شيطان التفصيلات فى الهجص السنى فى الأمثال القرآنية القصصية :

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٠ - يوليو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :

هناك امثال ضربها رب العزة بصورة قصصية مجردة ، وبالتالى لا ذكر فيها لأسماء الأشخاص أو الزمان أو المكان ، شأن القصص القرآنى الواقعى عن الأنبياء والأمم السابقة . الهدف هو العظة ، خصوصا وأن القصة تعظ بما جاء فى القرآن الكريم من أوامر ونواهى ، والتأكيد على الايمان الخالص بالله جل وعلا لا إله غيره ولا إله سواه ، والايمان باليوم الآخر يوم العدل المطلق الذى لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا ولا تنفعها شفاعة ولا هم يُظلمون .

2 ـ القصة الآتية نموذج للمثل القرآنى القصصى ، وملامحها نراها فى عصرنا ، وهى عظة لكل عصر . يقول جل وعلا : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) الكهف ).

ثانيا :التدبر القرآنى فى القصة القرآنية السابقة :

 القصة بما فيها من حوار تعكس رؤية رجلين ، وهما صاحبان ، ولكنهما مختلفان ، أحدهما مؤمن والآخر كافر. وتدبر القصة يعطينا حقائق قرآنية  تكررت فى القرآن الكريم ، وهى :

معنى  الصاحب : (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ   ) (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ) :

1 ـ كلاهما صاحب للآخر مع إختلافهما فى الايمان والكفر . وهذا هو مفهوم ( الصاحب ) فى القرآن ، أى ( الصُّحبة ) فى الزمان والمكان ، أو أن يوجد شخصان فى زمان واحد ومكان واحد وتكون لهما علاقة ، سواء كانت علاقة خصومة أو علاقة صداقة ، أو مجرد علاقة . وهذا المفهوم القرآنى للصاحب يخالف المفهوم التراثى للصحابة ، والتى تجعل كل أصحاب النبى مؤمنين بل ومعصومين وثقة ومصادر للدين ( الأرضى ) عندهم .

2 ـ وجعلوا ( ابا بكر ) من عناصر الايمان ، ورفيق النبى فى الغار مع إن إسمه لم يأت مطلقا فى القرآن الكريم ، وجعلوه ( الصديق ) من الصدق . وهو على فرض وجوده مع النبى فى الغار فقد كان مجرد ( صاحب ) للنبى : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) (40) التوبة ) ، لو قال جل وعلا ( إذ يقول لصديقه ) لعرفنا من هذا وجود صداقة بينهما ، و ( الصداقة ) من الصدق فى المودة والصدقة فى الصُّحبة . قال جل وعلا فقط (  إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ )، ليحصر العلاقة بينهما على الصحبة فى نفس المكان ونفس الزمان فقط ونفس الظروف، بغض النظر عن حقيقة الايمان فى قلب هذا ( الصاحب ). ولو كان صادقا فى إيمانه و( صديقا ) لقال جل وعلا : ( فأنزل الله سكينته عليهما ، وايدهما بجنود لم تروها ..). هذا لو كان قلبه على نفس المستوى فى صدق الايمان مع النبى ، لو كان قلبه مُصاحبا لقلب النبى عليه السلام . ولكن جاء الوصف بمجرد الصاحب وفقط .

3 ـ وقد تأتى الصحبة مع الاختلاف فى العقيدة إيمان وكفرا ، فقد كان يوسف عليه السلام فى السجن مع صاحبيه فى السجن وكان كافرين ، وكان يعظهما يخاطبهما يقول لهما : (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) التوبة ) 

4 ـ ومشركو قريش كان ( صاحبهم ) النبى ، أى صحبوه فى نفس المكان والزمان من مولده الى أن هاجر وتركهم ، وكانوا على علم بأخلاقه الرفيعة وصدقه وأمانته ، لذا كان الإستعمال القرآنى لهذه الصحبة حُجة عليهم ، إذا كيف يتهمونه بالسحر والضلال والغواية والجنون بعد أن دعاهم بالقرآن الكريم . هنا يكون إستعما كلمة ( صاحب ) وصفا للنبى ذا مغزى ، نفهمه من قوله جل وعلا : ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) سبأ )( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3)النجم   ) (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) التكوير )( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) الاعراف )

5 ـ وقد تأتى الصحبة مع الاتفاق فى العقيدة ، يقول جل وعلا عن الذى عقر ناقة النبى صالح من قوم ثمود : (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) القمر ).

