( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٥ - مايو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )

مقدمة :

يُساء فهم قوله جل وعلا: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (143) البقرة )، إذ يعتبره البعض تفضيلا فى هذه الدنيا لمن يعتبرونهم ( أمة محمد ) ، وأنها ( الأمة الوسط ) الشاهدة على بقية الأمم .

وهذا الفهم الخاطىء مبعثه إعتقاد خاطىء لدى أصحاب كل دين أرضى بأنهم وحدهم ( الشعب المُختار ) و ( الأمة المهتدية ) و ( الفرقة الناجية ) وأنهم وحدهم محتكرو الجنة مهما أرتكبوا من عصيان ومن عداهم فهم فى ضلال مبين ومن أصحاب الجحيم مهما عملوا من الصالحات .

هذا الفهم الخاطىء تتجلى خطورته فى أنه ينسب الظلم لرب العزة ، حين يجعله منحازا لقوم دون آخرين ، وهو جل وعلا الذى يضع الموازين القسط ليوم القيامة : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء ).

وهذه محاولة للتدبر فى ألاية الكريمة ، نرجو لها التوفيق من رب العزة جل وعلا :

أولا : الحديث هنا عما ينبغى أن يكون ، وليس وصفا لما هو كائن :

1 ـ الله جل وعلا أنزل كتابه الكريم بالشريعة الاسلامية ( وسطا ) . هنا وصف لما هو ( كائن ) للقرآن الكريم ( الكائن ) بيننا  . أما الذى ينبغى أن يكون هو أن يرتقى المؤمنون بالايمان الخالص وبالعمل الصالح فى تطبيق هذا الكتاب ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس ، ثم يكون ( الرسول ) شاهدا (عليهم ) .

2 ـ وفى نفس المعنى يقول جل وعلا :( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) الحج ). هنا يأتى الأمر فى الصدارة بالجهاد فى الله جل وعلا حق جهاده ، ليستحقوا وصف دين الاسلام بالوسطية والاعتدال الذى ما جعل الله جل وعلا فيه من حرج ، فإن حققوا هذا فى دنياهم كانوا يوم القيامة شهداء على الناس ، وكان الرسول شاهدا عليهم .  

ثانيا : معنى ( الوسط )

 فى المصطلح القرآنى فالوسط هو الأفضل. جاء هذا وصفا لأفضل طعام يقدمه المؤمن فى الكفارة ، يقول تعالى: ( لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (المائدة 89 ) فقوله تعالى (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) يعنى أن نقدم كفارة اليمين من أفضل الطعام الذى نأكله ، وليس الفضلات و الزبالة وبواقى الطعام. ويؤيد ذلك فى نفس التشريع قوله تعالى عن الصدقة بالطعام : ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)( الانسان 8 ) أى يطعمون من أحب الطعام اليهم المسكين و اليتيم والأسير. 
وهذا جزء من تشريع عام يؤكد على أن يكون الانفاق فى سبيل الله تعالى من أفضل شىء نحبه حتى يكون المؤمن من الأبرار، ويقول تعالى : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) ( آل عمران 92 )، والنهى عن الانفاق من المال الخبيث السُّحت ، بل من من المال الطيب الحلال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) ( البقرة 267). وفى قصة الأخوة أصحاب الحديقة التى بخلوا بثمارها ، يقول جل وعلا عن أفضلهم : ( قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) القلم ) . وعن الصلاة المقبولة عند الله جل وعلا بخشوعها وتقوى صاحبها الذى يحافظ عليها يقول جل وعلا : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) البقرة ) فهنا المحافظة على الصلاة بإقامتها تقوى فى القلب طيلة اليوم ، والخشوع فيها ، بالقيام لها قانتا خاشعا لرب العزة أثناء الصلاة . وجاء تفصيل هذا فى بداية سورة ( المؤمنون ). ومنشور هنا بحث عن ( الصلاة الوسطى ) .

فالمستفاد هنا ان وصف (الوسط ) يفيد الأفضل.

ثالثا : الأفضلية

1 ـ وبالتالى فالأفضلية ليست منحة بلا مقابل ، فهذا ظلم ، والله جل وعلا  قد أكّد : (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) يونس) ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) الكهف ).

2 ـ الأفضلية مُتاحة لأى فرد ولأى بشر لأن ينالها بالتمسك بأوامر الله تعالى. فى الحتميات الدنيوية ( الميلاد ، المصائب ، الرزق ، الموت ) يوجد من البشر ألوان مختلفة ، الأسود والأبيض ، والغنى والفقير والأمير والأجير . ولكن بإمكان الفرد بإيمانه النقى الخالص وعمله الصالح أن يأتى يوم القيامة يشعُّ وجهه نورا ، بينما يأتى المستبد وصاحب النفوذ بوجه أسود ينتظره خلود فى النار : ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) آل عمران ). بإمكان الفقير اليوم أن يكون خالدا فى الجنة ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) ق ).  

