القاموس القرآنى : برىء

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٧ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

حسب السياق القرآنى يأتى لفظ ( برىء ) ومشتقاته بالمعانى الآتية :

   ( برىء ) أى غير مذنب :

عمّن يقع فى الإثم يقول جل وعلا :( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) النساء ). أى هناك من يقع فى الإثم ويتوب ، فيغفر له الغفور الرحيم . وفى كل الأحوال فلا تزر وازرة وزر أخرى ، والمذنب يتحمل نتيجة ذنبه ، وما يكسبه من إثم فهو عليه وليس على غيره. وبالتالى فإن المذنب الذى يلقى ذنبه على برىء أو من يُلفّق تهمة لبرىء ( كما يفعل الأمن فى بلاد المحمديين ) إنما يركب بهتانا وإثما عظيما يحمله ويأتى به يوم القيامة . هنا ( برىء ) بمعنى غير المذنب الذى لم يقع منه ذلك الذنب .

  ( براءة ) بمعنى العفو والحصانة

يرى المشركون دائما أن لهم حصانة ، وان لهم وحدهم مكانة عند الله دون الناس ، وكل أتباع دين أرضى يحتكر لنفسه الجنة فى الآخرة  أوالخلاص يوم الدينونة . والله جل وعلا بعد أن قصّ قصص بعض السابقين الذى عاقبهم قال يخاطب العرب المشركين وأمثالهم من المحمديين وغيرهم : (  أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) القمر )، يعنى هل أنتم خير من أولئك السابقين أم أن لكم براءة أى حصانة فى الزبر أى الكتب ؟ . ( براءة ) هنا تعنى الحصانة من العقاب .

  ( برىء من ) بمعنى التبرؤ : ( البراء بالمصطلح التراثى )

أولا : التبرؤ من العمل الذى يقع من الأشخاص وليس التبرؤ من الأشخاص أنفسهم :

 1 : التبرؤ من الشرك : الله جل وعلا يأمر خاتم المرسلين ــ عليهم جميعا السلام ــ أن يعلن براءته من   الشرك ، يقول جل وعلا ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الانعام )

   2 ـ ونفس الحال مع ابراهيم عليه السلام الذى أعلن ــ فى البداية ــ تبرأه من الشرك الذى وقع فيه قومه ، يقول جل وعلا عنه :( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)  الانعام ) وقالها لقومه : يقول جل وعلا (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) الزخرف  )

 3   : ونفس الحال مع النبى هود عليه السلام الذى أعلن تبرأه من الشرك الذى وقع فيه قومه ، قاله له قومه  (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)  هود )

  4 : ويقول جل وعلا لخاتم المرسلين ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) الشعراء )، أمره ربه جل وعلا بأن ينذر عشيرته الأقربين ، وان يتواضع ويتحبّب للمؤمنين ، فإن عصاه المؤمنون فليتبرأ من عملهم العاصى ، وليس منهم كأشخاص . فارق هائل بين الاسلام هنا فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبين الدين السّنى الذى تقول شريعته للمتسلطين على الناس ( فإن عصوكم فاضربوهم أو اقتلوهم )

  5 : وفى الحوار وآدابه يقول جل وعلا لخاتم المرسلين ــ عليهم جميعا السلام ــ (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) يونس ) بمعنى براءته من عملهم وبراءتهم من عمله . وهنا أروع مثل للحرية الدينية ، حين يساوى الرسول بين براءته من عملهم وبراءتهم من عمله ، مع أن عمله هو الغاية فى السُّمو الخلقى ، وعملهم هو الحضيض ، ونفس الحال حين إتهموه بإفتراء القرآن الكريم ، يقول جل وعلا ليردّ عليهم ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) هود ). هى نفس المساواة فى الحوار .

وما أروع هذا الحوار المأمور به الرسول وكل من يتبعه : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) سبأ  ) . لم يقل لهم ( أنا على هدى وأنتم على ضلال ) بل قال يساوى بينه وبينهم : احدنا على ضلال والآخر على هدى . ثم أنهم غير مُساءلون عن ( إجرامه ) وهو ليس مُساءلا عن ( عملهم )، نسب الاجرام لنفسه ، ولم ينسب لهم إجراما .  وفى النهاية تأجيل الحكم عليه وعليهم لرب العزة جل وعلا يوم القيامة .

ثانيا : ( برىء من ) بمعنى التبرؤ من الأشخاص :

  1 : قلنا أن هناك كفر قلبى وشرك قلبى لا يصاحبه إعتداء من الكافر المشرك ، بمعنى أنه مشرك مسالم ، وهؤلاء يقول رب العزة يأمر بالبر اليهم والتعامل معهم بالقسط : ( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة ) . هذا الصنف يمكن التحاور معه بالطريقة السابقة والتبرؤ ليس منه ولكن من عمله الشّركى الكُفرى . هو فى حقيقة الأمر ( مسلم ) بسلوكه المُسالم . والاختلاف العقيدى الدينى بيننا وبينه مؤجل الحكم فيه الى الله جل وعلا يوم القيامة .

