من غزل المحلة... إلى طب الأزهر... إلى الأب مكسيموس، إلى المحامين الليب

سعد الدين ابراهيم في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

شهدت الساحة المصرية في الآونة الأخيرة مزيداً من محاولات كسر القوالب الجامدة، والقيود الحديدية المفروضة على المجتمع. وليست الدولة وحدها هي التي تضع هذه القوالب أو تفرض هذه القيود. ولكن تشارك في هذه المهمة الكنيسة والأزهر، والنقابات المهنية والعمالية. ويجمع بينها استمرار الفكر التسلطي القديم والممارسة الاستبدادية. وفي مقابل ذلك هناك عناصر التحدي الجديدة التي تنشد التعددية، وتوسيع الفضاء العام، والارتفاع بسقف الحرية. وفي النصف الأول من شهر ديسمبر 2006، شهدنا عدة نماذج من هذا الصراع بين القديم والجديد. ورغم أن المعارك ما زالت في بدايتها، إلا أنه من المفيد أن نرصد تجلياتها، ونتأمل الدروس المستفادة من تجاربنا وتجارب الآخرين، حتى يمكن ترشيد هذا الصراع الحتمي، والحرص على إبقائه صراعاً سلمياً.

* المعركة النقابية
كان إضراب، ثم اعتصام عمال مصنع المحلة في الأسبوع الأول من ديسمبر، احتجاجاً على سياسات إدارة الشركة، وامتناعها عن صرف حوافز ومكافآت، يعتقد العمال أنها حقوق مكتسبة لهم مؤشراً هاماً لخروج النقابة الفرعية للمصنع عن النقابة العامة، بل عن الاتحاد العام لعمال مصر. فهذا الأخير بهيكله وقياداته قد تحوّل خلال النصف قرن الأخير إلى امتداد بيروقراطي للأجهزة الحكومية والأمنية في مصر. وحيث لم تعد الحركة العمالية في ضوء ذلك تملك استقلالها، فإن النقابات والاتحاد الذي فُرض عليها لم يعد يعبّر حقيقة عن مصالح العمال أو ينطق صدقاً بأصواتهم. وزاد إحساس العمال بالقهر أن انتخاباتهم الأخيرة لم تتم بحرية ونزاهة، فجاءت نتائجها الرسمية المعلنة مخالفة لإرادة غالبية العمال، وبالتالي شعروا أن إرادتهم، وهي أغلى ما يملكون، قد زُورت، وتم اغتصابها، بواسطة المباحث لحساب الحزب الوطني الحاكم.
ولعل إضراب عمال شركة غزل المحلة، ثم اعتصامهم لعدة أيام، رغم كل محاولات الأجهزة الرسمية والمدنية للالتفاف عليهم، وشق صفوفهم، ثم ترهيبهم، والتهديد بتشريدهم، وصمودهم إلى أن تحققت مطالبهم هو أحد قصص نجاح العصيان المدني في مصر. وهو نجاح لم يكن فقط من اجل مطالب فئوية نقابية، ولكنه كان أيضاً نجاحاً سياسياً ضد تسلط الأجهزة الأمنية واستبداد النظام الحاكم.

وفي مقال أخير لنا عن ما حدث في أوروبا الشرقية منذ ربع قرن بعنوان "تعديل 76و77 كبديل للفوضى" (المصري اليوم 9/12/2006) ذكرنا كيف كانت الشرارة الأولى هي إضراب نقابة عمال بناء السفن في بولندا، (1980) بسبب ارتفاع ثمن اللحوم. وكان إضراب تلك النقابة بالمخالفة للاتحاد العام لعمال بولندا، الذي كان يدور في فلك الحزب الشيوعي البولندي الحاكم، أي الأقرب للحزب الوطني واتحاد عمال مصر. وبدلاً من تخوين نقابة بناء السفن في بولندا، انضمت إليها نقابات أخرى، فيما عُرف وقتها بتنظيم "تضامن" (Solidarity)، والذي استمر يناضل لتسع سنوات إلى أن أسقط النظام الشيوعي، في أوائل عام 1989. وسرعان ما انتقلت العدوى إلى بقية بلدان أوروبا الشرقية، فتساقطت أنظمتها الشمولية تباعاً، بما في ذلك الاتحاد السوفييتي نفسه، والذي أصبح أثراً بعد عين.

