من فهمي هويدي إلي قرضاوي يا وطن إحزنٍ

سيد القمنى في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

الشيخ فهمي هويدي، الذي يستطيب وصف المفكر الإسلامي المستنير، انزعج أشد الانزعاج للخبر الذي تناقلته وكالات الأنباء عن إفتاء الشيخ قرضاوي، المشهور بالمفكر الإسلامي المعتدل، في نقابة الصحافيين المصرية في 31/8/2004 بجواز قتل الأمريكيين في العراق دون تمييز بين عسكري ومدني. فكتب في أهرام 14/9/2004 مقالا بعنوان «إعلام الفتنة»، وهو مقال يستحق المناقشة في ضوء آراء كل من المستنير والمعتدل، خاصة مع إعطاء المستنير للمعتدل صفة فيها كثير من التجاوز على علماء الأمة ورموزها بدءاً من شيخ الأزهر وما يتلوه من درجات. إذ يقول: «إن الشيخ يوسف قرضاوي هو أهم مرجع ديني من أهل السنة في زماننا»، وهو ما يعني خلع الإمامة الدينية عن الأزهر ومنحها للإخوان المسلمين ممثلين في عضوهم المرجعي قرضاوي، وهو ما يعني أيضا تبعية المسلمين جميعا في مرجعيتهم الدينية إلى الإخوان، دون أن يقدم لنا الشيخ هويدي وثائق واضحة بهذا الاختيار من جانب المسلمين السنة لقرضاوي كأهم مرجع ديني في زماننا. بهذه الصيغة الإطلاقية في الوصف وإعطاء المناصب في صحيفة الأهرام القومية شبه الرسمية كما توصف.

ولم يكن انزعاج المستنير من الفتوى بقدر ما كان مما زعمه تزييفاً لفتوى المرجع السني الأعظم من قبل من أسماه «إعلام الفتنة». وبأسلوب تهكمي ينعي المستنير على هذا الإعلام ما أثاره من ضجة حول فتوى قرضاوي. والسبب أن الأمريكيين والغربيين هم من الدرجة الأولى الممتازة من تصنيفات البشر، وليسوا أفغانا أو عربا أو أفارقة، ولا تعلم علام يتهكم الشيخ هويدي؟ فلو حدث فرز فعلي وتصنيف للبشر من حيث درجة ارتقائهم فسيكون الغربيون من الدرجة الأولى الممتازة قطعا ودون حتى الحق في الامتعاض، ناهيك عن الحق في التهكم ولو أعطى هويدي في هذا الفرز صوته لغيرهم لكان مضللا مزيفا.

وإعلام الفتنة هو تلك الصحف التي نددت بموقف قرضاوي وركزت على أمرين: أولهما أن الرجل كشف عن حقيقة اعتداله الذي يدعيه وأظهر للجميع وجها متطرفا وتفكيرا إرهابيا. وثانيهما أن تيار الاعتدال أسطورة ووهم وأنه يكتم تطرفه ويخفيه وهو منطق أريد به تأكيد أن الناشطين المسلمين جميعا إرهابيون، وأنهم في حقيقتهم ما بين متطرف أسفر عن وجهه وكشف أوراقه ومتطرف آخر كان أكثر حذقا ومهارة فأخفى قناعاته وأظهر سمت الاعتدال. وفى هذا الكلام لون من المراوغة المعلومة لدى سادتنا السدنة والكهنة. فماذا يعني بكلمة «الناشطين» المسلمين؟ نحن نعلم ما هو الإسلام وكيف نمارس شعائره ونخلص له ونتعبد به، فهل كلنا ناشطون؟ أم يقصد الناشطين سياسيا؟