الصنف الآخر هو الذى يخلط كفره وشركه القلبى العقيدى بكفر وشرك سلوكى بالإكراه فى الدين وطرد المسالمين من ديارهم وغزوهم فى بلادهم وإحتلالها ، وقتل أهلها وقتل الأبرياء واستحلال دماء المخالفين له فى الدين والمذهب وسبى نسائهم وسلب أموالهم ، وهذا ما تفعله داعش اليوم ، والوهابيون ، وما كانت تفعله قريش المشركة مع المؤمنين المسالمين المستضعفين ، وقد نهى رب العزة عن موالاتهم فقال جل وعلا فى الآية التالية : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)  الممتحنة ) . يعنى كان هناك وقت نزول القرآن الكريم  مشركون مسالمون أمر الله جل وعلا بالبر بهم والقسط اليهم والحوار معهم بالتى هى أحسن . التبرؤ يكون من شركهم العقيدى وتقديسهم البشر والحجر ، وليس من أشخاصهم . وكان هناك مشركون معتدون ظالمون متسلطون أمر رب العزة بالتبرؤ منهم وعدم موالاتهم .

وهو نفس الحال فى عصرنا . هناك محمديون مسالمون ومسيحيون ويهود وبوذيون مسالمون يجب أن نتعامل معهم بالبر والقسط ، نتبرأ من معتقداتهم وتقديسهم البشر والحجر ولكن لا نتبرأ منهم كأشخاص . وهناك كفرة مشركون يقدسون المخلوقات ويتسلطون على الناس بالقتل والسلب والنهب والاغتصاب ، ويزعمون أن هذا هو الاسلام . هؤلاء البغاة الفجرة الكفرة يجب أن نتبرأ منهم كاشخاص ونتبرأ من دينهم وشريعتهم .

قريش بعد موت النبى ـ وبزعامة الأمويين ـ إرتكبت جريمة الفتوحات التى تتناقض مع شريعة الاسلام القائمة على السلام والعدل والرحمة وحُرمة قتل النفس المُسالمة البريئة . واليوم يرتكب الوهابيون نفس الجرائم مع جريمة أفظع وهى التمسح بالاسلام . وهم ( السلف ) ( للسلفيين الوهابيين ) الذين يعبدون ما وجدوا عليه آباءهم ، الذين قال عنهم رب العزة ( إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) الصافات )، هنا يكون التبرؤ ليس فقط من عملهم بل منهم أيضا كاشخاص .

2 : قوم ابراهيم إضطهدوا ابراهيم والمؤمنين معه ـ فكان أن تبرأ ابراهيم والمؤمنون معه من قومهم الظالمين الذين قرنوا الكفر العقيدى بالكفر السلوكى المعتدى الظالم  ، يقول جل وعلا ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) الممتحنة  ) .

ابراهيم فى البداية تبرّأ من عمل قومه المّشركين : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) الزخرف  ) ، ولكن بعد أن ألقوا به فى النار إختلف الوضع ، فتبرأ من أبيه الذى كان مع قومه ، وعندها تبين له أن أباه عدو لله جل وعلا . كان قد وعد أباه أن يستغفر لع فلما تبين له أن أباه بسلوكه العدوانى الكافر أصبح عدوا لله جل وعلا تبرأ منه ، يقول جل وعلا : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة )

3 : وقد نزلت  هذه الآية فى سياق عتاب للنبى محمد عليه السلام لأنه كان يستغفر لعمه أبى لهب ، وقد نزلت فى أبى لهب سورة تلعنه وتؤكد عداءه للرحمن جل وعلا (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)). مع هذا كان النبى يستغفر لعمه وأقاربه المشركين الذين أخرجوه والمؤمنين من مكة ، فنزلت سورة الممتحنة تأمر وتنهى ، وفيها قوله جل وعلا للنبى والمؤمنين بالتأسى بابراهيم والمؤمنين معه حين تبرأوا من قومهم الكافرين المعتدين ( الممتحنة 4 : 6 ) . مع هذا ظل النبى يستغفر لعمه وظل المؤمنون يستغفرون لأهاليهم الكافرين المعتدين ، فنزل قوله جل وعلا : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)التوبة ).

