صديقى المُفكر الكبير.. والحنين للديكتاتورية

سعد الدين ابراهيم في السبت ٠٧ - نوفمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

فى اليوم التالى لانتخابات الجولة الأولى للبرلمان، سألت صديقى، الذى تشير إليه الصحافة عادة بلقب المُفكر الكبير. سألته عما إذا كان قد مارس حقه وواجبه بالمُشاركة فى الانتخابات؟ ففاجأنى المُفكر الكبير بأنه لم يفعل، ولن يفعل فى أى انتخابات قادمة، لأنه لا يؤمن بالديمقراطية كنظام للحُكم!

ظننت فى البداية أنه يُناكفنى أو يستفزنى، فأنا أعرفه منذ نصف قرن، ونمت صداقتنا وتوطدت خلال الأربعين سنة الأخيرة. وطالما شاركنا فى مؤتمرات وندوات عن الديمقراطية وضرورتها، حتى نتجت النكسات والهزائم. فالبُلدان الديمقراطية لا تُهزم فى الحرب. ولكن بعد عشر دقائق من الحديث أيقنت أن هذا الصديق جاد تماماً فى كُفرانه بالديمقراطية. فسألته عن صحته، ثم عن أفراد أسرته، ثم عن أحواله المالية. وكانت الإجابات أن كل شىء على ما يُرام.

فسألت الصديق العزيز عن آخر أعماله وكتاباته، فلا شىء يُصيب المُفكر بالاكتئاب والسوداوية، إلا توقفه عن الإنتاج والإبداع.

ومرة رابعة، فتح المُفكر الكبير حقيبة صغيرة كان يحملها، وناولنى آخر مؤلفاته، وكان عن ثورات الربيع العربى. إذن، ليس سبب سلبية صديقى نضوب فى القُدرة على الإنتاج، أو إيجاد وسائل ومنافذ للطباعة والنشر والتوزيع، وهى عادة مشكلة جيل الشباب من المُبدعين. أما هذا الصديق من الشيوخ، فإن الناشرين يتسابقون على إنتاجه.

فانتقلت بالحديث إلى آخر قراءاته. وهنا وجدت مربط الفرس. وتذكرت أنه منذ كُنا شباباً، وكان أحدنا يقرأ كتاباً لم يقرأه أحد من زُملائه وأصدقائه، فإنه كان يتحايل بسبقه، ويستعرض عضلاته الفكرية عليهم.

وفعلاً، اتضح أن المُفكر الكبير قد فرغ لتوّه من قراءة كتابين، جلبهما فى آخر رحلة له إلى باريس. أحدهما لكاتب فرنسى والثانى لكاتب أمريكى. ولكنهما يشتركان فى نقدهما اللاذع للديمقراطية والتعددية الحزبية، ويعتبرانها خدعة تمارسها النُخبة السياسية على شعوبها!!

سألت المُفكر الكبير: «هل اقترح المؤلفان، أو هل اهتديت أنت نفسك إلى بديل أفضل من الديمقراطية (التعددية الحزبية ـ والبرلمانات التمثيلية) لحُكم الشعوب؟». وكأنه كان يتوقع السؤال، فأجاب على الفور «نعم، النموذج التنموى». فسألته أن يُعطى بعض التفاصيل. انفرجت أسارير الصديق العزيز، وبدأ يُحدثنى عن تجربة الرئيس بارك (Bark) فى كوريا الجنوبية، والرئيس يوكيو (Yukio) فى سنغافورة. وكيف أن هذه الأخيرة مثلاً، أصبحت فى المركز الأول أو الثانى على مؤشرات الأمم المتحدة للتقدم والرفاهية.

وحيث كنت أعلم ذلك المصدر وتلك القائمة فى ترتيب الدول، سألت الصديق العزيز عن بقية البُلدان العشر الأوائل.

أسقط فى يد الصديق العزيز. فالدول الثمانية الأخرى كلها ذات أنظمة حُكم ديمقراطية، وهى سويسرا، وكندا، والسويد، والنرويج، والدنمارك، والولايات المتحدة، وبريطانيا، والكويت.

ولكن صديقى ليس من النوع الذى يعترف بخطئه بسهولة. فهو مُراوغ كبير. فسألنى: «من هم الحُكام الذين ازدهرت فى عهودهم مصر الحديثة؟» فأجبته، «إن كنت تقصد محمد على، وجمال عبد الناصر، فقد انتهى كل منهما بهزيمة أجبرته على التراجع عن مشاريعه الكُبرى، بعكس ما حدث فى مصر الليبرالية بين أعوام 1922 و1952، والتى شهدت نهضة صناعية قادها طلعت حرب وبنك مصر، ونهضة ثقافية كان عمادها أحمد لطفى السيد، وطه حُسين، وتوفيق الحكيم، ونهضة علمية كان عمادها الدكتور مصطفى مُشرّفة والدكتور رشدى سعيد، وأخرى فنية كان عمادها يوسف وهبى ومحمد عبدالوهاب وأم كُلثوم، ونهضة نسائية كان عمادها هدى شعراوى وسيزا نبراوى ودرية شفيق».

ثم لاحقت صديقى باتهام صريح، وهو أنه فى أعماقه شمولى، يحلم بالمُستبد العادل، كما حلم به مُثقفو ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وأنه ربما يتصور أو يتمنى أن يكون عبدالفتاح السيسى هو هذا المستبد العادل، أليس كذلك؟

وبعد لحظة صمت رهيبة، اعترف الصديق العزيز بأن ذلك فعلاً هو ما يتمناه لمصر، فيما تبقى من حياته التى تجاوزت الثمانين.. ولمحت دمعة تترقرق من عينيه، فقبّلته وأنهيت الحديث بعبارة إن شاء الله!..

وعلى الله قصد السبيل.

اجمالي القراءات 9648