فصل تمهيدي : إبن خلدون بين التاريخ والتأريخ
مؤلفات ابن خلدون

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٦ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية أصولية تاريخية

 فصلتمهيدي : إبن خلدونبين التاريخ والتأريخ

رابعا : مؤلفات ابن خلدون :  كتابه في التاريخ : إبن خلدونمؤرخا

 مقدمة إبن خلدون: لمحة عامة

مؤلفات إبن خلدون

     نسب بعضهم لإبن خلدون كتاب " شفاء السائل " ونرى أن هذا الكتاب لا صلة له بإبن خلدون لسببين جوهريين : الأول :- أنه لم يرد هذا الكتاب في ترجمة إبن خلدون ، سواء فيما كتبه من سيرته الذاتية ، أو مما كتبه عنه المؤرخون المعاصرون له ، فالمتفق عليه هو الحديث عن كتابه " تاريخ العبر " والمقدمة ، والثاني : - إن  كتاب شفاء السائل " يتحدث أساسا في التصوف ومن موقع الإنتقاد وبالمنهج العقلي الأرسطي[1] وهو يخالف وجهة نظر إبن خلدون وعقيدته عن التصوف التي أكدها في المقدمة .

     ثم أنه تبين لنا بعد البحث – كما يظهر في هذه الدراسة – أن إبن خلدون بعد كتابته للتاريخ بمقدمته وأجزائه فلم يضف شيئا إلى حياته العلمية خلال سنوات عمره الأخيرة في مصر : ( 784 :808 ) ، وبالتالي فليس لدينا إلا تاريخ إبن خلدون المسمى " بالعبر" والمقدمة ، وهي موضوع هذه الدراسة .

 المقدمة : نظرة عامة

     وكتاب إبن خلدون " كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " يبدأ بمقدمة صغيرة ، ليست هي مقدمة إبن خلدون المعروفة، ولكنها مقدمة صغيرة عن علم التاريخ ، ثم بعدها الكتاب الأول عن العمران ، وهي مقدمة إبن خلدون التي أنشأت علم العمران وهي محل هذه الدراسة ، ثم يأتي الثاني في أخبار العرب ومن عاصرهم من العجم ، ثم الكتاب الثالث عن أخبار البربر .

    والكتاب " العبر " بمقدمته عن العمران وتاريخه يقع في سبعة أجزاء ، بالرغم من تقسيم المؤلف له إلى ثلاث كتب . ذلك أن المقدمة تشغل جزءا وحدها ، ثم يشغل تاريخ العرب ومن عاصرهم الأجزاء الثاني والثالث والرابع والخامس وجزءا من المجلد السادس . ثم يحتل تاريخ البربر باقي المجلد أو الجزء السادس ثم الجزء أو المجلد السابع والأخير .

    ويبدا المجلد الأول بافتتاحية عادية بالحمد والصلوات والحديث عن علم التاريخ وأنواعه ونقد إبن خلدون لأساطير المؤرخين القدامى ومنهجهم في التأريخ ، وبعد الإفتتاحية  يؤكد ماسبق من نقد المؤرخين السابقين وصفات المؤرخ وبعدها يدخل في الكتاب الأول عن علم العمران أو مايعرف بمقدمة إبن خلدون .

    وفي المقدمة تعرض لطبيعة العمران وأحواله من البدو والحضر والكسب والمعاش والعلوم من خلال ستة أقسام : الأول : عن العمران البشري : ويشمل عدة مقدمات عن الإجتماع الإنساني وقسط العمران في الأرض وتأثير الجغرافيا في الإنسان ، وعلم بعض الناس بالغيب . والقسم الثاني عن العمران البدوي ويبحث أحواله في تسعة وعشرين فصلا . والقسم الثالث عن أحوال الدولة والملك والخلافة أي السياسة ويبحثها في ثلاثة وخمسين فصلا .  والقسم الرابع يتناول البلاد والأقطار والمدن وأحوالها في اثنين وعشرين فصلا . ثم يتناول القسم الخامس الأحوال الاقتصادية من أنشطة اقتصادية وأحوالها وعلاقتها بالعمران والسياسة في ثلاثة وثلاثين فصلا . وأخيرا يتعرض للعلوم والتعليم في أكثر من خمسين فصلا وذلك في القسم السادس .

