تنويعات على لحن السيادة المفقودة

كمال غبريال في الأحد ١٧ - أبريل - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

رئيس الجمهورية أو أي موظف عام ليس "حاملاً لأمانة"، فهذا مفهوم أبوي (بطريركي) بائد. هو موظف "مكلف بمهام"، ‏له "سلطات" وعليه "مسئوليات" يضطلع بها وفق "دستور" و"قوانين" و"إجراءات" رسمية محددة. وهو طوال الوقت تحت ‏الرقابة المؤسسية والشعبية لأدائه، ولمدى إنجازه "مهامه". . هذه المفاهيم التي تظهر هنا بين علامات التنصيص يجب ‏أن يعيها سيادة الرئيس، حتى يعي حقيقة وظيفته وحدودها وإشارات سيرها، بمنأى عن وصايا الوالدين، أو عن إلهام ‏الرؤى والكوابيس.
العلم والخبرة تمنح مكتسبها ثقة في نفسه وقدراته، وهو الأمر الضروري لأي إنسان. لكنها ثقة محدودة بحجم هذه القدرة، ‏وبقدرة الفرد منفرداً على الأداء في عالم صار بالغ التعقيد. لكن "الثقة المفرطة" في الذات ترجع للجهل والحماقة، لأن ‏العلم الحقيقي كما يمكنك من معرفة الكثير عن العالم، فإنه يكشف لك أيضاً حجم الكثير مما لا تعرفه، وما قد لا ‏تستطيع الإلمام به.
إصرار السيسي على ارتجال خطاباته يجلب له الكثير من المشاكل، كما يتسبب لنا نحن في التوجس والقلق. فربما لو ‏كان يقرأ خطاباً معداً ومدققاً سلفاً، لانتبه لأن قوله "أنا مسلم فقط" يشابه قول السادات أنه يحكم مصر بصفته "رئيساً ‏مسلماً لدولة إسلامية يسكنها أقباط" بدلاً من أن يكون "رئيساً مصرياً لدولة مصرية"، وهي تحديداً النقطة التي انطلق ‏منها ليلقى مصيره المأساوي. يفترض أن السيسي "مسلم" في حياته الشخصية وعبادته لربه، أما وهو على كرسي الحكم ‏فهو مصري فقط. ظني الشخصي أن السيسي قالها ببساطة وحسن نية، ولم يدر بخلده ما قد يترتب على مقولته هذه ‏من معان. الارتجال مشكلة للمرتجل ولمن يستمعون إليه!!‏. . من قبيل التخبط في الكلام أن يقول أن الجيش سيتحرك ‏إن لم يرد الشعب الرئيس حتى علي أنا، فمن المستهدف تأسيس دولة حديثة مؤسسية ديموقراطية، لا أن نظل في ‏مستنقع الثورات الشعبية وتحركات الجيش الانقلابية. . انعدام الرؤية مصيبة!!
نلوك دوماً مفردات مثل "وطنية" و"حب الوطن" و"إخلاص"، وهذه كلها معان وصياغات مطاطة لا تعني الكثير، وقد لا ‏تعني شيئاً على الإطلاق. الأمر أمر مفردات وقيم أخرى، مثل "علم" و"خبرة" و"انضباط" و"التزام بالدستور والقانون". . ‏نحتاج جميعاً للهبوط من سماء العواطف والتهاويم، إلى أرض الواقع الصلبة محددة المفاهيم.‏ . مع بالغ الأسف من ‏يرفعون شعار "الأرض هي العرض" ينتمون لثقافة التمركز حول النصف الأسفل من الجسد!!
الشعب المصري الذي يهيص ويزيط الآن من أجل جزيرتين، خلع منذ زمن رداء هويته المصرية وأطاح به، ليرتدي ‏العباءة العربية والزي الباكستاني. فعلوا هذا فكرياً، إن لم يفعلوه مادياً، منذ تفشي خرافة "القومية العربية" وما تلاها من ‏أيديولوجيات ظلامية. . بيع مصر بالبترودولار بدأ في السبعينات ومازال مستمراً، ولم يكن البائع سوى سائر طبقات ‏هذا الشعب العظيم. . لا نستحي من مد اليد للتسول، وفي نفس الوقت نريد ريادة وقيادة المنطقة. . مملكة الوهابية التي ‏سبق منذ عقود وأن اشترت عقول وضمائر المصريين، ليس كثيراً عليها التنازل لها عن بضعة صخور في البحر!!‏. . ‏هي السيادة السعودية الوهابية يا سادة، التي تمتد متشعبة كسرطان في كافة مدن وقرى ونجوع وبوادي مصر المحروسة. ‏‏. فليكن حرصنا على الأرض معادلاً للحرص على السيادة الحقيقية عليها.‏ . كنت أتمنى أن أشهد هذه الغضبة الوطنية ‏على مصر وسيادتها، أيام محا الزعيم الخالد اسم مصر من على الخريطة، وحولها لإقليم جنوبي ضمن "إمبراطوريته ‏العربية المتحدة"!!
بصراحة واضح إن الناس بتتلكك للسيسي والسعودية معاً، كما هو واضح أن "الكتلة السيساوية" تذوب مع بداية الربيع وقرب الصيف!!. . من يتابع مواقع التواصل الاجتماعي، يستطيع أن يرصد أن الجدل حول الجزيرتين تعدى كونه بحثاً في أحقية ‏ملكيتهما، إلى مبارزة بين فريق متحمس لسيادة بلاده في مواجهة هيمنة أثرياء البترودولار، وفريق آخر متهم بالركوع ‏لهذه الهيمنة. . لن يغير من هذه الحالة رؤية ترى أن الأمر قد تم تحميله أكثر مما يحتمل، فالصراع أخذ هذا المنحى، ‏ولا يبدو من سبيل إلى إعادته لمساره وحجمه الطبيعي، ما لا يترك لنا مجالاً هكذا إلا أن نكون عاطفياً على الأقل، في ‏جانب الفريق الذي يقاوم باستماتة بيع الإرادة المصرية مقابل كفالة وهابية!!
الآن مهما حدث، ومهما فعل أو فشل هذا أو ذاك، الاختيار حاسم لا لبس فيه، بين "هذا النظام" أو "الفوضى العارمة" ‏والخراب الشامل. . هي مصرنا التي ليس لنا سواها، وليس هناك ما هو أبدى من الحفاظ عليها بأي شكل كان. . تحيا ‏مصر. وتسقط الفوضى أياً كانت مبرراتها.
لا يخدعكم أحد. . من ينادي بسقوط النظام أو سقوط السيسي هو يسعى في الحقيقة لإسقاط الدولة المصرية. . من ‏يريد إسقاط مصر فلينضم إلى هؤلاء. . المطلوب الآن (إن أمكن) تشكل تيار معارض علماني لديه رؤى مستقبلية ‏حداثية، ينتهج الطرق السلمية المؤسسية للمعارضة، لمحاولة إنارة الطريق أو إجبار الممسكين بالسلطة الآن على ‏الإستقامة في طريق تأسيس دولة علمانية متوافقة مع معايير العصر، ومتصالحة مع نفسها ومع العالم. . الفوضجية ‏والناصرجية اليسارجية القومجية يمتنعون.

اجمالي القراءات 6470