قراءة عميقة في كتابي القديم صوت المعاق بمناسبة اليوم الوطني للاشخاص المعاقين بالمغرب ²
قراءة عميقة في كتابي القديم صوت المعاق بمناسبة اليوم الوطني للاشخاص المعاقين بالمغرب

مهدي مالك في الخميس ٣١ - مارس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

 

 

 

 

قراءة عميقة في كتابي القديم صوت المعاق بمناسبة اليوم الوطني للاشخاص المعاقين بالمغرب

مقدمة مطولة                                                 

يحتفل المعاق المغربي يوم 30 مارس بيومه الوطني كتقليد محمود منذ اواخر التسعينات حيث ينسى البعض ان المهدي مالك الكاتب المزعج للاسلاميين و للحركة الوطنية هو معاق مغربي حر و متعز بتاريخ بلاده المتجذر في اعماق التاريخ الانساني و متعز بتاريخ بلاده الاسلامي بالاعتبار ان اجداده الامازيغيين هم  الذين شيدوا حضارتنا الامازيغية الاسلامية حجرة تلو حجرة في دول المغرب الكبير و الاندلس و جنوب الصحراء الإفريقية بعيدا عن دول الجاهلية القرشية بعد الاسلام مثل الدولة الاموية و الدولة العباسية و الدولة العثمانية الخ..

يشرفني بهذه المناسبة الطيبة ان اقوم بقراءة عميقة لكتابي القديم صوت المعاق الصادر سنة 2012 بفضل دعم ابي المعنوي و المادي و دعم مجلة ادليس في شخص مديرها الاستاذ احمد الخنبوبي ..

غير ان اعلامنا المغربي لم يعطي على الاطلاق اية اهمية لهذا العمل المتواضع باعتباره اول سيرة ذاتية لمعاق ببلادنا اللهم ما كتبه الاستاذ باكريم وقتها في احدى الجرائد المحلية او حلقة خاصة من برنامج مبعوث خاص حول معاقي جهة سوس بثتها القناة الامازيغية في فبراير الماضي ...

ان تحليلي تجاه التجاهل المقصود نحو كتابي صوت المعاق يقول اولا ان اعلامنا المغربي قد قرر النظر اليه وفق النظرة المخزنية القديمة لكل ما هو امازيغي عبر ربطه بالفوضى او بالاستعمار او بالاحتقار بمختلف مظاهره السياسية  و الدينية بحكم ان امازيغي المغرب منذ الاستقلال الشكلي تعرضوا لسياسة ارساء التخلف الفضيع بكل ابعاده بغية ابعادهم عن السلطة السياسية بهدف منعهم الفعلي من تطبيق سياساتهم الديمقراطية و العلمانية الأصيلتان في تاريخنا الاجتماعي ..

ثانيا ان كاتب هذا الكتاب هو شلح من منطقة سوس وفق النظرة المخزنية القديمة حيث ان مصطلح الشلح او الشلوح الخ من هذه المصطلحات الشعبية مع كامل الاسف هي مصطلحات قدحية تستعمل عادة عندما ياتي الامازيغي السوسي الى المدن الكبرى من قبيل الدار البيضاء او الرباط او فاس لممارسة التجارة اليومية اي البقالة كمهنة شريفة بدون ادنى شك غير ان اعلامنا الرسمي منذ عقود من الزمان اختزل الامازيغي السوسي في البقالة لوحدها بينما الفاسي ذو الاصول المعروفة يملك الوزارات و الابناك الخ من خيرات هذا الوطن الرمزية و المادية كما شرحته في كتابي الجديد .

انني اقول بكل الصراحة و المرارة  لو كتب هذا الكتاب المتواضع في الاسلوب اي صوت المعاق من طرف  معاق فاسي لاهتم به اعلامنا المخزني بكل قنواته الاذاعية و التلفزيونية و كذا الصحافة المكتوبة دون اية مبالغة او عنصرية ما باعتبارنا قد وصلنا الى عصر قول الحقيقة كما هي لنتقدم في نقاشنا العمومي بحكم ان كل جيل له اخطاءه و هفواته الانسانية حيث احمد الله تعالى الذي اعطاني اب واعي باهمية هذا العمل المتواضع حيث تركني الحرية المسؤولة من طبيعة الحال في التطرق لمشاكلي بكل الصراحة دون اي خطوط حمراء خدمة لقضية الاعاقة ببلادنا التي  مازالت تحتاج الى الكثير من الجهود من طرف الوزارة الوصية  و جمعيات المجتمع المدني لتحقيق الحد الادنى من الحقوق الاساسية سواء في المجال الحضري و في المجال القروي .

غير ان الوزارة  الوصية التي تقودها سيدة محترمة من الحزب الاغلبي لم تفعل اي شيء  ملموس لصالح المعاق الى حدود هذه الساعة بدليل ما تناولته الحلقة الخاصة من برنامج مبعوث خاص حول معاقي جهة سوس حيث لاول مرة في تاريخ اعلامنا البصري الوطني عرض هذا البرنامج واقع المعاق في المداران الحضري و القروي بكل الموضوعية لان المعاق في البوادي يعاني اضعاف مضاعفة من المشاكل الجوهرية بسبب وجود ايديولوجية مجتمعية سميتها في سيرتي الذاتية ايديولوجية التخلف القروي كما ساشرح لاحقا ضمن هذا المقال المطول و لم تقوم بتفعيل بطاقة المعاق الخ من حقوقنا .

 انني لا اتوفر على اية تغطية صحية انا و اولادي الى حد الان و من المفروض على الدولة المغربية توفير الحد الادنى من حقوقنا الجوهرية كمعاقين مغاربة في هذا الوطن العزيز لنشعر بالمواطنة الفعلية على ارض الواقع  ..

تقديم نفسي                                               

قلت في سيرتي الذاتية أبدأ من الولادة فقد ولدت يوم 28 مارس 1983 بمدينة الدار البيضاء حيث كانت أمي الحبيبة قد  تزوجت مبكرا من أبي الحبيب..

وكانت في فترة الحمل تذهب معه إلى الطبيبة  ذات الأصول اليهودية وأقول  ربما فعلت الكثير من الأخطاء القاتلة عن قصد أو بدون قصد وشخصيا لست معاديا لليهود  لأنهم إخواننا  في هذا الوطن المتميز بتعدده الثقافي و الديني...

 وباختصار شديد  أمي و أبي تعذبوا كثيرا، حيث كنت في صغري أبكي طوال الوقت، وكنت لا أجلس و لا أرضع من ثدي أمي، وكنت دائما مريضا، ودائما في عيادة الطبيب كوسطا المتوفى...

 وكان والدي العزيزان منذ البداية  يبحثان دوما على الحل لمشكلتي  فكانا يذهبان بي إلى الترويض  الطبي  عند السيدة المعروفة  هناك، وفي  البيت كانت أمي تقوم لي بحركات الترويـض. أما بالنسبة  لحالتي  الصحية، فكنت دائما مريضا  وخصوصا في أيام الشتاء و الاعياد، وكنت في طفولتي الأولى لا أستطيع الذهاب إلى المرحاض لوحدي بل أحتاج  إلى أمي أو أحد أفراد العائلة و لا أشرب الماء نهائيا، بل أشرب الحليب مع ما يسمى ب "السيرو..

 أما بالنسبة لبعض ذكرياتي في الدار البيضاء  فأتذكر أنني في أحد الأيام بقيت في البيت وحدي طوال النهار حيث ذهبت أمي مع أبي إلى الطبيب بسبب مرضها طيلة شهر رمضان الذي صادف سنة 1991.

     و أختي مريم  بدأت تذهب إلى المدرسة ،وأخي ياسين مازال رضيعا عند أمي، وكنت آنذاك بدأت المشي على ركبتي فدخلت إلى مطبخنا ووجدت البصل فلا خيار آخر أمامي سوى أكله حيث بدا لي لذيذا.

 

    أتذكر مساء أحد الأيام  الصيفية، اصطحبني أبي الحبيب  إلى مكان غريب بالنسبة لي، وهذا المكان هو عند الفقيه الذي يمارس الشعوذة أيضا، فأبي أحب أن يجرب هذا الخيار الخرافي،  لكنه لم يؤمن قط بهذه الأشيـــــــــاء.

     وقد قرأ هذا الفقيه المزور في أذني آيات من كتاب الله، ثم كتب لأبي وصفة هي عبارة عن مجموعة من السوائل للشرب، وبعد ذلك رجعنا إلى حال سبيلنا. وفي اليوم التالي أحضر أبي لي هذه الوصفة العجيبة و الخطيرة في نفس الوقت، لأنها جعلتني أصاب  بحمى شديدة كادت تقتلني لولا تدخل أمي التي اصطحبتني إلى الطبيب في الوقت الذي كان فيه أبي مسافرا للعمل.

     خلاصة القول أنني لم أومن قط بالشعوذة و السحر بالرغم من أنه مذكور في القرآن الكريم، بل أومن بالعلم والمعرفة.

 

***


     أتذكر أننا كنا نخرج كل يوم أحد إلى غابة في نواحي الدار البيضاء، للنزهة وتناول وجبة الغداء، تحت ظلال الأشجار الرائعة وتحت نسمات الهواء الصافي، وكنت أنظر إلى مريم  وهي طفلة تحب اللعب و مراجعة دروسها المدرسية وأنظر إلى أمي وهي تحضر لنا أشهى المأكولات المغربية، وأنظر إلى أبي وهو مهتم بقراءة الجرائد  الوطنية وكتب تاريخ المغرب،  وأنظر إلى ياسين وهو يمشي خطواته الأولى في هذه الحياة.

 

      من خلال هذه المرحلة من حياتي وجدت أن كل إنسان يتعلق بفترة الطفولة، باعتبارها مرحلة يتعلم منها الكثير من معاني وقيم إنسانية كثيرة، كالحنان والعطف...كما  تعلمت في هذه المرحلة لغة الأم، وهي اللغة الأمازيغية. وفي هذه الفترة تعلمت الكثير من خلال مشاهدة التلفاز، الذي ساعدني كثيرا في معرفة الدارجة المغربية واللغة العربية الفصحى، من خلال ارتباطي بالرسوم المتحركة التي كانت تبث على التلفزة المغربية آنذاك، وكانت هذه الرسوم تلعب دورا تربويا مهما.

 

  يمكن القول في تلك المرحلة هو ان ابواي قد تعذبوا معي و خصوصا امي الحبيبة حيث في ذلك الوقت اي في فترة الثمانينات لا يوجد اي وعي مجتمعي على المدن الكبرى باهمية المعاق كفرد فعال داخل المجتمع المغربي حيث لم ادخل الى المدرسة العمومية قط و  انما دخلت الى مؤسسة خاصة للاطفال المعاقين بمدينة اكادير في يناير 1996 كما ساشرح لاحقا  .

