القاموس القرآنى : ( أبقى )

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٧ - مايو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

1 ـ فى اللسان الانجليزى تتضح درجات التفضيل فى الصفات ، درجة أولى ، ثم الدرجة الثانية بالمقارنة ، ثم الدرجة الثالثة بالانفراد ، مثلا : ( حسن ثم أحسن من ، ثم الأحسن )( سىء ، أسوا من ثم الأسوا )   Good, better than, the best—bad, worse than, the worst)) هذا فى الصفات الشاذة . وفى الصفات البسيطة التى تسير على القاعدة ( Near – nearer than, the nearest  ) والصفات المركبة ( Beautiful – more beautiful than, the most beautiful  ) .

لاتتضح هذه الفوارق بنفس الدرجة فى اللسان العربى . فكلمة خير تفيد الصفة الأولى ( هذا خير ) والدرجة الثانية فى المقارنة ( خير من ) والدرجة الثالثة ( ذلك خير ) . والسياق هو الذى يحدد درجة الوصف .

2 ـ تأتى كلمة ( أبقى ) مصاحبة أحيانا لكلمة ( خير ) . ولأن وصف ( أبقى ) يفيد المقارنة ، فبهذا السياق تفيد كلمة ( خير ) المقارنة والانفراد . ونعطى بعض التفاصيل :

أولا : فى سورة ( طه ) يوجد مثالان :

   فى موضوع الألوهية :

1 ـ يقول جل وعلا عن سحرة فرعون عندما آمنوا بالله جل وعلا وحده وكفروا بفرعون : ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ).

2 ـ هنا فرعون يهدد السحرة حين آمنوا برب هارون وموسى  بأن عذابه فى تقطيع ايديهم وأرجلهم هو أشد وأبقى من عذاب رب العزة جل وعلا ، أى يضع نفسه فى مقارنة مع الله جل وعلا ويجعل عذابه للسحرة  أشد وأطول بقاءا من عذاب  الله جل وعلا .

 3 ـ وأجابه السحرة المصريون بكل شجاعة يتحدّونه؛ يقسمون برب العزة جل وعلا الذى فطرهم بأنهم لن يؤثروه على الأدلة البينات بنبوة موسى ، وإستخفوا بتهديده وبعذابه ، مؤكدين أنه لا يملك إلا تعذيبهم فى هذه الحياة الدنيا ، وأنهم آمنوا بربهم جل وعلا ليغفر لهم خطاياهم وطاعتهم لفرعون فى إكراههم على السحر . وردا على قول فرعون بأن عذابه أشد وأبقى قالوا له إن الله جل وعلا هو الخير وهو الأبقى . نقرأ الآيات : ( قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )

4 ـ قولهم لفرعون (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) يفيد معنيين من حيث درجة التفضيل :

4 / 1 :  كانوا قد طلبوا مكافأة من فرعون فوعدهم لو فازوا فى مبارة السحر على موسى سيعلى درجتهم :( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ) ( الشعراء 41 : 42 ) على هذا يكون قصدهم بقولهم : (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )، أن ما عند الله لهم فى الجنة خير وأبقى . يعزّز هذا قولهم بعدها يقارنون بين عذاب جهنم الذى ينتظر فرعون ونعيم الجنة الذى يتمنونه لأنفسهم:( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى طه 70 : 75 ) . هنا تكون كلمتا ( خير وأبقى ) تفيد المقارنة بين ما لدى فرعون وما عند الله .

4 / 2 : وقد يقصدون بقولهم (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) هو ذات رب العزة جل وعلا الخالق وشخص فرعون المخلوق ، وبالتالى فلا مجال للمقارنة هنا ، وتكون كلمتا ( خير وأبقى ) بالمعنى المطلق أى الخير كله والبقاء كله لرب العزة جل وعلا. يعزّز هذا أنهم إستفتحوا سحرهم بالقسم بعزة فرعون:( فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ ) الشعراء 43 : 44  ). والمنتظر ــ بعد إيمانهم ــ ندمهم بعدها على ما قالوا ، وبالتالى فقولهم (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) يأتى فى سياق ندمهم على هذا الاستفتاح بالقسم بعزة فرعون .

5 ــ جدير بالذكر أن فرعون فى هذه المرحلة كان كبقية المصريين يؤمن بالله مع إيمانه بألوهية نفسه ، وبالتالى فهو يقارن بين عذابه وعذاب الرحمن رب العالمين فى قوله للسحرة : ( وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ). وعلى نفس الدين كان المصريون ـ ولا يزالون ـ يؤمنون بالله جل وعلا ويؤمنون بغيره . وقد فصلنا هذا فى كتاب ( مصر فى القرآن الكريم ) وكتاب ( شخصية مصر بعد الفتح ( الاسلامى )).  يؤيد هذا ما جاء فى سورة الأعراف عن موضوع السحرة : ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَقَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَرَبِّ مُوسَى وَهَارُونَقَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَقَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَوَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ). بعدها قال الملأ لفرعون : ( وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) الاعراف 120 : 127  ) أى كان لفرعون آلهة يعبدها وقد جعل نفسه إلاها معهم ، وهو حين قارن نفسه بموسى قال يتحداه (  وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَأَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُفَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) الزخرف 51 : 53). الشاهد هنا أن فرعون يؤمن بوجود الملائكة .

6 ـ بعدها دخل فرعون فى مرحلة أعلن فيها انه ربهم الأعلى ( فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ) فكان فى هذا هلاكه ( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى ) النازعات 23 : 25  ) وأنكر ألوهية الرحمن جل وعلا فقال (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِفَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) القصص 38 ) (  وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ )غافر 36 : 37  ) ، وكان بعدها غرقه . وحين غرق أعلن إيمانه فى الوقت الضائع، يقول جل وعلا : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) يونس 90 ).

بين الدنيا والآخرة فى سورة (طه )

1 ـ عن عذاب الآخرة يقول جل وعلا فى سورة (طه ) : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) طه 124 : 127 ). هنا عذاب الآخرة أشد وأبقى . ولا مجال للمقارنة بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . أى ألم فى الدنيا هو مرحلى مؤقت من حيث الوقت ، ثم هو عذاب له حد أقصى ـ من حيث الكيف . وللجسد البشرى حد أقصى فى تحمل الألم ، بعده لا يشعر بالألم ، يقع فى الإغماء .

2 ـ ويقول جل وعلا فى خطاب مباشر للنبى محمد عليه السلام : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) طه 130 : 131 ). ينهاه ربه جل وعلا عن تمنّى ما للآخرين من زُخرف الدنيا ، فما عند الله جل وعلا خير وأبقى لأصحاب الجنة.

ثانيا : بين الدنيا والآخرة فى غير سورة (طه )

1 ـ كل متاع الدنيا وزينتها ليس بشىء بنعيم الجنة ، فما عند الله خير وأبقى ، وهذا النعيم الخالد الباقى ينتظر من يعمل له مخلصا عبادته لرب العزة جل وعلا : ( وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ ) القصص 60 )

2 ـ ويقول جل وعلا : (  فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ  ) الشورى 36 : 40  )

3 ــ ويقول جل وعلا للبشر فى الكتاب الذى نزل على ابراهيم وموسى وفى القرآن :( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) الأعلى 16 : 19 )

أخيرا : رزق الجنة هو الخير وهو الأبقى : (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )( البقرة 25 ).

 اللهم إجعلنا من أصحاب الجنة ..!!

اجمالي القراءات 5717