صهيونية إسرائيل

كمال غبريال في الخميس ١٩ - مايو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

لكلمة "الصهيونية" في الثقافة العربية السائدة دلالة بغيضة، مرادفة للعنصرية والتآمر والعدوانية. الأمر هكذا يتجاوز ‏الموضوعية والعقلانية، ليغرق في أوحال التعصب الديني والسياسي العروبي، بل وطال التعصب أصحاب الهوس ‏اليساري المفارق للرؤية الأممية المفترضة في اليسار الماركسي. . فلنحاول أن نقارب الفكرة "الصهيونية" مقاربة مختلفة، ‏لا نزعم لها حقيقية مطلقة، إذ يكفيها أن تكون محاولة للتحليق فوق مستنقعات غرقت فيها شعوب المنطقة، وشربنا من ‏مياهها الآسنة ما يكفي لتحريضنا على المراجعة والتدقيق في كل ما حسبناه ثوابت.‏

اليهودية بالأساس ديانة مغلقة غير تبشيرية، لذا يعتبرها أصحابها بمثابة قومية، رغم أن الواقع يقول أن اليهود يتوزعون ‏على أجناس عرقية عديدة، وهذا في الحقيقة ما لا تنجو منه أي قومية على سطح الكرة الأرضية، نتيجة لانسياحات ‏الشعوب عبر التاريخ والتمازج والتلاقح بين مختلف الإثنيات. وتخبرنا البدايات اللاهوتية الأولى للعبرانيين في التوراة، ‏بأن الأمر كان أمر اختيار من إله خاص اسمه "يهوه" للقبائل أو الأسباط العبرانية الإثني عشر، ليكونوا له شعباً ويكون ‏لهم إلهاً، وقد نهاهم "يهوه" في أول وصايا العشر الشهيرة عن أن يعبدوا معه آلهة أخرى. من هنا تأتي عقيدة اليهود ‏الأصلية قبل تطورها مع الزمن قليلاً، أنهم شعب خاص، لإله خاص، ولهم وطن خاص، لذا يستشعر اليهودي التقي ‏الموجود في أي مكان آخر بالعالم أنه في الشتات، ريثما يعود يوماً إلى وطنه. هذه الخصوصية لا نجدها في الديانتين ‏الإبراهيميتين الأخريتين. هذا ما تقوله التوراة ويعتنقه اليهود الأتقياء اليوم، سواء اعتبرنا نحن هذا الكلام حقيقة تاريخية ‏أو أسطورة كسائر الأساطير الدينية وغير الدينية. ونجد أثر هذا في فكر وتعاليم المسيح وتلاميذه، فقد جاء المسيح ‏بالأساس كما قال "إلى خراف بيت إسرائيل الضالة"، وإن كان شاول الطرسوسي (بولس الرسول) قد دفع المسيحية فيما ‏بعد باتجاه انفتاح أممي، أي لتشمل كل البشر بالعالم أجمع.‎

لا شأن لنا هنا بالطبع بمدى جدية حكاية "وعد إلهي بأرض ميعاد"، فهو أمر لا يخص إلا من تقبل عقولهم أن تأخذه ‏مأخذ الجد. وليس من المهم أيضاً مدى حقيقية ادعاء أصالة الانتماء اليهودي من الناحية الإثنية، فالنظرة العلمية للأمر ‏قد تراه ما بين الادعاءات والأساطير. لكن المهم أن اليهود في كل أنحاء العالم يستشعرون هذا الانتماء، بل وأيضاً ‏تعاملهم الشعوب التي يعيشون بينها على ذات الأساس، وقد عاش أغلبهم (في الشتات) في جيتوهات خاصة بهم، ‏كانت أشبه بأوطان صغيرة خاصة، ما خلق عامل ارتباط يجمعهم حتى في شتاتهم. وكان رحيلهم من أوطانهم الأصلية ‏إلى "أرض الميعاد" أقرب إلى نقل هذه الجيتوهات لتجتمع في بقعة واحدة، وأظهر نجاح دولة إسرائيل الباهر في ‏الاستمرار والترقي الحضاري، أن ما يجمعهم ولو في ظل دولة إسرائيل العلمانية أقوى من كل ما بين أشتاتهم القادمة ‏من سائر العالم من اختلافات إثنية وثقافية.‎

هكذا جاءت الحركة الصهيونية كحركة تحرر لإنقاذ يهود العالم مما تعرضوا له من قهر ومذابح جراء انتمائهم القومي ‏اليهودي، وربما أيضاً كنتيجة طبيعية متوقعة لروحهم الانعزالية، حتى وإن اتسموا بالسلمية واللاعدائية تجاه الآخر. ‏الحركة الصهيونية هكذا مثلها مثل سائر حركات تحرير مختلف الأقليات في العالم، حركة دفاعية غير هجومية، ولا ‏يصح وصفها بالعنصرية، لأنها لا تستهدف الآخر بالتحقير أو الاضطهاد، كعنصرية البيض في جنوب أفريقيا، أو ‏كأيديولوجية القومية العربية التي تعادي العالم كله، وتسحق الأقليات المالكة الأصلية للبلاد التي يسيطر عليها ‏العروبجية.‎

‏"يهودية إسرائيل" إذن لا تعني أنها دولة دينية، فالواضح لكل ذي عينين أنها دولة علمانية ديموقراطية حديثة، بل ‏ونعرف جميعاً أن مؤسسيها كانوا بين ماركسيين وملحدين، ولم يحركهم لإنشاء وطن قومي لليهود إلا المآسي التي ‏تعرضوا لها في أوروبا، وإن كانوا قد استندوا دعائياً للفكرة على معتقدات وأساطير دينية مغروسة في عقول وقلوب ‏اليهود. لكن الحاخامات اليهود شديدي التعصب والانغلاق الديني لا يعترفون بالدولة الإسرائيلية الراهنة.‏

إسرائيل إذن "وطن قومي أم" ليهود العالم، مؤسس وفق نظام اجتماعي وسياسي علماني حديث.‏

كانت هذه السطور محاولة لفهم وتفهم "الحركة الصهيونية" كفكر وأيديولوجيا كما يعتنقه أصحابه، بغض النظر عن ‏موقفنا نحن من هذا الفكر اقتناعاً أو رفضاً. وهو التفهم الذي ينفصل جزئياً على الأقل عن السياق والاشتباك التاريخي ‏مع هذه الحركة على أرض فلسطين، وما قد تسببت فيه مما نعده مآس للخليط السكاني المقيم في فلسطين وقت وقبيل ‏تأسيس الدولة الإسرائيلية. ذلك الاشتباك الذي أثرت فيه أيضاً أفكار وأيديولوجيات وعقائد دينية لدى الطرف العربي، كما ‏كان محطاً لروايات من الجانب العربي عن مآس وأهوال ارتكبتها العصابات الصهيونية، تحتاج منا الآن العودة إليها، ‏للتأكد من مدى صحتها التاريخية، حتى نطمئن ونحن نرتدي ثياب المظلومية التاريخية، أننا بالفعل مظلومين ولسنا ‏ظالمين لأنفسنا وللآخرين. . هي محاولة للحث على أن نعيد النظر من خارج ذلك الصندوق العتيق، الحافل بالشعارات ‏والمقولات الحماسية والعنصرية والمشوهة، ونفكر بطريقة مختلفة، علنا نجد ممراً للخروج من مستنقع "القضية ‏الفلسطينية"، التي جرت على الوبال على كل من تدخل وتداخل فيها‎. 

اجمالي القراءات 7152