عملاء آل سعود خونة الشعوب
حقيقة دور الإخوان المسلمين في ثورة (1948م) اليمنية

عبدالوهاب سنان النواري في الأربعاء ٢١ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة:

1- زعم القرضاوي في كتابه " في وداع الاعلام " أن الشيخ إبراهيم بن مصطفى الجزائري، المعروف بالفضيل الورتلاني، يعتبر مهندس ثورة (1948م) وأنه لولاه لما توحَّد الأحرار في اليمن، وأنه دفع بالحركة الإصلاحية في اليمن قفزة واسعة، وكان له دور معروف غير منكور في انقلاب اليمن على الإمام يحيى حميد الدين، حسب وصفه. ويضيف كانت هناك معارضة يمنية، وكان هناك نقد وتبرم ومنشورات ضد الدولة، وكل ذلك يصلح أن يكون وقودًا لثورة ما، ولكن (المعارضة) كانت بلا تنظيم، واتجاهات زعمائها مختلفة ومتباينة، والمناشدون بالإصلاح ودعاة التغير والتطور لا توحِّدهم رابطة، والنقد والتبرم غير موجهين توجيهًا سياسيًّا هادفًا بناءً .. إلى آخر كلامه الذي يبعث على الغثيان.

2- ويبدو أن الهجوم الذي قامت به الصحف المعادية للإخوان في مصر آنذاك، قد صور للعالم أن الإخوان هم عماد الثورة اليمنية، حيث استغلت تلك الصحف الدور الذي لعبه الإخوان في اليمن للنيل من الجماعة، خاصة من جانب الصحف الوفدية كالبلاغ، والنداء، وصوت الأمة. وذلك في إطار العداء الذي كان مستحكماً في تلك الفترة بين الوفد والإخوان. ومن هذا المنطلق وجدت الصحف الوفدية، وبصفة خاصة صوت الأمة، الفرصة السانحة في أحداث اليمن، للهجوم على الإخوان والتشهير بهم، وتعاملت مع هذه القضية من منظور العداء للإخوان، دون النظر إلى حقيقة الوضع في اليمن ودوافع قيام هذه الثورة.

3- وكان قد أثير دور الإخوان في أحداث اليمن أثناء محاكمة قتلة حسن البنا، وحاول الدفاع عن أحد المتهمين استغلال أحداث اليمن لصالح موكله، كما حاولت الحكومة المصرية إيجاد صلة بين حادث مقتل حسن البنا والأحداث التي وقعت في اليمن، وأعلنت الحكومة المصرية صراحة أن الإخوان ساهموا في اغتيال الملك يحيى، وذلك بتأكيد أن قتلة البنا من اليمنيين، وأن للملك اليمني يدا في مقتله. والظريف في المحاكمة: أن الفضيل الورتلاني أرسل رسالة إلى رئيس المحكمة، نفى فيها اشتراكه في قتل الملك يحيى، كما نفى أنه من الإخوان المسلمين.

4- الجدير بالذكر، أن ثورة الدستور أو ثورة 1948م، تعتبر من الناحية الفعلية هي البداية الحقيقية لتاريخ اليمن المعاصر وربما الحديث، فقد أحدثت الثورة هزة عنيفة في المجتمع اليمني والعربي على الرغم من أنها لم تستمر سوى 26 يوما فقط، فهي أول ثورة شعبية ضد نظام ملكي في العالم العربي. وعموما فدراسة هذه الثورة وعلاقة الإخوان المسلمين بها، هي من قبيل ركوب الصعب، وهي أشبه بالخوض في بحر هائج مضطرب بالعواصف والأنواء، بحثا عن حطام سفينة غارقة وإعادة تركيبها من جديد، فالإخوان المسلمون هم أخطر جماعة على وجه الأرض، ومن الصعب تتبع خيوط مؤامراتهم، ومع ذلك فسنحاول كشف ما أحاط بهذه الثورة من أسرار حسب علمنا.

 

أولاً- حتمية قيام الثورة:

1- ذكر العديد من المناضلين أنه لم تقم الثورة اليمنية إلّا بعد أنْ يأسوا من إمكانية تحقيق التقدم والازدهار لليمن في ظل ذلك النظام الإمامي الكهنوتي المنغلق الذي لم يشهد العالم والوطن العربي نظاماً استبدادياً ومتخلِّفاً مثله، ذلك النظام الذي ابتُليَ به اليمن لحوالي ألف عام أكلت الأخضر واليابس وأتت على كل ما كان فيه من نماء معرفي واقتصادي ودفعته نحو مؤخرة وذيل الركب الحضاري. وعن حتميّة قيام الثورة يقول المناضل الأستاذ عبدالوهاب جحّاف: "نحن ثرنا على التخلُّف حين اتضح لنا أنّ الإمام نفسه غير مستوعب لتطور عصره. فقد كان الإمام يعيش في عصرٍ والجيل الجديد يعيش في عصرٍ آخر. لذا كان لابُدَّ من قيام الثورة" .

2- والعديد ممن زاروا اليمن خلال عهدي الطاغية يحيى حميدالدين وولده الطاغية أحمد، يؤكِّدون على أنّ سياسة الانغلاق والتجهيل والتجويع التي انتهجها كهنة آل حميدالدين، كانت السبب الذي جعل من قيام ثورة تجتث ذلك النظام برُمَّتِهِ ضرورة حتمية. ومِن ذلك ما كتَبَهُ المُصلِح التونسي عبدالعزيز الثعالبي والأستاذ السوري نزيه العظم والدكتور المصري أحمد فخري والدكتور مصطفى الشكعة والطبيبة الفرنسية (كلودي فايان) صاحبة كتاب (كنتُ طبيبة في اليمن) والرحّالة الأوربي الألماني (هانز هولفريتز) صاحب كتاب (اليمن من الباب الخلفي) والأستاذ الشاعر والرحّالة اللبناني أمين الريحاني صاحب كتاب (ملوك العرب). حتى أنّ الرحّالة الإنجليزي (بالانس) صاحب كتاب (اليمن الثورة والحرب) والذي زار اليمن عام 1948م عقب استتباب الأمر للطاغية أحمد يستغرب حين يجد أن اليمن التي رآها حينذاك هي نفسها اليمن التي وصفَها قبلَه الرحّالة الإنجليزي الذي زارها عام 1609م. أي أنّ اليمن وبعد حوالي 340 سنة بقيَتْ كما هي لم يتغيّر فيها شيء نتيجة ذلك الحُكم الكهنوتي الانعزالي المستبد. وهو يقول: "إنّ الوصف الذي أوردَهُ جون جوردان أوّل إنجليزي يزور صنعاء ويكتب عنها عام 1609م يظهر كما لو كان معاصراً لعام 1948م، حيث لم يقع ثمّةَ تطوُّر في اليمن" .

