تربية الأطفال فى المؤسسات الصوفية فى مصر المملوكية .

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٢ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثانى  :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

تربية الأطفال فى المؤسسات الصوفية فى مصر المملوكية .

مدخل :

إستفاد ( بعض ) الأيتام فى بعض المدن فى مصر المملوكية ( خصوصا القاهرة )، إذ كفلتهم (بعض ) المؤسسات الصوفية بإقامة كتاتيب لهم ، بعضها كان قائما بذاته أو ملحقا بالمنشأة الصوفية أو فوق ( سبيل ) أى مخزن للماء العذب يسقى الناس . الاحسان لليتيم فرض إسلامى تكرر فى القرآن الكريم ، وهو بهذا ناحية إيجابية للتصوف المملوكى ، وكان من النتائج الايجابية التى تنتج من ظلم مستقر ومستفزّ ، فالمماليك بالمال السُّحت والسخرة أقاموا المؤسسات الصوفية تكفيرا عن ذنوبهم وحتى يشفع فيهم الأولياء الصوفية طبقا لاعتقاد العصر فى شفاعة الأولياء ، وجعلوا من مهام الصوفية فى تلك المؤسسات الدعاء لمنشىء المؤسسة الصوفية ، واستفاد (بعض) الأيتام من هذا فوجدوا الرعاية والتعليم والمرتبات . وهو على أى حال تكافل إجتماعى ربما لم يكن موجودا بنفس المستوى فى أوربا وقتها . ونعطى لمحة عن تربية الأطفال فى المؤسسات الصوفية فى مصر المملوكية .

 الصوفية مؤدبو أطفال خارج المؤسسات الصوفية

1 ــ بتعبير العصر كانت تلك الوظيفة تعنى ( التأديب ) و ( الإقراء ).  ووظيفة ( التأديب)   تشمل الى جانب التعليم العادى تعليم الآداب والسلوكيات المهذبة . كما أن وظيفة الإقراء تعنى تعليم القراءة والكتابة .

2 ــ وقد عمل بعض الصوفية معلمين خصوصيين لأولاد المماليك والأعيان ، فكان شهاب الدين الكناني احد صوفية سعيد السعداء يؤدب أولاد السلطان حسن  [1] ،. لذا يقال (أدّدب الإمام فخر الدين التركي الملك الناصر في صغره ) [2] واحضر ابن المغلى  الناصري صوفيا من الخانقاة الجاولية هو احمد السنباطي لاقراء ولده الكمال ) [3] وادب ابن المواز أولاد ابي هريرة ابن النقاش )[4]...

3 ــ واشتغل بعضهم (مؤدبا عاما) فوصف الكثير منهم بانه اقرأ الأطفال مثل يوسف البحيري )[5] وسليمان المنوفي ) [6] وابن قومه ) [7] والزنكلوني ) [8] ونور الدين )[9] وبلال المعتقد ) واشتغل بدر الدين القطبى ــ وهو صوفي في الشيخونية ــ لإقراء الأطفال ، وكان يأخذ معه السخاوى لمكتبه حتى ختم عنده القرآن، حسبما يذكر السخاوى فى كتابه( الضوء اللامع )[10] . وتعين البرهان القلقشندي صوفيا بالخانقاة البيبرسية والخانقاة ا لجمالية. وأقرأ كثيرا من الأطفال [11] . وأقام البهوتي بدمياط مؤدبا للأطفال )[12] وأدب الشيخ بلال الدين الاطفال بالجملون العتيق )[13] وأقرأ المرصوفي أطفال مصر العتيقة )[14] وادب البدر الفيومي الأطفال بالمقسم .

ويبدو أن شهرة الصوفى المصرى فى تعليم وتأديب الأطفال قد جاوزت مصر ، فكان بعضهم يُبعثّ به مثل المتعارف عليه اليوم بالبعثات التعليمية ، فذُكر ان الشيخ المعتقد نور الدين المصري كان يؤدب الأطفال بحلب )[15] .

واشتهر بعضهم بكثرة تلاميذه من الأطفال فابن السراج تفرغ لاقراء القرآن وتعلم الخط وانتفع به جماعة ) [16] وانتفع الأطفال فى مدينة بلبيس بإبراهيم الفاقوسي يؤدب بها ، بحيث لم يكن بها من هو أصغر منه فى السّن إلا وقد قرأ عليه . واشتهر بينهم ان من لم يقرأ عنده ليس له اكمال القرآن بل يقال ان بعد موت ما ختم من أهلها القرآن ) [17] وأدّب الشيخ حسن جماعة من اكابر الخروبية و (اعيانها وغيرهم طبقة بعد طبقة ) [18] .