4  :  جدير بالذكر أن محمد بن اسحاق أول من كتب السيرة ( النبوية ) بتكليف من الخليفة العباسى ( المهدى ) وضع اسطورة تقول أن أبا طالب هو المقصود بالآية السابقة ، وأن أبا طالب مات كافرا وأن النبى عرض عليه أن يؤمن وينطق الشهادة مقابل أن ( يشفع له يوم القيامة ) وأن أبا طالب رفض ، ثم أحاديث أخرى تزعم أن أبا طالب فى النار . كل هذا الإفك يتناقض مع القرآن الكريم الذى ينفى شفاعة النبى وينفى علمه بالغيب . إقترف محمد بن إسحاق هذا الإفك فى سيرته ( النبوية ) تقربا للعباسيين فى وقت صراع سياسى بين العباسيين وابناء عمهم الطالبيين ـ نسل على بن أبى طالب . كان مستحيلا تكفير ( على بن أبى طالب ) الذى كان جدهم عبد الله بن عباس تابعا له ، فكان تشويه وتكفير أبى طالب نفسه مع وضع أحاديث فى فضل ابن عباس وأبيه العباس . هذا مع ان السيرة التى كتبها ابن اسحاق لم تنكر وقوف ابى طالب الى جانب النبى الى آخر لحظة ، وبسببه تعرض فى أواخر عمره للحصار فى شعب ابى طالب ، بينما ظل العباس على دين قومه ، وحارب معهم النبى والمؤمنين فى بدر ، وتم اسره فيها ، وظل فى مكة كافرا يرعى مصالح الهاشميين فى سقاية الحجيج ورعاية البيت متحالفا مع ابن عمه أبى سفيان كبير الأمويين ( والأمويون والهاشميون ينتمون لعبد مناف ) . ولعل العباس هو المقصود بقوله جل وعلا فى سورة التوبة (  مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) التوبة  ). وربما كان للعباس دور فى هذا الانقلاب على النبى والمؤمنين فى مكة ، والذى أسفر عن حرب ضروس نزلت فيها سورة التوبة ، ولقد أغفل ابن إسحاق هذه الحرب تماما ، رعاية لخاطر العباسيين ، فظلت سورة التوبة تشير الى أحداث لا نقرأ عنها تفصيلات تاريخية . 

5 : جدير بالذكر أيضا أن سورة ( التوبة ) إسمها أيضا ( براءة ) ، و تفتتح بالبراءة من المشركين الكافرين المعتدين ناكثى العهد ، وفيها يقول جل وعلا  فى التبرؤ من أشخاص المشركين : ( وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) التوبة ). هؤلاء القرشيون المعتدون الذين أخرجوا النبى والمؤمنين وأجبروهم على الهجرة للمدينة ، هم الذين ـ بعد فتح مكة سلميا ـ نكثوا العهد وهمُّوا باخراج النبى والمؤمنين ، ونزلت فيهم سورة التوبة ، وفيها يقول جل وعلا : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) التوبة ) .

6 : هؤلاء هم الذين سيطروا على الدولة بعد موت النبى محمد عليه السلام ، وارتكبوا جريمة الفتوحات وكان معهم أسوأ نوع من المنافقين الذين مرودا على النفاق ، وكانوا أقرب الناس للنبى فى المدينة ، وتوعدهم رب العزة بالعذاب مرتين فى الدنيا ثم العذاب العظيم فى الآخرة ، نزل فيهم وهم أحياء قوله جل وعلا فى نفس سورة التوبة (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)  التوبة) قادة الفتوحات هم الذين مردوا على النفاق وخدعوا النبى طيلة حياته فى النبوة وهو الذى لا يعلم غيب  السرائر، وجنودهم كانوا الأعراب الذين هم أشد الناس كفرا ونفاقا . هؤلاء تبرأ منهم رب العزة ، وإن أصبحوا آلهة فى أديان المحمديين الأرضية .

ثالثا  : الشيطان والتبرؤ من أشخاص أتباعه

 1  ــ فى الدنيا :  يقول جل وعلا عنه : ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) الانفال )، و يقول جل وعلا ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) الحشر ).

 2 ـ  وسيتبرأ الشيطان من أتباعه وهم فى النار ، وجاء هذا المعنى فى قوله جل وعلا : (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) ابراهيم )

 رابعا  ــ فى النار :  تبرؤ الأتباع من السادة  وتبرؤ السادة من الأتباع   :

 المشركون الكافرون فى كل الأحوال ينقسمون الى قادة سادة والى اتباع . عند العرض أمام الله جل وعلا وتوقع العذاب سيطلب الأتباع من سادتهم أن يتحملوا عنهم نصيبا من النار ، وسيرفض السادة . يقول جل وعلا : ( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) ابراهيم )، وهم فى النار سيكررون نفس الطلب ، وسيرفض السادة ، يقول جل وعلا : :(  وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنْ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) غافر ).

عندما ييأس الأتباع سيلعنون سادتهم ويتحسرون على حالهم بينما تتقلب وجوههم فى النار ، يقول جل وعلا :( يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) الاحزاب ). يقول جل وعلا عن تبرؤ الأتباع من سادتهم وشيوخهم وأئمتهم وأحبارهم ورهبانهم وبابواتهم   : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166) البقرة ) وسيرد السادة بتمنى التبرؤ من أتباعهم  لو جاءتهم فرصة ، يقول جل وعلا ( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ (167) البقرة  ) . هذه الآيات الكريمة مُهداة الى غوغاء السلفيين وعوام الاخوان ومريدى الشيوخ الصوفية و مستضعفى الشيعة .. يمتصُّ الشيوخ دماءهم فى الدنيا ، ويتخلون عنهم يوم القيامة .!

أخيرا : أحسن الحديث :

يقول جل وعلا : (وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)  سبأ   )

ودائما : صدق الله العظيم .

اجمالي القراءات 8046