الواضح أن المقصود هنا هو الناشطين خارج إطار العبادات الذين يستخدمون الدين في غير أغراضه، وليس بيننا من يفعل ذلك سوى جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان وقرضاويها. وإذا كان هويدي يقف في نفس الخندق ناشطا مدافعا منافحا، فهو مع سمت الاستنارة يؤكد لنا الاعتدال، وأن بين هؤلاء الناشطين فروقاً بين الاعتدال والتطرف. رغم ما نراه من حال المسلمين الطيبين الذين يؤدون لله عباداته وللوطن حقوقه ويرعون قيم السماحة والإخوة الإنسانية، وإن أيا من هؤلاء لم يتحول إلى إرهابي إلا عندما «نشط» إسلاميا. المهم أن فضيلة الشيخ فهمي يؤكد حصوله على تسجيل لكلام قرضاوي وأنه لم يجد فيه تلك الفتوى لأن نص كلام الشيخ قرضاوي حسبما أورده الشيخ هويدي هو: «أن الأمريكيين الذين جاءوا إلى العراق غزاة، ومن ثم فكلهم محاربون وقتلهم واجب ولكن التمثيل بالجثث لا تقره أخلاق الإسلام، ودستور الحرب في الإسلام أخلاقي، وبمقتضى ذلك الدستور فينبغي ألا يقتل إلا من يقاتل، ومن ثم فكل من لا يحمل السلاح ليس لنا أن نقاتله». قرضاوي اعتبر «كل» أمريكي جاء للعراق هو محارب دون تصنيف ولا تفريق بين من جاء صحفيا أو جاء للإغاثة الإنسانية، «فكلهم محاربون وقتلهم واجب». لكنه في الوقت نفسه يثير ألف التباس عندما يعود فيقول «إن كل من لا يحمل السلاح ليس لنا أن نقاتله». لكن يبدو أنها رسالة ذات طرفين، طرف للقاعدة فرع بغداد ولكل المسلمين، وطرف ثان للعم سام. لكن قوله: «إن دستور الحرب في الإسلام أخلاقي» بحاجة لإعادة نظر. لأنه دستور كان يليق بزمان أحداثه وحروبه في وقت سمح بكل التجاوزات قياسا على أخلاق اليوم بعد تطورها أربعة عشر قرنا. فكان بالإمكان قتل الأسرى، وكان بالإمكان الاستيلاء على الأموال والبلاد، وكان بالإمكان خطف النساء سبايا وركوبهن اغتصابا، وكان بالإمكان استعباد الصبية والأطفال أيضا وهو كله مشروع في أخلاق دستورنا الحربي في زمن كانت هكذا أساليبه في الحرب، وفى بيئة قبلية بدوية كانت هكذا قيمها. ومن ثم لا يصبح قول قرضاوي فقط هو الذي يحتاج إعادة نظر، بل إن هذا الدستور الحربي هو ذاته بحاجة إلى إعادة نظر خاصة بعد سيل الذبائح البشرية للأسرى في العراق تحت راية الإسلام وهتاف الله أكبر، والذين يقف قرضاوى في خندقهم ويفتي لهم ويدافع عن فتواه المستنير المعتدل مولانا هويدي.

لكن ماذا عن إعلام الفتنة الذي أثار حنق هويدي وحفيظته؟ يقول لنا أن كاتبا كتب «أنه منذ أحداث سبتمبر 2001 والإسلاميون العرب يواصلون ترويع العالم بأحداث مشابهة».. دون أن نفهم شيئا. فهل هو معترض على تسمية الأحداث بأسمائها ونسبة الجرائم لأصحابها؟ أم هو معترض على تذكيرنا بها؟ أم هو معترض على أن الكاتب عربي مسلم - يجب عليه إخفاء عوراتنا وعدم فضحنا؟ ألا نكون بذلك كالأعمى بإرادته وسط عالم مبصر؟ وفتنة أخرى زعم مثيرها فيما كتب «أن الإرهاب مرض مزمن عند العرب»، فهل لدى السيد هويدي ما ينفي به أحداث الماضي وأحداث الحاضر لتكذيب الكاتب فيما كتب؟. إن تلك الأحداث لن تسعف الشيخ هويدي، ويصبح الكاتب صادقا، لكنه مزعج مثير للفتنة لأنه لا يتجمل بالكذب. وكاتب ثالث من إعلام الفتنة «رسم صورة بائسة للعربي المسلم بدا فيها غبيا متعصبا وعنصريا، حتى قلت إن أي كاره للعرب والمسلمين أو حاقد عليهم إذا ما أراد أن يعزز حملته ويقوي حجته فما عليه إلا أن يترجم هذا دون أي تعليق». المستنير يرى وجوب مخالفتنا للغرب حتى ولو زورا، حتى ولو لوينا عنق الحقيقة للكذب على الذات وعلى الناس، للتبرؤ من الكوارث التي نفعلها بأيدينا.