إن ما فعله عمال شركة غزل المحلة مستقلين، وبلا استئذان من أحد، هو بداية لكسر القالب الحديدي الذي تم حشد كل النقابات العمالية فيه، في تنظيم هرمي شبه فاشستي، تحت اسم اتحاد عمال مصر. والذي توقف عدة عقود عن التمثيل الحقيقي للطبقة العاملة أو الدفاع عن مصالحها. ولعل تلك تكون أيضاً بداية لتعددية نقابية حقيقية، حتى لو ظل الاتحاد العام قائماً، على شكل "فيدرالية" للنقابات، يكون فيها للأخيرة حق الحركة الذاتية.

* الاتحاد الطلابي الموازي

من نفس المنطلق، وثورة على الاتحاد العام لطلاب الجامعات، الذي هو أيضاً أشبه بتنظيم الحزب الواحد، وتدير شئونه مباحث أمن الدولة، حيث هي التي توافق أو تعترض على أسماء المرشحين في الانتخابات الطلابية، قامت جموع من الطلاب، بتأسيس اتحاد آخر موازي، أطلقوا عليه اسم "الاتحاد الحر لطلاب الجامعات". ونظموا انتخاباتهم الحرة المستقلة عن انتخابات الاتحاد الطلابي القديم، الذي أصبح يُعرف باسم "الاتحاد الحكومي" وردت الأجهزة البيروقراطية في الجامعات، بتأديب من تم انتخابهم في جامعاتهم وكلياتهم، ومنهم اتحاد طلبة كلية الطب بجامعة الأزهر. ورغم التعسف في هذا القرار، والالتماس السلمي من الطلبة لإدارة الجامعة بإعادة النظر في قرار فصل زملائهم، إلا أن الإدارة أصرّت على التمسك بقرارها. فما كان من مجموعة من الطلاب المتضامنين مع زملائهم المفصولين، إلا الاعتصام أمام مكتب رئيس الجامعة. ثم ادعوا أن الأمن قد تحرش بهم. فما كان منهم إلا استبدال ملابسهم بملابس الميلشيات العسكرية، ووضعوا الأقنعة على وجوههم، ثم بدأوا استعراضاً لقوتهم بإجراء تدريبات في فنون الكاراتيه والكونغفو، أمام بقية الطلاب وهيئة التدريس وكاميرات وسائل الإعلام المحلية والعالمية. وقيل أن رئيس جامعة الأزهر قد تراجع عن قرار فصل أعضاء الاتحاد الموازي لكلية الطب. وقامت ثائرة وسائل الإعلام الرسمية، التي ألقت بمسئولية ما حدث على جماعة الإخوان المسلمين. وحاولت قيادات هذه الجماعة التنصل مما حدث في البداية، ثم التقليل من شأن ما حدث.

وبصرف النظر عن الحقيقة، فإن غباء استبداد أجهزة اتخاذ القرار، سواء في حالة عمال المحلة الكبرى أو طلبة كلية طب الأزهر، هي التي تدفع الناس إلى اللجوء للعصيان المدني. وهو بالمناسبة أمر مشروع، وهو بديل سلمي للعنف. كما أن الأصل في الاجتماع البشري، هو أن الناس تلدهم أمهاتهم أحراراً. وهم بإرادتهم الحرة الذين ينظمون أنفسهم في جماعات وروابط واتحادات ونقابات فلماذا تتدخل أجهزة الدولة في أمر ارتضاه الطلاب لأنفسهم، حتى لو كانوا إخواناً مسلمين أو ماركسيين أو ناصريين، أو حتى شياطين، ما داموا لا يلجأون لعنف أو يخرقون قانوناً.

* الأب مكسيموس والكنيسة القبطية

وضمن نفس الاتجاه الصاعد في المجتمع المصري لكسر القوالب الجامدة، خرج علينا منذ عدة أشهر، أحد القساوسة الأقباط الأرثوذكسي، بالإعلان عن ميلاد طائفة مسيحية جديدة، لها كنيستها المستقلة، وشرائعها وقواعدها وشعائرها الخاصة بها. وربما أحد وجوه الإثارة في دعوة الأب مكسيموس، هو أن الطائفة الجديدة تبيح الطلاق للأقباط الأرثوذكسي الذين ينضمون إليها، وهو أمر محرم عليهم الآن، إلا في ظل قواعد وشروط تعجيزية أو مهنية في نظر البعض، مثل ثبوت الزنا أو الاعتراف به من أحد الزوجين. ومرة أخرى ثارت ثائرة أتباع الكنيسة الأم، وهي التي تضم أكثر من 90% من مسيحي مصر. هذا دون أن تراجع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية نفسها، أو تعدل من بعض قواعدها الجامدة، والتي لم تتغير طوال الألف سنة الأخيرة. وحقيقة الأمر تاريخياً، هي أن الأديان تتفرع إلى ملل، ثم إلى مذاهب، وإلى طوائف، حينما يتجمد الأصل، ويتوقف أو يعجز عن تلبية المطالب والحاجات المستجدة لأتباعه. هذا ما حدث في الإسلام واليهودية، والمسيحية في بلاد الدنيا كلها. وفي الولايات المتحدة، هناك ما يقرب من أربعمائة مذهب وطائفة ونحلة بين المسيحيين أنفسهم. ولم يؤثر ذلك لا على المسيحية ولا على أمريكا.

