" جئتكم بالذبح "

نهاد حداد في الخميس ٠٢ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

لو كان الله يريدنا أن نذبح بعضنا ليجازينا بالجنة لترك ابراهيم يقتل اسماعيل ليدخل كلاهما الجنة ! الأول كشهيد راض بقضاء الله وقدره ، والثاني كمنفذ لأمر الخالق عز وجل . وفي نهاية المطاف تكون الجنة هي المأوى لكليهما ! لكن الله يُقدِّر قيمة الحياة التي خلقها ! وآعطانا بهذا المثل  أكبر نموذج لافتداء الحياة ! إن الله لايرضى أن تُقتل النفس حتى من أجله ! اأو في سبيله ! ألم يتهيأ إبراهيم لقتل ولده حبا في الله ؟ ألم يتهيأ لذبحه تنفيذا لأمره ! ومع ذلك فإن الله عز وجل لم يرض! نعم لم يرض  ففداه بذبح عظيم ! ما أعظم حكمتك يا الله !

يريدنا الله أن نقدس الحياة ومع ذلك نحن نقدس الموت ! لم نستطع أن نرى في افتداء اسماعيل إلا طقسا نكرره دون أن نعي مغزاه ! بأنه تقديس للحياة وليس عيدا لتضخم الشرايين ورفع نسبة الكوليستيرول في الجسم والمزايدة بين المسلم وأخيه في أثمنة الأكباش وقرونها الملتوية أو المكسورة ، الصالحة أو غير الصالحة للاضحية  !  
 فلماذا لا يتعظ المسلمون ؟ لماذا يقتلون بعضهم حبا في الله وقد رفض جل وعلى أن يُقتل إسماعيل حبا فيه ! لايمكن أن نقتل الآخر حبا في الله ولا ادعاء للجهاد في سبيله . لقد قدم لنا العلي القدير أجمل نموذج لفداء الإنسان! كي نعرف بأن قتل النفس لايمكن أن يبرره أي شيء .  
ثم أمرنا باتباع ملة إبراهيم حنيفا ! تلك الملة التي جبلها الله على احترام الحياة وتقديسها وعدم إهدارها ! فلا يمكن للمولى عز وجل أن يناقض نفسه فيبعث محمدا بالذبح وهو الذي أمره باتباع ملة إبراهيم! 
إن قتل النفس محرم إلا بالحق وهو القصاص العادل حيث تكون النفس بالنفس ! إذ لا يمكن آن يعادل الإعتداء وقتل النفس إلا القصاص لها بنفس أخرى لفداحة وهول الجريمة ! وحين يقول عز وجل :" ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " فإن ذلك يعني بأن الحياة هي الأهم وليس القصاص في حد ذاته . فالقصاص من مجرم ظالم يجعلنا ننقذ حيواة أخرى كان سيهدرها إذا لم نردعه ونضع حدا لجرائمه ! 
إن قتل إنسان أو الاعتداء عليه بدون وجه حق يعادل قتل من في الأرض جميعا . أفلا يرى من يرهبون الناس المعادلة التي أنزلها الله من عنده؟ 
يقول عز وجل في  سورة المائدة: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].
يحب الكثيرون أن لا يروا في هذه الآية إلا القصاص العادل ، وهذا شيء بديهي ولكن نهاية الآية تحمل من الرأفة والرحمة والعفو مالايمكن أن يتوقعه المرء أو أن يسنه أي قانون وضعي . إن مجرد تنازل الضحية عن حقها في القصاص يعتبر كفارة لجميع ذنوبها مهما عظمت ! فما قيمة الانتقام أمام الفوز العظيم بمغفرة الله وعفوه ! فانظر كيف أن الله جعل من العفو على الجاني شيئا عظيما ! فبرغم جريمته إلا أن الحفاظ على حياته يعادل مغفرة الذنوب جميعا لضحيته ! ولنتأمل المعادلة : إن الجاني وبالرغم من عظمة جرمه إلا أن الرأفة به ورحمته والحفاظ على حياته شيء عظيم! شيء يتعدى جرمه بكثير ! 
طبعا هذا لا يعني إلغاء القصاص ، لأن من حق الضحية أن تتمتع بالعدل الإلاهي في الحفاظ على حقها وهنا تأتي روعة القسط الإلاهي . حيث يبقى للضحية كامل الحرية في إحساسها بالضرر الذي تعرضت له لتختار القصاص أو العفو ! 