 

منهج إبن خلدونفي المقدمة

     نقول إن فى المقدمة أكثر من خمسين فصلا حيث يختلف تقييم إبن خلدون للفصل ، وأحدث هذا اضطرابا بين الفصول والأبواب ، ونتج عن هذا الاضطراب اختلاف طبعات المقدمة في تحديد الفصول والأبواب .

وبدأ إبن خلدون هذا الإضطراب بتقسيم الباب الأول أو القسم الأول عن العمران البشري بمقدمات وليس على أساس الفصول ، ثم اتسع الإضطراب في القسم الأخير أو الباب السادس حيث كان يتوقف بالتفصيل مع الأقسام المختلفة للعلوم ضمن فصل واحد ،مع أن الأقرب لها أن تكون فصولا مستقلة .

     ومنهج إبن خلدون أن يلخص فكرة الفصل في العنوان ، ثم يبرهن بالطريقة الهندسية على صحة الفكرة ، ويعطي لها أمثلة تاريخية يستقي أكثرها من تاريخ العرب وتاريخ البربر والدول التي قامت في منطقته ، ويحرص على الترتيب المنطقي الهندسي بين الفصول ، أي يسير بالقارئ وفق منهج محدد من أول الباب إلى نهايته في ترتيب متناسق بين الفصول ، ثم يقيم كل فصل كما قلنا على منطق هندسي ، وفي بداية كل فصل يذكر القارئ بالنتائج السابقة التي توصل إليها ويبني عليها الفكرة التي يقوم عليها الفصل ويحاول إثبات الفكرة منطقيا . ويتسبب ذلك في حدوث نوع من التكرار ، إلا أنه تكرار مفيد حيث يؤكد على الآراء السابقة ويزرعها في ذهنية القارئ.

  أخطاؤه المنهجية في المقدمة

  ومع  ذلك فقد وقع إبن خلدون في عدة أخطاء منهجية هي :-

1-        الخلط والتكرار في العناوين ، فالفصل 16 وعنوانه " الأمم الوحشية أقدر على التغلب " والفصل 21 وعنوانه " الأمم الوحشية ملكها أوسع" كان من الممكن دمجهما ضمن حديثه في فصول أحوال الملك ، ويلحق بذلك تكراره لنفس الموضوع ونفس العناوين تقريبا،  فالفصل 15 من الباب الخامس عنوانه  "خلق التجار نازلة عن خلق الرؤساء .." والفصل 11 من نفس الباب الخامس عنوانه " خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف والملوك ".

2-        وأحيانا يختلف العنوان عن محتوى الفصل ، فالباب السادس يتحدث الفصل 27 فيه عن  كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل " ثم تراه في العرض والشرح يضيف أسبابا أخرى تعوق عن التحصيل مثل اختلاف المصطلحات وتعددها .. الخ .

3-        بل احيانا يتناقض العنوان مع محتويات الفصل ، فالفصل 31 من الباب الأخير عنوانه :

" العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار ولاتفرع فيها المسائل" ثم يتحدث في العلوم الإلهية  على أنها من العلوم المقصودة لأنها التي ينبغي أن تتوسع فيها الأنظار وتتفرع فيها المسائل ، عكس العنوان تماما .

4-        وأحيانا يفتقد الترتيب المنطقي في تسلسل العناوين ، ففي الباب الأخير عن التعليم ، يتكلم في الفصول الأربعة الأولى عن طبيعة التعليم وأصنافه ، ثم يتحدث في الفصول التالية عن كل علم من العلوم من الفصل الخامس حتى الفصل 26 ، ثم يتحدث في الفصول التالية عن وجهة نظره في طبيعة التأليف والعلوم والتعليم من الفصل 27، وحتى الفصل 35 ثم يعود بعدها إلى بقية العلوم من الفصل 36 إلى نهاية الباب والكتاب . وكان من الأفضل أن يجمع الفصول الخاصة بطبيعة العلم والتعليم معا ، ثم يجمع الفصول الخاصة بكل علم معا .