3- وهكذا ومن خلال استقرائنا للنزر اليسير مما قالَهُ الأحرارُ والرّحّالة الأجانب والعرب يتضح لنا كيف أنّ الثورة المجيدة قامت لضرورة مُلِّحة ولم تقم اعتباطا أو صدفةً أو عمالة كما يدّعي الحوثيون، ولم يفجرها الإخوان وحسن البنا كما يزعم الإخوان ويعتقده الكثيرون، ويلخص المناضل الثائر القاضي/ محمد محمود الزبيري، حال اليمن بقوله:

جهل وأمراض وظلم فادح ... ومخافة ومجاعة وإمامُ

والناس بين مكبل في رجله ... قيد وفي فمه البليغ لجــامُ

 

ثانياً- حركة المعارضة الوطنية الإصلاحية (الأحرار) :

1- كانت اليمن في النصف الأول من القرن العشرين تبدو كإحدى إمارات العصور الوسطي يحكمها إمام امتلك في يده كل السلطات، وأضفى على حكمه الطابع الديني، وفرض العزلة على اليمن فأصبحت مظاهر الحياة فيه لا تمت بصلة إلى العصر الحديث، مقارنة حتى بالدول العربية التي كانت ترزح تحت الاستعمار الأوربي، هذا الوضع المزرى في اليمن كان لابد أن يثير القوى المثقفة في اليمن، وأن ترتفع الأصوات مطالبة بالإصلاح، وهي الأصوات التي لم يعيرها الكاهن يحيى حميدالدين أدنى اهتمام وأصر على المضي في سياسته والتمسك بها.

2- ظهرت منظمة "هيئة النضال" كأول منظمة يمنية معارضة وقد أسسها أحمد المطاع عام 1936م بصورة سرية. وقد بدأ المطاع العمل في عام 1935م وفي سبيل كسب الأنصار والمؤيدين لمنظمته الإصلاحية، شرع بجولة في اليمن لهذا الغرض، وفي العام التالي شرع في تجهيز المركز الرئيسي لهيئة النضال بصنعاء. وقد ارتكز عمله في الأساس على اكتساب الفئات المثقفة وكبار الموظفين في الإدارات الحكومية، وكان أبرز نشاط في تلك الفترة هو إصدار مجلة "الحكمة اليمنية" الثقافية بالتعاون مع أحمد عبد الوهاب الوريث، وكان أحمد الوريث صورة حية لأفكار جمال الدين الأفغاني ودعوته في اليمن، وقد هدفت المجلة إلى توعية الشعب اليمني، وقد استمرت لمدة ثلاثين شهراً من سبتمبر 1938 حتى فبراير 1941، وقد شارك في تحريرها العديد من دعاة الإصلاح.

3- وقد لعب سوء الأحوال التجارية، وما ترتب عليها من آثار، دوراً بارزاً في حركة المعارضة، فسوء أحوال الموانئ اليمنية في الشمال مثل الحديدة واللحية ومخا، أدى إلى أن تتم معظم تجارة اليمن عبر ميناء عدن، مما أدى لافتتاح المستوردين اليمنيين مكاتب لهم هناك، نظراً لإمكانياتها التجارية الكبرى، وما تتمتع به من حرية سياسية. وقد أدى احتكاك التجار بالعالم الخارجي، بالإضافة إلى أن معظمهم شوافع، لانضمامهم إلى المعارضة اليمنية، وتمويل أنشطتها ماديا، ولذلك صارت عدن مركز للمعارضة ضد النظام الرجعي المتخلف من جانب كثير ممن استقروا فيها. كما كانت عدن المكان المفضل لآلاف اليمنيين الذين هاجروا من اليمن نتيجة التخلف وسوء الأوضاع الاقتصادية، وبحثاً عن حياة أفضل.

4- وعلى الجانب الآخر فقد وجدت المعارضة طريقها إلى الأسر الزيدية الكبرى وكذلك داخل أسرة الطاغية نفسه لأسباب مختلفة، فقد أراد الطاغية تولية أبنه أحمد ولاية العهد وهو ما يخالف المذهب الزيدي، الذي ينص على اختيار الإمام بالانتخاب من بين العلماء المنتسبين إلى فاطمة بنت النبي، وقد أقدم الطاغية على هذه الخطوة عام 1937م، عندما أعلن تولية ابنه أحمد ولاية العهد، وهي الخطوة التي أصابت علماء الزيدية بالفزع. وقد كانت هذه الخطوة تعني القضاء على طموح الأسر الزيدية الكبرى في تولي أبنائها الإمامة، واستمرار الإمامة داخل أسرة حميدالدين. وكانت قد أثيرت في منتصف الثلاثينات مسألة من يخلف يحيى من جانب بعض الزعماء خاصة من أسرة آل الوزير، وهي الأسرة التي تولى بعض أفرادها منصب الإمامة من قبل، وكذلك من جانب العلماء ودعاة الإصلاح، وقد رفضوا شرعية ولاية العهد، وقد أقدم الطاغية يحيى، على اتخاذ إجراءات صارمة تجاه الذين عرف أنهم ضد تعيين ابنه لولاية العهد، وأنهم يتطلعون لمنصب الإمامة، وقد نالت هذه الإجراءات علي الوزير الذي عزله من ولاية تعز، كما عزل من قبل عبد الله الوزير من إمارة الحديدة.