6 ـ وقد تأتى الصحبة مع حيوان ، مثل يونس الذى إلتقمه الحوت فكان لقبه ( ذو النون ) و( النون ) هو الحوت ـ يقول جل وعلا عنه (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) الأنبياء ) . ذو النون يعنى ( صاحب الحوت ) وبهذا المعنى قال جل وعلا للنبى محمد عليه السلام : (  فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) القلم )

6 ــ وتأتى ( الصاحبة ) بمعنى الزوجة التى تقضى زما طويلا مع زوجها تصاحبه فى حياته ويعرف واجبه فى الدفاع عنها وفى حمايتها ، لكنه يوم القيامة سيختلف الوضع ، سيفرُّ من أقرب الناس اليه ، ومنهم صاحبته أى زوجته،يقول جل وعلا : ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) عبس )، ويود ـ لو كان مجرما ـ لو يفتدى من العذاب بأحب الناس اليه ومنهم صاحبته أى زوجته ، يقول جل وعلا : (  يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) المعارج ).

والله جل وعلا لم يلد ولم يولد ولم تكن له زوجة أى صاحبة ، يقول جل وعلا : ( بَدِيعُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) الانعام ) (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) الجن ).

7 ــ  والصاحب الجار له حق فى الاحسان اليه ، بغض النظر عن كونه يتبع دينك أو مذهبك أو لا ، يقول جل وعلا : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36) النساء )

الجنة :

1 ـ جاءت الجنة فى القصة القرآنية هذه بمعنى الحديقة :  ( جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ ) ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ ) ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ  وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ) ( فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ). وجاء وصفها رائعا من حيث التنظيم والتنسيق ، فهما جنتان يفصل بينهما نهر ، وجاءت الروعة فى وصف الأنواع والثمار والنهر الذى يجرى بينهما : ( جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ).

2 ـ وفى القرآن الكريم ذكر لثلاثة أنواع من الجنات. ونقتصر على الاستشهاد بما جاء فى سورة البقرة فقط :

2 / 1 : هناك جنة البرزخ التى كان فيها آدم وزوجه :( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (35) البقرة )، والجنة التى ستذهب اليها أنفس المقتولين فى سبيل الله جل وعلا ستذهب الى هذه الجنة البرزخية ، وقد قال رب العزة جل وعلا عنهم : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) البقرة ).

2 / 2 : جنة الآخرة للمتقين : يقول جل وعلا : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) البقرة  )

2 / 3 : جنة الدنيا ، بمعنى الحديقة والبستان ، جاء هذا فى قوله جل وعلا : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) البقرة ). والجنتان فى هذه القصة القرآنية تنتميان الى هذا النوع .  

معنى الايمان / ومعنى الكفر والشرك :

1 ـ كل السلفيين من اتباع الديانات الأرضية( سنة ، تشيع ، تصوف ،كاثولوكية ، برتستانتية ، أرثوذكسية ..الخ ) يؤمنون بالتراث الدينى فى تقديس البشر والحجر ، ويتخيلون أنه يكفى أن يؤمنوا بالله ضمن إيمانهم بآلهتهم الأخرى ، أو مع آلهتهم الأخرى . ويأتى الرد على هذا كثيرا فى القصص القرآنى عن قصص الأنبياء السابقين ، وفى الحوار الذى أجراه رب العزة جل وعلا معهم ، وايضا فى الأمثلة القرآنية ، ومنها هذا المثل القصصى فى الحوار بين الصاحبين أحدهما مؤمن والآخر كافر .

2 ـ وفيما يقوله هذا الكافر المشرك نراه يؤمن بالله جل وعلا وباليوم الآخر ، ولكنه إيمان ناقص ، يقول جل وعلا : ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36)). ظنّ أن جنته خالده ، وتشكك فى قيام الساعة ، وقال حتى لو قامت فإن ربه جل وعلا سيعطيه خيرا منها . أى يؤمن بالله جل وعلا : (  وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي ) ، ولكنه كفر باليوم الآخر صراحة (  وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ) وضمنا (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً  ). أى بدلا من أن يحمد ربه جل وعلا على ما أنعم عليه به من الجنتين فإنه إغتر وكفر بالنعمة ، لذا رد عليه صاحبه المؤمن يتهمه بالكفر : ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً (39)). هنا دليل على جواز إتهام الشخص الكافر بالكفر فى الحوار معه أملا فى وعظه وإصلاحه .