 أسلوب إبن خلدونفي المقدمة

      في مقدمة الإفتتاحية التزم أسلوب السجع، ثم تركه سريعا حين دخل في الموضوعات العلمية، وعموما فأسلوبه شديد التركيز مع عنايته بالشرح وإعطاء الأمثلة بالطريقة المنطقية الفقهية التي تلتزم بالحجة والبرهان . وفي العادة يختم كل فصل بآية قرآنية مع التسليم لله تعالى ، كأن يقول مثلا " وأن هذه كلها تتبدل في الأعقاب ولايجب استمرارها ، سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلا ، والله ورسوله أعلم بغيبه وأحكم ، وهو المولى المنعم الرءوف الرحيم".

     على أن أسلوبه يجنح للتعقيد حين يتحدث في أمور فلسفية هي معقدة بطبيعتها ، ولكنه عندما يتحدث في موضوع العمران وأحوال المجتمعات يكون أسلوبه أكثر سهولة وأقل تعقيدا . ومع هذا فإنه كان يقع في الغموض ، فمثلا يتحدث عن تحكم الموالي العجم في الخلافة العباسية وكيف ترفع أولئك المتحكمون عن استعمال لقب الوزير ، ثم يقول عبارات غامضة " .. ولم يزل هذا الشأن عندهم إلى آخر دولتهم وفسد اللسان خلال ذلك كله ، وصارت صناعة ينتحلها بعض الناس فامتهنت وترفع الوزراء عنها لذلك ، ولأنهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخير لها من سائر الطبقات فاختصت به وصارت خادمة للوزير " [2]   وفي موضع آخر يطلب من الاستاذ أن يتدرج في تفهيم التلميذ ، ثم يتصدى إبن خلدون نفسه لنصح  التلميذ فيأتي أسلوبه غامضا يصعب على البالغين فهمه فكيف بالتلميذ الذي يوجه له الخطاب [3] وأحيانا  يوقعه الغموض في الخطأ ، فعن طريقة الحرب لدى الترك وأنهم يقسمون الجيش إلى ثلاثة صفوف متتالية وكل صف يحمي الصف الذي خلفه ، يقول إبن خلدون " وكل صف ردء للذي أمامه " [4] والصحيح " للذي خلفه" . وفي موضع آخر نراه يقسم الصنائع إلى قسمين ، الضروري وغير الضروري ، وبعد أن يتحدث عنهما يقول " ومن الثالث الجندية " [5] مع أنه لم يذكر صنفا ثالثا . وحين يتحدث عن طريقة الكيمياء في تحويل المعادن إلى ذهب ، وذلك بالحصول أولا على الحجر المكرم ، ويقول ضمن تلك الطريقة " ثم تمهي بالفهر على حجر صلد أملس وتسقي أثناء أمهائها بالماء " [6]  والأمهاء هو السقي بالماء ، والفهر هو الحجر ، فكيف نفهم العبارة ؟؟

النقل عن الآخرين

     ويؤكد إبن خلدون على أنه اخترع هذا العلم ( علم العمران ) ويؤكد ذلك من خلال براهين في بداية الكتاب الأول ( المقدمة) وقد ذكر بعض الإشارات المتفرقة لهذا العلم من قبله ، إلا أنه هو الذي أقام ذلك العلم كاملا .

      وكان يحتاج إلى  النقل عن الآخرين في استشهاداته الجغرافية والتاريخية والكيماوية وغيرها من الثقافة السائدة في عصره ، وكان أحيانا يذكر أسماء المؤلفين وأسماء الكتب كما فعل مع الشريف الإدريسي والمسعودي في الجغرافيا , وكما فعل مع إبن رشيق في الأدب , وإبن حماد وإبن العميد في التاريخ .

وإننا نؤكد على أن عبد الرحمن بن خلدون هو صاحب هذه المقدمة  ومنشئ علم العمران بتلك الطريقة الفريدة التي نراها متسقة مع ثقافته وعصره وامكاناته . وتفصيلات هذا البحث تثبت ذلك .

منهج إبن خلدونفي تاريخ العبر:

    سبق إبن خلدون في الحديث عن مناهج المؤرخين وأقسام التأريخ ، فهناك التأريخ العام حين تتسع الدولة كما فعل الطبري والمسعودي والواقدي ، وهناك التأريخ المحلي الذي يتخصص في وطن بعينه كما فعل أبوحيان في تاريخ الأندلس ، وإبن الرفيق مؤرخ شمال أفريقيا .

