرضيع، بل رب شخص ينفعه الجهل ببعض الأمور" (إحياء علوم الدين، ربع العبادات، ج1، ص 19). فالإمام الغزالي،  " حجة الإسلام "، يفضل الجهل و يراه نافعا في " بعض الأمور " و الا التفكير و الشك سيؤدي الى الكفر, و لكن لا مفر من حقيقة اما ان نفتح السؤال دون حرج او تحريم امام العقل و الا ذهبنا في طوايا القرون غير مأسوف علينا فرسول الاسلام تعوّذ من الجهل و سأل الله أن يقيه من شرّه أما " أهل العلم " فيرونه نافعا في " بعض الأمور " فتبّا للفكر الذي يجعل الجهل منفعة!.

اجمالي القراءات 10184