و  تعلمت  اللغة  الام تامزيغت  داخل البيت من خلال سماع للابواي علما انني لا استطيع النطق نهائيا  .

ذكريات الطفولة                                          

قلت في سيرتي الذاتية  انتقلنا للعيش في بيتنا الجديد يوم 10 يونيو 1992، في أجواء يطبعها الفرح  والسرور الذي يملأ قلوبنا كأطفال آنذاك، واستقبلنا عيد الأضحى السعيد في هذه الفترة بالذات..

 

     وأما بخصوص ذكرياتي في هذه المرحلة فهي كثيرة ومتعددة ،لكنني سأتحدث أولا عن الجانب التأهيلي بحيث كان أبي يجبرني على الذهاب إلى المرحاض لوحدي وعلى محاولة الوقوف على الأقدام ثم المشي ، وبدأت الترويض  في مستشفى الحسن الثاني سنة 1994، حيث  كان عمي الموقر حماد  يصطحبني  إلى هناك رفقة أمي...

و بدأت  حصصا  من  تقويم  النطق  مع  الأستـاذبوعودا الوحيد بمدينة اكادير آنذاك، وبخصوص هواياتي  في تلك  المرحلة فقد بدأت أرسم برجلي  بعض الرسومات لا معنى لها بالنسبة لي وكنت أشاهد بعض برامج الأطفال باللغة الفرنسية على قناةTV5  المعروفة، وأشاهد برامج الأطفال في التلفزة الوطنية واستفدت كثيرا من هذه البرامج  خصوصا  تعلم  اللغة الفرنسية، وكذا اللغة العربية لغة القران الكريم وإحدى لغاتنا الوطنية العزيزة...

و كما بدأت الاستماع إلى المذياع في سنة 1994، حيث كنت أستمع لإذاعة أكادير الجهوية، وإلى الإذاعة الأمازيغية التي  كانت تبث برامجها لمدة 12 ساعة يوميا.


 

     في صيف 1994 استمتعت كثيرا فقد كنت من عشاق الفريق الوطني  لكرة القدم الذي شارك في كأس  العالم  المنظم في الولايات  المتحدة الأمريكية، وكان فريقنا الوطني  في  مجموعة تضم بلجيكا والسعودية وهولندا.

 وكنت أتابع جميع المباريات و خصوصا  مباراة فريقنا الوطني الذي  انهزم أمام بلجيكا وأمام السعودية  التي  شاركت لأول مرة في  تاريخها وكذا أمام هولندا..

و كنت عند نهاية هذه المباريات أبكي لغيرتي على الوطن ودفاعا عن الرايةالمغربية..

     وفي ذلك الصيف عرفت مدينة أكادير موجة من الحرارة وصلت إلى 40 درجة في الظل، حيث في البيت كنا نلبس الملابس الخفيفة، ونشرب كثيرا من السوائل الباردة : الماء والمشروبات الغازية ... بيد أن الماء  كان ينقطع عنا في مثل ظل هذه الحرارة المفرطة، وأحيانا كنا نسافر إلى قريتنا "الدوار" المسمى "إسك" الموجود بمنطقة إيموزار  إداوتنان، هربا من ذلك الجو الحار..

 

      إن الإنسان مهما كان يعتز بمجموعة من الأشياء كالانتماء  إلى دين معين أو هوية ثقافية  معينة أو أصل معين،...

لكنني أعتبر أن العائلة هي شيء جوهري بالنسبة لي كانسان معاق،لأنها ساعدتني في  للوصولإلى  ما أصبو إليه ،وسأتطرق إلى علاقتي  بالعائلة الكبيرة من خلال تجربتي الخاصة.

     عائلة أبي تتكون من جدتي  فاظمة الحبيبة، التي تعد خير مثال  للمرأة الامازيغية حيث أنها استطاعت أن تربي أبناءها بعد وفاة زوجها جدي محمد أيت مالك سنة 1960 حيث  كان يتابع دراسته الدينية في زاوية تغامين المعروفة في  منطقة إداوتنان، وكان والده شخصية مرموقة  يمتلك أموالا كثيرة و عبيدا... مما مكنه من إرسال أبناءه إلى المدارس العتيقة قصد طلب العلم الشرعي، ومن بينهم جدي  الذي  أصبح فقيها، لكنه لم  يشارط في المساجد لكونه كان يعتبر نفسه ابن عائلة كبيرة وقد تزوج من جدتي  التي  جاءت من البادية البعيدة، وكانت لا تجيد إلا العمل في الحقول.

و بعد وفاته رحمةالله عليه، وجدت جدتي نفسها أمام مجموعة من المشاكل حيث جاهدت في ظل أوضاع صعبة كفقر الأسرة ونظرة الناس الاحتقارية للأيتام .....  تجاوزت جدتي مائة سنة لكنها تكره العجز والكسل، فمازالت تمارس أعمالها الفلاحية والزراعية، وتقوم بإسداء النصائح إلينا حسب تجربتها العميقة في هذه الحياة، وهي لا تهتم بالأمور العصرية، بل تهتم فقط بالأمور التي وجدتها في وسطها القروي، وأما بخصوص علاقتي  بها فهي علاقة حب و تقدير، لكفاحها الطويل من أجل أولادها وقيمتها في المجتمع، وأنا أعتز بجدي المرحوم الذي أنجب أبي الحبيب، المناضل ضد التخلف بكل أنواعه.

      وأما عائلة أمي فتتكون أساسا من جدي  محند الرايس، الذي  يعتبر من فقهاء سوس المحترمين، فقد كان إماما.

 وفي المجتمع الأمازيغي  هناك تقليد يسمى ب"الشرض" أي الشرط، وهذا الأخير هو بمثابة عقد  بين  مجموعة من الناس أو "لجمعت" وبين الفقيه، وينص هذا العقد على حقوق وواجبات لكلا الطرفين، فالنسبة للفقيه عليه أن يهتم بشؤون المسجد، مثل أداء الصلوات الخمس، وتعليم القرآن للصغار، ...وأما بالنسبة للجماعة فإنها مسؤولة عن أداء أجرة الفقيه التي تكون متواضعة في الغالب، وكذا العناية به ... وبخصوص علاقتي  بجدي، فهي علاقة يطبعها الاحترام والتوقير نظرا لمقامه المحترم.

و هذا على سبيل الاختصار نظرا لاسباب شخصية لكن على العموم فعلاقتي بالعائلة الكبيرة كانت متميزة حيث قلت في هذا السياق كنا نسافر إلى القرية إسك منذ طفولتي أي منذ كنا نعيش في مدينة الدار البيضاء، حيث  أن أبي عاشق للقرية، ومهتم بتوعية الناس آنذاك بأهمية مسائل كثيرة، مثل  التنمية بمفهومها  الشمولي والعمل الجمعوي.

و  كان دوارنا لا يتوفر على الطاقة الكهربائية، وكانوا يستعملون الطاقة الشمسية في الإنارة، وفي تشغيل بعض  التجهيزات المنزلية كالمذياع، باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تتحدث بلسانهم الأمازيغي في ذلك الوقت.

     أعتقد أنني احتفظ في ذكرياتي  بمجموعة من اللحظات المتميزة حول زياراتنا المتكررة لدوارنا الحبيب قصد صلة الرحم مع الأسرة الكبيرة، حيث كنا نذهب أولا إلى بيت جدي  الذي  مات رحمه الله، وتسكنه  جدتي الحبيبة، و يسكن في ذلك البيت حاليا عمي حماد المحترم وأولاده.وأتذكر في صيف سنة 1991، كان الناس  في البادية بشكل عام لا يتوفرون على الطاقة الكهربائية بل كانوا يستعملون الطاقة  الشمسية كما قلت سالفا.وعلى المستوى الثقافي فالناس  لديهم ثقافتهم الشعبية المعترفة بوجود كائنات خارقة كالجن المذكور في كتاب الله العزيز، والمعترفة كذلك بزيارة قبور الأولياء الله الصالحين، وكذا بالشعوذة، وهذه الثقافة الشعبية تنظر إلى المعاق  كأنه شيء غريب و خارق للعادة، وهذا  يدخل ضمن تقاليدنا المتخلفة، أو ما أسميه بإيديولوجية التخلف القروي.

   و  عند عائلة أبي التي ترحب بنا أحسن ترحيب، كنا نجلس أمام عمي  وهو يعد الشاي بطريقة تقليدية، بمعنى أنه يجلب معه من المطبخ المواد الأساسية لتحضير الشاي  أو أتاي بلغتنا الأمازيغية، والشاي عندنا هو مشروب شعبي نشربه في  الفطور أو بعد صلاة العصر، ويرمز الشاي  في ثقافتنا الأمازيغية إلى الفرح، وإلى الجلسة العائلية التي يسودها جو من المرح في ظل الاحترام و الوقار في  مجتمعنا الحبيب والمحافظ على خصوصياته الثقافية والدينية .

 وكانت عمتي  فاظمة تأتي إلينا قصد الجلوس معنا وتناول وجبة العشاء في جو عائلي مبارك، وهذا يعد شيئا مهما بالنسبة لي كطفل معاق آنذاك.وكانت جدتي في هذه السنة قد سافرت إلى الديار المقدسة قصد أداء فريضة الحج في صيف 1990 وبمناسبة مجيئنا عندها قامت بتوزيع الهدايا علينا كأحفادها و كنا فرحين بهذه الهدايا.

 

 

     وسنواصل هذه الرحلة الجميلة مع ذكرياتي بالذهاب إلى عائلة أمي التي  كانت تسكن في ذلك الوقت في إسك بمكان يسمى أزغار في منزل قرب المسجد، و جدي العزيز كما أشرت سالفا هو إمام و خطيب في ذلك المسجد و الإمام أو الفقيه في مجتمعنا  له مقام محترم، لأن مجتمعنا متدين أصلا.

     وكان بيت جدي كبيرا واسعا، وتسكن فيه جدتي  يامنة و أبناءها من الإناث والذكور، وكان بيت جدي  له مدخل إلى المسجد حيث كنت أذهب مع احد اخوالي إليه، وأنا أحب ذلك المكان المبارك حيث أشعر فيه بالراحة والهدوء،  وكنت  حينها  مازلت  طفلا  صغيرا  بدا  يتعلم  بعض العبادات كالصلاة، والاستماع إلى القرآن الكريم.

    وهناك في البادية السوسية تقليد أصيل ألا وهو  قراءة الحزب الراتب، التي تعتبر من اجتهادات أسلافنا ،الذين كانوا مثالا في الاجتهاد الديني، والأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الأمازيغية في هذا الشأن، وتتم قراءة الحزب بعد صلاة المغرب جهرا.

