العلم

شريف هادي في الخميس ٢٩ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله الرحمن الرحيم" قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)" طه
سبحان الله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والحمد لله الذي رفع منزلة العلماء فقال" شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولوا العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم" فعطف العلماء في الشهادة والاقرار على إسمه جل شأنه ، تقديرا لمنزلتهم وتبيانا لصفاء عقيدتهم وإظهÇCcedil;را لبيان منزلتهم ، وجعل الملائكة بين ذكر الله وذكرهم ،ولم لا ومنهم وحيه النازل على رسله لهداية خلقه ، فأشهد ألا إله إلا هو شهادة حق ويقين ، وإقرارا واتباع
العلم هو الاحاطة مع إجتماع الفهم والادراك ، والعلم إصطلاحا هو مجموع ما لدى الفرد من تراكم معرفي عن شيء ما محيطا بصفاته الكلية مدركا تراكيب جزئياته وهو من هذه الناحية يعني التحصيل والفهم أي أن العلم هو جماع الأمرين معا ، وكلما زاد حجم التراكم وأرتفع مقدار الفهم زاد حجم العلم لدى شخص ما، فالتراكم المعرفي والتحصيل دون تدبر يؤدي للإدراك والفهم وعمل يؤدي للتمكين لا يعتبر علما ولذلك قال تعالى عن أهل التوراة الذين حملوها ولم يحملوها قال فيهم" كمثل الحمار يحمل اسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بايات الله والله لا يهدي القوم الظالمين " فيقف العلم عند باب التراكم المعرفي فيكون مشقة على صاحبة يحمله جهدا ووهنا ولا يفقه منه شيئا فيصدق فيه تعبير رب العزة أنه حمله ولم يحمله ، حمله في عقله كمن يحمل على ظهره ولم يحمله في قلبه فهو خواء ظالم.
وأصل العلم من الله سبحانه وتعالى فهو القائل "علم آدم الأسماء كلها" والشاهد من الآية الكريمة أن الله خلق آدم وعلمه ثم رفع قدر العلماء من ذريته بأن قرنهم بإسمه سبحانه وتعالى في الشهادة ثم أكرمهم بخشيته في قوله "إنما يخشى اللهَ من عبادهِ العلماء".
فسبحان الله الذي من على عباده بالعلم إبتداء ، ثم رفع قدرهم بكلمة التوحيد العصماء وأكرمهم بالطاعة والخشية والنقاء.
والله يتفضل بالعلم على من يشاء من عباده فعندما سأل الملائكة علما لم يودعهم أسراره (قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم)
وإذا نظرنا للعلم من حيث الفائدة فهو ينقسم أقساما ثلاثة علم رشيد (علم السوابق المعرفية) وعلم الرحمة (علم لا ينبغي لغير صاحبة) وعلم النظر ( علم الارتقاء والتدبير).
العلم الرشيد
قال تعالى" قال له موسى هل اتبعك على ان تعلمن مما علمت رشدا" فموسى طلب من العبد الصالح أن يعلمه مما تعلم وبنى الطلب على المجهول لأن المصدر معلوم وهو رب العالمين ، والبلاغة في بناء الفعل للمجهول تفيد أن كل علم العبد الصالح بلا تخصيص أو إختيار من عند رب العالمين ، فلو قال له موسى على أن تعلمني مما علمك الله رشدا ، لتصور الناس بمفهوم المخالفة أن هناك معلم له غير الله ولكن موسى طلب علم الله فقط ولكن أن يبنى الفعل للمجهول فدليل على شمول تعليم رب العزة للعبد الصالح كل العلوم.
ولما كان في مشمول علم العبد الصالح من رب العالمين أن ما لديه من علم لا يصلح لموسى لأنه ليس علما رشيدا ، طلب منه ألا يسأله حتى يحدث له منه ذكرا ، وبالنظر في كلمة (منه) نجد أن من التبعيضية والهاء ضمير عائد على الشيء أي أنه لن يعطيه كل الشيء ولكن فقط ما يمكن أن يستفاد منه علما رشيدا كطلب موسى ولو قال له موسى على أن تعلمني مما علمت وسكت لما قال له العبد الصالح (فإن أتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا).