عودنا التراثيون على إعطاء الحق المطلق لولي الأمر أو الإمام لإصدار الأحكام مما جعل الكهنة والمؤسسات الدينية تمسك برقاب العباد فتستحل دم هذا وترجم ذاك ، دون مراعاة لحرمة النفس التي خلق الله ! مع أنه لا الإمام ولا المجتمع ولا حتى القائم بشؤون الأمة لهم  الحق في التدخل في بعض الشؤون الإجتماعية أو الشخصية ، ولنأخذ على سبيل المثال المثلية الجنسية . طبعا هي فاحشة وساءت سبيلا بالنسبة لكل الأديان ولكن لننظر كيف تعامل معها الإسلام ؟
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ".
طبعا لن نتحدث هنا عن الشهادة التي تعتبر ضرورية قبل إصدار الحكم على مرتكبتي الفاحشة درءا للظلم والإفتراء عليهن ولكن نريد أن ننبه في هذا الموقف إلى شيئين أحدهما أن من سينفذ الحكم ليس الإمام ولا القاضي ولا غيره ، فمرتكبة الفاحشة في هذه الحالة لن تعاقب جنائيا  ولا قانونيا وإنما اجتماعيا من طرف ولي أمرها الذي قد يكون أباها أو زوجها أو أخاها أو جدها ! فالمسؤول أو القيم عنها هو المخاطب هنا وهو الذي سيمسكها في البيت ولا أحد غيره ثم إن لمشيئة الخالق بعد ذلك التصرف في أمرها ! سواء بالتوبة أو العقاب أو الصرف عن الفاحشة ! فالله هو الوحيد الأوحد الذي يقرر نوع  السبيل أو المخرج لأولئك ! وليس على طائفة المؤمنين سوى الشهادة أو إسداء النصح ليس إلا !
" واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً [النساء: 16] . 
لم يحدد المولى عز وجل نوع الأذى الذي قد يكون كلا ميا أو نفسيا ، ففي نهاية المطاف سيكون أذى يدفعهما إلى التوبة ، فالعنف لم يردع يوما أحدا عن ارتكاب المعاصي ! ولو أراد عز وجل لوضع عقوبة معينة لذلك كما وضعها للزناة . ولكنه عز وجل جعل لنا الحرية في التفكير وتقرير الأذى ، وهو أذى غايته دفع هؤلاء إلى التوبة والصلاح وليس عقاباغير هادف . فغاية مافي الأمر ردعهما ليتوبا ويصلحا ! فإن تابا وأصلحا ، فعلينا أن نتركهما وشأنهما . بل إن الله عز وجل كتب على نفسه التوبة والرحمة لهؤلاء إن رغبا عن الفحش وابتعدا عنه ! أما الأذى الجسدي فلاحق لنا في تقريره بدون وجه حق ! ولنا في الآيات السابقة الذكر تفصيلا دقيقا للقصاص والأذى الجسدي . 
 طبعا ، نحن لا يمكن أن نحكم إلا بالظاهر ولله ماخفي في الصدور والقلوب وليس لنا أن نتدخل في غيبه ! بل بالعكس ، إن أظهرا التوبة والصلاح فعلينا أن نعرض عنهماونعاملهما بالحسنى . ولكن للأسف ، إذا كانت رحمة الله واسعة ، فإن المجتمعات لا ترحم ، وحين تسم أحدهم بالفاحشة ، فإنها لا ترحمه حتى وإن تاب عليه خالقه فأين نحن من لطفه ورأفته عز وجل ؟ 
يرى الكثيرون أن مقولة من نوع : " الدين الإسلامي دين رحمة وسلام  " هو كلام إنشائي بالنظر إلى مايفعله المسلمون ، وهذا صحيح ، لأنه ليس كل مدع للإسلام مسلم . فالمسلم لا يمكن إلا أن يكون مسالما ، ولا يمكن قبول أعذار من يرهبون الناس ويقتلونهم بغير حق تحت ذريعة الفساد في الأرض ! فهؤلاء طبعا يستمدون مشروعية القتل تحت ذريعة الفساد ! وبالنسبة لهم كل المسلمين المسالمين فاسدين ! والجيش مرتد ! وهم فقط من يمتلكون الحقيقة المطلقة ! تلك الحقيقة التي تخول لهم قتل الأبرياء ! لقد وضعوا قواعد للفساد من عند أنفسهم وافتروا على الخلق ومازالوا يفترون ، والأدهى أنهم يفعلون ذلك مدعين بأنه حكم الله ، تماما كما فعل فرعون وملؤه مدعين بأن  آيات الله تخول لهم ذلك .وبأنهم يحاربون الفساد مع أنهم هم المفسدون ، حيث قال عز وجل :"  ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)الأعراف:103 فمن أكبر مفسد ممن ظلم الناس مستعملا آيات الله لينشر الرعب والإرهاب والظلم ؟ 
طبعا ، الفساد في الأرض حدده المولى عز وجل في كتابه الحكيم في كثير من المواضع ، وجعل له عقوبات أخروية إلا الظلم ! 