     وكنت في بيت جدي استمع للحزب الراتب بعد صلاة المغرب بكل وضوح، و كنت أشعر بالسلام، لأن القرآن الكريم الذي  هو دواء القلوب و النفوس المؤمنة، التي تحتاج دائما إلى تجديد الإيمان بالله و رسوله الأكرم.

وكنت أبقى في المسجد  لوحدي، حيث  أتأمل في منبره، وكتبه، و أمشي في أرجائه، على ركبتي وأشعر حينها بشعور خاص يجعلني أؤمن بديني ودين أسلافنا الأمازيغيين الذين استطاعوا ترك شواهدهم التاريخية وحضارتهم الدينية، والتي لم تعرف في  يوم من الأيام بالأفكار الدخيلة إلينا كمجتمع مسلم.

و يمكن القول ان احيانا يشدني الحنين الى تلك الايام المتميزة في مسجد جدي حيث كانت العائلة مجتمعة حول مائدة الطعام الواحدة و السماع الى تلاوة جدي مع الرجال داخل مسجده حيث هذا قد شكل اسلامنا الامازيغي الاصيل المتجذر في هذه الارض منذ ما قبل الغزو الاعرابي لمنطقة شمال افريقيا بالرغم من ان وقتها أي بدايات التسعينات كانت السلطة ترفض أي حديث عن الامازيغية كقضية ثقافية صرفة و مازالت ايديولوجية الظهير البربري هي السائدة منذ الاستقلال الشكلي الى الان على حقلنا الديني الا ان اسلامنا الامازيغي الاصيل مازال حي عبر قراءة الحزب الراتب كعادة امازيغية و كذا شرط الفقيه الخ من تقاليدنا  .......


     و قلت في سيرتي الذاتية فان علاقتي بالمجال القروي هي علاقة عائلية بالأساس، بمعنى أن أبواي كانوا يمنعوني من رؤية الناس القرويين لكونهم لا يفهمون حالتي الصحية كمعاق و بل أكثر من ذلك لأنهم يكثرون الكلام الطيب أمامك، لكن وراءك ينهشون لحمك بالغيبة المحرمة شرعا .

    وليس معنى هذا الكلام أنني أكره هؤلاء الناس، لكنني أكره تخلفهم القروي الذي جعلني أبكي طوال فترة مراهقتي الحساسة، وستعرفون ماذا أقصد لاحقـــا ...

 

 

دخولي الى مؤسسة الوردة الرملية و التعريف بها بالاختصار الشديد

اولا ان مدينة اكادير كانت تعتبر من المغرب الغير نافع على كل المستويات و الاصعدة حيث ان مجال الاعاقة كان قد انطلق  شيئا فشيئا في مدن المركز اي الرباط و الدار البيضاء عبر تاسيس الجمعيات و المراكز لاستقبال الاطفال المعاقين و اما مدن الهوامش فالامر كان صعب بحكم الفرق الشاسع بين المركز و الهوامش.

و كان ابي من بين المؤسسين  لجمعية الاباء و اصدقاء الاطفال المعاقين ذهنيا بسوس في مدينة اكادير في يوم 28 ماي سنة 1995 حيث كان من بين اهدافها هي اخراج الطفل المعاق من بيتهم و مد يد المساعدة لاسر الاطفال المعاقين الفقراء ...

ان مدينة اكادير عرفت تاسيس اول مؤسسة مستقلة عن الدولة في يناير 1996 على يد سيدة فرنسية مسيحية مقيمة بالمغرب منذ عقود حيث مارست طب الاطفال حيث قلت في سيرتي الذاتية إنني أود في هذا الإطار أن أرد بعض الاعتبار لسيدة آمنت بقضية الإعاقة في ولاية أكادير حيث فقد ناضلت بكل إمكانياتها المادية والمعنوية من أجل تأسيس أول مؤسسة تستقبل الأطفال المعاقين في مدينة أكادير و ربما في جهة سوس، وهذه السيدة عانت الكثير طوال ثلاث  سنوات من عمل هذه المؤسسة.

 فقد عانت من مشاكل مادية بالأساس حيث كانت المؤسسة تعتمد في مداخليها على مساهمات الآباء حسب قدراتهم المالية وعلى بعض إعانات المحسنين.

ان  هذه المرأة الرائعة هي السيدة بصي المستحقة منا كل عبارات الاحترام و الوفاء على تلك المؤسسة التاريخية، والسيدة بصي هي مسيحية الدين، وفرنسية الأصل، لكنها لم تكره يوما من الأيام ديننا الإسلامي وفرائضه، كصيام رمضان، بل كانت تصوم بعض الأيام بشكل تطوعي، باعتبارها تؤمن بشيء أصيل في ثقافتنا الإسلامية ألا وهو التضامن ... لكن بالمقابل كانت تكره الخداع، والتهرب من المسؤولية، خصوصا في العمل الإنساني.و شخصيا لا أثق في بعض التيارات الأصولية التي تعتبر أن المسحيين أو اليهود كفار سيدخلون النار.

 فأنا أعتبر أن اليهود والمسيحيين من أهل الكتاب لهم حقوق وعليهم واجبات داخل مجتمعاتنا الإسلامية...

 

     وفي يناير 1996 أخبرني أبي بأن مدرسة خاصة بالأطفال المعاقين ستفتح بمدينة أكادير، وحينها شعرت بالسعادة و البهجة، لأنني سأذهب إلى المدرسة مثل أختي مريم وأخي ياسين، لكنني لم أكن أعلم أنني  سأكتشف عالما آخر بايجابياته المتعددة وسلبياته.

     في يوم الجمعة 5 رمضان الموافق ل24 يناير 1996، اصطحبني  أبي إلى المدرسة في جو يطبعه الفرح بالنسبة لي، ثم تركني فيها مع خمس مربيات، وكنت أول طفل يفتتح هذه المؤسسة، وكانت المربيات طيبات معي جدا، فقد قمن بمساعدتي على زيارة كل مرافق هذه  المدرسة الواسعة والكبيرة من حيث المساحة، ثم جاءت المديرة بصي لكي ترحب بي، ولكي تمتحن قدراتي الجسمية و العقلية.ومرت الأيام، وجاء الأطفال الآخرون، مثل يونس، وأكرم، ودنيا، وهم جاءوا من حضانة مستشفى الحسن الثاني الخاصة بالأطفال المتخلى عنهم، أي أن هذه المؤسسة كانت مفتوحة في وجه جميع الأطفال المعاقين في الفئات الاجتماعية، وهذا يحمل رسالة مفادها أنالسيدة بصي لا تبحث عن الربح المادي،  بقدر ما تبحث عنتحقيق العمل الإنساني.

     إن الطفل المعاق داخل المراكز الخاصة، يحتاج إلى برنامج متكامل العناصر والمكونات، فأنواع الإعاقة متعددة ومختلفة من طفل لآخر، إذن هذا البرنامج عليه أن يراعي الخصوصيات العقلية والجسمية لدى هذا الطفل أو ذاك.

     إنني حين دخلت إلى المؤسسة، كنت أمارس الترويض الطبي مع إحدى المربيات، ومع المتخصصة في هذا الميدان السيدة شونتال المعروفة بمدينة أكادير، وكنت أقوم بالنطق مع إحدى المربيات أو مع الأستاذ بوعودا، وكنت أتعلم اللغة العربية مع معلمتي، أو مع الأستاذ أكساب، بالإضافة إلى أنني كنت أتعلم اللغة الفرنسية مع أخت المديرة  الأستاذة رينتا.أما بالنسبة لطريقة تعليمي، فإنها طريقة صعبة تعتمد على كتابة الحروف والكلمات على البطاقات الخاصة بهذا الغرض، وأغتنم هذه المناسبة لأشكر معلمتي الاولى التي عملت في هذا  المشروع بجهد كبير.وهناك أنشطة ذات طابع ترفيهي كالموسيقى، حيث كان يأتي إلى المؤسسة شاب يدعى الحسينيقوم بأنشطة موسيقية أسبوعيا.بالإضافة إلى السباحة حيث كنا نذهب إلى قرية الكهرباء قصد حصة السباحة  مرتان في الأسبوع، مع أستاذ الرياضة السيد لحمادي وكنت أحب السباحة لأنها تجعلني أرتاح جسميا ونفسيا، وتجعلني  أمارس الترويض  داخل الماء بكل سهولة وراحة، وكان  أستاذي وصديقي لحمادي  يعمل على جعلي أشعر بالهدوء وعدم التعصب.فالسباحة هي رياضة مفيدة بالنسبة للطفل المعاق،غير أنها لا تصلح في الجو البارد، بل تليق  ابتداءا من شهر ماي حتى شهر أكتوبر، حيث الجو  مناسبا لممارسة هذه الرياضة.كما كنا نمارس الفروسية وبدأنا في نونبر 1996نذهب إلى النادي الملكي للفروسية الموجودة قرب القصر الملكي  العامر بأكادير.
 

     إن الطفل المعاق  إنسان قبل كل شيء، بمعنى أنه يكبر و يكتشف مجموعة من المشاعر و الأحاسيس، تجعله يتصرف  تصرفات  يندم عليها  عندما يصبح شابا له مستوى معين من التفكير والإدراك، لكن هناك نقطة مهمة وهي  كفاءة المربية الأخلاقية والمعرفية في تعاملها  المباشر واليومي  مع هذا الطفل، فالمربية المتميزة حسب تجربتي المتواضعة هي التي تقترب  من الطفل المعاق وتسمع إلى مشاكله وتحفظ السر المهني، وتحترم الإدارة، بمعنى أن المربية عليها توقير إدارتها أمام  الأطفال بالإضافة إلى احترام هوية الطفل الثقافية أو الدينية.وأعترف  لكم  بأنني  كنت صاحب مشاكل في المؤسسة، حيث كنت أتعصب كثيرا، ولا أسمع  من معلمتي وكنت أحطم كل شيء أمامي،  وغيرها من المشاكل. وهذا ليس معناه بأي حال  من الأحوال أن أبواي  لم يحسنوا تربيتي، بل معناه أن الإنسان مهما كان لابد  من أن يتجاوز مجموعة  من المراحل، كمرحلة عصيان أوامر الكبار، لكن بالمقابل أريد أن أعطي بعض  الحقائق حول المربية الاولى التي أحترمها إلى حد الآن، لكنها كانت تعاني من سيطرة الفكر التقليدي، حيث كانت تعد المسحيين كفار سيدخلون النار، وتقول لي دائما من خلال  حصة القرآن الكريم  أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة... بالإضافة إلى أنها  كانت تحتقر هويتي الأم.