ولتقريب المعنى نحتاج لمثال وسأحاول جاهدا تبسيط المثال لتوصيل المفهوم ، إذا ذهب أحدكم إلي مدرسة تعليم السيارات ،وتعلم طريقة قيادة السيارة بوضع عصا تحويل القدرة على الوضع الحر وتشغيل المحرك بإدارة مفتاح التشغيل ثم الضفط على بدال فصل تروس الحركة وتحريك عصا تحويل القدرة للوضع الأول ، والبدأ في الضغط على بدال الوقود مع رفع القدم عن بدال فصل الحركة تدريجيا حتى تبدأ السيارة في التحرك ، هذه الطريقة لو إستخدمها أي إنسان في العالم في أي زمان أو مكان مع السيارة فقطعا سيحركها ويقودها إذا هي من نوع العلم الرشيد الذي تبنى عليه السوابق المعرفية والذي يمكن لكل فرد إستخدامه ولذلك فإن كل علوم التكليف والأوامر والنواهي في الكتب السماوية تتبع هذا النوع من العلم وبعد التوحيد(الذي هو من قبيل علم النظر كما سيأتي تفصيلا) فإن هذا العلم هو نطاق تبليغ الرسل وأدائهم رسالاتهم ، لذلك كان من المستحيل على رسول الله موسى عليه السلام أن يصمت عند خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة السور لأن هذه الأفعال تخضع للحكم عليها في شريعة موسى بالفساد فلو سكت ما بلغ رسالة الله حاشا لله أن يفعل موسى عليه السلام ذلك.
علم الرحمة
أطلق عليه الصوفية العلم اللدني وسيأتي شرحه تفصيلا إن شاء الله.
قال تعالى"فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" فهو ذلك النوع من العلم الذي يمنحه الله إصطفاء لمن يشاء من عباده ليصحح إرادة البشر بالعبث والخلل في ناموس الحياة بأفعال هي في حدود ناموس الحياة ، ولكي نشرح هذا القول نقوم بشرح ما فعله العبد الصالح في السفينة قام بخرقها وكان السبب في خرقها أن يعيب المركب فلا يغتصبها الملك الفاسد لنفسه ، فهذا الملك أراد أن يخرق ناموس الحياة فيأخذ كل السفن لنفسه فيقطع على المساكين مصدر رزقهم ولكن الله أراد أن يصحح خرق هذا الملك للناموس بالناموس وليس بالمعجزات والخوارق فمنح هذا العلم للعبد الصالح وطالبه بالتنفيذ ، فقام بخرق السفينة ، وهذا العلم ليس به تكليف لغير صاحبة ولا يدعيه أحداً لنفسية ولا يمكن تعلمه أو إكتسابه من علوم سابقة ولا يدخل هذا العلم في باب التكاليف الشرعية أو التدابير المعرفية – كما سنشرح لاحقا – كما أن هذا العلم جعله رب العزة مقترن بالرحمة إقتران لايقبل التجزئة وهو المستفاد من قوله آتيناه رحمة من عندنا قبل أن يقول وعلمناه من لدنا علما ، لأن الرحمة تورث الرفق في التنفيذ وسنرجع للمثال السابق للشرح فلو أن العبد الصالح ثقب السفينة بلا رحمة لأغرقها فما إستفاد منها الملك الغاصب أو المالك المسكين ولكنه خرقها ليعيبها فقط فلا تصلح لغرض الملك الغاصب ولا يحتاج المالك المسكين لجهد وعناء لإعادتها لحالتها الأولى ، ويمكن شرح باقي الأفعال من خلال الرحمة كقتل الطفل دون تعذيب أو تمثيل وإقامة البناء بإتقان فلا ينهار قبل أن يبلغ الغلامين أشدهما ، وعلم الرحمة هذا هو ما يسمى بالعلم اللدني.