    وقال أن المؤرخ الجيد يحتاج إلى معارف متنوعة وحسن النظر في فهمها ، وليس مجرد النقل ، بل يفهم أصول العادة وقواعد السياسة ووظيفة العمران وقياس الغائب على الشاهد ، وإن كان إبن خلدون قد نسي ذلك وهو يدافع عن الصحابة في الفتنة الكبرى وعنالرشيد والمأمون وغيرهم .

ويرى إبن خلدون أن منهج المؤرخ النقدي في تحقيق وتصحيح الأخبار التاريخية يكون بمعرفة طبائع العمران وينقد الخبر ذاته أي الموضوع والمتن وليس مجرد فحص أحوال الرواة من الصدق والكذب ، فإذا كان الخبر يقبل الصدق في ذاته فنتحرى بعدها أحوال الرواة . وهذا منهج جيد لتصحيح علم الجرح والتعديل في الحديث ، ويقول إبن خلدون إن كيفية تحري صدق الخبر تكون بمدى مطابقة الخبر مع ظروف عصره ، أي إمكانية وقوع الحدث في عصره ، فإذا تعذر وقوع الحادثة في عصرها فيجب استبعادها ، وقال إن منهجه في علم التاريخ هو الإختيار والتلخيص في عرض الأخبار ، والدخول من باب الأسباب على العموم إلى الأخبار على الخصوص ، وتعليل الحوادث وبيان أسبابها ، ووضع العنوان الذي يلخص الموضوع .

 وهذا ماقاله إبن خلدون في بداية المقدمة عن علم التاريخ ، واكتفي بذلك بحيث لم يتعرض لعلم التأريخ ضمن العلوم التي تعرض لها في باب العلم والتعليم الأخير في المقدمة .

   وليس من أهداف هذه الدراسة التوقف بالشرح والتفصيل مع تاريخ إبن خلدون بمجلداته الستة أو بكتابيه عن تاريخ العرب والعجم والبربر ، ونزعم أن هذا التأريخ لإبن خلدون يحتاج إلى دراسة تاريخية متخصصة نقدية ، وإن كان التقريظ قد لحق بالمقدمة دون التأريخ ، وإبن حجر –المؤرخ المعاصر لإبن خلدون – كان على حق – حين قال في ترجمة إبن خلدون " أنه صنف التأريخ الكبير في سبع مجلدات ضخمة ظهرت فيه فضائله وأبان فيه عن براعته ، ولم يكن مطلعا على الأخبار على جليتها لا سيما أخبار المشرق ، وهو بيّن(أي واضح) لمن نظر في كلامه " والواضح أن إبن حجر مدح المقدمة التي أظهر فيها إبن خلدون براعته ، إلا أن مستواه في التأريخ كان دون المعهود خصوصا مع الإختصار والخلط . والدراسة التاريخية المتخصصة كفيلة بإظهار حقائق هذا الموضوع وتفصيلاته .

  إلا أننا في معرض التعريف بكتاب إبن خلدون في التاريخ ، أو بإبن خلدون مؤرخا نتوقف سريعا لنلقي نظرة عامة لتسهيل الموضوع أمام الباحثين الشباب الراغبين في بحث إبن خلدون مؤرخا .

    وفي البداية فإن المادة التاريخية في تاريخ إبن خلدون تنتمي للتاريخ العالمي ، حيث بدأ تاريخه مثل الطبري ببداية الخليقة ، وإن كان الطبري أكثر اتساعا ، ونقل عنه إبن خلدون في المجلد الثاني أخبار العرب القدماء وإبراهيم وأبناءإسرائيل وأنبياءهم والفرس والروم ، إلا أن الطبري مع توسعه كان يميل نحو أخبار المشرق ، أما إبن خلدون فمع أنه ينقل عنه باختصار إلا أنه كان يميل إلى ذكر أخبار المغرب ، حتى في ذلك التاريخ البعيد ، لذلك نراه ذكر ما أغفله الطبري عن اللاتين وقيصر وقرطاجنة واليونان ، وكما كان ينقل عن الطبري في أخبار المشرق ويصرح بذلك فإنه كان ينقل أخبار الأوربيين القدماء عن إبن العميد ويسجل ذلك . ومثل الطبري يصل إبن خلدون من تاريخ القدماء إلى تاريخ العرب الجاهليين ثم إلى السيرة النبوية ، وهنا ينقل عن إبن هشام ملتزما الإختصار ، ويسارع الخطى في السيرة ليصل إلى الردة والفتوحات  في خلافة أبي بكر ، وهنا ينقل عن الطبري باختصار كل الموضوعات الأساسية في التاريخ الإسلامي ، إلا أنه لم يلتزم تماما بمنهج الطبري .