5- وبالنسبة لإخوة الطاغية يحيى فقد كانوا منفيين خارج اليمن, أما أبناءه وكان عددهم تسعة وكان كل واحد منهم يحمل لقب سيف الإسلام، فلم تكن معارضتهم نابعة من رفض قضية (ولاية العهد) المخالفة للمذهب الزيدي، بل كانت منصبه على رفض تعيين أحمد في هذا المنصب، وطمع كل واحد منهم في توليها، وإن كان الطمع والتنافس بين أبناء الطاغية سابق على تولية أحمد لولاية العهد. ولم تقتصر المعارضة داخل أسرة الطاغية على التنافس بين أبنائه على ولاية العهد، فقد كان من بين أبنائه من يرغب في إدخال الإصلاحات إلى اليمن والنهوض بها، وعلى رأسهم أبنه سيف الإسلام "محمد" وقد أثارت آراؤه مخاوف أنصار القديم نظرا لتمتعه بحب أبيه، حتى انتشر الهمس أن والده قد يعينه ولياً للعهد، وتجنباً للغيرة والحقد بين محمد وأخيه أحمد، وتسكيناً لخواطر المتمسكين بالقديم الرافضين للإصلاح قرر الطاغية أن يبعد محمداً عن صنعاء ويعهد إليه بحكم إقليم تهامة ويكون مقرة الحديدة. أما سيف الإسلام يحيى وسيف الإسلام إبراهيم، فقد قررا ترك اليمن والالتحاق بحركة الأحرار اليمنية في عدن، وكان الطاغية قد أمر بسجن ولده إبراهيم نتيجة لاعتراضه على سياسته، ومطالبته بالإصلاح، وقد مكث في السجن ثلاث سنوات، ثم أشفق عليه نتيجة لتدهور حالته الصحية فأمر بالإفراج عنه، وسمح له بمغادرة البلاد طلباً للعلاج.

6- وهكذا تنوعت فئات المعارضة اليمنية التي شملت المثقفين والعسكريين والتجار، وبعض الأسر الكبرى كآل الوزير، وبعض الشخصيات الكبرى المحيطة بالطاغية وبعض أبناءه، وعلماء الدين الذين قدموا عريضة للطاغية تطالب بالإصلاح. وتعتبر الفترة من 1934 – 1944، وهو العام الذي أسس فيه حزب الأحرار اليمنيين في عدن بعد هروب محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان إلى عدن هي فترة المخاض التاريخي لولادة الحركة الوطنية اليمنية.

7- ويعتبر تأسيس حزب الأحرار اليمنيين في عدن عام 1944 نقطة تحول للحركة الوطنية اليمنية في كفاحها ضد الاستبداد، فإذا كانت الحركة الوطنية قد نشأت شمال اليمن إلا أن هذه الجهود – مع أهميتها - ظلت محصورة في نطاق محدود، وذلك نظراً لظروف اليمن الجغرافية، وصعوبة الاتصالات بين أنحاء اليمن كما أن رقابة الطاغية وحملة الاعتقالات ضد دعاة الإصلاح، والتي طالت أعضاء هيئة النضال، لم تعط الفرصة الكبيرة للتحرك. ولذلك كانت خطوة إنشاء حزب الأحرار في عدن، بعيداً عن رقابته وسيطرته، تعني القدرة على التحرك، وكشف سلبيات ومساوئ الحكم الكهنوتي، واللجوء إلى استخدام كل الوسائل الممكنة للتحرك ضده، مثل إصدار الصحف والنشرات التي توضح المأساة التي تعيشها اليمن، وكذلك التنسيق بين قوى المعارضة وتوحيد جهودها للعمل ضد نظام الطاغية.

8- هذه الحرية الكبرى في الحركة لم يحد منها في بعض الأحيان سوى تدخل السلطات البريطانية في عدن، فقد لجأت - استجابة لرجاء الطاغية – لوقف النشاط الرسمي للأحرار المتمثل في حزب الأحرار، بحجة أن إنشاء الحزب مخالف للقوانين البريطانية. ولكن هذا الإجراء البريطاني لم يؤثر في عمل المعارضة اليمنية، فقد إنشاء الأحرار "الجمعية اليمانية الكبرى" في 4 يناير 1946م ، كبديل عن حزب الأحرار، وبذلك تم التحايل على الحظر القانوني لحزب الأحرار باستبدال كلمة الجمعية بدلاً من الحزب. واستمرت حركة الأحرار اليمنيين في طريقها، وكان من أبرز أعمالها إصدار صحيفة "صوت اليمن" وكانت الصحيفة تتميز في البداية بالاعتدال نتيجة تدخل السلطات البريطانية وتحذيرها من التعرض لشخص الملك يحيى حميدالدين، لكن سرعان ما ارتفعت نبرة الصحيفة، كما قامت حركة الأحرار اليمنيين بإصدار كتيبات بين الحين والأخر، فأصدرت كتابين يكشفان الأحوال السيئة لليمن، وهما "اليمن المنهوبة المنكوبة" والثاني "اليمن ظاهرها وباطنها".

9- ومن المهم الإشارة إلى إنشاء منظمة معارضة في مدينة (إب) عام 1944م، برئاسة القاضي محمد الأكوع، وكان من أبرز أعضائها القاضي عبد الرحمن الأرياني ، وقد وضعت لها برنامجاً، وأرسلت نسخة منه إلى القاضي الزبيري بعدن، الذي قام بمراجعته وأضاف إليه، وأطلق عليه برنامج الإصلاح، وقام بطبعه وأرسل منه كميات كبيرة إلى القاضي محمد الأكوع، وكان من أهدافها إزالة حكم الطاغية وأبنائه، وهو الهدف الرئيسي الذي تلتقي حوله المنظمات الثلاث، وهي حسب ترتيب إنشائها:

أ.        هيئة النضال برئاسة أحمد المطاع بصنعاء عام 1936.