فهذا هو الفساد الذي من حقنا أن نطلب القصاص فيه ! ومن أظلم ممن يعتدي على الناس بآيات الله بغيا وعدوانا؟ 
يذكرني منطقهم بأسئلة الأخ رشيد الجريئة عن سورة التوبة  حين قال له الدكتور أحمد صبحي منصور إن آيات سورة البقرة قد حددت القتال في رد الاعتداء فرد عليه  قائلا:  ولم لا تكون آيات سورة التوبة هي المحددة للقتال ؟ ( طبعا بما أنها من أواخر السور التي نزلت في القرآن ).
طبعا حاشا لله أن يختزل قرآنه في القتال وكفى ! كيف نلخص دينا بأكمله في سورة لها ظروفها التاريخية وأمامنا هذا الكم الهائل من الآيات التي تدعونا إلى السلم حيث يقول جل من قائل :"وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ"  .
كيف نتغاضى عن كل مافي القرآن ؟ كيف يمكن لسورة التوبة وحدها أن تحدد توجه الدين كله  وتمحو ثلاثة وعشرين سنة من الوحي الإلاهي بآياته البينات  التي تذهب كلها في منحى السلام والرحمة ، فننفي بذلك كل سور القرآن الذي أنزله الله فحفظه لنتبع تفاسير مجموعة من السفاحين جعلوا من دين الله سيفا يذبحون به الناس بغير حق! تماما كما قالوا بأن سورة الإخلاص تعدل ثلثي القرآن ويكفي أن تقرأها بضع مرات حتى تختم القرآن كله ! 
تلك هي معادلاتهم دوما ، معادلات تتخذ آيات الله هزؤا ! ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر الطريقة التي تعامل بها لقرآن مع الأشياء التي أراد الله أن يغيرها أو يقيدها ! ولن نبتعد كثيرا عن الصيام مادمنا في شهر رمضان. المبارك :" أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ". إن الله عز وجل واضح في تعليماته ، فهو حين يريد أن يحل شيئا كان قد حرمه فهو يعلن ذلك ويبين الأسباب التي أدت إلى التحليل بعد التحريم أو العكس. ولو كانت سورة التوبة قد محت ماقبلها من تعاليم لوضح لنا تعالى ذلك كما فعل في الآية أعلاه ! تمثل سورة التوبة ذريعة للقتل بالنسبة للإرهابيين كما تمثل دليلا على دموية الإسلام بالنسبة لمهاجميه من أمثال القمص زكريا أو غيره ! 
فالإرهابيون يستندون في عنفهم على أحاديث كاذبة ثم يركبون على سورة التوبة لإضفاء المشروعية على إفكهم وأمثال القمص زكريا يركبون على هذا الإفك ليبرهنوا للناس على أن هذا هو الإسلام . طبعا للقمص زكريا أو الأخ رشيد كامل الحق في نقد الأحاديث والتعبير عن آرائهم بكل حرية . ولكن حين يمسون قرآننا من حقنا الرد عليهم بالحجة في إطار الاحترام والمجاذلة بالحسنى كما أمرنا الله عز وجل ! وهذا ماسنفعله بإذن الله في الجزء الثاني من هذا المقال الذي سنتدبًر فيه إن شاء الله سورة التوبة . 
اجمالي القراءات 14095