     وهنا نتوقف مع المناهج التاريخية للمؤرخين .

    فهناك منهجان أساسان في الكتابة التاريخية ، وهما المنهج الحولي والمنهج الموضوعي .

    المنهج الحولي معناه أن يكون التأريخ للحدث حسب الزمان وليس المكان أو الأبطال ، بحيث يتم ربط الأحداث  كلها في زمن واحد متتابع هو العام أو الحول ، ويكون المؤرخ هنا كمن يصدر نشرة إخبارية بما يحدث يوميا أو شهريا في ذلك العام والعام الذي يليه . وميزة هذه الطريقة أنها تعطينا سجلا تفصيليا بالأحداث اليومية والسنوية وتجعلنا نحس بإيقاع العصر ونبض الحياة فيه – إلا أن عيب هذا المنهج أنه يمزق سياق الحادثة التاريخية الواحدة التى تقع في مكان واحد ولكن في سنوات متصلة ، فالعادة أن الأحداث التاريخية الواحدة الكبيرة تقع في مكان واحد في سنوات متصلة ، وتتتابع تفصيلاتها متوالية . إلا أن المؤرخ الذي يتعامل معها وفق المنهج الحولي يقطع ذلك التسلسل في أحداثها ويتعامل معها كإحدى مفردات الأحداث في العام وينظمها ضمن أحداث العام الواحد , ثم يعود إلى استكمال حلقاتها في العام التالي ضمن أحداث أخرى في العام التالى ، وهكذا في الأعوام التالية ، وبالتالي فإن ذلك الحدث الهادر المستمر في غليانه يفقد حرارة التواصل وإمكانيات التميز التاريخي . والباحث الذي يسعى وراء حادثة معينة تتابعت حلقاتها عليه أن يستعرض كل أحداث الأعوام ليستخلص موضوعه من ضمن أكوام الأحداث الأخرى ، وهنا يتمنى لو أن المؤرخ وضع عنوانا باسم الحادثة وروي موضوعها منذ البداية إلى النهاية ، أو بمعنى آخر إتبع المنهج الموضوعي .

    فالمنهج الموضوعي هو ربط الحدث التاريخي بالمكان والأبطال أساسا . أي أن تدور الأحداث التاريخية في تاريخ دولة أوسيرة شخص أو تاريخ وطن أو بلد ، وداخل هذا الإطار الموضوعي للمكان أو الأبطال يدور الزمن من البداية إلى النهاية .

     والطبري أبرز من اتبع المنهج الحولي بالطريقة الحرفية منذ السيرة النبوية إلى أن أنهى تاريخه ، وبعد قيام الدول المستقلة عن الخلافة العباسية التزم المؤرخون اللاحقون المنهج الموضوعي في التأريخ للدول والأوطان والمدن ، وخلال هذا التأريخ المحلي كان المنهج الحولي يدور في إطار المكان والأشخاص وبطريقة لا تتشرذم  فيها الأحداث .

  فأي منهج اتبعه إبن خلدونفي تاريخه ؟

   نلاحظ أنه تابع الطبري ينقل عنه ، إلا أنه لم يلتزم إلتزاما حرفيا بالمنهج الحولي  للطبري ، ولكن حاول الفكاك منه بالإختصار وبتقسيم الأحداث موضوعيا ، فتراه يعرض للغزوات ثم حركة الردة ، ثم الفتوحات ثم الفتنة الكبرى إلى أن أقام معاوية ملكه ، ثم يسير مع باقي الأحداث وفق تسلسلها الزمني ، ولكن دون أن تتشتت منه الأحداث ، وإذا كان الطبري يجعل العنوان بقوله " ثم دخلت سنة كذا " فإن العنوان في تاريخ إبن خلدون هو نفس الحدث ، ويتتبعه من بدايته إلى نهايته ، ثم يذكر حدثا آخر بنفس الطريقة مع الإلتزام قدر المستطاع بالتسلسل الزمني في التتابع التاريخي الأفقي للآحداث كلها ، وفقا لتاريخ الأمة التي يؤرخ لها من العرب أو البربر .

