التاريخ لا يكرر نفسه بل يعيد انتاج أعماله الوحشية

على سالم في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

شاه إيران الذى دمرت عرشه ثورة الخمينى أرسل فى أربعينات القرن الماضى يطلب الزواج من الأميرة فوزية أخت الملك فاروق الذى قضت على عرشه القوات المسلحة المصرية, وتزوجت الأميرة من الشاه الذى أساء معاملتها تماما كما أساء معاملة شعبه فعادت إلى مصر بعد أن طلقها مما أشعر المصريين بالغضب لما لحق بالأميرة من إهانة وأفقدهم فى ذلك الوقت أى ود تجاه الشعب الإيرانى وكأنه هو الذى طلق الأميرة.

قبل ذلك بثلاثة ألاف عام أرسل قمبيز ملك الفرس يطلب يد كريمة الملك المصرى ( أماسيس) الذى لم يكن متحمسا لهذه الزيجة لأنه يعرف أن الملك الفارسى ليس جادا فى طلبه مصاهرته وأنه سيجعل من إبنته محظية له, غير أنه كان يعرف أن الرفض فى هذه الحالة ستكون له عواقب وخيمة على البلاد نظرا لشراسة قمبيز وقوة جيشه لذلك قرر اللجوء للحيلة, كانت للملك السابق إبنة جميلة هى( نيتيتس) فجهزها وأمدها بهايا كثيرة وأرسلها إلى قمبيز فى موكب عظيم وفى ليلة الدخلة قالت له الفتاة: مولاى..أنت لا تعرف كيف تم الاحتيال عليك من الملك أماسيس, لقد أرسلنى إليك بكل هذه الأبهة ليقنعك إننى إبنته ولكن فى الحقيقة أنا إبنة الملك ( أبريس ) الذى كان هو مرؤوسا له وتآمر عليه وقتله ليحتل مكانه.

استولت على قمبيز نوبة غضب شديدة وقرر أن يغزو مصر. هذا هو السبب فى أن مصر أصبحت جزءا من الأمبراطورية الفارسية لسنوات طويلة, أو على الأقل هذا ما حكاه الكهنة المصريون لهيرودوت. ربما تكون هذه الحكاية قد حدثت بالفعل غير أنى أعتقد أن الأمبراطوريات تتوسع لأن من طبيعتها أن تتوسع, ووجود بلاد أخرى قريبة أو بعيدة ليست خاضعة لها أمر لا يشعرها بالارتياح. كانت مصر فىذلك الوقت دولة مستقلة يحكمها ملك عرف عنه العدل والحكمة وأيضا المرح وخفة الدم وحب النكتة. كان رجل دولة من الطراز الأول يكفى أن تعرف عنه أنه أول إنسان فى التاريخ أصدر قرارا بأن يكتب كل مواطن إقرار ضريبة يعلن فيه دخله وذمته المالية ويقدمه لمحافظ المدينة فى نهاية كل عام وكانت مصر فى ذلك الوقت تتكون من عشرين ألف مدينة, إما عدم تقديم الإقرار أو التزوير فيه فكانت عقوبته الإعدام. أعرف بالطبع أنه من الصعب أن تصدق ذلك ولكن هذا هو ما ذكره هيرودوت.

لابد من الاعتراف أن الجيش الفارسى كان أقوى الجيوش على الأرض, وأن قمبيز وأركان حربه كانوا على أعلى درجات الكفاءة العسكرية بحيث استطاع عبور الصحراء العربية بغير خسائر تقريبا, وبالتحالف مع بعض القوى المضادة للمصريين تمكن من هزيمة الجيش المصرى وضم مصر إلى الأمبراطورية الفارسية. لن أتكلم عن الفظائع التى ارتكبها الملك الفارسى فربما كانت جزءأ من الإعلام المضاد الذى قام به كهنة آمون غير أننى أجدها فرصة مناسبة لتقديم وجهة نظر الأستاذ يونج عالم النفس الشهير من أن هناك ( لاوعى جمعى) يجعل من عقول البشر جميعا عقلا واحدا يختزن كل ذكريات وأحداث الماضى. تاريخ البشر لايقبع خارجهم بل هو جزء من تكوينهم النفسى, هناك مخزن داخل العقل يتم فيه تخزين كل أحداث التاريخ بحيث يمكن استعادتها فى لحظة عندما تتوفر لها الظروف المشابهة.