 

***


     أما المربية الأخرى، فكنت أعاني  منها من مشاكل جوهرية، حيث  أنها كانت تعمل معي في مجموعة من الأنشطة  كتعليم الفرنسية، والحساب، وتقويم النطق، والخروج إلى أماكن معينة مثل الحدائق و البحر، بهدف الترفيه ...ومن بين المشاكل الكبيرة مع تلك المربية، الكلام الفاحش، حيث أنها تطلق كلاما بهدف تحطيم كرامتي، بل فعلت أكثر من ذلك، حيث ارتكبت أمامي وأمام معلمتي، سلوكا لا يتناسب مع هذا الميدان التربوي على الإطلاق الذي يستوجب الوقار و الاحترام المتبادل بين  الإطار التربوي و الطفل مهما كان.ثم إن تلك المريبة كانت تهين المديرة أمامنا كأطفال، حيث تصفها  بالعجوز و غيرها من الأوصاف المنافية للأخلاق.

 

***


     التقييم لابد منه، جزء من هذه المشاكل تقع على عاتقي كطفل معاق أولا، حيث ارتكبت أخطاء كبيرة في حق معلمتي الاولى وفي حق السيدة بصي بسبب تعصبي الدائم في المؤسسة، كما تعصبت مرة وحيدة في البيت، وحطمت أكواب الشاي أمام عائلتي الموقرة، لكن أبي عاقبني بالضرب حينها، وكنت استحق هذه العقوبة، لأن الطفل مهما كان، يحتاج أحيانا إلى شيء من الصرامة و التخويف، وأحيانا أخرى يحتاج إلى الحنان و التفهم...

     من جهة أخرى فجزء من هذه المشاكل تقع على عاتق معلمتي، لكن صديقتها تتحمل جزءا من المسؤولية، لأنها لم تحترم يوما من الأيام الأطفال وكذا لم تحترم المديرة، التي تبحث طوال تلك السنوات من أجل الحصول على الدعم المادي بهدف أن يستمر هذا المشروع الإنساني بامتياز، لكن هذه المربية لا تهتم بكل هذا.

 


يمكن القول ان الطفل المهدي مالك بدا يكتشف العناصر الجزئية للفكر السلفي لدى معلمته الاولى مثل تكفير المسيحيين و اليهود و مثل احتقار هويته الام عبر القول ان  العربية هي لغة اهل الجنة كأن شخص ما رجع من القبر ليخبرنا ان الله تعالى كان يخاطب عباده المؤمنين بلغة الضاد علما ان هناك مسلمين من ثقافات اسلامية اخرى كالثقافة التركية و الثقافة الفارسية و الثقافة الامازيغية غير ان معلمتي الاولى كانت تقول لي انها تحلم بالسفر الى السعودية لتقيم بجوار المسجد الحرام مع زوج الاحلام غير انني وقتها  مازلت صغير حيث ان عمري لا يتجاوز 13 سنة و اخدت فعلا في تصديقها لوقت معين حتى ادركت في نهاية المطاف ان السيدة بصي ضحت بالغالي و الرخيص من اجل استمرار هذه المؤسسة التاريخية من يناير 1996 الى يوليوز 1999 حيث قررت اغلاق مؤسسة الوردة الرملية لاسباب  مادية و صحية ..  

المدخل الى مشاكلي العميقة مع ايديولوجية التخلف القروي

ان من الصعب علي شخصيا الرجوع بذاكرتي 16 سنة  الى الوراء بغية استحضار مشاكلي العميقة مع ايديولوجية التخلف القروي حيث عندما اتذكر تلك المشاكل اشعر بالحزن و الأسى ...

لا شك لقد لاحظ المتابع لبعض مقالاتي استخدامي لمصطلح ايديولوجية التخلف القروي و هو بالمناسبة من اختراعي المتواضع و الحاجة هي ام الاختراع كما يقال لكن سيطرح البعض السؤال التالي هل ايديولوجية التخلف القروي تمثل الثقافة الامازيغية الاصيلة او تمثل الثقافة المتخلفة داخل المجتمع القروي حيث ارى ان الجواب الثاني هو الصحيح اي ان ايديولوجية التخلف القروي تمثل الثقافة المتخلفة داخل المجتمع القروي ببلادنا حيث ان الاذاعة الامازيغية منذ سنة 1956 الى سنة 2005 كانت ذات خطاب التخلف القروي اي ممانع لاي تقدم مهما كان نوعه و درجته تحقيقا لسياسة المخزن التقليدي الرامية الى زرع التخلف القروي في عقول الامازيغيين بمناطقهم المقصية اصلا  من ثمار الاستقلال من قبيل التنمية الشمولية المرتبطة بهويتهم الحاملة لقيم الديمقراطية و العلمانية حيث ان هذه الايديولوجية عندما تتواجد في منطقة معينة فانها تحارب اي تقدم من قبيل تاسيس الجمعيات التنموية او ذهاب الفتيات الى المدرسة او حتى الاولاد في سياق  تاريخي معين كما حدث لابي الحبيب في اواخر الستينات عندما خرج من دوار اسك و هو مازال ابن 12 سنة هروبا من مشاكله حيث ان سببها الجوهري هو ايديولوجية التخلف القروي  .

 

و عودة الى سيرتي الذاتية لاشرح السياق العام لحدوث هذه الوقائع اي بعد قرار السيدة بصي اغلاق مؤسستنا في يوليوز 1999 و قرار جمعية الاباء و اصدقاء الاطفال المعاقين ذهنيا بسوس حمل المسؤولية فاسست مركز وردة الجنوب بحي الخيام .

و قلت في هذا السياق انني  أعتبر موسم الخيام منعطفا خطيرا في مساري الشخصي، بفعل مشاكلي  العميقة مع فكر التخلف القـــــــــــــروي حيث   كانت جمعيتنا تبحث عن دار للكراء قصد تأسيس مركزنا الجديد، والذي سيحمل المشعل في  قضية المعاق بالمدينة.  فوجدت دارا صغيرة للغاية بثمن  أربعة ألاف درهم..

 وكان الدخول في أوائل أكتوبر من سنة 1999. في أجواء الوضع الجديد وقد تولى إدارة المركز السيد الصمدي، الذي استطاع بفضل تجربته المتواضعة، أن ينجح في تسيير تلك المرحلة الدقيقة.

 وقد تفاجئت عندما ذهبت إلى المركز لأول مرة، حيث صدمني الواقع الجديد، وأقصد هنا عن الحجم الصغير للمقر.

     أخذت أستحضر أيام المؤسسة الجميلة، و أبكي في القسم، الذي هو عبارة عن كراج، وساعدتني المعلمة الثانية زهرة على التكيف والصبر، في ظل هذا الواقع الجديد، وكذلك صديقي المدير الجديد، حيث كان  يقول لي دائما: أصبر يا المهدي، فالله لن يتخلى عنا أبدا، ثم إن الجمعية قادرة على حمل هذا المشعل، وبعد سماع هذه الكلمات، أشعر بشيء من الأمل و التفاؤل. كما تكلمت مع أبي حول هذا الموضوع، فقال لي إن البداية لا بد أن تكون فيها بعض الصعوبات، فجمعيتنا لم تجد إلا هذا المقر الصغير، بسبب إمكانياتها المحدودة ، وهذا الكلام  كله ساعدني على التكيف مع هذا الوضع المفاجئ بالنسبة لي. وكنت قد بدأت في مركزنا الترويض مع المربية خديجة الشوم، كما بدأت تعلم القراءة مع معلمتي زهرة، وكانت تنصحني بقراءة الجرائد الوطنية، وكانت تجعلني أشارك مع الأطفال في حصص التعبير باللغة العربية، لكن للأسف لا يوجد حاسوب في المركز آنذاك، أستطيع من خلاله بدء تعلم الكتابة بهذه اللغة ... . وأما بخصوص الأنشطة التي قام بها مركز الخيام، فهي كثيرة مثل استقبالنا لوفد من المعاقين القادمين من ألمانيا، وحضور سهرة الموسيقى الامازيغية بمسرح الهواء الطلق في إحدى ا لليالي الرمضانية الباردة، وغيرها من هذه الأنشطة ...

و قد اشيرت  الى البوادر الاولى لمشاكلي مع هذه الايديولوجية بالقول انني أتذكر في سنة 1998، ظهرت البوادر الأولى لمشاكلي مع "إيديولوجية التخلف القروي"، حيث بدأت تشكك في أهمية ذهابي إلى المؤسسة، كما أنها بدأت فعل بعض الممارسات بهدف تحطيم كرامتي، و كنت حينها أحدث أبي بشأن هذا المشكل، بحكم أن أبي الحبيب، كان ومازال بمثابة صديقي الواعي بأهمية هذا الموضوع، وأقول، هذه شهادة مني، أنه لم يقمعني أبدا في هذا الشأن، و يجب أن أكون واقعيا في طرحي لهذا الموضوع، لأن أبي سعى دائما إلى إصلاح الأمور و تهدئة المشاكل بيني و بين هذه الإيديولوجية الرجعية، وكنت في تلك الفترة لم اكن أتخيل أن هذه المشاكل ستتطور، و ستأخذ أبعادا أخرى، جعلتني أتجه نحو الجنون، والتفكير في وضع حدا لحياتي..

 إذن سأسير معكم شيئا  فشيئا في التطرق لهذه المشاكل العميقة مع إيديولوجية التخلف  القروي كفكر، لا غير، كما سأحاول الاعتماد على الواقعية والموضوعية، وأسال الله أن يساعدني على هذه المسؤولية التاريخية  الملقاة على عاتقي..

     نحن في شهر رمضان، المصادف لسنة  2000، اخبرني أبي أنه سيسافر مع أمي إلى الديار المقدسة، قصد أداء فريضة الحج العظيمة، وفرحت بهذا الخبر المبارك فرحا شديدا، وبدأت الاستعدادات في البيت لهذه الرحلة بشراء المستلزمات الضرورية لإقامة تامغرا ن الحج او حفل استقبال الحجاج ....

 و تم الاتفاق مع جدتي يامنة ام والدتي، أن تأتي إلى البيت قصد مراقبتنا كأطفال وقتها  وجاءت بنت عمتي فاظمة المكلفة بإعطائي الأكل والشرب باعتباري لا استطيع فعل هذه المسائل لوحدي وأغتنم هذه الفرصة لأشكرها كثيرا، لأنها كانت طيبة معي.