     وبعد موت الطبري سنة 310 ، وقد أنهى تاريخه حتى سنة 302 نجد إبن خلدون قد وجد ضالته في إبن الأثير وتاريخه " الكامل " الذي أكمل تاريخ الطبري وأصلح من التزامه الحاد بالمنهج الحولي ، وهنا نقرر أن إبن خلدون تأثر تماما بإبن الأثير ونقل عنه تاريخه ( الكامل ) الذي توقف عند سنة 620 ، ولقد كان إبن الأثير في الكامل ملتزما بطريقة الطبري في عنوانه المأثور " ثم دخلت سنة كذا " ثم يرتب الأحداث ولكن يحاول ألا يقطع سياقها ، ثم في نهاية العام يجمع كل الأحداث الصغيرة تحت عنوان " ذكر عدة حوادث " وإبن خلدون في تأثره بإبن الأثير تجنب مثله بعثرة أجزاء الحادثة الواحدة ،  بل كان يجمع تفصيلاتها تحت عنوان يلخص أحداثها ، إلا أنه لم يلتزم مثل إبن الأثير بعنوان ، ثم دخلت سنة كذا ، بل كان يكتفي بعنوان الموضوع دون إشارة  إلى السنوات في العنوان ولا يهتم بالحوادث الجانبية ، بل يركز على الأحداث الموضوعية ، إلا أن شخصية إبن خلدون تظهر أكثر في نقله عن إبن الأثير . إذ لم ينقل العناوين حرفيا منه ، ولم ينقل عنه الأحداث حرفيا ، وإنما صاغها بأسلوبه ، ثم كانت ميوله المغربية تظهر في الإضافة والإطناب لما يوجزه إبن الأثير في التأريخ لأحداث المغرب وشمال أفريقيا . وإبن الأثير كان مثل الطبري يولي وجهه نحو المشرق ويرى بغداد مركز الأحداث في العالم ، ولكن إبن خلدون تصرف بنفس طريقته في النقل عن الطبري إذ اهتم أكثر بأخبار المغرب وجاء  بتفصيلات الأحداث الخاصة  بالدولة الفاطمية مثلا عندما أوجزها إبن الأثير في تاريخه الكامل . ثم كان ينقل  عنه " بتصرف " في أخبار المشرق . ولايلتزم بتفصيلاته فيها .

      وتابع إبن خلدون النقل بهذه الطريقة عن الكامل لإبن الأثير إلى أن وصل إبن الأثير إلى غزو التتار لمشارف العراق سنة 629 ، وهذا ماسجله إبن خلدون في المجلد الخامس ، إلا أنه إتبع تقسيما موضوعيا في المنهج في العصر العباسي الثاني خرج به على تقليده العادي لمنهج إبن الأثير في التأريخ الحولي ، وكان لابد أن يبحث عن مؤرخ آخر ينقل عنه الأحداث التالية .  

·  وفي التأريخ للأحداث بعد سنة 629 اعتمد إبن خلدون على المؤرخ إبن كثير المتوفي 774هـ . والذي أكمل التأريخ من البعثة النبوية إلى عصره حتى عام 767هـ . إلا أنه التزم بمنهج الطبري ، ولذلك فقد اقتصر إبن خلدون على نقل الأحداث عنه إلا أنه التزم بمنهج مؤرخ مصري آخر هو النويري في موسوعته الشهيرة  " نهاية الأرب" والتي خصص الأجزاء الأولى منها للجغرافيا والمعلومات المتاحة في عصره ، بنفس النسق الذي سار عليه المسعودي في " مروج الذهب " ثم جعل مثله القسم الثاني من كتابه في التاريخ ، إلا أنه ابتدع منهجا رائعا في السرد التاريخي ، هو تقسيم كتابه إلى موضوعات قائمة بذاتها .