سأقفز الآن إلى الأمام لكى أصل إلى واقعة حدثت فى خمسينات القرن الماضى, ثورة عسكرية فى العراق قتل فيها كل أفراد الأسرة المالكة بما فيهم الأطفال بينما هم ينزلون على سلم القصر خارجين مستسلمين لقضاء الله. يمكن فهم هذا المشهد على ضوء تقاليد انقلابات الحكم القديمة التى كان يقتل فيها حتى الأطفال الرضع بين الأسر المالكة المخلوعة ولكن ماذا عن إخراج الجثث من القبور وشنقها والاعتداء عليها بالضرب بالكرابيج ثم سحلها فى الشوارع.

هنا سأعود للوراء آلاف السنين فى لمح البصر لكى أثبت لك أن العقل البشرى توجد بداخله آلاف الغرف والمخازن والرفوف يخزن فيها بضاعته وخاصة الوحشى منها ثم يفتحها فى ظرف تاريخى معين ويغترف منها ما يشاء. التاريخ هنا لا يعيد نفسه بل يعيد انتاج كل ما هو وحشى بكل مواصفاته القديمة.

عندما دخل قمبيز مدينة ( سايس) ذهب إلى قصر الملك أماسيس الذى كان قد مات قبل ذلك فأمر بإخراج جسده من مدفنه ثم أمر رجاله بضربه بالكرابيج ونزع شعر رأسه ثم طعنه بالخناجر. كان الأمر صعبا بالنسبة لرجاله لأن الجثة كانت محنطة فقاومت محاولة تمزيقها فأمرهم بإشعال النار فيها غير أن جنوده من الفرس وجدوا فى ذلك خطيئة كبرى لأنهم يعتقدون أن النار إله لا يليق أن يتعرض لجثث البشر, والمصريون أيضا وجدوا فى ذلك أمرا لايجوز لأنهم يعتقدون أن النار وحش حى إذا لم يجد ما يأكله أكل نفسه حتى يشبع فتخمد أنفاسه, ولم يكن فى تقاليدهم إلقاء أجساد الموتى إلى الوحوش لذلك هم يقومون بتحنيطها حتى لا تكون عرضة لذلك.

فكر فى المشهد, الجندى الفارسى البسيط استاء من هذا الأمر لأنه لا يتفق مع تقاليده وعواطفه الدينية, ورفضه المصريون أيضا, فكيف فكر فيه ذلك الأمبراطور العظيم والقائد الكبير؟

ربما تكون الإجابة هى: فى رحلة الصعود فوق البشر يفقد الديكتاتور بالتدريج إحساسه بالقيم السائدة وتكتسب رغبته فى العدوان أبعادا قدسية, بل أكثر قداسة من كل مقدسات البشر. وبمعنى معاصر تتفجر داخل عقله البرانويا ( جنون العظمة) التى هى أصلا موجودة فى حالة كمون داخل كل عقل. وحتى فى وجود مؤسسات عدلية مكونة من أشخاص أفاضل استولى عليهم الخوف, يعجز القانون عن ردعه. مثال ذلك, أحب قمبيز أخته وأراد الزواج منها فطلب من مجلس مستشاريه القانونيين رأى القانون فى ذلك فردوا عليه بأنه لا يوجد قانون يتيح لأحد الزواج من أخته غير أنه يوجد قانون آخر يسمح للملك أن يفعل أى شيئ.

ربما تكون هذه الواقعة من تأليف الكهنة المصريين فى حملتهم الإعلامية المضادة بهدف اغتيال شخصية قمبيز وربما تكون حقيقية فالخوف عادة يشل فاعلية القوانين والدساتير.

التعرف على بعض ملامح هذه الفترة من تاريخ المنطقة على ضوء ما يحدث فيها الآن أمر مهم للغاية, لقد فتحت هذا المخزن القديم ربما لأثبت لك أنه فى بعض مراحل التاريخ تستخدم القضايا العظمى كغطاء يخفى الرغبة القوية لبعض الناس فى ممارسة الوحشية. وهدفى هو أن تتنبه لذلك وأنت تقرأ صحف الصباح أو تشاهد نشرات الأخبار أو عندما تدوس على عقلك بلدوزرات برامج الحوار التليفزيونى.

لقد حاول قمبيز غزو أثيوبيا ففشل, ثم أرسل جيشه للقضاء على كهنة آمون فى واحة سيوة فخسر معظم جيشه فى الصحراء وعاد مهزوما, فكيف استغل الكهنة المصريون هذه الوقائع إعلاميا بعد أن سجلوها فى حكايات ترقى إلى مصاف الأعمال الدرامية الراقية والتى تتميز بأعلى درجات الحبكة والصنعة. هذا هو ما سأحدثك عنه بإذن الله.
 

اجمالي القراءات 14613