و في يوم الجمعة 19 فبراير 2000، ودعنا أبواي العزيزين، في جو الاحتفال و البهجة...و كانت جدتي يامنة حينها، ذات طابع تقليدي ببعده السلبي، حيث كانت تتصرف معنا بالصرامة، ولا تجعلنا نشعر بحنانها، وهذه هي جدتي فهي بالإضافة إلى أنها مصابة بمرض.
وأخبركم بأنني كنت أتبول في فراشي بالليل، بسبب إعاقتي وعدم استيقاظي في الليل لقضاء حاجتي، وقد عاقبني أبي عدة مرات بسبب هذا السلوك الغير المناسب بالنسبة لمراهق  بلغ ستة عشر سنة، غير أن جدتي قررت كيي بالنار على ظهري قصد العلاج والعقاب في نفس الوقت...

    أما "إيديولوجية التخلف القروي" فاستغلت هذا الفراغ الواضح على المستوى الفكري، وعلى المستوى العاطفي، بشكل عجيب لجعلي أعيش فوق الجحيم كأنني غريب في بيتنا، من خلال تأسيس  مجموعة من الأفكار القائلة أنني لن أستطيع الوصول إلى أهدافي المستقبلية آنذاك كالقراءة، والكتابة، فهي تسعى أن أبقى في بيتنا بلا تعليم، وبلا ترويض طبي، وكنت حينها أشعر بالاحتقار، خصوصا أنني وحيد في هذا العالم الأسود أنذاك...

 ولم أفكر في إخبار عائلتي بهذه المشاكل، بل أخبرت صديقي السيد الصمدي ومعلمتي زهرة، والسيدة بصي، التي كانت تستعد آنذاك للسفر إلى فرنسا قصد إجراء العملية الجراحية.

 واستمرت مشاكلي مع هذه الإيديولوجية، حيث بدأت بعض الممارسات الرامية إلى تحطيم كرامتي و شرفي...صبرت وبكيت كثيرا في قلبي، ثم بدأت التفكير بشكل حقيقي في الانتحار كحل نهائي...
وفي يوم الأحد 12 مارس كنت مستعدا لفعل هذا العمل المحرم شرعا فصعدت إلى سطح بيتنا بدون أن يشعر بي أحد، وصليت الظهر هناك، وفجأة صعد أخي ياسين ذو العشر سنوات، وسألني ماذا أفعل هنا، فقلت له أنني أرغب في الانتحار، وذهب مسرعا لإخبار العائلة، واقتربت من الموت، لولا تدخل احد اخوالي  الذي ضربني على وجهي، وله الحق لأن العائلة تعتبر المسؤولة على سلامتي، وبعد ذلك أجبرني على سماع كلامه حول الانتحار....

 

 وكان يومها لا يعرف شيئا عن مشاكلي العميقة، تم بدأت العائلة في سؤالي عن الأسباب التي جعلتني أفكر في هذا الاتجاه، ورفضت الرد لأنني كنت أفضل انتظار رجوع أبي من الحج قصد التحدث معه في هذا الفعل لكن أختي مريم أجبرتني على قول الحقيقة.أما  المركز في تلك الفترة، فكان يستعد لإحياء اليوم الوطني للمعاق، المصادف ل 30 مارس وذلك بتنظيم التظاهرة الرياضية في دار الشباب الحي الحسني، بتعاون مع جمعية نادي المدينة، وذلك يوم الجمعة 24 مارس 2000 ، وفي نفس اليوم سيرجع أبواي من الديار المقدســـــة...

  في صباح يوم العيد الذي يصادف يوم الجمعة 17 مارس، استيقظت باكرا كما هي العادة، فوجدت بنت عمتي فاظمة تحضر فطور العيد حسب التقاليد السوسية، ويتكون هذا الأخير من طبق الأرز والحساء الشهي والشاي ...ثم اجتمعت العائلة ..

     و بقينا مع جدتي المريضة يومها أنا ومريم وهي المكلفة  بإعداد الغذاء، وأما المهدي مالك فيشاهد مع جدته صلا ة عيد الأضحى، التي أداها أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس بالرباط، ثم شاهدنا التسجيل الكامل
لصلاة العيد من مكة المكرمة.

    و بعد ذلك جاء ابن خالة أبي عندنا قصد تقديم التهاني وتفقد أحوالنا، و من العادات الطيبة لسي محمد زيارتنا في كل الأعياد الدينية.

في منتصف النهار قالت لنا جدتي يجب أن ننتظر مجيء جدي، الذي كان إماما في نواحي منطقة أورير، وكان اليوم جمعة، أي عليه أن يصلي العيد ثم  صلاة الجمعة ، وانتظرنا حتى الثالثة بعد الزوال، ثم جاء جدي وتناولنا غذاء العيد المعد من طرف مريم و كان لذيذا، و شعرت حينها ببعض الراحة و الاستراحة من تحرشات إيديولوجية التخلف القروي، لكنني لم أكن أعرف ماذا ينتظرني في الأيام القادمة...

 

   وفي مساء ذلك اليوم، جاءت احدى خالاتي مع زوجها الموقر وأطفالهم. وأعترف بانها  كانت طيبة معي، حيث كانت تعطيني الأكل والشرب وتعاملني بالحنان، وبنوع من الاحترام، كما أن خالتي فاطم تعاملني كأنني ابنها،  ..

     في مساء يوم الأحد 19 مارس، دخلت إلى غرفتي قصد الخلود إلى النوم، بعد أجواء العيد الطيبة والسعيدة نسبيا، والتي جعلتني أنسى مشاكلي لبعض الوقت. أخذت الاستماع للإذاعة الأمازيغية، التي كانت تبث أغاني الرايس لحسين أخطاب، وأثناء الاستماع إليه، بدأت طرح مجموعة من الأسئلة حول مستقبلي المجهول آنذاك، حيث كنت لا أتخيل أنني سأصل إلى هذا المستوى المتواضع في يوم من الأيام، بل كنت قد فقدت الأمل في هذه الحياة، التي كان يطبعها الظلام بالنسبة لي، وهذا كله جعلني أفقد صوابي والبكاء بقلبي الحزين .

     في اليوم الموالي، أي الاثنين، استمرت هذه الإيديولوجية في تعذيبي بشتى طرقها المعروفة كالكلام الساقط، والإهانة الرامية إلى تحطيم آمالي، وهذا جرى أمام عائلتي، وفي وقت تناول الطعام ، وكنت لا أرغب في الأكل، بيد أن فاظمة كانت تجبرني على تناول الوجبات.

 

 يعد يوم الخميس 23 مارس 2000 ، يوما لا ينسى في ذاكرتي العميقة، حيث كنت قد ذهبت في الصباح إلى المدرسة، فرحا بمشاركتي في التظاهرة الرياضية التي ستقام في اليوم  الموالي، وفرحا كذلك لأنني سأحتفل برجوع أبواي من الحج والذين سيعودان في نفس اليوم، وقد خططت لذلك اليوم المبارك سالفا، حيث طلبت من خالتي لطيفة تحضير طبق من الكسكس كي أتناوله مع المربيات في المركز و ثم أذهب معهم إلى دار الشباب الحي الحسني، مكان هذه التظاهرة، ثم أرجع معهم إلى البيت في المساء قصد الاستعداد لهذه المناسبة العظيمة.

غير أن خطتي قد تبخرت بسبب إيديولوجية التخلف القروي، التي قررت تحطيمي بشكل نهائي، وضربت تحت عيني اليمنى و فعلت سلوكا لن أنساه طوال حياتي وكانت هذه الضربة المؤلمة حدثت في طريقنا إلى المركز على الساعة الثانية بعد الزوال...
     وكنت عندها قد فقدت صوابي بالبكاء الشديد بدون توقف، ووصلت إلى المركز في تلك الحالة، فدخلت مباشرة إلى  مكتب السيد الصمدي، فرأى الضربة الواضحة على وجهي، وقال لي و هو غاضب: من الذي ضربك، فقلت له ما حدث، و قال هذه الإيديولوجية هي في واقع الأمر حيوان لا يعرف الرحمة ومعنى الإنسانية، وبقيت عنده أبكي بكاءا جعلي أدخل إلى مرحلة الجنون، واقترح علي أن أذهب إلى القسم، لعلي أشعر بالهدوء مع الأطفال، فذهبت إلى القسم لكنني لم أتوقف عن هذا البكاء الشديد، فاقترحت معلمتي أن اذهب إلى مكان الترويض عند المربية خديجة، فذهبت عندها، لكنني لم أتوقف عن هذا البكاء الرهيب، بل كنت أتخيل وجه هذه الإيديولوجية و هي تضحك علي فكاد عقلي يصاب بالجنون، لكنني استطعت العودة إلى صوابي لحسن الحظ.
وفي الساعة الرابعة و النصف، أي وقت الخروج دخلت مريم إلى مكتب صديقي الصمدي، من اجل إخباره بما جرى لشقيقها المعاق

    وفي البيت استمر البكاء الشديد بدون توقف في غرفتي، حيث كنت أتساءل سؤالا وحيدا وهو لماذا يحدث لي هذا الآن بالضبط، ثم اتخذت قرارا لا رجعة فيه ألا وهوإخبار العائلة بمشاكلي مع هذه الإيديولوجية، وفعلا خرجت من غرفتي فرأيت خالتي فاطم جالسة في غرفة الجلوس لوحدها، فذهبت إليها و هي تستغرب من حالتي، ثم سألتني ماذا بي تحت عيني، و حاولت أن اشرح لها بالإشارات لانني لا اتكلم فلم تفهم في البداية ثم شرحت لها مريم  فغضبت غضبا شديدا من هذا التصرف، وأخبرت كل أفراد العائلة الحاضرة يومها.

وبعد ذلك بدأت أشعر بالحمى، بفعل تعصبي الشديد، و هذا يحدث لي أول مرة في حياتي، واهتمت خالتي فاطم بي، حيث أعطتني الدواء والأكل، وكنت حينها لازلت أبكي لكن بشكل قليل، واستمعت إلى أغاني الرايسة فاطمة تاباعمرانت لعلي أشعر ببعض الراحة على المستوى النفسي، فالموسيقى بشكل عام مفيدة لمثل هذه الحالات.
     وفي الساعة الحادي عشرة ليلا ذهبت إلى فراشي قصد الخلود للنوم بعد يوم أسود في حياتي، كمراهق معاق، يريد فقط أن يحتفل مع عائلته بعودة أبويه، لكن إيديولوجية التخلف القروي حطمت هذا الحلم وجعلته كابوسا يطارده حتى الآن.

