قرار جماعي من إخوة يوسف بضرورة إبعاده
تغريبة بني إسرائيل 1 - خطة إبعاد يوسف

محمد خليفة في الجمعة ١٩ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

تغريبة بني إسرائيل :  

مقدمة :

 

المقصود بتغريبة بني إسرائيل، هو تركهم لبلادهم في أرض كنعان، من حيث ينتشر الجدب والجفاف وقسوة الظروف المعيشية، والإلتجاء إلى الغرب، إلى حيث يتوافر الطعام لهم ولأنعامهم، وإلى حيث الآمان الذي يوفره لهم وجود واحد منهم - نبي الله يوسف - على رأس السلطة الإدارية في مقاطعة مصر [1] الهكسوسية -، والإطعام من الجوع والأمان[2] من الخوف هما شقي الرحا اللذان يطحنان المرء إذا ما إفتقدهما .

 

وقد تعني التغريبة ..، أنهم بعد أن تركوا الأرض التي تربوا عليها، وفيها مراتع صباهم، وفيها أيضا قبور أبائهم، وديارهم وديار الجدود، مجالس السمر الليلية حول النيران المتخافتة، جلسات القضاء العرفية التي تفض فيها المنازعات، وتعقد فيها الصفقات، وتتم فيها الزيجات والمفارقات، وكلها تتحول إلى مكونات وجدانية تبني جبالا من الذكريات، التي يتوازن بها الإنسان، يستدعيها إن كان في الأمر ضرورة لإستجلاء أبعاد حدث مماثل وإثراء لخبراته ومعارفه، ويهرب إليها إستـنطاقا لإنبعاثات السعادة في تداعياتها.

 

فإن حدث  وتكالبت عليهم مصائب الدهر، وطحنتهم أحجار الرحا بين فكيها، فما من بد والأمر كذلك، إلا بالإقلاع عن المكان هربا إلى مكان آخر غريبا عنهم، كالباحث عن ضياء خافت يعطي بصيصا من رجاء في هذا المجهول اللذين يسعون إليه، أملا في تحسن الأحوال بعد التغريبة.

 

وتغريبة بني إسرائيل ، وردت في السورة على أربعة أجزاء ،

 الجزء الأول ظهر في أول السورة، أما الثلاثة الباقية فظهرت متتابعة في النصف الأخير من السورة وذلك على النحو الأتي  :

الجزء الأول : المقدمات البيئية والإجتماعية والمعيشية والتي أدت إلى حتمية وقوع التغريبة

                                          وقد جاء وصفها في الآيات من   7   إلى  18

الجزء الثاني : خطة جلب الأخ الأصغر ، كمقدمة لإستدعاء بقية الأهل

                                         وقد جاء وصفها في الآيات من   58  إلى  79

الجزء الثالث : بداية الإرتحال إلى الحدود الشرقية من مصر

                                         وقد جاء وصفها في الآيات من   80  إلى  98

الجزء الرابع : الوصول إلي مصر ، والإستقرار بها ( نهاية التغريبة والإستيطان )

                                          وقد جاء وصفها في الآيات من  99  إلى 101

 

ونبدأ بإستعراض الأجزاء المنوه عنها طبقا لترتيب حدوثها، وأيضا طبقا لتوارد الآيات التي تصف هذه الأحداث

 

الجزء الأول : المقدمات البيئية والإجتماعية والمعيشية والتي أدت إلى حتمية وقوع التغريبة

                                          وقد جاء وصفها في الآيات من   7   إلى  18

المرحلة الأولى : النجوى، والنفس على مكانة يوسف القلبية من أبيه

       وقد إستعرضتها الآيات من       07     إلى 10                    

 

الآية 7 / 8

{ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ(7)  إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8)}

إن لفظة الآية جاءت فى القرآن بعدة معانى، إحداها هي العبرة والعظة ولها مبحث خاص بها و حين ذكر الحق فى هذه الفقرة، لقد كان فى يوسف وإخوته آيات، أي أنه سوف يكون فى قصة يوسف من العظات والعبر الكثير، سواء أكان ذلك ليوسف وما حدث له وما جرت به المقادير عليه بعد أن صاروحيداً بعيداً عن إخوته، وأيضاً لإخوة يوسف وما جري عليهم بعد رحيل يوسف ثم عند إلتقاءهم في النهاية.

وتجئ "إِذْ"     فى ثانى ظهور لها فى القصة حيث أنها بدأت مشهداً جديداً، بعد أن قطعت وأنهت حوادث المشهد السابق بين يعقوب ويوسف، ليضئ المسرح عن مشهد جديد بين أخوة يوسف يتناجون أى يتحدثون فيما يشبه الهمس بينهم وبين أنفسهم والنجوى من الشيطان.

" لِلسَّائِلِينَ "لماذا خص السائلين عن عموم الناس إذن يمكن أن يكون هناك سائل وسائلون والقصة وردت للإجابة عليهم.