ب.      حزب الأحرار بزعامة محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان عام 1944.

ت.      جمعية الإصلاح بزعامة محمد الأكوع عام 1944.

10- وفي عام 1940م، وصل إلى مصر الأمير علي الوزير، وبصحبته القاضي محمد محمود الزبيري، وبوصولهما إلى القاهرة، بدأت أول حركة منظمة محكمة لليمنيين الأحرار، الذين توافدوا على القاهرة سواء للدراسة أو فراراً من حكم الإمامة. حيث أسس أحمد نعمان والزبيري جماعة أُطلق عليها "الكتيبة الأولى". وقد أسس اليمنيون في مصر عدد من الجمعيات، كان أولها جمعية "الاعتصام" التي كانت تجمعاً وطنياً داخل الأزهر، والتي أصدرت بياناً استنكر الأوضاع في اليمن سواء في الشمال أو الجنوب، وطالبت بالأخذ بأسباب الحضارة والتقدم. كما ألفوا جمعية "شباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" عام 1940، والتي كانت نواة الحركة الوطنية باليمن. كما تألفت جمعية "الشباب اليماني" في نوفمبر 1944م، وكانت تهدف إلى توثيق الروابط بين اليمنيين في الداخل والخارج، والاتصال بحكومة اليمن للتعاون معها على إنهاض اليمن وإسعاد أبنائه، والعمل على إيجاد تعاون وثيق بين اليمن والأقطار العربية، ولجأ المعارضون اليمنيون في القاهرة إلى مجال النشر لفضح نظام الحكم في اليمن، والتنديد بالقمع والظلم فيه، وذلك من خلال مجلة الصداقة والرابطة العربية.

11- ومن أبرز تحركات أو بالأصح غلطات المعارضة، إقدام هيئة النضال على الاتصال بالملك عبد العزيز آل سعود، وذلك بدافع تأمين الثورة منه، ومحاولة كسب مساعدته، خاصة وأن الصلة كانت قوية وطيبة بين الملك عبد العزيز وآل الوزير، وتم تكليف القاضي الشماحي بالقيام بهذه المهمة خلال موسم الحج لعام 1365هـ – 1946م. وقد أوضح الملك السعودي موقفه بصورة واضحه، بأنه متمسك بمعاهدة الطائف مع الملك يحيى، وأعرب عن استعداده للنظر في تقديم الدعم المادي للمعارضة، شريطة عدم الدخول في صراع مع يحيى، خاصة مع تقدمه في السن ومرضه. إلا أن وصول أعداد من صحيفة صوت اليمن إلى السعودية وتوزيعها في مكة وعرفات، بما حوته من المقالات التي تندد بالاستبداد والملك والدعوة إلى الإطاحة بيحيى، أغضبت الملك عبد العزيز وأمر بمصادرتها ومعاقبة من وجدت معه، وقد كان لهذا الأمر أثره في مقابلة الشماحي للملك في المرة الثانية، وقد أوضح الملك السعودي بصراحة موقفة قائلا: "إني أري أن حركتكم هدامه ولا يسعني أن أساندها". أن الموقف الواضح الذي اتخذه الملك عبد العزيز، يوضح بجلاء الموقف المتوقع من النظم الملكية بصفة عامة، والسعودية بصفة خاصة بدافع الجوار، ولا ندري كيف غاب ذلك عن الأحرار إلا عندما نعرف أن للإخوان علاقة بالموضوع.

12- فخلال موسم الحج هذا تم أول لقاء بين هيئة النضال وحسن البنا، وذلك عندما تقابل القاضي عبد الله الشماحي مع حسن البنا في قصر الملك عبد العزيز، حيث قويت الصلات بينهم وتلازما بمكة والمدينة، وشرح الشماحي لحسن البنا الوضع في اليمن، وتم الاتفاق بينهم على تعاون الإخوان مع المنظمات اليمنية. ونحن لا نتصور أن يقوم الإخوان المسلمون - وهم الشجرة التي انبتها الملك عبدالعزيز في مصر، وهم عبيده ولا يخرجون عن طوعه – بالتعاون مع الأحرار ودعمهم، فالأفكار التي تروج لها حركة الأحرار في اليمن، وما تحويه صحفهم من نقد ومهاجمة للملوك والدعوة للإطاحة بالملك يحيى، تعد مصدر إزعاج للملك عبد العزيز الذي خشي امتداد الوعي الثوري من اليمن إلى بلاده، ولذلك أخذ يطالب الملك يحيى بضرورة معالجة أمر المعارضة اليمنية، كما قام عميله حسن البنا بمراسلة ملك اليمن بهذا الخصوص.

 

 

ثالثاً- علاقة الإخوان المسلمين باليمن:

1- المفارقة المدهشة في تتبع مسار الإخوان مع اليمن، أن علاقة حسن البنا لم تقف عند المعارضة فقط، وإنما كانت هناك علاقة وطيدة تربطه بالملك يحيى وولي عهده الأمير أحمد عبر تبادل المراسلات والمصالح، فقد كان الملك يحيى يقدر البنا ويحترمه، وقد أهداه عمامة يمنية كان حسن البنا يرتديها كثيراً، وأدى ذلك بصحف الإخوان في مصر إلى نشر أخبار اليمن أولا بأول. بشكل عام كان اليمنيون طلاب وحكومة ومعارضة يرون في الإخوان رمز للإخوة الإسلامية، والجهاد المخلص لرفع راية الإسلام، ويمنحوهم لذلك ثقتهم وولائهم، بصورة لم تعرف أنها تكررت مع بلد آخر.