( وتكسب النحريري  من تأديب الطفال وانتفع به من لا يحصى كثرة ، واشتير إليه بالتقدم مع الحُرمة الوافرة وشدة البأس على الأطفال حتى حاولوا قتله بالسم .! ) [19] وتكسب آخرون من الصوفية بتأديب الأطفال واتخذوها وظيفة عليها الأجر ) [20] بينما أقام آخرون بذلك العمل احتسابا مثل الدميري )[21] والمرحومى  ) [22] والأوكاوى ) [23] وابن مصلح المنزلاوي)  [24] وعلى بن شهاب جد الشعراني )[25] . ويزعم الشعرانى أنه قد اخذت عليه العهود الّا يأخذ معلوما على تعليم الأطفال للقرآن )[26]

واهتم الصوفية من المؤلفين في بحث تربية الأطفال فقعد ابن الحاج فصلا في تعليم الأطفال ومشيهم [27]  ويقول السبكي (ينبغي ان يكون معلم الكتاب صحيح العقيدة ، فلقد نشأ صبيان كثيرون عقيدتهم فاسدة لأن فقيههم كان كذلك ) وتلك ناحية خطيرة أشار اليها  وهي تسرب العقائد الصوفية المتطرفة الى الأطفال بتأثير مؤدبي الأطفال من الصوفية يقول السبكي ( ومن حق معلم الصغار ان لا يعلمهم شيئا قبل القرآن ثم بعده حديث النبي عليه السلام ولا يتكلم معهم في العقائد بل يدعهم الى ان يتأهلوا حق التأهيل ) [28] ..

اقراء الأطفال في المؤسسات الصوفية :ــ

1 ـ وكان ( الكُتّاب ) أو مكان تعليم الأطفال تابعا أحيانا للمؤسسة الصوفية من خانقاة او تربة او زاوية وغيرها .

فالمنصور قلاوون عيّن أو ( رتّب) فقيهين يعلمان ستين صغيرا من ايتام المسلمين )[29] وعمّر برقوق صهريجا للماء ومكتبا للأيتام بقلعة الجبل ـ مقرّ الحكم . [30] و وأقام الأمير يونس النوروزى مكتبا للأيتام بجانب خانقاته [31] ومثله الأمير الجن بغا المظفرى )[32] . وأجرى الأمير جانبك الجوامك أى المرتبات على الأيتام المنزلين أى المعينين  في الكُتّاب بتربته ) [33] . وأقام الأمير دولات بأي مكتبا للأيتام وسبيلا في جامع الحاكم  ) [34] وجعل تاج الدين بن حنا فى تربته مكتبا للأيتام وجعل فى شروط الوقف إلزامهم وهم يكتبون القرآن في الواحهم فاذا أرادوا مسحها غسلوا الألواح وسكبوا ذلك على قبره.  وسجله في وثيقة الوقف ) [35] وعمل ابن الجيعان مكتبا للأيتام وسبيلا بجانب مدرسته ) [36] .

وأقام عثمان الخطاب خلاوي لتعليم الأطفال في المدرسة السيفية )[37] وكانت الصبية تتعلم في زاوية الشعراني ) [38]...

2 ــ ويجمع كثير من وثائق الوقف على أن يكون الأطفال المنزلون بالمكاتب من الأيتام الذين لم يبلغوا سنّ الحلم والذين فيهم قابلية التعليم.  بينما تشترط وثائق أخرى ان تكون الأطفال من الفقراء مع تفضيل الايتام منهم . واشترط بعضهم ان يكون الأطفال من أبناء السادة الأشراف الأيتام .

3 ـ وكان المكتب أو ( الكُتّاب ) يوجد عادة فوق ( السبيل) أى المكان المُعدّ للتزود بالماء للناس طلبا للثواب . وكان هذا الكُتّاب يوجد  في مكان متسع طلق الهواء وتدخله الشمس  ليساعد الأطفال في الاقبال على الدرس والانتباه . ونادرا ما يوجد مكتب الايتام في غير المكان , وتفرش المكاتب عادة بالحُصر ويجلس عليها الأطفال حول مؤدبهم ، كما كانت في حائط  المكتب كتيبات و(دواليب) توضع فيها المصاحف والاقلام والالواح والدوى ( جمع دواة ) . وإذا كان عدد الأطفال في مكتب الايتام كبيرا فانه كان يعين لهم الكثرة من مؤدب وعريف ، ويؤذن لكل مؤدب عدد محدد من الأطفال لكي تكون عملية التربية اجدى وانفع ) [39] .