3 ـ وعندما عوقب بتدمير جنته إعترف بوقوعه فى الشرك : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42 ) الكهف )

4 ـ مصطلح ( الانسان ) فى القرآن يعنى البشر الضال ، يقول جل وعلا عن هذا ( الانسان ) : (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) الفجر )، ويقول جل وعلا يخاطب هذا الانسان : ( كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً (20) الفجر ) . ويوم القيامة سيكون هذا الانسان فى موقف عصيب ، يقول جل وعلا فى نفس السورة : ( كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) الفجر ) . هذا الانسان فى دنياه ينطبق عليه قول رب العزة : (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) المعارج   )، وهو يتشكك فى الآخرة ، ولا يؤمن بها إلا إذا كانت له فيها الجنة ، يقول جل وعلا فى أروع وصف للإنسان الضال : ( لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّالَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) فصلت )

ولهذا الصنف ( الانسانى )  ينتسب هذا الصاحب الضال فى القصة .

العظة النهائية :

وتاتى العظة النهائية فى قوله جل وعلا :  (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)).

ثالثا : هجص السنيين فيما أورده القرطبى :  

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34)}
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ}. واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما، فقال الكلبي: نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد، وهما الاخوان المذكوران في سورة الصافات في قوله: {قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ}، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال...، ذكره الثعلبي والقشيري . وقيل: نزلت في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واهل مكة . وقيل: هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر . وقيل: هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه، شبههم الله برجلين من بنى إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا، في قول ابن عباس . وقال مقاتل: اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات. وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال: اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا. وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى، وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال: لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بى فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له: ألم أكن قاسمتك المال نصفين! فما صنعت بمالك؟. قال: اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى. فقال. أينك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أنى كسبت وسفهت أنت، اخرج عنى. ثم كان من قصة هذا الغنى ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان. وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب. قال عطاء: كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار . وقيل: ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشترى منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار، بها ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشترى منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال: ما فعل ما لك؟ فأخبره قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له: أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما، فقال صاحبه: والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق، فقال له: يا أخى إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمى شبكته ويسمى باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا. وجعل المؤمن يرمى شبكته ويسمى باسم الله فلا يطلع له فيها شي، فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا. قال: فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال: وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا، واراه منازل الكافر في جهنم فقال: وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا. ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة وراي ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال: {إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ.} يقول أإنك لمن المصدقين الآية، فنادى مناد: يا أهل الجنة! هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم، فنزلت {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا}. بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة الصافات في قول: {إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} إلى قوله: {لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ}. قال ابن عطية: وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى غيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عني بهذه الآية. وقد قيل: إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الامة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا، ذكره الماوردي. وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله اعلم. قوله تعالى: {وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ} أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفه، ويقال: حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به، ومنه {حافين من حول العرش} {وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً} أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع. {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ} أي كل واحدة من الجنتين، {آتَتْ أُكُلَها} تاما، ولذلك لم يقل آتنا. واختلف في لفظ {كلتا وكلا} هل هو مفرد أو مثنى، فقال أهل البصرة: هو مفرد، لان كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير {كل} في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى، فإذا ولى اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول: رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين، فإذا اتصل بمضمر قلبت الالف ياء في موضع الجر والنصب، تقول رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما . وقال الفراء: هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الالف للتثنية. وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل: كل وكلت وكلان وكلتان. واحتج بقول الشاعر:
في كلت رجليها سلامى واحده *** كلتاهما مقرونة بزائده
أراد في إحدى رجليها فأفرد. وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة، لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولان معنى {كلا} مخالف لمعنى {كل} لان {كلا} للإحاطة و{كلا} يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإنما حذف الالف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم {نحن} اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير:
كلا يومى أمامة يوم صد *** وإن لم نأتها إلا لماما
فأخبر عن {كلا} بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله: {آتَتْ} ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما. واختلف أيضا في الف {كِلْتَا}، فقال سيبويه: ألف {وكِلْتَا} للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهى واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لان في التاء علم التأنيث، والألف في {كلتا} قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث . وقال أبو عمر الجرمي: التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده: فعتل، ولو كان الامر على ما زعم، لقالوا في النسبة إليها كلتوى، فلما قالوا كلوى وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي، ذكره الجوهري. قال أبو جعفر النحاس: وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول: كلتا الجنتين آتتا أكلهما، لان المعنى المختار كلتاهما آتتا. وأجاز الفراء: كلتا الجنتين آتى أكله، قال: لان المعنى كل الجنتين. قال: وفى قراءة عبد الله {كل الجنتين أتى أكله}. والمعنى على هذا عند الفراء: كل شيء من الجنتين آتى أكله. والأكل بضم الهمزة ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل، ومنه قوله تعالى: {أُكُلُها دائِمٌ} وقد تقدم. {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} أي لم تنقص. قوله تعالى: {وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً} أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر. {وكان له ثمر} قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبى إسحاق {ثمر} بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله: {وأحيط بثمره} جمع ثمرة. قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار، مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر، مئل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار، مثل أعناق وعنق. والثمر أيضا المال المثمر، يخفف ويثقل. وقرأ أبو عمرو {وكان له ثمر} بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال. والباقون بضمها في الحرفين. قال ابن عباس: ذهب وفضة وأموال. وقد مضى في الأنعام نحو هذا مبينا. ذكر النحاس: حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال أخبرنا هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال: لو سمعت أحدا يقرأ {وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ} لقطعت لسانه، فقلت للأعمش: أتأخذ بذلك؟ فقال: لا! ولا نعمة عين. فكان يقرأ {ثَمَرٌ} ويأخذه من جمع الثمر. قال النحاس: فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر، وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله اعلم، لان قوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها} يدل على أن له ثمرا. قوله تعالى: {فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ} أي يراجعه في الكلام ويجاوبه. والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب. ويقال: كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا، أي ما رد جوابا. {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً} النفر: الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ها هنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه.