2- ويرجع أول اتصال للإخوان باليمن إلى عام 1930 م - كما يذكر حسن البنا في مذكراته – حيث ألقى محاضرة في احتفال جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة بمناسبة ذكرى الهجرة، وكان من بين الحاضرين للحفل الأمير محمد زبارة الحسني اليمني أمير قصر السعيد في صنعاء، والذي التقى بالبنا بعد المحاضرة، وتحدث معه عن ضرورة مجابهة الإلحاد والإباحية، وقد عرض على البنا أن يعمل مدرساً باليمن، ودارت مخاطبات بهذا الخصوص بين الأمير محمد زبارة والملك يحيى، وبينه وبين الأمير محمد بن الملك يحيى، ولكن حسن البنا كان مشغولا بنشر الوهابية في مصر، بتكليف من الملك السعودي عبدالعزيز الذي دفع له أكثر مما عرضه عليه ملك اليمن، غير أن حسن البنا لم يعدم الوسيلة للحصول على جنيهات الذهب من ملك اليمن.

3- فعندما اشتعلت الحرب بين الملك يحيى والملك عبد العزيز آل سعود بسبب الحدود سنة 1934م، وجه حسن البنا رسالة إلى الملكين عبر جريدة الإخوان، جاء فيها: "بين الملك ابن سعود والإمام يحيى بن حميد الدين خلاف تتراءى أنباؤه الفينة بعد الفينة على صفحات الجرائد، ولسنا نعلم أنباء تهتز لها قلوب العالم الإسلامي إشفاقاً وفرقاً أعظم مما تهتز لهذه الأنباء" . ثم وضح حسن البنا مدى اهتمامه بأحوال وأخبار الملكين قائلاً: (ليس ذلك لصلة خاصة بيننا وبين الإمامين العظيمين، وليس ذلك لأننا نرجو مغنما شخصياً من وراء الوحدة أو نخشى مغرما شخصياً كذلك من وراء الفرقة، ولكن ذلك لإحساسنا بالخطر العظيم الذي تستهدف له الجزيرة قلب الإسلام وقبلة المسلمين إذا استحكم الخلاف بين إمام الجنوب وإمام الشمال).

4- وطالما أن أمر حركة الأحرار اليمنيين المعارضة للنظام الملكي قد أرقت الإمامين العظيمين، فقد كان واجب على الشيخ العظيم حسن البنا أن يساهم بكل ما أمكنه في اخماد هذه الحركة (ليس ذلك لصلة خاصة بينه وبين الإمامين العظيمين، وليس ذلك لأنه يرجو مغنما شخصياً من وراء اخمادها أو يخشى مغرما شخصياً كذلك من وراء نجاحها، ولكن ذلك لإحساسه بالخطر العظيم الذي تستهدف له الجزيرة قلب الإسلام وقبلة المسلمين إذا استحكمت حركة الأحرار اليمنيين) .

5- ومن ضمن الدلائل على قوة ومتانة العلاقة بين حسن البنا وطاغية اليمن الملك يحيى حميدالدين، ما حدث في عام 1938م، عندما شارك وفد يمني برئاسة الأمير عبدالله ابن الطاغية يحيى في المؤتمر البرلماني العالمي لمناقشة قضية فلسطين، حيث لجأ الوفد إلى حسن البنا لترشيح سكرتير خاص للوفد اليمني، فاختار البنا لهذه المهمة صديقه الإخواني (محمود أبو السعود) الذي رافق الوفد إلى لندن وباريس.

6- كما كانت هناك علاقة طيبة تربط الأمير محمد البدر بن ولي العهد أحمد بن الملك يحيى وجماعة الإخوان، بدأت بلقاء بين البدر والبنا والورتلاني، وذلك عندما وصل البدر إلى القاهرة للعلاج، فدعاه الإخوان لحضور إحدى ندواتهم التي يقيمونها في المركز العام للجماعة. وهناك تعرف على البنا، الذي دعاه لقضاء يوم في محافظة الفيوم وتمت الرحلة بكل سرور. وتم اللقاء مع الطلبة اليمنيين الذين يدرسون بالقاهرة، وتوطدت العلاقة بين الجميع. وأثناء حضور إحدى الندوات تعرف الجميع على الفضيل الورتلاني، وكان الورتلاني يجتمع باليمنيين بعد انتهاء الندوات، ويزورهم بالفندق، ويتردد على الأمير البدر. وانضم إلى هذه المجموعة محمد سالم، صاحب شركة أتوبيس الشرقية، والأثري الدكتور أحمد فخري الذي زار اليمن من قبل. ومع تطور علاقة الأمير البدر بهذه الشخصيات، نشأت فكرة سفر الفضيل الورتلاني إلى اليمن، كمندوب عن محمد سالم، لتأسيس شركة تجارية بها، يرافقه الدكتور أحمد فخري عالم الآثار. وأذن الملك يحيى للفضيل الورتلاني بتأسيس "الشركة اليمانية للتجارة والصناعة والزراعة والنقل" وأصدر مرسوما حكوميا بتشكيلها والموافقة على قانونها، ومنحها امتيازا مؤقتا في الغاز والسكر لمدة ثلاث سنوات، وكانت هذه الشركة ستارا لنشاط الإخوان المسلمين الرامي لإفشال حركة المعارضة اليمنية، مقابل جنيهات الذهب التي كانوا يحصلون عليها من الملك يحيى وولي عهده أحمد.

 

رابعاً- تقييم دور الفضيل الورتلاني من خلال سير الأحداث:

1- وصل الورتلاني إلى اليمن في العام 1947م، والتقى بالملك يحيى الذي أعجب به، والتقى بولي العهد أحمد الذي أغدق عليه بالذهب وأصبح جاسوسه الخاص، وكان يتنقل في جميع المحافظات بكل حرية. وبسرعة مذهلة أقام علاقة قوية مع الشباب المعارضين، والطامحين إلى عرش الإمامة ( بيت الوزير ) وأصبح الورتلاني همزة الوصل بين "الأحرار اليمنيين" في عدن وقوى المعارضة في شمال اليمن، وعلى اتصال دائم بحسن البنا في القاهرة. انتهت الاتصالات بالموافقة على أن يكون الوزير "إماما دستوريا" على رأس حكومة دستورية، وفعلا شكلت الحكومة، ونص على أعضائها ووضع لها دستور سمي "بالميثاق الوطني المقدس" وأرسلت منه نسخة بخط أحمد الشامي إلى الزبيري والنعمان في عدن، ليطبع منه أعدد كبيرة، تحفظ هناك في سرية إلى الوقت المناسب لإعلانه، وتقرر تعيين الفضيل الورتلاني مستشارا عاما للدولة، وطلب من الشيخ البنا والفريق عزيز المصري أن يكونا من المستشارين العمومين للحكومة.