·           فالنويري شهاب الدين أحمد بن عبدالوهاب(677- 733) أرخ للعباسيين  من بداية الدولة إلى نهايتها وللدولة الأموية بالأندلس حتى تفككها ، ولشمال أفريقيا منذ الفتوحات حتى الملثمين والموحدين ، كما أرخ للثورات الشيعية منذ  الدولة الأموية وخلال الدولة العباسية ، ونجاح بعضها في إقامة دول بالمشرق وفي شمال أفريقيا ( الفاطمية ) كما أرخ للدول المستقلة في العصر العباسي ما بين خرسان والهند وأفغانستان والدول المستقلة في  العراق وآسيا الصغرى والشام من الحمدانيين والبويهيين والسلاجقة والزنكيين . إلى ظهور المغول والصليبيين ، ثم تفرغ في الأجزاء الأخيرة للدول المستقلة في مصر من الدولة الطولونية فالإخشيدية فالفاطمية فالأيوبية ثم دولة المماليك التي كان يعيش في عصرها ، إلى أن سجل التاريخ المعاصر لعصره ، وفي كل تلك الدول كان يتتبع الدولة من بدايتها إلى نهايتها .

      وعلى نفس النسق سار إبن خلدون في تقسيمه وبنفس الترتيب في الدولة الأموية والعباسية والدول الشيعية والثورات الشيعية والسلاجقة والصليبيين والتتار . إلا أنه خالف النويري واتفق معه . خالفالنويري إذ قصر النويري تاريخ الأجزاء الأخيرة  على وطنه مصر المستقلة منذ الطولونيين إلى عصره المملوكي ، فكان أن خالفه  إبن خلدون واتفق معه في نفس الوقت ، حيث جعل خاتمة كتابه في التأريخ لشمال أفريقيا والبربر من البداية حتى عصره ، ونقل عن النويري وعن غيره ، ثم أنهى الكتاب بسيرة حياته التي شارك فيها في صنع الأحداث مع الممالك المتحركة في منطقته . ومع أن إبن خلدون تأثر بالنويري إلا أن النويري كان أسلس أسلوبا وأسهل عرضا منه . 

     وفي النهاية فهذه لمحة عامة عن تاريخ إبن خلدون ، تمهد الطريق لبحث متخصص يقوم به شباب الباحثين يستقرئ شتى التفصيلات في المنهج وفي كيفية التعامل مع المصادر ، وصياغة الخبر  التاريخي ومدي التأثر والتأثير بين إبن خلدون وبقية المؤرخين الذين يحتمل أنه نقل عنهم مثل إبن الفرات وأبو الفدا ومؤرخي الدول المشرقية والمغربية ، وكيفية تعامله مع أحداث عصره التي عايشها ومدى الموضوعية والحياد في النقل عن الآخرين أو في التسجيل المباشر .. إلى آخره .

     ونتأهب الآن لعرض مقدمة إبن خلدون من نسخة بولاق الأصلية ، ونعرضها في لغة متوسطة بين لغةإابن خلدون ولغتنا المعاصرة . مع وضع عناوين جانبية للأفكار الأساسية في كل فصل . وهذا هو القسم الأول من الكتاب ، وبعده تأتي الدراسة في القسم الثاني .

وفى عرضنا للمقدمة نقوم بصياغة ما كتبه ابن خلدون ، وتقسيم الموضوع لتسهيل فهمه مع وضع عناوين جانبية لكل منها . 

هيا بنا نستعرض مقدمة ابن خلدون فى القسم الأول من هذا الكتاب ، وهى أقواله ننقلها بأمانة ، سواء إتفقنا أو إختلفنا معها .

        



[1]
- شفاء السائل فى تهذيب المسائل نشر وتعليق اغناطيوس اليسوعي , بحوث ودراسات معهد الآداب الشرقية رقم 11 المطبعة   الكاثوليكية , بيروت .

[2]- المقدمة ، الفصل 34 ، الباب3.

[3]- المقدمة ، الفصل 29، الباب 6.

[4]- المقدمة : الفصل38 ، الباب 3.

[5]- المقدمة ، الفصل 16، الباب 5.

[6]- المقدمة ، الفصل 26، الباب6.

اجمالي القراءات 33208