وسوف تلاحظ على الفور أن هذه الكلمات تُنبأ عن مواصفات وخلال بني إسرائيل المخطوطة في أعماقهم والتي سوف ترتكز وتتعمق في نفوسهم لتشكل في مجملها طبيعة الشخصية اليهودية والذين هم أبناء وأحفاد بني إسرائيل.

ولسوف يتضح لنا من كلمات هذه الآيات وتلك الأخري التي سوف تجيء بإذن الله فى نهاية السورة الخطوط العامة العريضة للشخصية الإسرائيلية والتى ستكون نواة لبحث كبير عن ملامح الشخصية اليهودية في القرآن الكريم ولم أجد في معاجم اللغة ترجمة profileسوي لمحة أو الملامح لكني أسعي إلي أكثر من ذلك، أسعي إلي القالب الجامد الذي تصب فيه سمات الشخصية الإنسانيه لكي تخرج لنا تفاصيل ومواصفات الشخصية اليهودية وهو ما يجب أن نراعيه ونلحظه ويكون دائماً في خلفياتنا الثقافية حين التحدث إلي اليهود أو التعامل معهم حديثاً وكلاماً وسياسة ومعاملاتاً وعهوداً وعقوداً ومعاهداتاً وإتفاقياتاً وحتي الصداقة إن جاز لنا أن نتعامل بمثل هذه الكلمة معهم.

 

وعودة إلي سورة يوسف فإننا سوف نتحسس طريقنا في هذا الذي أشرت إليه آنفا في كلمات الآيات المقبلة ثم العودة إلي هذا المبحث مرة أخري في الآيات التي ترد قبل نهاية السورة.

نلحظ هنا أن الآيات تشير إلى إثنتين من خصائص بنى إسرائيل وهي النجوى والحسد

" لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ "

وهذا حسد واضح من الأخوة الكبار على الصغيرين وكره صريح منهم لأطفال لا ذنب لهم فيما إدعوه عليهم من حب أبيهم لهم وهذه تشير إلي نظرية إجتماعية مهمة.

أنه على الآباء، ألا يختصوا بإهتمامهم وحبهم ورعايتهم لبعض الأبناء دون بعضهم، لأن ذلك سوف يولدالضغينة والحقد والكراهية بين الأخوة وبعضهم، أي أن الآباء لا بد وأن يعدلوا في المعاملة، حتى أنالرسول ( عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم)يشير إلي العدل في القبل، وليس مهما بالطبع النية في هذه التفرقه بل ظاهر المعاملة هو الذي يعنينا.

وتمضي الكلمات لتشير إلى ما سأسرده  من مبررات لتأتي بعكس ما يرجون.

" لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبة "

فواقع الأمر أنهم ولأنهم عصبة، أي رجالاً أقوياء يعتد بهم ويعتمد عليهم، فإن إهتمام الأب إتجه إلي الصغار الضعاف الذين لا يملكون مع هذه العصبة حولا ولا قوة.

ثم يأتى بعد ذلك ثالثة الأثافي

"إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِين"

وهذا هوالجحود بعينه جحود الأبناء لأبيهم، ورميه بماليس فيه،  وعقوق للأب وكلمة الضلال هنا ليست بالطبع البعد عن أحكام الدين فأبوهم نبي بل هي صفة يحاولون أن يلصقوها بأبيهم بأنه غير عادل أو أنه لا يحسن الحكم علي الأشياء الدنيوية.

ثم إضافة مبين إلي الضلال، تعني أنه ضلال شديد وبعيد عن تحكيم العقل ظاهر، وواضح وبائن للعين المجردة ولا يحتاج إلى إثبات أو برهان، لما رأوه من تفرقة فى المعاملة بينهم مجتمعين (عصبة) وبين(الصغار).

 والغريب أنهم أشاروا إلي أنهم عصبة أي أنهم نطقوا بما يدينهم، ويأتي بالحجة عليهم فلأنهمكذلك فقد إنطلق إهتمام الأب إلي البعيدين عن هذه الصفة، ولا يشكلون جزءاً منها، فقد سأل إعرابي عن أحب أبناءه إليه فقال الصغير حتي يكبر، و البعيد حتي يأتي، والمريض حتى يشفى، والفقير حتي يستغني، وهى حالات للحب وصفات لواقع أي أنه لم يحدد أسماء بعينها إنما حدد حالات يمكن أن يمر بها كل الأبناء.

فلأن يوسف وأخوه صغارا ضعافا لا يقوون على شيء، وإخوته كبارا ومتآلفين فإن الأب يظهر من معاملته لهما جزء من الحنان والإهتمام، إنه يبدو على الأب أنه يحبهما (يوسف وأخوه) أكثر من إخوتهم لضعفهم وقلة حيلتهم وإشفاقا منه عليهما، و ليس لأنهمامميزين عنهم.