وما يصدق على الطائفة الجديدة للأب مكسيموس يصدق على البهائية، وعلى الشيعة بكل تفريعاتها. إن التعددية في الطبيعة وبين البشر، هي الأساس. والمطلوب فقط هو الإدارة السلمية لهذا النوع وهذه التعددية.

* الكهنوت الأزهري الجديد

كتب المفكر الإسلامي جمال البنا يشكو من هرولة أزهرية نحو كهنوت منفرد، يقفل باب الاجتهاد على لجنة الإفتاء بمجمع البحوث الإسلامية. وهو يعارض هذا الأمر بشدة. فمقولة وقف الفتوى على أهل "الاختصاص"، وهو ما يعني الأزهريون من خريجي كليتي الشريعة وأصول الدين، يعتبر افتئاتاً على غيرهم من المسلمين المجتهدين. ومنهم بالطبع الأستاذ جمال البنا نفسه، الذي كتب في شئون الدين من المجلدات ما لم يكتبه أي أزهري معاصر في العقود الخمس الأخيرة. ويكفي الأجزاء العديدة لعلمه الموسوعي "نحو فقه جديد"، الذي فتح به آفاقاً لم يطرقها أي أزهري معاصر من "أهل الاختصاص". بل ربما لو كان أهل الاختصاص من المجددين المبدعين، وليسوا من المقلدين الجامدين، لما فسدت كثير من أمور دنيتنا ودنيانا.

إن العبرة في أمور الفتوى أن يستمع إليها، ويناقشها، ثم يقتنع بها المؤمن، ويسترشد بها في ممارساته الدينية أو الدنيوية. وللمؤمنين حق الاختيار بين فتاوى الفقهاء، الذين قد يختلفون، والذين في خلافهم رحمة لذوي الألباب. فليكف الأخوة الأزهريون (من أهل الاختصاص) عن محاولات احتكار التفسير والفتوى. وليدعوا تفسيراتهم وفتاواهم هي التي تتحدث عن صدق وتميز اجتهاداتهم، دون إنكار هذا الحق على غيرهم في مصر أو دار الإسلام الواسعة.

*نقابة المحامون الليبراليون

نقابة المحامين هي أعرق النقابات المهنية في مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي. وقد كانت منذ إنشائها، قبل قرن من الزمان، حصناً لحريات، ممارسة بين أعضائها، أو دفاعاً عنها لأبناء مصر كلها. وكان زعماء مصر الليبرالية طوال القرن العشرين من أعضائها البارزين ـ مصطفى كامل، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، وأحمد لطفي السيد، وفتحي رضوان، وفؤاد سراج الدين.

ولكن النقابة في العقود الأربعة الأخيرة تعرضت لاختراق وهيمنة حكومية مستترة، من خلال الاتحاد الاشتراكي، ثم لسيطرة سافرة من خلال وضعها تحت الحراسة، إلى أن استطاعت المحامية القديرة فاطمة ربيع، بدأبها ومثابرتها، أن تحرر النقابة من الحراسة، وتعيدها لأصحابها الحقيقيون. ولكن سرعان ما اشتد الصراع بين المحامين من الناصريين والإخوان المسلمين وشعرت أغلبية المحامين الذين لا ينتمون لأي من المعسكرين بالغربة في نقابتهم. ولكسر هذه الغربة، بادر عدد من شباب المحامين الليبراليين بتكوين اتحاد لهم داخل النقابة، ويحمل نفس الاسم. ولكن عندما بدأوا نشاطهم الفكري، انقضت عليهم جحافل الفكر التسلطي، ومعها الصحافة المباحثية الصفراء.

لقد فكر المهندسون، الذين ما زالت نقابتهم تحت الحراسة، أن ينشأوا نقابة موازية وحسناً فعل اتحاد المحامين الليبراليين بالتريث في التفكير عما فكر فيه المهندسون، أو ما قام به فعلاً طلاب الجامعات باتحاداتهم الموازية. ونرجو ألا يضطرون لذلك، وأن يرفع خصوم الليبرالية أيديهم عن نقابة المحامين، ويكفوا عن ابتزاز وإرهاب اتحاد المحامين الليبراليين  

اجمالي القراءات 14040