2- مع نهاية شهر ديسمبر 1948م، كانت الاستعدادات على الجانب السياسي والعسكري قد انتهت، وتم طبع الميثاق الوطني وقوائم بأسماء كبار الموظفين، تمهيداً لنشرها عند موت الملك يحيى الذي كان يعاني من المرض، وتم إعطاء الإخوان قائمة بأسماء الوزراء ونسخة من الميثاق، لنشرها بجريدة الإخوان عقب وفاته. فقد أتفق الجميع على انتظار وفاته وعدم الصدام العسكري معه، مما جعل المسألة تدور – كما هو واضح - حول إقامة الإمامة بعد وفاة الإمام الحالي، ولا تتضمن التصدي له بالرغم من فساد حكمه وانتفاء الغرض من وجود الإمامة، وتوفر الأسباب للقيام بالواجب الديني الزيدي (الخروج على الظالم). وهذا يدل على أن المنطق السياسي العملي قد تغلب على الموقف الديني المبدئي، وأن الدوافع السياسية كانت أظهر من الدوافع الدينية، رغم الحرص على إعطاء هذا التغيير أساسا شرعيا دينيا.

3- وفي يوم 14 يناير 1948م، نفذ الإخوان المؤامرة، حيث وصلت إلى عدن البرقية المنتظرة عن وفاة الملك يحيى، وسارع أعضاء الجمعية اليمنية إلى إعلان النبأ وإذاعة بيان الثورة، ونشر الميثاق الوطني المقدس، وإعلان قوائم كبار الموظفين، وفي القاهرة سارعت صحيفة الإخوان إلى إعلان نبأ وفاة الملك يحيى، وإعلان عبد الله الوزير إماماً لليمن ونشرت نص الميثاق الوطني المقدس، وقد انفردت صحيفة الإخوان بنشر الميثاق الوطني دون الجرائد الأخرى. وقد أدى هذا الإعلان – الذي اتضح فيما بعد أنه غير صحيح – إلى كشف قيادات الثورة للملك يحيى. كيف وصل النبأ الكاذب إلى عدن؟ هنا يلقي المناضل عبدالله السلال باللوم على الفضيل الورتلاني، ويجزم بأن الفضيل هو الذي قام بإرسال البرقية الكاذبة.

4- أن التفكير المنطقي البسيط يقول: إن كشف أسماء الثوار والقيادات العليا، يعني تقديم الفرصة الذهبية للملك يحيى للإطاحة برؤوسهم جميعاً، وعلى رأسهم الفضيل الورتلاني نفسه، ولكن الملك يحيى لم يتسرع في عمل شيء، وأرسل يستدعي ابنه ولي العهد أحمد لمعاونته في الأمر، فلماذا لم يقدم يحيى على اتخاذ الإجراءات الفعالة ضد المعارضة بعد انكشاف خططهم وأسماء قياداتهم، وبالرغم من مرور أكثر من شهر على إعلان النبأ الكاذب بوفاته في 14 يناير، واغتياله فعلياً وإعلان الثورة في 17 فبراير ؟ أن العامل الحاسمً في هذا الصدد، هو تلكؤ أحمد في القدوم إلى صنعاء والتهرب من الحضور، بالرغم من إلحاح والده عليه، مما يدل على أن حركة المعارضة كانت قوية والمؤامرة كانت كبيرة.

5- كان ولي العهد أحمد أكثر أبناء الملك يحيى مقدرة وكفاءة عسكرية، وكان يعلم أنه المستهدف الأول من قبل المنافسين له على السلطة والخائفين منه، وأولئك الذين لا يرونه أهلاً للقيام بالإمامة على شرط المذهب الزيدي، ومن قبل "الأحرار" والمعارضين في عدن، لذلك فقد كشف مخطط خصومه بهذا الإعلان الكاذب، ليضعهم أمام أحد احتمالين: أما أن يبطش والده وإخوته في صنعاء بآل الوزير، ويعتقلوا كل من ورد اسمه في قوائم الميثاق، ثم يستدعونه لتسلم السلطة، باعتباره رجل الموقف .. وأما أن يقوم عبد الله الوزير – ومعه الأحرار - باغتيال الملك وتفجير الموقف، قبل أن يكملوا استعداداتهم، فيسهل عليه القضاء عليهم، وهذا ما حدث بالضبط فقد قرر الأحرار تفجير الموقف.

6- وفي يوم الثلاثاء 7 ربيع ثاني 1367هـ / 17 فبراير 1948م، جاءت اللحظة الحاسمة للتخلص من الملك يحيى وإعلان الثورة، حيث جاءت الأخبار إلى الجناح العسكري، بخروج الملك وتوجهه إلى منطقة (حزيز) على بعد 10 أميال من صنعاء جنوبا، وصدر الأمر بتنفيذ عملية الاغتيال، والذي كان مكلفا بها أثنا عشر رجلاً على رأسهم الشيخ علي ناصر القردعي، والذين استخدموا سيارة عليها مدفع رشاش، ووضعوا العراقيل في الطريق لإجبار سيارة الملك على التوقف، وما أن توقفت حتى انهال عليها الرصاص وقتل كل من فيها، وعلى رأسهم الملك الذي اخترق جسده ما يقرب من خمسين رصاصة، وهكذا نفذت العملية بنجاح، وأخذت عجلة الثورة تدور بسرعة، والملاحظ أن نبأ مصرع الملك وصل إلى أبناءه في صنعاء قبل وصوله إلى معظم الثوار (والبركة في الورتلاني) .