فكلمة ( نحن عصبة) تأتى باللائمة عليهم، فلأنهم كبارُ وأقوياء ومتكاتفون ومتآلفون فقد إنصرف إهتمام الأب إلىغيرهم، وهى تشير إلي ان الحسد حين يتملك الإنسان يفقده رشده ويضعف من قدرته في الحكم علىالأشياء ويغلف قراراته بغباء إداري وسوء تصرف وتخبط في التصرفات والأقوال والأفعال.

لقد أبانت الكلمات السابقة عن بعض حقائق بنى إسرائيل فهم أولاً بدأوا بالنجوي وهي من الشيطان وهيالتباحث السري والهمس بمكنونات النفس وما رسخ فيها من ظنون، ثم بعدها أعلنوا عن حقدهم علي يوسف وأخوه وحسدهم لهما علن حب أبيهما وحنقهم من هذا الحب الذي يرونه مميزاً للصغار عليهم،ثم تأتي نتائج هذه الأحقاد برميهم أنفسهم دون دراية بالغباء الإداري وسوء التصرفات والأقوال وتخبط الأفعال.

الآية 9

" اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ "

بدأت الآية بالإشارة إلي شر عظيم أو إلى شر كبير بل هو أكبر الشرور

" اقْتُلُوا يُوسُفَ "

ولأنهم من سلالة الأنبياء ونظراً لأن الشخص الذي يتآمرون عليه، هو فى البداية والنهاية أخوهم فقد هدأت نار الحقد قليلاً لإستعظام هذا الفعل و جاءوا بالبديل الأقل شراً

" أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا "

يعنى ألقوه فى مكان بعيد لا يستطيع العودة منه، وبذلك تركوا مصيره إلى المقادير، فهو وإن لم يتمكن من العودة إلى مضارب القبيلة، لكنه سيواجه إحتمالان إحتمال البقاء على قيد الحياة وهو إحتمال قليل لكنه سوف يكون بعيداً عنهم، والإحتمال الآخر هو أن يقتله وحش ضار أو حشرة سامة أو يهلك عطشاً وجوعاً، أي أنهم تركوا مهمة قتله للآخرين وليس بأيديهم هم.

 بعد هذا إنتقل السرد إلى التحدث عن النتيجة المرجوة من إبعاد يوسف سواء بالقتل أو بالتشريد فبعد أن يتخلصوا من يوسف وخلو الدار منه تصوروا أن :

" يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ "

يعنى إبعاد هذا العزول سوف يجعل الأب ليس أمامه غيرهم، ويتوقعون بذلك مزيداً من حبه ورعايته وإهتمامه، هكذا صور لهم خيالهم المريض هذه النتيجة الحتمية من وجهة نظرهم وفاتهم أن الوالدين الأب والأم، لا ينسون أبداً من رحل من أبناءهم قبلهم، فكيف الحال وهذا الأب يعلم أن يوسف وأخوه يتيمي الأم، حيث ماتت أمهما فى نفاس أصغرهم، ولسوف يجتمع له شعور مضاعف بالحزن عليه إن فقده، فقد كان يحنو عليه حنو الأب والأم معاً، هذه واحدة، والأخرى أنهم فاتهم أيضا إن إشارة إهتمام الأب التى جاءت فى الآية 8  إنما جاءت ليوسف وأخوه يعنى لشخصين، وإذا قدروا على إبعاد واحد منهم فكيف سيتسنى لهم إبعاد الآخر، ومن أدراهم بعواطف الأب حين يختفى واحد من الإثنين أن تتجه بالكلية إلي الآخر، فهم بذلك عادوا إلى نقطة البداية من إهتمام أبيهم بغيرهم دونهم، ثم تأتى من بعد ذلك  " يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ "

أي أن إختفاء يوسف سوف يؤدى بالقطعية فى ظنهم إلى إعادة توجيه إهتمامات الأب وحنانه إليهم وأحسبهم واهمين. وإستكمالاً لكلمات الآية  " وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ "

خدعة شيطانية معروفة، فالشيطان يغريهم بإبعاديوسف سواء بأقصى درجات الشر، أو بالتى هى أقل منها، ثم يغرى نفوسهم ويهدئها كذباً، بأنهم بعد ذلك سوف يكونوا قوما صالحين .

 وهذا هو دأب إبليس دائما، فهو، مثلاً ،  إن رآك متجهاً لأداء فرض الصلاة فيحاول أن يثنيك عن الصلاة بوسوسته أنه بعد إنتهاء الفيلم الذى تتابعه فى التليفزيون، أو بعد الإنتهاء من مناقشه موضوع ما، فإذا رأى منك إصراراً على أداء الفرض، حاول أن يثنيك عنه بتوجيهك إلى فعل خير فمثلاً يوحى إليك بأنه مضى زمن طويل لم تسأل فيه عن أمك بالهاتف، أو الإطمئنان على صديق عاد من السفر، أو جار مريض، فهو ما يؤجر عليه المرء ويأخذ ثوابه، لكنه أي إبليس يعلم يقينا أن هذه الأشياء وإن كانت خيراً إلا انها أقل فى الأجر من أداء الفرض فى وقته، بمعنى أنه إن أعيته الحيل لصرفك عن أداء الفرض وسوس لك بفعل خير لكنه أقل أجرا...!