و في  اليوم الموالي، أي الجمعة 24مارس 2000، استيقظت في حالة نفسية مستقرة نسبيا، و لم اذهب إلى المركز في صباح ذلك اليوم، لأنني محتاج إلى الراحة على كافة المستويات، وحظيت بالتعاطف من كافة أفراد العائلة و هذا التعاطف اعتبره مساندة لي و تضامنا فعليا من العائلة.وفي الساعة الحادية عشرة صباحا، قررت الذهاب إلى المركز بهدف المشاركة في التظاهرة الرياضية، فقمت إلى الغسل بالماء فقط، لأنني لا أستطيع وضع الصابون على جسمي إلا بمساعدة من أمي، ثم لبستملابسي الرياضية ، وساعدتني فاظمة على لبس حذائي..

    بعد الزوال في المركز، كانت الأجواء جميلة في صفوف الأطفال والمربيات، وكان صديقي الصمدي مشغول في آخر التحضيرات لإنجاح هذه التظاهرة الأولى في تاريخ مركز وردة الجنوب، ثم انطلقنا في سيارة جمعيتنا نحو دار الشباب الحي الحسني، وكنت حينها مستعدا للمشاركة في مسابقة المشي لمسافة  خمس عشر مترا كتحد بالنسبة لي، ووصلنا إلى هناك ووجدنا أستاذة الرياضة عائشة والأستاذ أزداك، الذي سيعلق على التظاهرة.

    بدأت التظاهرة بمسابقتي فاستطعت تحطيم كل الهواجس النفسية وفزت بالميدالية الذهبية التي جاءت في ظرف حساس من حياتي.

ثم تابعت كل المسابقات كالجري، وكرة السلة، وكان أطفالنا قد قدموا عروضا رائعة.

     وفي ختام التظاهرة ثم توزيع الميداليات على الأطفال الفائزين،كما تم توزيع المشروبات.

      بعد ذلك، ذهبنا إلى المركز ،ثم رجعت إلى البيت معهم ،وكان الصمدي يهنئني بهذا الانجاز الفريد من نوعه، و كذلك معلمتي وهذا الفوز جعلني اشعر بالفرح، والأمل في هذه الحياة.

و في البيت كانت العائلة قد ذهبت إلى المطار قصد استقبال أبواي، وذلك على الساعة السادسة مساءا ،وبقى في البيت كل من احدى خالاتي و بنت عمتي فاظمة، بغية تحضير الفطائر، وعشاء الضيوف، الذين سيأتون بهذه المناسبة العظيمة عندنا كمجتمع أمازيغي ،متشبث بهويته الإسلامية المغربية منذ عهد طارق بن زياد، إلى عهد الأستاذ الجليل الحسين جهادي أباعمران، الذي حقق مشروع ترجمة معاني القران الكريم إلى اللغة الأمازيغية.
    وعلى الساعة السابعة مساءا من ذلك اليوم المبارك، اتصل بنا أبي من تونس ليخبرنا بأنهم سيتأخرون إلى العاشرة ليلا ،لأن طائرتهم نزلت في مطار تونس للتزود بالوقود.وكنت عندها قد لبست ملابسي التقليدية مع ميداليتي الذهبية ،ثم سمعت نداء خالتي  فذهبت إليها لتنبهني على ضرورة كثمان ما حدث لي عن أمي لأنها ستبكي ، إضافة إلى أن الوقت غير مناسب نهائيا لطرح مثل هذه المشاكل، لكنني كنت أفضل التحدث مع أبي لوحدنا، لكن القدر قال شيء آخر.

بدأ الضيوف يأتون إلى البيت شيئا فشيئا، أما العائلة فكانت حاضرة كلها، باستثناء عمتي عائشة و خالتي بشــــرى.

و انتظرت وصولهما حتى غلبني النوم، فحلمت أنني أسير  في الظلام ومتاهات لا نهاية لها، أبدأ، حيث كنت لا أعلم أين الطريق الصحيح، ولا أعرف أين النور الذي سيساعدني على إيجاد الحل لمشاكلي مع إيديولوجية التخلف القروي.

     وفي منتصف الليل استيقظت فجأة على وقع أصوات السيارات، معلنة عن وصول الحجاج إلى بيتهم، وإلى أبناءهم، وحضنت أمي الحبيبة، وأبي الحبيب الذي أصبح يتوفر على اللحية التي لم أراها منذ طفولتي، وكانت أمي في أبهى حلة من الجمال.

 


     في مساء يوم السبت 25مارس، وقعت في فخ كبير صنعته إيديولوجية التخلف القروي، بفعل الأكاذيب الوهمية، التي نسبتني إلى الجنون، وهدفت إلى القضاء على آخر آمالي في الاحتفال بهذه المناسبة. نجحت هذه الإيديولوجية بطردي من دنيا الأفراح إلى سجن الإهانة والحزن العميق في قلبي الجريح، بل أدخلتني إلى عالم آخر ذو متاهات كثيرة، جعلتني أحلم بالكوابيس الرهيبة في الليل و في النهار، حتى كاد عقلي أن يصاب بالجنون فعلا، وبالتالي لم أتذوق طعم هذه الذكرى.
     وحين علمت أمي بما جرى، بكث كثيرا، أما أبي، فكان مشغولا بتحضير الحفل الديني، وكذا مع ضيوفه الكرام، وأنا  أتفهم وضع أبي كرجل رجع للتو من مشاق السفر، ليجد هذه المشاكل و مشاكل أخرى، ولو كنت في مكانه، فلا أعرف ماذا افعل، أو من أصدق، و من أعاقب...

في يوم السبت فاتح أبريل، ذهبت العائلة إلى إسك قصد إقامة تامغرا ن الحج في بيتنا، أما أنا فبقيت في البيت مع  احد اخوالي الذي كان طيبا معي، وكنت حينها في أسوء حالاتي النفسية، حيت كنت أسافر إلى كوكب العذاب والكوابيس، واستمر هذا الحال شهور عديدة....

حاولت ان استخلص الدروس من هذه التجربة المؤلمة لفائدة المعاق في البادية المغربية بالقولان  هناك دروس مستخلصة من أي تجربة إنسانية على وجه هذا العالم....

 لكن أهم درس استخلصته من تجربتي المؤلمة، هو واقع المعاق الذي يعيش في البادية المغربية، سواء الناطقة بالأمازيغية أو بالدارجة المغربية، وما وقع لي هو شيء قليل للغاية، مقارنة مع ما يجري للمعاق القروي الذي لا يتوفر على أبسط حقوق الإنسان، كالحق في الخروج من البيت، إلا في حالات المرض أو الوفاة.وهنا يظهر السؤال الكبير بالنسبة لي الا وهو إلى متى سنظل نهتم بشؤون غيرنا من شعوب منطقة الشرق الأوسط، ونترك شؤون تنمية مناطقنا المهمشة؟ فهي مناطق كأنها تعيش في العصر الحجري، أي أنها لا تعرف مفاهيم الوقت الحالي كالتقدم والحرية....
غير أن البعض، يجري ويتجه نحو هذه الشعوب الغنية، وينسى أننا شعب يعيش نصفه تحت خط الفقر الفاحش،
و ينسى كذلك أن هناك فئة تسمى بالمعاقين، يعيشون كأنهم حيوانات في المجال القروي .

إن المعاق القروي يستحق الاهتمام الرسمي من طرف الدولة بمختلف مؤسساتها

 بهدف وضع تصور وطني يرمي أولا إلى القضاء على أمراض هذا الوسط مثل إيديولوجية التخلف القروي، والشعوذة من خلال تقديس الأولياء الصالحين وقبورهم الشريفة، و شخصيا لست ضد إقامة المواسم الدينية باعتبارها تعتبر من مظاهر هويتنا الإسلامية المغربية، لكنني ضد استغلال هذه المواسم لنشر خرافاتنا الشعبية، ويرمي هذا التصور الشمولي للنهوض بهذه الشريحة العريضة على كافة المستويات بالنسبة لحياتهم اليومية، كالترويض الطبي، من خلال إحداث أقسام خاصة لهذا الغرض داخل المراكز الصحية المتواجدة في البادية..

وعلى مستوى التعليم، فدور الجمعيات العاملة بمجال الإعاقة في المدن كبير في هذا السياق، لكنها مجبرة الآن، إلى الانتقال للبادية بهدف توعية الناس بلسانهم الأصلي، بأن المعاق عليه أن يتعلم مثله في ذلك مثل أطفال
القرية.

و كما أن جمعيات المجتمع المدني لها دور حيوي في تنمية بلادنا على مختلف الأصعدة، و خصوصا في العالم القروي.

لا بد من الإشادة بالعمل الجمعوي في جهة سوس، حيث استطاع أن يحقق أشياء مهمة في المجال القروي، مثل إصلاح الطرق القروية ... إلا أنه تجاهل دوره الأساسي بالنسبة للنهوض بأوضاع المعاق القروي، من خلال توفير أسباب العيش، والكرامة الإنسانية، وإنقاذه من سجن إيديولوجية التخلف القروي، وإدخاله إلى عالم المعرفة و الاعتزاز بهويته الأصيلة.

  يمكن القول ان هذه التجربة المؤلمة لها جوانب ايجابية حيث لو  لم يحدث لي هذه المشاكل فلن اكتشف معانات المعاق في المجال القروي و لن انطلق في مساري الطويل مع القراءة  حيث كان ابي يجبرني  منذ ذلك الوقت على قراءة الكتب بشتى المعارف و كذا معلمتي زهرة و السيد الصمدي الخ حتى وصلت الى كتابة اول مقال لي  في اكتوبر 2005 في موقع الحوار المتمدن حول المسالة الامازيغية حسب تصوري انذاك أي كنت ادافع عن المعهد الملكي للثقافة الامازيغية و كنت اتساءل وقتها عن ما يسمى بالظهير البربري  من قبيل هل اجدادنا قد تنصروا بالفعل و هل هناك اية علاقة بين الامازيغية و الاسلام الخ من اسئلة البداية ...

سفري الاول الى باريس في يونيو 1999       

قلت في سيرتيكان  سفري الأول إلى العاصمة الفرنسية مع معلمي السيد الصمدي قد شكل بالنسبة لي فرصة للتعرف على النموذج الفرنسي المتقدم في مجال الإعاقة.

 فان الدولة الفرنسية استطاعت توفير حقوق عديدة للمواطنين بصفة عامة، والمعاقين بصفة خاصة، بحكم أنها دولة تتبنى الديمقراطية والعلمانية، أي الفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي.

 والمعاق هناك، يتوفر على كامل حقوقه في الرعاية من طرف الدولة، أو من هيئات المجتمع المدني، التي تدير المراكز الخاصة باحترافية متميزة ...

 

  يوم الأحد 20 يونيو 1999  كنت مستعدا للسفر، ولم أشعر بالخوف من المجهول، لأنني وضعت الثقة في صديقي العزيز وكذلك في أبواي، اللذان سمحا لي بخوض هذه التجربة الأولى ودعت أسرتي ثم ذهبت مع أبواي إلى مطار المسيرة، وفي الطريق إليه، كان أبي يعطيني النصائح الرامية إلى حسن التصرف عند الفرنسيين...