وإذا بلغ الأطفال الحلم يترك مكانه ويتعين عوضه بالمكتب طفل آخر، اللهم الا اذا اظهر نبوغا وميلا للدرس، وبقى عليه شىء لم يحفظه من القرآن ويرجى حفظه وفلاحه ــ على حد تغير اكثر الوثائق ــ استمر الى محله.  وهذا احترام لمبدأ تكافؤ الفرص .

واقتصر تعليم الأطفال الكتاب على قدر معين من التحصيل ثم يحترف الصبي مهنة . وقد يعين الناظر على الوقف من بلغ الحلم في احدى الوظائف ، على ان يكون صالحا للقيام بها او يصرف له من ريع الأوقاف مبلغا من المال يستعين به حياته العلمية ) [40] .

ودارت العملية التعليمية للأطفال حول تعلم القراءة والكتابة ومباديء الدين وحفظ القرآن وبعض الحديث ، هذا الى جانب حكايات الصالحين والشعر والحساب وقواعد اللغة . وقام التعليم على قوة الحافظة والاستظهار والاعتماد على الذاكرة اللفظية . وقام الأطفال بالكتابة على الألواح أولا ثم كتابته بالحبر بعد ذلك . وهذا يتمشى مه ما تنادي به التربية الحديثة في تعليم الصغار. كما روعيت القدرات الخاصة للطفل ومدى استعداده لتقبل العلوم والمعارف. و ونصّت الكثير من وثائق الوقف على مراعاة (ما يطيقون تعليمه) وهذا يتفق مع ما يدعو اليه علم النفس التربوي من التدرج في تربية الصغار ومراعاة قدراتهم .

هذا .. وتشبه مكاتب الايتام الى حد كبير المدارس الابتدائية الراقية او المرحلة الأولى الإعدادية في مصطلح التنظيم التعليمي في العصر الحديث .  والمؤدب هو الاسم الذي تطلقه معظم وثائق المماليك على المعلم في مكاتب الايتام بينما يسمى بالفقيه في وثيقة جمال الاستادار وغيرها كوثيقة قايتباي . واشترط في المؤدب شروطا خلقية منها ان يكون خيّرا ديّنا ذا عقل امينا على الأطفال المسلمين مع سلامة العقيدة ( الصوفية ) ، واشترط لبعضها ان يكون ملمّا بمادته ومراعيا لميول و حاجات الأطفال النفسية ..الخ.  وإشترط فى مساعد المدرس أو ( العريف ) : الأهلية للتأديب ، وكان يبدأ عمله عندما ينتهي المؤدب المدرس، بأن يعين المتخلفين من الأطفال زمنيا وعقليا ، وهذا يقرر لنا حقيقة هامة هي إيمان التربية  فى هذا العصر بمبدأ الفروق الفردية الذي تنادي به التربية الحديثة في القرن العشرين . وكان (العريف ) من جملة الايتام المنزلين بالمكتب والذين انتهوا من دراستهم في المرحلة بشرط ان يظهر تفوقا ونبوغا ،  ويستمر في المكتب ولو كان بالغا . وكان الأطفال يعرضون عليه ألواحهم في غيبة الفقيه المدرس.  وتذكر وثيقة الغوري وظيفة شخص كان يعلم الأطفال الخط العربي ، وهو لون من اولان التربية الجمالية له أهمية في تربية الذوق وتكوين الإحساس الفني في ناشئى فى ذلك العصر ....

وتستعرض وثيقة جمال الاستادار كمثل على النشاط التربوي في الخوانق : تقول عن شروط المعلم : ( ويرتب الناظر أيضا من عدة الصوفية المذكورين أعلاه من غير طائفة المجردين رجلا حافظا لكتاب الله العزيز ذا عفّة وصيانة وامانة متزوجا ذا خبرة ومعرفة صالحا لتعليم ....) أي جعلت المعلم للأطفال من أفضل العاملين داخل الخانقاة. وتقول عن العلوم التي يدرسها للصبيان انها (القرآن والخط والهجاء والاستخراج )، اى الاستدلال . وعن طريقة التربية والتعليم اوجبت الوثيقة على المعلم ان ( يعلمهم المؤدب بالإحسان والتلطف والاستعطاف فيما يرغبهم به في الاشتغال ) وعن عقاب المخطيء قالت (ومن اتى منهم بما لا يليق من فعل أدّبه بفعل ما اباح الشرع الشريف، ولا يضرب الضرب المبرح ) [41]. و حددت مواعيد الدراسة بكل دقة، فالغورى جعلها من اول النهار الى العصر سوى الثلاثاء او يوم الجمعة، فيمكث الى وقت الظهر ، مع اسقاط الاجازات وهي الجمعة والاعياد والمواسم . أما قايتباي فقد جعل الدراسة نصف اليوم فى يوم الخميس.