ثم إن تصريحهم  " وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ "

هو بمثابة إقراراً منهم بأن ما سوف يرتكبون فى حق يوسف هو عين الخطأ، وهو ذنب كبير بعيداً عن الصلاح، لأنهم يهونون على أنفسهم فعلة وفيه تسويل للنفس عن العودة عما قررته،  وقد قال الحق فى سورة المائدة الآية 30

{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

أى سهلت له العملية وأبعدت كل مقاومة عن عدم فعلها ويسرت له ذلك فقام فعلاً بعملها.

إذن جاء قولهم وتكونوا من بعده قوما صالحين إقراراً منهم ببعد ما اقترحوه عن الصواب، وأن فيه ذنب كبير وبعدا عن الصلاح لكن وسوسة الشيطان خففت على أنفسهم هذه الغفلة وهونت من شأنها عليهم ..... خطة شيطانية معروفة.

 

الآية 10

{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِالْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }

قائل هذه المقولة أغلب الظن أنه كبيرهم، وسوف يكون له في رحلتنا مع يوسف عدة مواقف سوف نذكرها بإذن الله فى حينها، وهو يمثل دائما خط يقظة الضمير، أو علي الأقل يمثل نزوعه في نفسه، وسوف نجده دائما هو الأقل شراً، والصامت عن الكلام، والمذكر بالوعود إلا أنه فى النهاية يمتثل لرأي إخوته (الأغلبية الساحقة) وهذا درس وتوجيه بالإمتثال لرأي الأغلبية حتي وإن خالف ما أراه صواباً.

وهذا الأخ يقدم إقتراحا بعدم قتل يوسف بأحد الطريقتين القاسيتين اللتان تم طرحهما ويقدم بديلاً هو الأقل شراً فى نظره لكنه متمشياً مع الإتفاق العام بضرورة إبعاد يوسف، فاقترح عليهم أن يلقوه فىغيابات الجب أي يختاروا جبا بعيدا عن المنطقة عميقاً حتى يفوت على يوسف إحتمال تسلق جدرانه كما أن يوسف لو صاح طالباً النجدة فلن يسمعه أحد نظرا لعمق البئر الشديد، وهو ما تشير به الكلمات من غيابات الجب أي يغيب فى عمقه وظلمته الحالكة ثم جاء بما يراه إنقاذاً ليوسف من موت محقق.

{ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ }

أي أنه جاء بطوق النجاة له أو وضعه فى إعتباره هو لم يثنيهم عن الفعلة الكبرى وهي إبعاد يوسف ولكن قدم أرحم طرق هذا الإبعاد وإعطاء وسيلة للنجاة بوجود إحتمال أن يلتقطه بعض السيارة لإنجاءه وإنتشاله لتكتب له الحياه ولكن بعيداً عنهم.

ونظرا لوجود شبهة ضمير لهذا الأخ بعض الشيء ونظرا لأنه يستهيب الفعلة ويستنكرها فى داخله ويقاوم نفسه ويطوعها للموافقة على إقتراح إخوته بإبعاد يوسف فقد أضاف بعدما قدم الإقتراح الأقل شراً والأهدأ قسوة

{ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ }

هو يتمنى في قرارة نفسه ألا يكون هناك إستمرار لهذه المناقشة ويود لو أنه أثناهم عن فكرتهم وردهم عنها فقال بصيغة التمني " إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ "

بمعنى إنكم إذا أصررتم على موقفكم وكان لابد مما ليس منه بد، فعليهم أن يأخذوا بالإقتراح الأقل شرا الذى قدمه لهم.

 

المرحلة الثانية : مراودة الأب

       وقد إستعرضتها الآيات من       11      إلى      14

الآية 11

{  قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }

بدأ عملية المراودة صفة أخرى من صفات بنى اسرائيل بتمهيد الجو النفسى وطمأنينة المتلقى بظاهر القول الطيب ومناخ الإسترخاء حتى يفقد المستمع أى قدرة على المعارضة أو مقاومة العرض المقدم منهم بدأوا أولا بترقيق قلب الأب بقولهم  " يَا أَبَانَا "

قيلت هادئة مستكينة استرقاقاً لوجدان أبيهم وجلباً لحنانه عليهم وبعد هنيهة استفهموا منه عن سبب عدم شعوره بالراحة منهم كلما إقتربوا من يوسف أو تكلموا معه فهم إنما يفعلون ذلك لصالحه وهم لأنهم أكبر منه فهم ينصحونه بما فيه خير له وخير لما يحيطه من بشر وغير بشر من البيئة المحيطة تحولت لهجة الحديث من المسكنة إلى لهجة التأكيد " وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ "

هى تجسيد واضح لسياسة إرخاء الحبل حتى أقصى مداه حتى تنطفئ تماما حاسَّات الحذر، وحسَّاسَّات التحذير فى نفس الأب.