وهذا العلم اللدني موجود وغير موجود ، موجود بنص القرآن في قوله ( وعلمناه من لدنا علما) وغير موجود أنه يستحيل أن يدعيه أحد أو يخبر به غيره فلو فعل فهو أفاق كاذب مخادع وليس صاحب علم لدني ، إذا فلا يمكن لنا أن نتعرف على أصحاب هذا العلم لأنه لا يدعيه إلا كاذب وأصحابه الحقيقيون مختفين وقد نرى أفعالهم في ظاهرها شريرة فلا ندعي لهم كرامة ، وأظن في ذلك رد كافٍ على أصحاب المذهب الصوفي الذين يدعون الكرامات والعلوم الغيبية ولو قلت لهم اتقوا الله ولا يوجد ما يسمى بالعلم اللدني قرأوا لك الآية الكريمة – أدعوا الله أن أكون قد وفقت في شرحها- وهو نعم المولى ونعم النصير
علم النظر
قال تعالى " ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" وقال تعالى"قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدا الخلق ثم الله ينشئ النشاة الاخرة ان الله على كل شيء قدير" وقال تعالى" اولم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا اشد منهم قوة واثاروا الارض وعمروها اكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون"
سيروا في الآيات تفيد البحث والسؤال والأطلاع وقراءة التاريخ ، وأنظروا تفيد الفهم والإحاطة والإدراك وإستخلاص العبرة ، و لنتفق أن جميع العلوم وعائها العقل والقلب (الألباب) ولكن لكل علم أدواته فالعلم الرشيد قائم على التكليف بالأداء أو الامتناع فتكون أدواته الجوارح أما علم النظر فقائم على وحدة الوعاء والأداة لأن مجاله الإدراك ، والإدراك طريقه التدبر والفهم ، والتدبر والفهم عمل العقل والقلب معا ، قال تعالى"افلا يتدبرون القران ام على قلوب اقفالها",
وبالنظر للأية الأولى في سورة النحل فإن الأمر هنا بالنظر والتعقل في أمر التوحيد وهو المستفاد من قوله تعالى أعبدوا الله وأجتنبوا الطاغوت وهي جماع كلمة الأخلاص لا إله (إجتناب الطاغوت) إلا الله (عبادة الله) فمن الناس من هداهم الله ومنهم مكذبين حقت عليهم الضلالة وإجتماع الأمر بسيروا وأنظروا تعني أمر من الله بتعقل وشمول الإدراك لكلمة الإخلاص ولنتيجة كل من الإيمان والضلال ، فيكون التوحيد هو أعلى مراتب علم النظر ، وعلم النظر ولا شك هو أعلى مراتب العلوم لأنه علم معرفة السبب من الخلق والحياة قال تعالى"وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون(56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ(57)" الذاريات والعبادة لا تكون إلا بمعرفة والمعرفة تكون بالإدراك والإدراك يأتي بالتدبر ، والتدبر يكون بفتح أقفال القلوب والقلوب مفاتيحها بيد الرحمن بقوله تعالى" فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد ان يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كانما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون" وبذلك يتحقق قوله تعالى "واتقوا الله ويعلمكم الله".
أما في الآية الثانية في سورة العنكبوت ففيها أمر بتدبر الخلق والموت والبعث وهو أمر مطلق يفيد الإيمان باليوم الآخر كما يفيد العمل على تعلم علوم جسم الانسان والحيوان والنبات وتطور النشأة ثم الموت وتجدد الحياة وتشمل أيضا علوم الطب قال تعالى" واذا مرضت فهو يشفين(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)" فأنظر وتدبر حجم التوافق بين الآيتين في سورة العنكبوت قال تعالى" قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدا الخلق ثم الله ينشئ النشاة الاخرة ان الله على كل شيء قدير" ففي الآية في سورة الشعراء يميتني ثم يحين وفي العنكبوت ثم الله ينشئ النشأة الآخرة فسبق الله تعالى على لسان إبراهيم الخليل قوله وإذا مرضت فهو يشفين فإقترن الموت والحياة بالمرض والصحة بما يحمل حث على التدبر في علوم الطب وجسم الأنسان والله تعالى أعلم.
أما في الآية الثالثة في سورة الروم فقوله تعالى "كانوا اشد منهم قوة واثاروا الارض وعمروها اكثر"تفيد الأمر بالتدبر و الإدراك في علوم إعمار الأرض حتى نبلغ صحيح العلم أو ما يسمى بالعلوم الإنسانية ومن غرائب وعجائب الأمور أن يكون هذا الكلام في قرآننا نتعبد به ليل نهار دون النظر فيه وإستخراج كنوزة ومعانية فتسبقنا الأمم جميعا في الأعمار الذي قصده رب العالمين ونكون نحن تابعين لهم فيه رغم أن هذه العلوم الإنسانية من علوم النظر التي يكون على قمة هرمها علم التوحيد كما أسلفنا قولا .
ولكن لا عجب عندما يقول الإمام الشافعي:
كل العلوم سوى القرآن مشغلة *** إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا *** وما سوى ذاك وسواس الشياطين
فببلاغة شعر أسقط كل العلوم الإنسانية وجعلنا قابعين في ذيل الأمم نعيش عالة عليهم ولله المشتكى ، وأين هذا الشعر من شعر الأمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه إذ قال:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم * على الهدى لمن إستهدى أدلاء
وقدر كل امرء ما كان يحسنه * والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعيش حيا به أبدا * الناس موتى وأهل العلم أحياء
وهنا يظهر سؤال لايد من البحث عن إجابته: ما الفرق بين علم الله وعلم الرسول؟ والذي سيكون مقدمة للإجابة على سؤال: لماذا الأخذ بكتاب الله دون الأخذ بالأحاديث المنسوبة للرسول؟
وسيكون ذلك في الموضوع القادم إن شاء الله فمقالة العلم لم تنتهي ولكن تتبع
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم / شريف هادي

اجمالي القراءات 20623