وحدّدت الوثائق سنّ الأطفال ، وسمحت لهم بالغياب بعذر كالمرض او التقلبات الجوية او ما عبر عنه قايتباي بالأعذار الشرعية. وفي وثيقة الاستادار (ومن مرض منهم اجرى عليه معلومه ( أى راتبه ) الى حين زوال مرضه ) . واذا انتهى الصبي من حفظ القرآن يقام له احتفال كبير يسمى (الاصرافة) .ومن يظل بالمكتب لحين البلوغ دون حفظ القرآن يصرف ليحل مكانه يتيم آخر . وكان يستبدل باليتيم يتيم آخر في حالة سفره سفر إقامة او تعذر حضوره . واهتموا بأنشاء المكاتب وتوفير المعلمين والعريفين والطعام والكساء والمعلوم الشهري بل وقرروا بها ادوات الكتابة . )[42]

 



[1]
ــ تاريخ ابن الفرات 9 / 2 / 390

[2]ــ المنهل الصافي 5 / 279

[3]ــ الدرر الكامنة 2 / 264

[4]ــ الضوء اللامع 2 / 262  ، انباء الغمر 3 / 430

[5]ــ المنهل الصافي مخطوط 5 / 608

[6]ــ الطبقات الكبرى للمناوى مخطوط 342

[7]ــ أبناء الغمر مخطوط 1027

[8]ــ التبر المسبوك 246 ، 192

[9]ــ التبر المسبوك 246 ، 192

[10]ــ الضوء اللامع 3 / 135

[11]ــ التبر المسبوك 222

[12]ــ التبر المسبوك 380

[13]ــ الضوء اللامع 3 / 19

[14]ــ الطبقات الكبرى للشعراني 2 / 95

[15]ــ الضوء اللامع 3 / 111  الكواكب السائرة 1 ، 282

[16]ــ الدرر الكامنة 4 / 232 ــ 233

[17]ــ الضوء اللامع 1 / 188

[18]ــ الغزى الكواكب السائرة 1 / 282

[19]ــ التبر المسبوك 131

[20]ــ مراجع ترجمة في الضوء 3 / 93 ، 1 / 10 شذرات الذهب 7 / 108 أبناء الغمر 2 / 523 ، التبر المسبوك 131 ديوان البوصيري 8

[21]ــ ذيل ابن العراقي ـت مخطوط ورقة 75

[22]ــ الطبقات الكبرى للمناوى 350

[23]ــ الضوء اللامع 4 / 258

[24]ــ المغزى : الكواكي السائرة 1 / 224

[25]ــ الطبقات الكبرى للشعراني 2 / 96 : 97

[26]ــ البحر المورود 30 ، 269 ، 287

[27]ــ المدخل 3 / 180 ــ 182

[28]ــ معيد النعم 170

[29]ــ تاريخ ابن الفرات 8 / 10

[30]ــ السلوك 3 / 2 / 946

[31]ــ خطط المقريزي 4 / 291

[32]ــ خطط المقريزي 4 / 283

[33]ــ تحفة الأحباب 4 / 185

[34]ــ الضوء اللامع 3 / 220 : 221

[35]ــ عيون التواريخ مخطوط 3 / 126 ، الوافى بالوفيات 2 / 316  ، 1 / 218

[36]ــ التبر المسبوك 176

[37]ــ أبناء الهصر  384

[38]ــ الطبقات الكبرى 2 / 124

[39]ــ عبد اللطيف ابارهيم رسالة في الدكتوراة 347 دوريات القاهرة : نصّان جديدان من وثيقة 148 من وثيقة صرغتمش 243

[40]ــ عبد اللطيف إبراهيم : رسالة الدكتوراة 146 : 147 ، الدوريات 243

[41]ــ وثيقة وقف الأستادار

[42]ــ محمد أمين الأوقاف في العصر المملوكي 349 ، 351 ، 353 ، 355

اجمالي القراءات 8051