الله والآخر بين الأوصياء على الدين والكتب المقدسة

نهرو طنطاوي في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

تعيش البشرية منذ قرون طويلة عملية تزوير كبرى أكبر من السماء والأرض وأكبر من وجودنا نحن البشر. ليس تزويرا في أوراقها الرسمية، ولا نقودها، ولا أعمارها، ولا أوطانها، إنما تعيش عملية تزوير في ربها وإلهها. نعم فقد قام حفنة من رجال الدين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الله وعلى دينه بعملية تزوير كبرى حيث أقنعوا أتباع جميع الديانات بصورة الله المزيفة والمزورة والتي رسموها هم حسب مصالحهم وأهوائهم وأخفوا على الناس صورة الله الحقيقية التي جاءت بها الكتب السماوية.



فالله الذي نعرفه الآن وتربينا ونشأنا على معرفته، ليس هو الله الحقيقي الذي أخفى عن جميع الخلق كنهه وذاته وشخصه، وسمح لنا فقط بشيء من علمه. لقد عشنا في خداع ديني وخداع اعتقادي نحن وآباؤنا بعد أن جف نبع الأنبياء وتركنا لقلة من البشر قد وضعوا أيديهم على الله، وحاصروه، وكمموا فمه، وقيدوه ووضعوه في وهم مظلم، حتى لا نراه إلا بأعينهم هم، ولا نسمعه إلا بآذانهم هم ولا نلمسه إلا

بأيديهم هم، ولا نكلمه إلا بلسانهم هم. لقد فرضوا الوصاية عليه وعلى دينه ثم أجبرونا على الإيمان به كما يرونه هم، وجعلوا من أنفسهم الوكلاء الوحيدين لله ولدينه على الأرض. وحتى تكتمل عملية التزوير الكبرى وتختمر في عقول الأتباع، قالوا لهم إنكم جميعا أيها الناس

أعداء لله وجاهلون به ومخطئون في حقه ومقصرون في عبوديتكم له، ولن تنالوا محبته إلا إذا فعلتم ما نطلبه منكم ورددتم وراءنا ما نقوله لكم، ولن تؤمنوا به إلا بما علمناه لكم. فصدقناهم جبرا وقسرا وخوفا، صدقناهم غفلة وجهلا وحسن ظن منا بهم، ورضينا ذلك لأنفسنا واكتفينا به، ولم نحاول ولو لمرة أن نبحث عن الله الحقيقي دون واسطة ودون معبر نعبر عليه إليه. لم نحاول أن نبحث عنه

بين سطور الكتب المقدسة، ولكننا آثرنا السكينة والاستسلام.



وعشنا أزمنة وما زلنا نعيش مع الله ونتعامل معه على أننا الآخر بالنسبة إليه ونحن أعداءه, فقد علمنا الأوصياء على الأديان أن من لم يعتنق أفكارهم، ومن ليس في ملتهم، أو من خرج منها، ولم يحذو حذوهم، ولم يتبع منهجهم، أو من ناقشهم أو انتقدهم أو راجعهم فهو الآخر، بل هو العدو فاحذروه وأبغضوه وحاربوه واضطهدوه واقتلوه ومثلوا بجثته ما استطعتم إلى ذلك سبيلا.



لقد عشنا أزمنة نتعامل مع الله وكأنه بشري مثلنا، يشعر بالوحدة والقلة ويشعر بالعزلة إذا ما انصرف الناس عنه وتركوه، ويشعر بالقوة والسرور والبهجة إذا ما انضم الناس إليه.



فالله كما علمونا الأوصياء على الدين يتأثر بما نتأثر به نحن البشر من نفع وضر وضعف وحزن وفرح وكثرة وقلة، فتعالى الله عن ذلك علوا كبير.



إن صورة الله البشرية التي رسمها لنا الأوصياء على دينه، وصورة الآخر أو صورة أعداء الله التي اخترعها الأوصياء على الدين، جعلتنا نحن البشر نشعر بالغيرة على الله والخوف عليه والحمية له والغضب من أجله والفزع لنصرته. وأصبحنا جميعا آخر لبعضنا بعضا وعدوّاً لبعضنا بعضا، حتى وإن كنا من أهل ملة واحدة، أومن أتباع نفس الديانة الواحدة. فالسني آخر وعدو للشيعي والشيعي آخر وعدو للسني،