7- وكانت أول خطوة اتخذها عبد الله الوزير هي الاستيلاء على قصر غمدان الحصين، أما الجناح العسكري فقد تحرك للسيطرة على العاصمة ومراكز الحكم والمرافق العامة. وخضعت العاصمة صنعاء لسيطرة قيادة الثورة، وتم في ليلة واحدة اعتقال سيوف الإسلام والقوى المعادية التي تحركت لإجهاض الثورة، وبذلك تم الأمر لعبد الله الوزير، الذي أعلن إماماً شرعياً وخليفة دستورياً، وتم مبايعته بالإمامة من قبل علماء صنعاء والأعيان، وتكنى بأمير المؤمنين الداعي. وفي اليوم التالي أذاع راديو صنعاء بيان قيام الثورة وتعيين عبد الله الوزير إماماً دستورياً للثورة، وأذيع أسماء مجلس الوزراء والشورى، وكبار الموظفين، وبنود الميثاق الوطني المقدس. وتوافدت الوفود ومشايخ القبائل تبايع عبد الله الوزير بالإمامة، والذي قام بتوزيع الأسلحة والذخائر والنقود لأهل صنعاء ولكل من وفد عليه من القبائل لتأييده وللمحافظة على صنعاء والدفاع عنها.

8- كان ولي العهد أحمد أكبر خطر يهدد الثورة، لما يتمتع به من مقدرة حربية، فضلاً عن شهرته بميله إلى العنف، وقد قاد الجيش اليمني في الحرب ضد السعودية، وضد القبائل المتمردة على حكم ابيه من قبل، ولهذا وضعت قيادة الثورة خطة لاغتياله في نفس يوم اغتيال والده، ولكن تسرب نبأ الاغتيال إلى أحمد قبل أن يصل إلى المكلفين بالعملية - ببركة الورتلاني طبعا- ففوت الفرصة عليهم، وتحرك من تعز في يوم حادث مصرع أبيه، ومعه 200 من الجنود وعدد من سيارات الشحن، وأعلن نفسه إماماً وتكني بالمؤيد بالله الناصر، وأرسل إلى عبدالله الوزير يقول له: "لقد ركبت مركباً صعباً عن طريق الغدر والخيانة، وأنك ستسقط إلى الهاوية في القريب ذليلاً حقيراً". وقد وصل أحمد إلى معقله الحصين (حجة) نهار الجمعة 20 فبراير 1948م، حيث بدأ العمل على إثارة القبائل واكتساب الأنصار، وبدأ يتصل بالشخصيات القوية التي يعرف طموحها ومنافستها لعبد الله الوزير، وقد ارتكزت دعايته على ضرورة الأخذ بالثأر من قتلة الإمام، وأن الثوار يستعينون بالنصارى والكفار، وأن أحمد هو الذي سيأخذ بالثأر ويقاتلهم. وهكذا استطاع خلال أسبوع واحد من قيام الثورة، ومن خلال تحركه السريع والقوي من اكتساب القبائل والشخصيات البارزة فيها، وكذلك نسف المركز الروحي لعبد الله الوزير(الذي وصف بالقاتل العميل) .

9- ولم يقتصر تحرك أحمد على الصعيد الداخلي، بل سعى للاتصال بقادة الدول العربية الملكية وجامعة الدول العربية، لكسب تأييدها باعتباره ولي العهد الرسمي للبلاد، كما أرسل إلى الحكومة اليمنية الجديدة برقية يطالب فيها بتحكيم وفد الجامعة العربية المنتظر وصوله والشيخ الفضيل الورتلاني (عميله السري). إلا أن أهم تحركاته على الصعيد الدبلوماسي كان اتصاله بالملك عبد العزيز آل سعود، فقد سارع في ثاني أيام الثورة بإرسال رسالة إليه، يوضح له الحادث وأن خطورته لا تقف عند حدود اليمن "لأن الثورة ومقتل أبيه وليد حركة من يسمون أنفسهم بالأحرار وهم خطر على كل العروش والملوك وليس عليه وحده" كما طالبه بتناسي ما كان بينهما من خلاف، وأنه سيكون له ابنا إذا رضي أن يكون له أباً، مستمداً منه النجدة والمؤازرة، وقد استجاب الملك عبد العزيز لنداء ولده الهمام وأمده بالمال والسلاح.

10- وهكذا لم يدع أحمد فرصة إلا واستغلها لتدعيم موقفة، مستغلاً كل الوسائل المتاحة أمامه، على كافة الأصعدة، في الوقت الذي كان رد فعل قيادة الثورة أمام هذه التحركات ضعيفاً، ولا يتناسب مع خطورة الوضع. فقد شكلت نجاة ولي العهد أحمد من الاغتيال أول ضربة للثورة، فمع وصول نبأ مغادرته لتعز نحو الحديدة صباح الأربعاء 18/2/1948م، قرر الإمام عبد الله الوزير أن ينهض بنفسه مع قوة من الجيش لمطاردته وأعدت القوة اللازمة لذلك، إلا أن عبد الله الوزير تراجع عن تنفيذ فكرته اعتماداً على نجاح الثورة، وسيل التهاني وبرقيات التأييد له بالإمامة، وتوافد الثوار على صنعاء، فضلاً عن خشيته مغادرة صنعاء لوجود مجموعة متطرفة من الشباب والأحرار، الذين يشكلون في نظرة خطراً على مركزة بصنعاء، بالرغم من أنه كان الحل العملي الوحيد الكفيل بالقضاء على خطر أحمد قبل أن يستفحل، ولكن الفكرة أجهضت (والبركة طبعا في الورتلاني المستشار الخائن) . وهكذا شهد الأسبوع الأول من الثورة تحركات قوية لأحمد، وتدعيماً لمركزه، وحالة من الاسترخاء من جانب الثوار في مواجهة الموقف، والانشغال ببرقيات التأييد والمبايعة، وتوافد الثوار سواء الحقيقيون أو أدعياء الثورة. وفي بداية الأسبوع الثاني من الثورة تم إرسال حملتين عسكريتين للقضاء على أحمد كانتا لقمة صائغة للقبائل الموالية له، وازداد مركز أحمد قوة وأصبح الحاكم الحقيقي على قبائل الشمال والشرق والغرب الشمالي، وأخذت القبائل تتصل به وتتقرب إليه وتنفض من حول عبد الله الوزير، وبدأ أحمد الزحف نحو صنعاء.