     وصلنا إلى المطار، ووجدنا هناك السيدة بصي، ومعلمتي زهرة، والسيد الصمدي، ثم جلست على  الكرسي المتحرك، وودعت الجميع. انطلقت الطائرة في منتصف النهار على بركة الله، وكان رأسي يؤلمني، لكن فرحتي جعلتني أنسى هذا المشكل الصغير، ومن حسن الصدف أن المتخصصة في الترويض الطبي لدى مؤسستنا كانت مسافرة معنا في الطائرة، وصلنا إلى مطار باريس الدولي على الساعة الخامسة مساءا بالتوقيت المحلي، وهناك استقبلتنا رئيسة جمعية الآباء بالمركز الذي سنذهب إليه، وهي مغربية الأصل، ولها ابن معاق ذو خمس سنوات، وذهبنا معها إلى منزلها، وفي الطريق شرح لها السيد الصمدي طبيعة مؤسستنا، وعملها مع الأطفال ...

 

      في صباح اليوم التالي، ذهبنا  مع رئيسة الجمعية إلى المركز، وهذا الأخير كبير من حيث المساحة، وطاقمه المتعدد المهام، و يتوفر هذا المركز على الحواسب الكثيرة، والكراسي التي تعمل بالطاقة الكهربائية، ومعدات أخرى متطورة ومتناسبة مع درجة إعاقة الطفل، ومرافقه الصحية مجهزة ومناسبة لإعاقة هذا الطفل أو ذاك.
     يستقبلنا مدير المركز بالترحاب، وكذا الطاقم العامل، ومن بينهم سيدة مغربية تدعى زهرة باني، وهي رئيسة مصلحة جديدة علينا، حيث تهدف إلى جعل كل شيء مناسبا للمعاق في حياته اليومية.

 وتم  عرض شريط فيديو حول مؤسستنا أمام الأطفال وأمام الطاقم، والسيد الصمدي هو الذي يشرح لهم كل شيء عن مؤسستنا، بعد ذلك توجهنا إلى قاعة الحواسب، بهدف التعرف على طريقة عمل المعاق الخاصة في الحاسوب، حيث كنت لا أستطيع الضغط على لوحة المفاتيح لهذه الآلة بسهولة، وكان السيد الصمدي يعلمني الرسم على الحاسوب آنذاك.

 

     في منتصف النهار، يجتمع كل أطفال المركز لتناول وجبة الغذاء، وكان السيد الصمدي يعطيني الأكل  أولا ثم يلتحق بالطاقم بعد ذلك، وكنت أبقى مع الأطفال الذين هم من جنسيات مختلفة و وجدت المغاربة، والجزائريين، وحتى الهنود.وبعد الزوال، كنا نجتمع في القسم بغاية الكلام عن مواضيع تتعلق بالحياة، والتواصل، و كان طفل لا يتكلم، كما أنا، بل  يملك كتاب التواصل الخاص به، ويتضمن هذا الكتاب كل الصور ترمز إلى الأفعال، أو الحالات النفسية، والملابس، والفصول... وهو من الأشياء الضرورية بالنسبة لحياة هذا الطفل، وهذا الكتاب التواصلي هو أساسي وضروري وجوده في البيت، وفي المركز حيث نستطيع أن نخترع كتاب التواصل الخاص بالمعاق المغربي، يتضمن كل مناحي حياته المغربية -. وفي المساء، كنت أخرج مع السيد الصمدي للتجول في شوارع باريس، وأنا جالس في الكرسي المتحرك، أكتشف سحر هذه المدينة العالمية، ومحلاتها الشهيرة التي تبيع الملابس والحلويات...

     كنا نرجع إلى المركز في الساعة التاسعة مساءا، حيث الشمس لم تغرب بعد، وكنا ندخل إلى  غرفنا قصد الاستراحة، والنوم، وأشير هنا أننا تناولنا العشاء مع أطفال المركز على الساعة السادسة والنصف، أي قبل خروجنا للتجــول.

 

     في اليوم الرابع من تواجدنا في المركز، ذهبنا مع الأطفال وطاقمهم التربوي لزيارة معرض حول الماء في المغرب، المنظم بمناسبة سنة المغرب هناك، أي في فرنسا، ثم قمنا بزيارة دار المعرفة الفرنسية، وكنت أحب الاستطلاع، فصنعت مشكلة، كنت أمشي على الكرسي المتحرك في أنحاء الدار بدون مشاورة السيد الصمدي، الذي كان غاضبا مني، وله كامل الحق لأنني لم أدرك حينها أنه كان يعتبر مسؤولا على سلامتي البدنية والعقلية أمام أبواي العزيزين، وأمام المؤسسة، وأنا أتحمل المسؤولية في هذا المشكل...فالإنسان، كائن حي يرتكب الأخطاء والذنوب، إلا أنه لابد من الرجوع إلى الطريق المستقيم، والقيام بالنقد الذاتي، كثقافة علينا أن نقبلها في مجتمعنا المغربي. في مساء ذلك اليوم، طلبت الاعتذار من صديقي الصمدي، فتقبل اعتذاري، ومنذ ذلك الحين أصبحت صداقتنا قوية، ومتينة وساهمت الظروف اللاحقة فـي  جعـل  الصـداقـة  مبـنيـة  علـى  الصـراحة   وتبـادل

 أســـــرارنا...

 


     في مساء اليوم، خرجنا لتناول العشاء في الهواء الطلق، قرب البرج الشهير بباريس، واغتنم هذه الفرصة لأعرفكم على صديقي هناك، وهو جزائري الأصل اسمه مصهب، وهو يعاني من إعاقة مثلي، إلا أنه يتكلم، كما تعرفت على أصدقاء آخرين، وجربت قيادة الكرسي الكهربائي هناك، وشعرت بالسعادة والرغبة في امتلاك مثله في أكادير.وفي آخر الأسبوع، ذهبنا مع رئيسة الجمعية

للزيارة بعض الأماكن التاريخية والسياحية، التي تتميز بها هذه المدينة الرائعة واستمتعنا كثيرا في هذه الجولة...

 لكنني لم أنسى بلدي الأم المغرب، ولا هويتي الأم الأمازيغية،  بل كنت مشتاقا للعودة إلى أرض الوطن، والعودة إلى أهليوفي يوم الاثنين، كنا نستعد للرجوع إلى أرض الوطن، وشكرنا كل أفراد طاقم المركز وأطفاله على كرم الضيافة وتكوينهم لنا.


العودة من باريس


     وفي اليوم الموالي، أي الثلاثاء 29 يونيو 1999، ذهبنا إلى مطار باريس الدولي في منتصف النهار حسب التوقيت المحلي، فوجدنا مسافرين كثيرين ينتظرون طائراتهم، ووجدنا هناك مجموعة من الخليجيين ينتظرون طائراتهم، وانتظرنا بدورنا قليلا، فصعدنا إلى الطائرة التي ستحط في مطار محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء، وأخيرا وصلنا إلى مطار المسيرة على الساعة الخامسة مساءا، ووجدنا في استقبالنا أبي وأمي بالإضافة إلى خالتي لطيفة، وكان اللقاء جميلا وحارا، وفي الطريق إلى البيت دار حديث رمزي بين أبي وبين السيد الصمدي حول مجموعة من الأمور، التي سأكتشفها حين ذهابي إلى المؤسسة في الغد أي قرار اغلاق مؤسستنا ..

في البيت استقبلوني بالحب والعناق الحار، كأنني سافرت مائة سنة، واسترحت في غرفتي بالاستماع إلى الإذاعة الأمازيغية، ثم تناولنا العشاء جماعة......

 

رحلاتي المدرسية مع مركز وردة الجنوب

و اختم هذا المقال المطول برحلاتي مع مركز وردة الجنوب التي لن تنسى حيث قلت في سيرتي الذاتية
 

     تعد رحلة الصويرة، أول رحلة ينظمها مركزنا  بحي الخيام  وذلك يوم السبت 12 ماي 2000.

 وكنت قد استيقظت على الساعة السادسة صباحا مع أمي التي غسلت لي، وساعدتني على لبس ملابس الرحلة ثم توجهنا إلى المركز بحكم أن الحافلة ستنطلق على الساعة السابعة والنصف، ووصلنا إليه، فوجدنا الآباء مع أبناءهم، والحافلة..

 غير أن السيد الصمدي اقترح علي الركوب في سيارة أمين المال الأستاذ لحسن مادزيري، وكان معه الأستاذ أزداك حيث انطلقت هذه الرحلة في أجواء المتعة والفرح بالنسبة لنا كأطفال يعشقون السفر، والتعرف على ملامح ثقافتنا المغربية الضاربة في أقدم العصور حيث تعايش أجدادنا الأمازيغيين مع مختلف الحضارات، واعتنقوا الديانات السماوية الثلاث ومنها اليهودية كديانة تعد بعيدة كل البعد عن ما يجري الآن في منطقة الشرق الأوسط، وحتى اليوم مازال بعض الأمازيغيين يعتنقون هذه الديانة كاختيار شخصي، إذ أن الثقافة المغربية تم تأسيسها على قواعد الاختلاف الإيجابي، والتسامح الديني، بعيدا عن الإيديولوجيات الدخيلة.
     وصلنا إلى مدينة الصويرة في الساعة العاشرة صباحا، وكان الجو فيها جميلا، بالرغم من كونه باردا بعض الشيء حيث توجهنا إلى ميناء المدينة، للتعرف على أنواع السمك المتوفر هناك، بحكم أن الصويرة مدينة ساحلية، ذات طابع مميز يجعلك كأنك تعبر الزمن إلى الوراء، من خلال مشاهدة مجموعة من الأشياء كالبيوت القديمة، ومحلات الصناعة التقليدية، التي ترسل لنا عدة رسائل، مفادها أننا شعب عليه الحفاظ على تراث الأجداد وتطويره، دون طمس ملامحه الأصيلة، لكن بعضنا أصبح ينظر إلى هذا التراث، نظرة تحمل مجموعة من الأفكار القائلة أنه يجب أن يموت بدون شهادة وفاة، بغرض أن نشبه بعض المجتمعات التي تمنع قيادة المرأة للسيـــــــــــــارة...

 وكنت جالسا على كرسيي المتحرك استمتع بهذه الرحلة، واستمتع بأجواء التنشيط التي خلقه الأستاذ أزداك، بهدف إدخال السرور إلى قلوبنا حيث أعترف لكم بأنني لم أضحك منذ فترة، بحكم مشاكلي السالفة الذكر..