الآية 12

{ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }

" يَرْتَعْ "تعني الإنطلاق فى البرارى والمروج وتناول الأطعمة الطبيعية المتاحة فى المنطقة دون ضابط وتنوع هذه الأطعمة من الخضر والفواكه يعنى الإحساس بالحرية الكاملة والإنطلاق التام سواء كان ذلك فى الحركة والتحرك والجرى والقفز أو كان فى إلتقاط الثمر الناضج الشهى على إختلاف أنواعه كان ذلك هو الرعي.

بدأ إخوة يوسف عملية إغراء واسعة للأب بأن يسمح لهم بإصطحاب يوسف معهم إلى واحات البيداء الخضراء اليانعة حيث الهواء العليل والنسيم مما سوف يسمح للصبى يوسف بالتريض واستنشاق الهواء النقى والتقاط الفواكه الناضجة من هنا وهناك مما سوف يكون له بالطبع أثر كبير فى تحسن صحته البدنية والنفسية ثم أضافوا مزيدا من التأكيد أنهم سيراعونه وسيجعلونه نصب أعينهم ويحافظون عليه من أن يصيبه أى مكروه مهما قل ذلك المكروه فهى مجرد رحلة خلوية ليوسف ليأكل ويلعب.

واللعب جاء مرتان فى السورة كانت هى أول مره والأخرى سوف تأتى فى آية لاحقه وهى " إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ" وهذا يشير إلى اللعب بمعنى ممارسة الألعاب الرياضية التى تقوى البدن ولا يوجد فى الإسلام ما ينهى عنه بل أيضا على الدخول فى مسابقات رياضية إعلاءً لقيمة التنافس الشريف على أن يكون ذلك فى ملابس لائقة لا تكشف عن العورة وعلى أن تتم هذه المسابقات دون تحولها إلي نوع من أنواع المقامرة والميسر فإن بعدت عن هذين الأمرين فالحق كل الحق للمسلم أن يمارسها دون أن يداخله شك فى شرعيتها، إجري، والعب، وتسابق، قوى بدنك فالمؤمن القوى خير وأحب عند الله من المؤمن الضعيف.

والقوة هنا إنما تعنى نوعين من القوة

القوة البدنية الجسمانية

القوة المعنوية والشخصية

والإثنان مطلوبتان للمسلم

 لم يطلب منك الإسلام التخاذل عند الكلام، وخفض الصوت والرأس والعين، وضعف الصوت حتي لا يكاد يبين، والمسكنة المصطنعة، إنما طلب القوة المعتدلة بمعنى أن يمارس الإنسان حياته بالشكل العادي، ويلبس لباس عصره ولباس بيئته، فوقت للعب ووقت للجد ووقت للعمل ووقت للعبادة لا يطغى ذلك علي تلك ولا تلك علي ذاك.

الآية 13

{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ }

تبدأ الآية بالإشارة إلى الحزن مع أن الحديث لا يستوجب الحزن إنما يمكن أن تكون الخشية فى الموقعهى الأنسب لكن إتيان الحق بلفظ الحزن هنا جاء دليلا على إستشفاف يعقوب للأحداث والإحساس القلبي لديه بوجود ما يوجب الحزن وإقتراب حدوث قدر الله.

أيضا تظهر لهجة الحديث أن هناك ميل فى نفس الأب للموافقة على طلبهم فقد إنطفات معظم حاسات الحذر في نفسه نظراً للمقدمات التأمينية الكثيرة التى قدمها أبناءه له حفاظاً على يوسف و تأميناً لسلامته.

ثم ومع إختفاء آخر مواجيد الحذر وإنطفاء آخر مصابيحها أدلي الأب إليهم بمحظور آخر هو خشيته أن يغفلوا عن يوسف فيأكله أحد الضواري المنتشرة فى المنطقة والتى تحوم دائما حول الرعاة لتخطف منهم وفى لحظه غفلة طارئة واحدة من المواشى التى يرعون وعبر عن ذلك  " وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ "

وتضمن مع هذا التحذير موافقة ضمنية على إتمام الموضوع وهنا لنا وقفة للإشارة إلى نظرية تربوية وهى ألا تعطى لمن هم تحت أمرتك حلولاً جاهزة وخروجاً من مأزق يحتمل أن يحدث لتبرير فعلتهم أمامك.