والإخواني آخر للسلفي، والسلفي آخر للإخواني، والأرثوذكسي آخر للكاثوليكي، والكاثوليكي آخر للأرثوذكسي، والبروتستانتي آخر للإنجيلي، والإنجيلي آخر للبروتستنتي، والمسيحي آخر للمسلم، والمسلم آخر للمسيحي، واليهودي آخر للمسلم، والمسلم آخر لليهودي، والمسيحي آخر لليهودي، واليهودي آخر للمسيحي، والجميع آخر للجميع، والكل عدو للكل، والكل يدافع عن الله ويغير على الله ويحزن له ويغضب له ويفزع لنصرته, فالله عدو لله، والله آخر لله، والله متربص بالله، والله في حرب مع الله، حرب أشعل نارها الأوصياء على الدين واكتوى بها نحن البسطاء من الناس التابعين للأوصياء على الله، الأوصياء الذين علمونا أن نكره باسم الله ونقتل باسم الله، ونحقد باسم الله، وندمر باسم الله، ونشعل الفتن باسم الله، الأوصياء الذين علمونا أن نكره من ليس معنا، أو من ليس منا، علمونا أن لا نجالسهم، ولا نسلم عليهم، ولا نأكل معهم، ولا نقرأ كتابهم، علمنا الأوصياء أن نأخذ حذرنا من بعضنا البعض، وأن نغيظ بعضنا، ونستفز بعضنا بعضا، علمونا أن نعلق الصليب على صدورنا، ونرسمه على أيدينا، علمونا أن نطلق اللحى، ونلتزم بزي بعينه، علمونا أن نبني المساجد والكنائس دون حاجة إليها. علمونا أن نعلق اللافتات الدينية الإسلامية والمسيحية على المحلات والشركات والمؤسسات والدكاكين والشوارع حتى يغيظ بعضنا بعضا ويقهر بعضنا بعضا.



إن الأوصياء على الله وعلى دينه هم أجهل الناس بالله وأجهل الناس بدينه، فقد علمونا الله الذي تصوروه هم، الله الذي اخترعوه هم، الله الذي تكلموا بلسانه وسمعوا بأذنه وبطشوا بيده ومشوا برجله وحكموا بأمره.



إن الله الذي تعلمناه في المساجد والله الذي تعلمناه في الكنائس ليس هو الله الذي في القرآن وليس هو الله الذي في الكتاب المقدس. إن الله الذي في الكتب المقدسة هو الخالق لنا، هو ربنا ورب السماء والأرض ورب العالمين، هو الذي خلق لنا وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض. هو الذي أرسل لنا الرسل من أنفسنا ليهدونا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، هو الذي شرع القتال لندافع عن أنفسنا ضد الطغاة والظالمين والمعتدين، ولم يشرع القتال لإجبار الناس على الإيمان به أو إكراههم على اعتناق دينه.



إن الله الذي في الكتب السماوية هو خالق المؤمن والكافر، مطعم المؤمن والكافر، ساقي المؤمن والكافر، مداوي المريض المؤمن والكافر، مغنى المؤمن والكافر، مجير المؤمن والكافر، معلم المؤمن والكافر، الله الحقيقي جعل من المؤمن والكافر، الجاهل والعالم، والذكي والغبي، والقوي والضعيف, والغني والفقير، والصحيح والسقيم، والعزيز والذليل. فالجميع في رزق الله سواء والكل في قدر الله سواء والكل في علم الله سواء والكل في حفظ الله سواء.



الله هو لفظ الجلالة وهو الاسم العلم للذات الإلهية وهو الاسم المشترك الأعلى الذي ينادى به أهل جميع الديانات ليل نهار خالقهم "يا الله".

قال علماء اللغة إن هذا الاسم "الله" مشتق من "لاه" و "وله" و "إلاه" وهو على وزن فعال، بمعنى مفعول. فالإله تعنى شدة الوله الممتزج بالحيرة الممتزجة بشدة الحب والتعلق، يألهه الناس أي يفرون إليه في كوارثهم ومصائبهم ومحنهم، ويفزعون إليه عند الشدة طلبا للجوار والأمن والراحة، يهرولون إليه حبا وشوقا، فالله هو مفزَع المكروبين وملجأ الحائرين والمستجيرين وهو سكن المعوذين والمتعبين، وهو أنيس المحبين ونهاية قصد القاصدين.



هذا هو الله الذي رأيناه نورا تسبح فيه الملائكة، هذا هو الله الذي استنشقناه في عطر الأنبياء، وأحسسناه في دفء الشمس ونور القمر وزرقة السماء، وقرأناه رحمة بين سطور الكتب المقدسة. فالله هو الوطن الأول، الحب الأول، الأمان الأول، الأصل الأول، القرب الأول، النبع الأول.



أما الله الذي احتكره المتعصبون الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الله وعلى دينه، فالله لديهم شبح يكره الحب، يكره العفو، يكره التسامح، يكره الرحمة. عنصري لا يحب إلا نفسه وأتباعه، يقتل العصافير ويمثل بأجسادها، يتلذذ برائحة الدماء ولون الدماء وإراقة الدماء. الله لديهم تغيظه كلمة وتزلزل عرشه، الله لديهم يستفزه نقد، ويثور وتقوم قيامته في السماء إذا تطاول عليه أحد، ويرتجف

وترتعش فرائصه إذا ما فارق دينه أحد أتباعه إذا تنصر مسلم أو أسلم نصراني.