3 ـ والمؤمنون المتقون يوم القيامة هم مجموع الأفراد فى كل زمان ومكان ، هم ( الأمة ) التى تنجو بإيمانها وعملها ، هم الذين يحققون وقتها الأفضلية ، وهم الذين سيقال لهم يوم القيامة أنهم (كانوا) خير أمة أُخرجت للناس حيث (كانت ) تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن برب العزة جل وعلا : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) ( آل عمران 110 ). هذا حديث عما سيقال يوم القيامة لمن حقق بإيمانه الخالص وعمله الصالح أفضليته . وعليه فلو حقق المسلمون أوامر ربهم لكانوا خير أمة أخرجها للناس ، ولاستحقوا أن يكونوا الأفضل ، أو بالتعبير القرآنى أن يكونوا (أمة وسطا ) كما اراد الله تعالى أن يجعلهم ، يقول تعالى :( وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) ( البقرة 143 ).

رابعا : الأفضلية بالشهادة يوم القيامة

1 ـ وتتجلى الأفضلية فى أن يكون أولئك المؤمنون المتقون الأشهاد على أقوامهم يوم القيامة ، هم حينئذ الأفضل على أقوامهم . فى الدنيا تعرضوا من أقوامهم لصنوف من الاضطهاد والاتهامات، وسيكون نصرهم يوم القيامة حين يشهدون على أقوامهم ، وقد جاء هذا بأسلوب التأكيد فى قوله جل وعلا يتحدث عن ذاته جل وعلا : (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) ( غافر51 ـ ) .

2 ـ وميزان الشهادة هو (الكتاب الالهى السماوى) أو (الرسالة السماوية) أو (الرسول ). النبى جاهد فى حياته وفى تبليغ رسالته ، وسيأتى يوم القيامة شاهدا شهادة خصومة على من عاصرهم فى حياته ، ومن كل أمة أو جيل أو مجتمع سيأتى شهيد عليهم من المنذرين ، يقول جل وعلا لخاتم النبيين : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً (41) النساء ). وسيتبرأ خاتم النبيين ( الرسول ) ممّن إتخذ القرآن مهجورا ، وعندها ينفضح الأعداء الحقيقيون لكل نبى ، يقول جل وعلا :( وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً (31) الفرقان ).

3 ـ وميزان الشهادة هو الايمان بالقرآن الكريم ( الذى جاء تبيانا لكل شىء) غيرمحتاج لأساطير الأديان الأرضية، وجاء هذا صريحا واضحا فى قوله جل وعلا: ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) النحل ). والخاسرون هم من اتهم القرآن الكريم بأنه ناقص يحتاج للسُّنّة كى تكمله وتبينه وتشرحه وتفصّله .

4 ـ ويختلف الحال ( يوم الدين )عن ( يوم الدنيا ) .!.

 السادة  المفضلون فى يوم الدنيا هم : ( أصحاب الفضيلة ) و ( اصحاب القداسة ) و ( أصحاب الجلالة ) و ( اصحاب السمو ) و ( اصحاب الفخامة )و ( اصحاب العزة ) و ( أصحاب الرفعة ) و ( اصحاب السعادة )، والذين لا يمكن أن يقال لأحدهم ( أنت ) بل : قداستك ، جلالتك ، عظمتك ، رفعتك ، سموك ، فضيلتك ، جنابك ، سعادتك ، حضرتك . لو خاطبته بغير ذلك عوقبت بالعيب فى الذات الفلانية .!. أما المصلحون دعاة القسط الذى نزلت به كل الرسالات السماوية فهم متهمون بالخروج على القانون ، ويتعرضون للتحقير فى هذه الدنيا .

يوم القيامة يكون السادة الظالمون فى الدنيا هم المُحتقرون ، يقول جل وعلا عن حالهم : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) الشورى ) ، أما المصلحون المضطهدون فى هذه الدنيا فسيكونون الأفضل ، ليس فقط لأنهم سيكونون أصحاب الجنة ولكن أيضا لأنهم سيكونون الشهود على من إضطهدهم يوم القيامة .

5 ـ السادة الحكام المستبدون تلهج أجهزة الاعلام بمدحهم وتقديسهم ، وتنطلق أجهزة الاعلام فى لعن وتحقير واتهام المصلحين دُعاة العدل والحرية . يأتى المصلحون يوم القيامة أشهادا على أولئك المجرمين الذين يصفهم رب العزة بأنهم ( أظلم الناس ) . إنهم المستبدون الذين يستخدمون الدين الأرضى فى السيطرة على الشعوب ، ومعهم جنودهم من أرباب الديانات الأرضية الذين يصدون عن آيات الله جل وعلا ويبغونها عوجا ، والذين كانوا يعتقدون فى الدنيا أنهم معجزون فى الأرض ، وبهذا ستكون شهادة الأشهاد عليهم أمام الواحد القهار جل وعلا : يقول جل وعلا : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمْ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22)  هود ).

ودائما : صدق الله العظيم .!!

اجمالي القراءات 11945