المستنير لا يرى أن الحق متفق عليه بين الجميع وأنه معلوم ولو أخفيناه تحت ألف قناع، فهل يرى المستنير مثلا فيما قامت به القاعدة وتقوم به غباء وتعصبا عنصريا؟! أم له رأي آخر؟ وإذا كان العالم كله يتابع ذبح البشر وهم يخورون كالخراف ونزع الرؤوس أمام الكاميرات وخطف المدنيين من جنسيات بلاد تساند قضايانا في تعصب غبي وعنصرية أكثر غباء، فما هو القول الصواب هنا غير الغباء والتعصب والعنصرية؟ ولماذا يصبح من يقول هذا مثيرا للفتنة؟ أم أن العيب في المرآة؟ وفى خلط أوراق معيب ومشين لشدة وضوحه يقول هويدي: «إن أي مسلم يرتكب حماقة أو جريمة في أي مكان بالكرة الأرضية ينسب فعله إلى المسلمين كافة حتى لو كانت دوافعه ليست لها علاقة بعقيدته. فالشيشانيون مثلا دوافعهم في صراعهم ضد الروس قومية بحتة وليست دينية، والذين قتلوا النيباليين البوذيين هم أنفسهم الذين قتلوا الأتراك المسلمين. ولا أحد يمكنه أن يدعي أنهم بذلك كانوا يسعون لإقامة الخلافة الإسلامية. فلماذا نتهم الهوية الدينية في كل جريمة يقترفها مسلم»؟! فأما عن قوله: «فأي مسلم يرتكب حماقة أو جريمة في أي مكان بالكرة الأرضية ينسب فعله إلى المسلمين». أتساءل: إذن لمن ننسبه؟ وإذا كانت دوافع الشيشان ليست سوى قومية فلماذا يؤيد المسلمون تحديدا الشيشان من المشارق إلى المغارب؟ ولماذا يوجد مسلمون غير شيشانيين في قيادات الشيشان العليا؟ ولماذا يقوم الشيشان بعمليات انتحارية؟ ألا يعود ذلك إلى الثقافة التي يستندون إليها؟ مثلهم فى ذلك مثلما يفعل المسلمون المتطرفون فى كافة المعمورة! ثم لماذا لم نسمع ضجيجا واحتجاجا على قتل النيباليين بين المسلمين؟! هل لأنهم بوذيون؟ أما مسألة إقامة الخلافة فهو قول مجاهديك يا شيخ هويدي لا قول غيرهم، فلماذا التلبيس على الناس؟ كما أن لا أحد يتهم المسلم عندما يرتكب جريمة بأنه مسلم ولا أحد يتهم المسلمين به، فللجرائم عقوبات قانونية تطبق عليه كما تطبق على غيره من غير المسلمين، لكن التهمة تنشأ فورا عندما يقف أصحابها تحت رايات الدين ورموزه وآيات قرآنه، وعندما يقتلون وفق ثقافة عنصرية طائفية ويعلنون ذلك ويؤكدون أن فعلهم بغرض تأييد الدين.