بمعنى مثلاً لا تقل لإبنك هذه عشرة جنيهات إذهب و اشتري كيت وكيت وعد مسرعاً, إلى هنا الطلب مشروع وعادي، غير العادي أن تضيف تحذيرا للإبن بألا يذهب ليشتري سجائر ليدخنها ثم يعود فيدعي أن النقود سرقت منه.

لقد أعطيته الحل الجاهز والمبرر الذي كان يبحث عنه فهو سوف يذهب ويعمل هذا الذي حذرته منه وحَذْرت منه حتي إنه لن يكلف نفسه عناء البحث عن مبرر شبيه بل سوف يستخدم نفس ألفاظك ويسوق لك الحجة ذاتها.

هذا هو ما حدث مع يعقوب تماماً فقد قال لهم محذراً   " وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ "

فحين عادوا قالوا أكله الذئب.

نفس الألفاظ ونفس الحجة التي أوحي بها الأب إليهم وأحسبهم لم يفكروا فيما سوف يقولونه لأبيهم بعد تنفيذ مؤامرتهم لقد قدم لهم أبوهم الحل علي طبق من الفضة وأحسب أن نبي الله يعقوب لم يكن علي هذا القدر من السذاجة بأن يعطي لهم الحل جاهزاً والمبرر لفعلتهم إنما هو سبق علم أوحي به الله إليه حتي يتم قدر الله فيهم وفي يوسف هذا في رأيي والله أعلم.

الآية 14

{ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ }

جاء لفظ عصبة هنا في مكانه متمشيا مع منطق الحدث ومناسباً لتسلسل الألفاظ فالعصبة تعني الجماعة القوية من الرجال القادرين علي حماية أنفسهم وذويهم ذلك غير موقعها في الآية 8  قد كانت مخالفة لمنطق قائل السياق كما سبق وتقدم في الشروح لكنها هنا جاءت مناسبة للمطلوب منها وهي تأكيد بل مزيد من التأكيد أن هذا الإحتمال الذى يحتمله الأب - وهو أن ياكله الذئب - هو إحتمال بعيد تماماً عن الحدوث فى وجود عصبة من الرجال و يدللون على ذلك أنه إن حدث هذا فإنهم سيفقدون ميزة الإعتماد عليهم والإعتداد بهم وسوف يخسرون أنفسهم أمام انفسهم وأمام مجتمعهم وأنهم إن تم ذلك فى حضرتهم فإنهم أصلاً لايستحقون العيش ولا الحياة.

المرحلة الثالثة : تنفيذ خطة التخلص من يوسف

                 وقد إستعرضتها          الآية    15

الآية 15

{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّوَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ }

هنا يشير السياق إلى شيء مهم وهى كلمة أجمعوا بمعنى أنهم جميعا - العشرة - أجمعوا على تنفيذ إقتراح الجب وذهب الصوت الضعيف الذى إحتمل ألا يفعلوا ذهب أدراج الرياح فهم جميعاً قاموا بالتنفيذ بعد الموافقة الجماعية.

شيء آخر نود أن نلفت النظر إليه أن بداية الآية جاءت " فَلَمَّا " أي هناك فاء التعجيل يعنى أنهم بمجرد الحصول على موافقة الأب بإصطحاب يوسف قاموا بتنفيذ فكرة التخلص منه كانوا على عجل لإبعاديوسف وقاموا بذلك فى أول مرة سمح لهم الأب فيها بأخذ يوسف معهم وكان يمكن أن يرجئوها إلى مرة لاحقة يعنى مرة أو مرتان ثم فى الثالثة يقومون بالفعلة لكن غبائهم أو قـُل حجم حقدهم كان أكبر من كل التعقل فجاء التنفيذ على الفور، قد كان لسان حالهم يقول .. لقد نجحنا في إقناع الشيخ بأن يترك لنا يوسف هذه المرة، فمن يدرينا أو يضمن لنا أنه سيسمح لنا بمثلها  لاحقا ..؟.

جعلوا يوسف في غيابات الجب أى أن الجب كانت عميقة جداً بحيث إن نظر أحدهم إلى الجب لا يرى يوسف من بـُعد المسافة وحلكة الظلمة والغيابات أى تلميح إلى غيب غير مرئى فهناك بالتأكيد من الحشرات السامة والقوارض ما يملأ قلب الصبى يوسف بالخوف والهلع إلى أن أدركته رحمة الله بالسكينة والهدوء بالوحى له أنه سيجئ اليوم الذى يذكر لهم هذه الفعلة الذميمة جاء هذا الوحى وتغشته السكينة وإخوته لم يشاهدوا شيئا ولم يحسوا حدثاً فقد جاءه وحى السماء دون أن يشعر به إخوته  "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ "

حرص الإخوة قبل إدلاء يوسف فى البئر على خلع قميصه لإستعماله دليلاً لتبرئتهم كما سيأتى فيما بعد وكان القميص هو الملبوس الوحيد لديه فبعد خلعه صار عاريا كما ولدته أمه وسوف نعطيه - القميص - مسمياً خاصاً فهو هنا وفي هذا الموقف قميص البلاء[3].