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)}
قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} قيل: أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها. {وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ} أي بكفره، وهو جملة في موضع الحال. ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه. {قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً} أنكر فناء الدار. {وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً} أي لا أحسب البعث كائنا. {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي} أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه، وهو معنى قوله: {لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً} وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الايمان بالحشر والنشر.
وفي مصاحف مكة والمدينة والشام {منهما}.
وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة {منها} على التوحيد، والتثنية أولى، لان الضمير أقرب إلى الجنتين.

{قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)}
قوله تعالى: {قالَ لَهُ صاحِبُهُ} يهوذا أو تمليخا، على الخلاف في اسمه. {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة. و{سَوَّاكَ رَجُلًا} أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء ذكرا. {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} كذا قرأه أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية . وروى عن الكسائي {لكن هو الله} بمعنى لكن الامر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها. وقرأ الباقون {لكِنَّا} بإثبات الالف. قال الكسائي: فيه تقديم وتأخير، تقديره: لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من {أنا} طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف {أنا} في الوصل وأثبتت في الوقف . وقال النحاس: مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة . وقال أبو عبيدة: الأصل لكن أنا، فحذفت الالف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي: :
لهنك من عبسية لوسيمة *** على هنوات كاذب من يقولها
أراد: لله إنك لوسيمة، فأسقط إحدى اللامين من {لله} وحذف الالف من إنك.
وقال آخر فجاء به على الأصل:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب *** وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أي لكن أنا ، وقال أبو حاتم: ورووا عن عاصم {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الالف في الإدراج. قال الزجاج: إثبات الالف في {لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} في الإدراج جيد، لأنه قد حذفت الالف من أنا فجاءوا بها عوضا. قال: وفي قراءة أبي {لكن أنا هو الله ربي}. وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب {لكِنَّا} في حال الوقف والوصل معا بإثبات الالف.
وقال الشاعر:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني *** حميدا قد تذريت السناما
وقال الأعشى:
فكيف أنا وانتحال القوافي *** بعد المشيب كفى ذاك عارا
ولا خلاف في إثباتها في الوقف. {هُوَ اللَّهُ رَبِّي} {هُوَ} ضمير القصة والشأن والامر، كقوله: {فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}
دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه، وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه، فهو إشراك.

{وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)}
قوله تعالى: {وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} أو أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال: {ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً} و{ما} في موضع رفع، تقديره: هذه الجنة هي ما شاء الله.
وقال الزجاج والفراء: الامر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله، أي الامر مشيئة الله تعالى.
وقيل: الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون. {لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.
الثانية: قال أشهب قال مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا.
وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة: رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا«ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ».
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لابي هريرة: «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة- أو قال كنز من كنوز الجنة» قلت: بلى يا رسول الله، قال«لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدى واستسلم» أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه: فقال«يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة- في رواية على كنز من كنوز الجنة-» قلت: ما هي يا رسول الله؟ قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله». وعنه قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة قلت: بلى، فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
وروى أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال: باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة: إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من قال- يعني إذا خرج من بيته- باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان» هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه- فقال له: «هديت وكفيت ووقيت». وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدى ووقي وكفي».
وقال الحاكم أبو عبد الله في علوم الحديث: سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «تحاجت الجنة والنار فقالت هذه- يعني الجنة- يدخلني الضعفاء» من الضعيف؟ قال: الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة.
وقال أنس بن مالك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين». وقد قال قوم: ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به.
وروى أن من قال أربعا أمن من أربع: من قال هذه أمن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمرى إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
قوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً} {إِنْ} شرط {تَرَنِ} مجزوم به، والجواب {فَعَسى رَبِّي} و{أَنَا} فاصلة لا موضع لها من الاعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ} بالرفع، يجعل {أَنَا} مبتدأ و{أَقَلَّ} خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء، إلا أن الياء حذفت لان الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و{فَعَسى} بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ} أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. {وَيُرْسِلَ عَلَيْها} أي على جنتك. {حُسْباناً} أي مرامي من السماء، واحدها حسبانه، قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة.
وقال ابن الاعرابي: والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة ، وقال الجوهري: والحسبان بالضم: العذاب ، وقال أبو زياد الكلابي: أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب، قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ} وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج: الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك، فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا: سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمى الاكاسرة. والمرامى من السماء عذاب. {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهى أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض، و{زَلَقاً} تأكيد لوصف الصعيد، أي وتزل عنها الاقدام لملاستها. يقال: مكان زلق بالتحريك أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك: زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة:
كأنها حقباء بلقاء الزلق***
والمزلقة والمزلقة: الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه، قال الجوهري. والزلق المحلوق، كالنقض والنقض. وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حللا يبقى عليه شعر، قاله القشيري. {أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً} أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم، كما يقال: رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح، ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم:
تظل جياده نوحا عليه *** مقلدة أعنتها صفونا
آخر:
هريقي من دموعهما سجاما *** ضباع وجاوبى نوحا قياما
أي نائحات ، وقيل: أو يصبح ماؤها ذا غور، فحذف المضاف، مثل {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} ذكره النحاس.
وقال الكسائي: ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغئورا، أي سفل في الأرض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغئورا، دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال:
أغارت عينه أم لم تغارا***
وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت. قال أبو ذؤيب:
هل الدهر إلا ليلة ونهارها *** وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة.
وقيل: فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.

{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42)}
قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى {أُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما، لان هذا يصدر من النادم.
وقيل: يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق، وهذا لان الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم: في يده مال، أي فملكه مال. ودل قوله: {فَأَصْبَحَ} على أن هذا الإهلاك جرى بالليل، كقوله: {فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} ويقال: أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} أي خالية قد سقط بعضها على بعض، مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت، وكذلك إذا سقطت، ومنه قوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا} ويقال: ساقطة، كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها، فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوانح، مقابلة على بغية. {وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي يا ليتني عرفت نعم الله على، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.

{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43)}
قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} {فِئَةٌ} اسم {تَكُنْ} و{لَهُ} الخبر. {يَنْصُرُونَهُ} في موضع الصفة، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون {يَنْصُرُونَهُ} الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم {لَهُ}. وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}. وقد أجاز سيبويه الآخر. و{يَنْصُرُونَهُ} على معنى فئة، لان معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره، أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم. {وَما كانَ مُنْتَصِراً} أي ممتنعا، قاله قتادة.
وقيل: مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في آل عمران. والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله في مثل فيع، لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفيات مئل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد ..)

أخيرا :

هل فهمتم شيئا من هذا الهجص ؟

اجمالي القراءات 7395