هنا لا يكون التعميم مخلا، ويصبح المطلوب هو إعادة النظر فى هذه الثقافة وطرحها للمناقشة الحرة وليس التستر عليها كما يريدنا هويدي أن نفعل. ثم يضع الشيخ فهمي يده على سر الفتنة ومصدرها فى قوله: «ثمة قواسم مشتركة فى خطاب إعلام الفتنة منها مثلا أنه ينهل من مربع فكري وسياسي واحد تقريبا، تقف رموزه على أرضية التطرف العلماني الذي تجاوز فكرة الفصل بين الدين والدولة، وراح يضرب بقوة فى ركائز الانتماء العربي والإسلامي ويتبنى دعوة صريحة إلى التغريب الذي بات منحدرا مؤديا فى النهاية إلى الارتماء فى الأحضان الأمريكية والإسرائيلية». وبغض النظر عن الاتهام التحريضي الأخير الذي يحتاج أدلة عالية الجودة قبل إرساله كلاما فى الهواء، فإن القواسم المشتركة للعلمانيين هي الحريات الفردانية وحقوق الإنسان والديمقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية، وهي كلها قواسم راقية المسمى كما هي راقية المعنى كما هي راقية الأهداف، كما هي نظيفة من الطائفية والعنصرية والإرهاب والدموية، أما القواسم المشتركة فى خطاب الإرهاب فهي بدورها واحدة فاشية عنصرية طائفية دموية ضد الحريات الفردية وضد حقوق الإنسان، وهو لسوء الحظ الخطاب الأكثر انتشارا فى الفكر الإسلامي من الإرهابي إلى المعتدل إلى المستنير. ويذكرنا الشيخ فهمي «أن أحدا لم يتحدث عن الإرهاب الأرثوذكسي حين قام الصرب بمذابحهم ضد البوسنيين المسلمين.. ولا يجرؤ أحد على أن يصف الجرائم الإسرائيلية الوحشية التي ترتكب فى الأراضي المحتلة بأنها من تجليات الإرهاب اليهودي». والشق الأول من هذه الفقرة يتجنى على حقيقة ما حدث، لأن أهل الغرب الذي نراه مسيحيا هم من كشف ما يجرى فى البوسنة، وهم من قاموا برد العدوان عنهم، وهم من يحاكمون الآن قادتهم، بينما لم نحسن نحن سوى العويل. أما الشق الثاني فهو يشير إلى اعتراف داخلي بالإرهاب، وأن هناك منافسة بين المسلمين واليهود فى هذا الميدان العريق عندهما، أو هو اعتراف بصهيونية إسلامية إزاء صهيونية يهودية، وهو ما لا نقبل به كمسلمين غير ناشطين، نحب الله والرسول والوطن ولا ننتمي لجماعات ناشطة كالإخوان تضع شعارها «سيفان بينهما عبارة «وأعدوا»، لأننا نحب الزهور واخضرار الحقول بالعمل والعرق للإعداد أكثر من السيوف. ونعتقد أن الإنتاج والتنمية والتقدم هي الوسيلة للإنجاز الحضاري، لأن المعركة اليوم ليست معركة سيوف ولا مدافع فقط، إنما هي فى المقام الأول معركة وجود حضاري. الأهم فى كل ما حدث هو أن قرضاوي بعد عودته إلى قطر سارع بعقد مؤتمر صحفي أنكر فيه فتواه الأولى، وأن ما حدث كان لونا من الالتباس فى ضبط تعريف اصطلاح «مدني» وطالب بضبطه حتى لا يحدث التباس بشأنه. ومن ثم فقد تراجع مولانا عن فتواه بقتل المدنيين الأمريكان أو الغربيين، وهو فيما يبدو ما هز مكانته ومكانه عند الإرهابيين، فعاد فى برنامج الشريعة والحياة بقناة الجزيرة يوم 20/9/2004 لكن ليسمح بقتل المدنيين الأسرى من غير الأمريكان لأنهم يعاونون الاحتلال، إذا كانوا سائقي شاحنات أو بائعين لسلع مطلوبة، أو فنيين متخصصين فى بعض الأعمال. وقد شرع قرضاوي قتل المخطوفين المدنيين لسببين: أولهما: أنهم يعاونون المحتل، وثانيهما: أنهم تتم محاكمتهم قبل ذبحهم. وهكذا أصدر قرضاوي فتواه بناء على حيثيات بأن هؤلاء يعاونون المحتل، دون أي وثائق إدانة بيديه حتى يضع هذه الحيثية مبررا لقتلهم، ودون أن يقول لنا من كان القاضي ومن كان الجلاد، ومن كانوا الشهود وما هي الأدلة، وما هو النص القانوني المعول عليه ومن هو واضعه، وهل القضاة عدول يستحقون مناصبهم.. الخ. وإذا كانت معاونة المحتل من مدني تستوجب جز عنقه، فلاشك أن هذا سينطبق بالتالي على كل المسلمين الذين يعيشون فى أمريكا وإنجلترا وبقية دول التحالف، ويعملون وفق نظامهم ويقدمون هناك أجل الخدمات، وهو ما لا يقبل به عاقل رشيد. والآن ترى ماذا سيقول هويدي بعد العودة الزئبقية لقرضاوي إلى مربع الإرهاب الدموي علنا من قناة الجزيرة؟ وهل سيظل المرجع الديني الأهم للسنة فى زماننا؟! وهل العلاقة بين فتاوى قرضاوي وبين فقه الإخوان الدموي وبين المرجعية الدينية الوهابية وبين دفاع الشيخ هويدي الحار لا تفسح المكان لتأكيد قول هويدي إن الرجل كشف حقيقة اعتداله وأن الجميع داخل نفس الجبة؟!
 

اجمالي القراءات 22702