وكان يصرخ فى إخوته أن أعيدونى إلى أبى أو أعيدوا إليّ قميصي حتى أتقي به لسعة البرد فى ظلمةالبئر أو ....... أو ....... إلي أن أتاه الوحى بالسكينة فصمت وهدأ وظن إخوته أنه إستكان إلى قدره فإنصرفوا.

ونلاحظ أن يوسف كان صغيراً وخفيفاً لدرجة أنه يمكن نظراً لخفة وزنه أن يلتقطه بعض السيارة وكان على الأرجح فى حدود العاشرة إلى الثانية عشر وكان نحيفاً خفيفاً ولما أنزله إخوته إلى غيابات الجب ألقو الحبل الذى أدلوه به إلى البئر لكى يفوتوا عليه أى فرصه لتسلق الحبل والنجاة من البئر.

المرحلة الرابعة : خطة التمويه وتبرير الفعلة

وقد إستعرضتها الآيات        من      16      إلى      17

الآية 16    { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ }

نلاحظ هنا أن الكلمات تشير إلى وقت العودة " عِشَاءً " أي حين تشتد الظلمة فالعادة أن يعود الرعاة قبل المغرب حيث شفافية العتامة ويستطيع المرء أن يتبين من الضوء الملامح ويتعرف الأشخاص لكنهم حرصوا على أن يكون الوقت قد تأخر بهم لتكون الظلمة قد شاعت ويصعب علي المرء مشاهدة أو إستبيان الشخص إلا بصوت كلۥۥ منهم وأحسبهم إختاروا ليلة غير قمرية في محاق القمر حتي تسود الظلمة الحالكة كل شيء ونظراً لأنه لم يكن هناك في تلك الأزمان الغابرة أي مصادر إضاءة غير الموجودة في الطبيعة (الشمس / القمر) اللهم إلا ذابلة ضعيفة من شحوم الحيوانات أو فتيل في قنديل من زيت الزيتون وكانت هذه الذابلات لا تستعمل إلا في الأوقات الطارئة فقد خططوا لذلك كله بالعودة المتأخرة لكي يصعب علي الأب إستبيان ملامحهم وإستقراء ملامح الكذب في تعبيرات وجوههم وبقي شيء واحد أن يستشف الأب من نبرات أصواتهم أنهم كاذبون لذا جاءوه يبكون وكان المنطقي أن يقول السياق يتباكون لكن حرصهم الشديد علي محاولة إقناع الأب بما سوف يسوقونه من أكاذيب رفع درجة هذا الإجراء من درجة التباكي إلي درجة البكاء فقد جاءوا يبكون فعلاً بدموع حقيقية ونشيج صادق وأحسب أنهم أجهدوا أنفسهم فى الوصول إلي تلك الحالة من إدعاء الحزن الشديد لدرجة البكاء وذلك بمحاولة تذكر مواقف محزنة مثل موت الأم أو الأبناء أو مرضهم المرض الشديد المسبب للبوح بالألام المستجْلبة للعبرات والمدرة للدموع فجاءوا يبكون لكى يفوتوا على الأب إمكانية إكتشاف كذب إدعائهم حتى من نبرات أصواتهم.

وهناك إحتمال آخر بعيد بأن يكون مصير يوسف وهو فى البئر وهو في البداية والنهاية أخوهم ولا عجب من أن يكونوا حزانى لفراقه أو تخيلهم لما هو فيه الآن من عنت وخوف وجوع و عرى ورعب أو تصورهم لمعاناة الصغير وهو ينازع سكرات الموت و بمروره بعذابات الإحتضار أن يستجلب ذلك الدموع إلى مآقيهم حزناً على مصير يوسف لا حزناً على فراقه فهى إذن دموع حقيقية وبكاء صريح.

 

الآية 17

{ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ  وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }

بدأت الآية  " قَالُوا يَا أَبَانَا "

لو تصورنا درجة الصوت التى قيلت بها هذه الكلمات فلن يقفز إلى الذهن إلا إنها كان أخفض درجات الصوت الذى لا يكاد يبين ولا يكاد يسمع إلا بشق الأنفس محملاً بكل أحاسيس الخزلان والشعور بالذنب عند سوق الكلام   " إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ "

أى ذهبوا جميعاً للتسابق سواء أكان التسابق جريا أو رمى الرماح إلى الأبعد المهم أنهم إرتسم فى ذهنهم حبكة المشهد على أن يتم إخلاءه تماماً من أشخاصهم ليبقى يوسف وحيداً يحرس متاعهم عندها يمكن للذئب أن يهاجمه دون أن يكون أيهم متواجداً للدفاع عنه أو حمايته من الضارى المهاجم وسوف نلاحظ هنا أنهم جاءوا بالحجة ذاتها ونفس الألفاظ التى ساقها الأب فى حذره وتحذيره لهم فقد قال   " وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ "

فقالوا هم ..أكلة الذئب لكن الأب قال  " وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ "

فقاموا بنفى تلك الغفلة التي تمنعهم من منعة يوسف لكنهم ساقوا مبرراً آخر فهى لكي تبدو وكأنها لم تكن غفلة بقدر ما كانت إضطراراً ، فهم ذهبوا جميعاً للتسابق وبعدوا عن المكان، فإنتهز الذئب تلك اللحظة وهاجم يوسف والتهمه هذه هى حبكه المشهد كما صورها لهم خيالهم المريض.