11- وقد اجتمعت قيادة الثورة لمواجهة هذا الخطر، وتم وضع خطة لمواجهة الموقف تقوم على أساس اتخاذ تعز عاصمة ثانية لحكومة الثورة، واتخاذ رداع قاعدة عسكرية يقودها عبدالله الوزير بنفسه، وتحصين المرتفعات المطلة على صنعاء، وسحب كمية كبيرة من المال والذخيرة والمعدات الحربية من صنعاء إلى رداع. إلا أن هذه الخطة لم تجد طريقها للتنفيذ، ورفض عبد الله الوزير الخروج إلى قاعدة رداع (والبركة بالمستشار الورتلاني طبعا) الذي كان يمنيه بتحرك جامعة الدول العربية لصالحة. وقد كان اعتماد الثورة على الجامعة العربية من أكبر الأخطاء التي وقعت فيها، فقد اعتمدوا على الوعود التي قطعها لهم عبد الرحمن عزام عن طريق العميل الخائن الفضيل والإخوان المسلمين أو بالأصح الخونة، فقد كانت الثورة اليمنية تمس بصورة مباشرة الأنظمة الملكية التي لم تكن لتقبل بحكم جديد قام على قتل ملك حتى ولو استبدل بملك آخر، لأن هذا يعني ترسيخ فكرة المبايعة وليس الوراثة، فضلاً عما نادت به الثورة من حكم دستوري، وهو أمر لم يكن مقبولاً من آل سعود الذين يخشون: أن يمتد أثر هذا الحكم إلى بلادهم وتطبيق نموذج اليمن عليهم.

12- وكانت الأحوال تزداد سوءاً، حيث أطبقت القبائل على العاصمة من كل جانب، وبدأ الخناق يضيق، بحيث أصبحت العاصمة محاصرة بالكامل، وزاد من سوء الأحوال القبض على عدد كبير من أبرز المعارضين اليمنيين، وعلى رأسهم أحمد محمد نعمان، وقد شكل القبض على قادة الأحرار الذي تزامن مع الحصار المحكم حول صنعاء ضربة جديدة للثورة اليمنية، خاصة بعد أن انقلب الكثير من الذين أظهروا تأييدهم للثورة عليها حتى في المدن التي خضعت للثورة مثل تعز وآب والحديدة. وفي يوم 13/3/1948 جاءت ساعة النهاية، وسقطت صنعاء في أيدي قوات القبائل الذين سمح لهم أحمد بنهبها وسلبها مكافأة لهم على مناصرتهم له.

13- لقد كان سقوط صنعاء هو النهاية الحتمية المتوقعة على ضوء تطورات الأحداث، ولم يستطع إلا القليل من رجال الثورة النجاة، وتم القبض على قيادات الثورة، وعلى رأسهم عبد الله الوزير، وجرى اعتقال ما يقرب من ألف شخص من الضباط والعلماء والأدباء والمثقفين والتجار والمشايخ وطلاب الكلية الحربية، بالإضافة إلى بعض الفدائيين الذين قدموا من عدن لمناصرة الثورة. وتم إعدام 32 من الثوار وعلى رأسهم عبد الله الوزير، أما الورتلاني "وهو الرجل الخفي الواقف وراء المؤامرة" فقد غادر اليمن قبل سقوط صنعاء وهو يحمل كمية كبيرة من الذهب.

 14- وبدخول أحمد صنعاء واعتراف جامعة الدول العربية به ملكاً لليمن، انتهت ثورة الدستور بالفشل، بعد أن استمرت 26 يوماً منذ مقتل الملك يحيى في 17 فبراير 1948 حتى سقوط صنعاء في 13 مارس 1948، لتعود اليمن مرة أخرى إلى الحكم الكهنوتي الرجعي الديكتاتوري المتخلف، ولكن بطبيعة الحالة كان من الصعب إعادة حركة التاريخ إلى الوراء، فلم يكن من المتوقع أن تعود الأوضاع القديمة على وضعها مرة أخرى بعد أحداث هذه الثورة، وبعد أن ازداد الوعي بفساد هذا النظام البالي، الذي جلب لليمن العزلة والتخلف.

 

أخيراً:

بدأت في عهد الملك أحمد حميدالدين، عميلة هجرة يهودية منظمة إلى عدن ومنها إلى فلسطين، وتزايدت هذه العملية مع نهاية عام 1948م وأوائل عام 1949م، حيث رحل معظم اليهود اليمنيين بواسطة نقل جوي ضخم اشتهر باسم "البساط السحري" وكان عدد اليهود اليمنيين يتراوح ما بين 60 و 70 ألف، لهم كالعادة أحيائهم الخاصة في العواصم والمدن، وكانت معظم المستوطنات اليهودية تقع في الجزء الزيدي من البلاد، لأن الزيود عموما كانوا أكثر تسامح تجاه اليهود من الشوافع - ربما للتقارب العرقي والعقيدي بين اليهود والزيود. وفي ظل الاحتلال العثماني لليمن، كان ليهود اليمن بعض الاتصالات الخفية بالحركة الصهيونية، ولكن في عام 1921م، منع الملك يحيى حميدالدين هجرتهم، وأوقف كل اتصالات خارجية لهم، وأمر بمصادرة ممتلكات أي يهودي يغادر البلد أو يتحرك بغير إذن منه.

اجمالي القراءات 13262