إن الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الله وعلى دينه جاهزون لإشعال نار الحقد بين الجماهير في أي وقت وفي أي زمان انتقاما لله وإرضاء لغضبه على حد زعمهم، إن هؤلاء القوم أسقطوا من قواميسهم كل مفردات الحب والرحمة والسماحة وحسن الظن والسلام والأمان واحترام الآخر واحترام دينه وعقيدته. إن هؤلاء القوم اتخذوا الله عرضة لأيمانهم وعرضة لتجارتهم وعرضة لسياستهم وعرضة لاقتصادهم وعرضة لشهواتهم ونزواتهم وعرضة لمصالحهم الشخصية.



إن الصورة الحقيقية لله تجدونها في الكتب السماوية صورة قوية غنية رحيمة محبة ودودة متسامحة عفوة غفورة ليس مع المؤمنين به فقط بل مع الآخر مع أعدائه أيضا.





صورة الله مع غير المؤمنين به في القرآن:



قال تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} " فصلت – 34 ".



نهى الله عن سب معتقدات الآخرين فقال:

قال تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم}" الأنعام – 108 ".

وقال تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة}" الممتحنة – 7".

وقال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحي المقسطين} "الممتحنة – 8 ".

.

وقال تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتنتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} " آل عمران – 186".

وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} "العنكبوت – 46".





صورة الله مع غير المؤمنين به في الكتاب المقدس:

قال السيد المسيح عليه السلام: [طوبى من أجل المطرودين من أجل البر لأن لهم ملكوت السماوات. طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقال عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين. افرحوا وتههلوا لأن أجركم عظيم في السماوات فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم]" إنجيل متى – الآيات 10- 11-12- الإصحاح 5 ".

وقال السيد المسيح عليه السلام: [فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات] "إنجيل متى – الآية 16 – الإصحاح 5 ".

وقال السيد المسيح عليه السلام: [كن مراضيا لخصمك سريعا ما دمت معه في الطريق] " إنجيل متى – الآية 25 – الإصحاح 5 ".

وقال السيد المسيح عليه السلام: [وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين] " إنجيل متى- الآيات 39-40-41- الإصحاح 5 ".

وقال السيد المسح عليه السلام: [ وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم]" إنجيل متى – الآية 44 – الإصحاح 5".

وقال السيد المسيح عليه السلام: [فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم بهم لأن هذا هو الناموس والأنبياء]" إنجيل متى – الآية 12 – الإصحاح 7".





صورة الله مع الذين يرفضون دينه ويرفضون الإيمان به في القرآن:

قال تعالى: {وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد} " إبراهيم – 8 ".

وقال تعالى: {ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} " آل عمران – 97 ".

وقال تعالى: {فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد} " التغابن – 6".

وقال تعالى: {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}" النمل – 40 ".





وذكر القرآن أن المرتد عن الدين أيا كان هذا الدين والمنقلب على عقبيه لن يضر الله شيئا.

قال تعالى: {ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا} " آل عمران – 144"

وقال تعالى: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا} "آل عمران – 176 ".





وذكر القرآن أن الله نهى رسوله عن الحزن على ما يقوله غير المسلمين في حقه وفي حق دينه، فإن الله أعز وأكبر من أن يحزن أحد عليه.

قال تعالى: {ولا يحزنك قولهم} " يونس – 65 ".

وذكر القرآن أن الله نهى رسوله عن الحزن على من كفر من الناس.

قال تعالى: {ومن كفر فلا يحزنك كفره} " لقمان – 23 ".





صورة الله مع الذين يرفضون دينه ويرفضون الإيمان به في الكتاب المقدس:

قال السيد المسيح عليه السلام: [ ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام] "إنجيل متى – الآية 16 –الإصحاح 10 ".

قال السيد المسيح عليه السلام: [ومن لا يقبلكم ولا يسمع كلامكم فاخرجوا خارجا من ذلك البيت أو من تلك المدينة وانفضوا غبار أرجلكم] "إنجيل متى – الآية 14 – الإصحاح 10 ".

قال السيد المسيح عليه السلام: [فلما نظر الفريسيون قالوا لتلاميذه لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة، فلما سمع يسوع قال لهم لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى فاذهبوا وتعلموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة ] "إنجيل متى – الآيات 11 – 12- 13- الإصحاح 9 ".

قال السيد المسيح عليه السلام: [ لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم فأي أجر لكم]" إنجيل متى- الآية 46 – الإصحاح 5 ".





وفي الختام أقول للمتدينين والمؤمنين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على الله وعلى دينه ارفعوا أيديكم عن الله. فالله أكبر من أن يضره كفر أحد أو ردته، الله أكبر من أن تهزه كلمة، وأكبر من أن يستفزه نقد. الله أكبر من الشعور بالضرر والنقص لأجل شخص لم يؤمن به أو شخص ترك دينه. فالله لن يضره أهل الأرض إن كفروا كلهم جميعا، ولن ينفعه أهل الأرض إن آمنوا كلهم جميعا، فارفعوا أيديكم عنه واتركوه وشأنه مع عباده. وارفعوا أيديكم عنا واتركونا وشأننا مع إلهنا وخالقنا.

 

اجمالي القراءات 12058