 وتوجهنا بعد التجوال في الميناء، وبعض الشوارع العتيقة إلى مركز خاص باستقبال الأطفال المعاقين، واستقبلنا مدير المركز أحسن الاستقبال، و هذا المركز كبير من حيث المساحة، تسيره جمعية الآباء مثلنا غير أنه أي المركز يتوفر على مداخل قارة كامتلاكه لمحطة الوقود.

     وبعد هذا الاستقبال المبارك، تناول الجميع وجبة الغداء جماعة، في أجواء عائلية، واستمتع الأطفال بعزف السيد جمال على آله العود، واستمتعت أنا كذلك، فأنا أتوفر على أذن تعشق الموسيقى المختلفة، سواء العربية مثل موسيقى عبد الحليم حافظ ... وكذا الموسيقى المغربية الشعبية كمجموعة جدوان... لكن أذني تظل متشبثة بالموسيقى الأمازيغية التراثية خصوصا فن الروايس، الذي هو بمثابة مدرسة كبرى، تعطينا و تعلمنا العديد من القيم الاسلامية (تعليم الصلاة والحج...) والوطنية ...
وأذني تعشق كذلك الموسيقى الأمازيغية المعاصرة كالمجموعات مثل أوسمان وإزنزارن ....

      وفي مساء ذلك اليوم، رجعنا إلى عاصمتنا السوسية، بعد أن استمتعنا بهذه الرحلة المتميزة، التي جعلتني استرجع ابتسامتي وراحتي النفسية، وقد اشتريت هناك هدية لأبي الحبيب.

 و هنا استحضر صديقي لحسين لوهو من الجنوب الشرقي حيث كان مدير مركزنا بحي الداخلة حيث قضنا موسم واحد  بحي الخيام ثم انتقلنا الى فيلا كبيرة في شنتبر 2000 بحى الداخلة.

غير ان لحسين هولو اصبح المدير في سنة 2004 حيث قمنا برحلة لا تنسى الى منطقة افلا ن اغير حيث قلت في سيرتي الذاتية   إن الإنسان المنتمي لهذه الأرض الطاهرة عليه أن يتذوق أصالة أجداده الكرام بكل أبعادها وعليه أن يقرأ تاريخهم المجيد، والشاهد على أنهم متمسكون بالدين الإسلامي ومقاومة الاستعمار الأجنبي سواء الفرنسي أو الاسباني.

 فان هؤلاء الأسلاف قاوموا الاستعمار بالسلاح، وكذا بالشعر الامازيغي .

في إطار أنشطتنا الثقافية والترفيهية قمنا برحلة تاريخية إلى جبال الأطلس الصغير مع جمعية فرنسية عاملة في مجال الإعاقة  و التي جاءت إلى مركزنا قصد تبادل التجارب وقضاء والترويح عن النفس.
و كان يوم الجمعة 30 أبريل 2004 حيث كانت المربيات مشغولات في تحضير أطفالهن.وأما المهدي مالك فإنه في مكتب الإدارة مع صديقه المدير و صديقه والأستاذ أزداك الذي سيرافقهم في هذا السفر الشاق  عبر رموز أصالتنا الامازيغية الثقافية، والدينية..

 وكما أن المهدي مالك سيكتشف من خلال هذا  السفر التاريخي والرائع في آن واحد، بعض الحقائق التي ستساعده كثيرا.

     كانت الانطلاقة على الساعة التاسعة صباحا أمام مركزنا في سيارتين، هما سيارتنا المدرسية، وسيارة ضيوفنا الأعزاء ،وكان الجو جميلا في السماء، وكذا في صفوف الأطفال والمربيات. ركبت في الإمام مع الأستاذ أزداك الذي اخذ يتحدث عن ذكرياته في منطقة ماسة، حيث بدأ مساره كرجل تعليم في ثانوية المسيرة المتواجدة هناك...

 وصلنا إلى مدينة تيزينت الشامخة بشموخ أسوارها العتيقة والتي ترسل إلينا عدة رسائل مكتوبة بحروف تيفيناغ الأمازيغية، مخاطبة الأجيال الحالية والقادمة بضرورة رد الاعتبار للهوية الامازيغية بكل أبعادها.
وهذه المدينة تحتفل بتراثنا العريق من خلال إقامة مهرجان "إمشعار" في كل عاشر من محرم، و"إمشعار" هي ظاهرة تشبه ظاهرة "بلماون" غير أن إمشعار تحتفي بالتسامح الديني،فهي تشرك العنصر اليهودي من خلال تمثيل دور اليهودي في المسرحيات التراثية والمعبرة عن رسائل رمزية تحطم الأصنام الدخيلة إلينا تحت شعارات مختلفة..

.أخذنا نتجول في سوق المدينة حتى وصل وقت الغذاء، فتوجهنا إلى أحد الفنادق الصغيرة قصد تناول الغذاء، في أجواء يطبعها روح انتظار القادم من هذا السفر عبر أصالتنا الامازيغية و رموزها كالرايس الحاج بلعيد باعتباره ابن هذا الإقليم الكبير، وباعتباره كذلك أحد أعمدة فن الروايس، ويكفي القول أنه رمز التقاليد المحافظة، والشعر الديني.

     وعلى الساعة الثانية زوالا انطلقنا في الطريق نحو منطقة تفراوت الرائعة التي  أصبحت ذات صيت وطني بفضل مهرجان تيفاوين المحتفي بالتفافة الأمازيغية.

 فقد أنجبت تافراوت الأديب المعروف محمد خير الدين، الذي ناضل في عصر كان فيه مجرد الحديث عن الأمازيغية كلغة يعد جريمة عظمى يعاقب عليها بالسجن أو الاختفاء، و كان هذا في سنوات الرصاص الرهيبة.إنني أشتاق لقراءة كتب هذا المفكر المكتوبة باللغة الفرنسية، كما أنجبت هذه المنطقة مثالا للمرأة الامازيغية  الواعية وهي الأستاذة أمينة بن الشيخ مديرة جريدة العالم الامازيغي.

     ووصلنا إلى المدينة على الساعة الرابعة عصرا، فوجدناها مدينة صغيرة تعج بالحيوية على كل المستويات، الاقتصادية، والسياحية،على الخصوص، وكانت هناك مقاهي كثيرة، وسوق يقدم لزواره الصناعة التقليدية المحلية، وأهل تافراوت معروفون بالتجارة، ولباس نساءهم المتميز، وكنت جالسا على كرسيي المتحرك،واشتريت هدية لأمي الحبيبة.
وعلى الساعة السادسة و النصف أخذنا الطريق نحو منطقة أفلا ن إغير المقصية من التنمية البشرية، شأنها في ذلك شأن باقي المناطق، سواء الناطقة بالأمازيغية، أو الناطقة بالدارجة المغربية، وكانت الطريق إلى هناك وعرة للغاية، واستغرق وصولنا إلى أفلا ن إغير ساعتين ونصف، أي من السادسة والنصف إلى التاسعة ليلا.
وبدأت عندها أكتشف المغرب المنسي منذ زمان طويل بسبب الإيديولوجيات الدخيلة، التي ناصرت قضايا الشعوب الأخرى وقمعت الأصيل بكل أبعاده.
     وأخيرا، وصلنا إلى مقصدنا في الظلام الدامس الذي يخيم على كل شيء، في دوار "يلوة" ، استقبلنا هناك رئيس الجمعية التنموية للدوار أحسن استقبال في بيته المتواضع حيث ان هذا الدوار لا يتوفر على أبسط الحقوق، كالطاقة الكهربائية، والبث الإذاعي بالأمازيغية، وأغلبية رجال الدوار أجبرتهم هذه الظروف على الهجرة نحو مدينة مكناس للعمل في البقالة تاركين وراءهم نساءهم وأبناءهم في هذا الفقر الفاحش.
ويحكي الرئيس عن أهداف الجمعية و  المتمثلة في السهر على راحة نساء "ايلوة" ،وكذا في التنمية البشرية ،لكن حاجز البعد عن المراكز الحضرية يجعل من الدوار يعاني عزلة تامة عن العالم الخارجي، وعن مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عامة، وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة ... تناولنا وجبة العشاء المحضرة من نساء "ايلوة" تعبيرا منهن عن أسمى معاني الضيافة الأصيلة في هذه المناطق المحافظة على طابعها المميز، والتي تريد التقدم النافع، ولا تريد التقدم الهادم لهويتها الدينية والثقافية تحث ذريعة العولمة الغربية، وكذا العولمة المشرقية، التي أدخلت إلينا قيم تدعوا إلى التكفير، والتطرف، وثقافة الشيشة، والرقص الفاجر ...

أي ى أن هذه المناطق ترغب في ركوب قطار التقدم الهادف إلى محاربة التهميش والتخلف القروي، وتريد تعزيز التنمية البشرية بمفهومها الشمولي كما يريده جلالة الملك محمد السادس.
     وفي صباح اليوم التالي، استيقظ الجميع باكرا و خرجت على كرسيي المتحرك مع أحد أصدقائي من الجمعية الفرنسية للاستمتاع بمناظر الطبيعة الساحرة، واستمع الجميع لشروح الأستاذ أزداك بخصوص تنظيم وقت السقي على الطريقة التقليدية، التي تركها الأجداد لأحفادهم، وبعد ذلك، تناولنا وجبة الفطور على الطراز الأمازيغي حيث  أن المطبخ السوسي غني بالمأكولات الشهية، مثل تاكولا أو العصيدة، التي تقدم في مناسبات عديدة مثل الاحتفال بدخول السنة الامازيغية أو إيض ن يناير، وهذا الاحتفال له رسائل مشفرة، مفادها أن تاريخ المغرب لم يبدأ منذ هروب أحدهم من المشرق، بل بدأ تاريخنا الحقيقي منذ 33 قرنا ،أي منذ انتصار الأمازيغيين على الفراعنة بمصر.

     وبعد هذا الفطور الشهي لبست المريبات المغربيات والفرنسيات، ملابس المرأة الامازيغية الأصيلة، حيث أن هذه الملابس تخبرنا بأن الدين الإسلامي قد ضرب في عمق مجتمعنا الأمازيغي منذ قرون من الجهاد والاجتهاد المناسب للخصوصية المغربية.

     وفي مساء ذلك اليوم، رجعنا إلى أكادير فرحين بهذا السفر الرائع عبر أصالتنا الأمازيغية، وأود هنا أن أشكر كل ما ساعدني في هذه الرحلة من ناحية الأكل، و الذهاب إلى المرحاض ...و أخص بالذكر صديقي لوهو، والأستاذ
أزداك...

 

توقيع المهدي  مالك

 

 

 

 

 

اجمالي القراءات 7540