بالإضافة إلى إختيارهم وقت العشاء، وبعد إنتهاء شفافية العتامة من المغرب، أي أنهم تخيروا الوقت الذي تدلهم فيه الدنيا وتكسوها الظلمة التامة، مما يسمح لهم بإخفاء ملامحهم الآثمة، وتغليف تعبيراتهم بنشيج البكاء، فقد تصوروا أن يقضى ذلك علىشكوك الأب فى إتهامهم بالتقصير فى المحافظة على يوسف ومع إستمرار السرد فكادت الكلمات أن تفضحهم وتكشف كذبهم وإنه يكاد المريب أن يقول خذونى فقد قالوا  " وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ "

بما يعنى أنك لن تصدقنا مهما قلنا وسوف يستمر شكك فينا وعدم تصديقك لكلامنا وفي ذلك إصرار على تفريطنا فى يوسف وعدم الحرص عليه وهنا لنا وقفة فقد جاء الحق بلفظة بمؤمن لنا فى مقام مصدق لنا

 فما هو تعريف الإيمان  ؟؟

 قال الفقهاء الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل، إذن لابد وأن يكون هناك تعريف أدق أو أشمل للايمان فلو قلت لك مثلا ..أترى هذا القلم فى يدى ؟

 ستقول نعم ،

 أعود لأسألك هل أنت تؤمن بأن القلم الذى أكتب به هو في يدي ؟ ،

 فلو قلت نعم أنا أؤمن بأن القلم الذى تكتب به هو فى يدك بالفعل فأقول لك هذا ليس إيمان بل هو علم شهادة فأنت شاهدت وتشاهد القلم فعلا فى يدى.

لكن أعود فاسألك هل لو قلت لك أن فى جيب سترتى قلم آخر فهل تصدقنى ؟

 فترد أننى لم أجرب عليك كذباً من قبل وما تقوله فإنى على ثقة تامة به وبوجوده كماً وكيفاً وفعلاً  عندها أقول لك .....     هذا هو الإيمان..!

وتعريف الإيمان يكون بذلك هو      [  اليقين بغيب نقلاً عن موثوق   ]

أيضا يمكن أن يعَّرف الإيمان بأنه   [  اليقين بنظرية لا نملك لها إثباتا ]

وهذه يستدل منها على أن الإيمان لا يمكن أن يكون شيئا مرئيا أو يمكن رؤيته أو يمكن الإستدلال عليه بالرؤية المباشرة بل هو شعور وجدانى ويقين قلبى[4] ،




[1]
مصر الهكسوسية تختلف عن وادي النيل والذي كان يدعى أرض القبط، أما مقاطعة مصر التي ورد ذكرها في القرآن فهي عبارة عن مقاطعة  أنشأتها جحافل العبرانيين بعد اجتياحهم لشمال شرق وادي النيل ( محافظة الشرقية وشمال غرب سيناء ومدينة الفرما ) وأنشأت مدينة هوارة القديمة عاصمة ملكهم آنذاك، وكل الأحداث القرآنية حدثت في تلك البقعة، ولم يكن هناك أي ذكر للقاطنين بوادي النيل ولا لملوكهم.

[2]حيث يقول الحق في سورة قريش

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

 

[3]ظهر القميص في سورة يوسف في ثلاثة مواقع

أولها: في هذه الآيات وأسميناه قميص البلاء لأنه كان بداية بلاءات يوسف

ثانيها: القميص الذي شق بعد المراودة ويناسبه أكثر قميص البراء لأنه كان الدليل علي براءة يوسف

ثالثها: القميص الذي ألقي علي وجه يعقوب فارتد بصيرا فصار بذلك قميص الشفاء

[4]وقد إسترعى ذلك المعنى واحداً من فقهاءنا العظام وقال إن الحق فى سورة غافر.الآية7

" الَّذِينَ يَحْمِلُونَالْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَبِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّشَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُواسَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ "

وطبقاً لهذا التعريف فإن حملة العرش ومعهم من حوله من الملائكة لم يروا الله فهم يسبحون ويستغفرون ويدعون بالغفران للذين تابوا وهم في الحضرة الإلهية لكنهم لم يروا الله فهو محجوب عنهم وعن الخلائق جميعاً.

 

اجمالي القراءات 8431