: استغلال الصوفية نفوذهم السياسي ضد النصارى

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٨ - يونيو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية

الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً

استغلال الصوفية نفوذهم السياسي ضد النصارى  

فى التصوف تسامح فى الحرية الدينية، وتسامح فى الحرية الشخصية ، وعندهم عقيدة ( عدم الاعتراض ) المُناقضة لعقيدة ( تغيير المنكر ) لدى السنيين والحنابلة منهم خصوصا ، وهى العقيدة التى كانت تُحرّك ابن تيمية ضد الشيعة و الصوفية . ولكن تسيّد التصوف وعلو نفوذ أربابه وتسلطه ودخول الكثرة الكاثرة فيه جعلتهم يضطهدون أهل الكتاب ، وخصوصا النصارى . ويمكن أن نجد للصوفية بعض التبرير فى إضطهادهم لابن تيمية والبقاعى وأتباعهما لأن هؤلاء الفقهاء السنيين هم الذين بدءوا بالهجوم والتكفير فلجأ الصوفية للمواجهة دفاعيا وإستعمال نفوذهم كما سبق ذكره .ولكن لا نجد عُذرا لأولئك الصوفية الذين قاموا بحركات إضطهاد فردية وجماعية ضد النصارى ، سوى أن بعض النصارى كان عندما يصل الى الجاه فى الدولة المملوكية يقوم بإضطهاد من يستطيع الايقاع به من ( المسلمين ) .

وبيئة التعصب تنتج نفسها بنفسها ، والمجتمع الذى يسوده التعصب الدينى والمذهبى يقوم بتعذيب نفسه بنفسه .و لا حل هناك إلا بتقرير الحرية الدينية المطلقة كما أرساها الاسلام ، تحت شعار ( لا إكراه فى الدين ) و ( لكم دينكم ولى دين ) .

على أن هذا التعصب كان يحدث ـ غالباً ـ في أوقات أمن فيها المتصوفة من انتقام النصارى والسلاطين ، وفترة تحكم النشو ـ أصدق شاهد على هذا .. فالنشو كان نصرانياً تظاهر بالإسلام وتولى نظارة الخاص في سلطنة الناصر محمد بن قلاوون الثالثة . وتقرب إليه بالوشايات والأموال التي يصادرها من الأعيان والمغضوب عليهم ، وازداد نفوذه وكثر الناقمون على طغيانه وظلمه ونال من الصوفية ، لأن السلطان في أيامه كان يسمع له ويطيع ، حتى عندما بلغه أن الناس تجتمع مع الوعاظ في المساجد لتدعوا الله عليه، فلم يزل بالسلطان حتى منع الوعاظ بأجمعهم من الوعظ . وبلغ تحديه للصوفية مداه حين أخرج صوفياً كردياً معتقداً للشام منفياً ، وقبض على شيخ خانقاه بهاء الدين أرسلان بالإسكندرية واتهمه بتهمة باطلة [1] ..

ومع ذلك كله ومع تحكم النشو وآله في رقاب المسلمين انعدم صوت التعصب ضد النصارى ليرتفع في أوقات لهم فيها السطوة والنفوذ .. وسيعرض البحث  للحركات الفردية الصوفية ضد النصارى ثم يتوقف عند حركة الشيخ عبد الغفار بن نوح كحركة جماعية عامة لها ذيولها الداخلية والخارجية ..

حركات فردية

1-  وبدأ الشيخ خضر العدوى ت 672 ) حركات التعصب الصوفية اعتماداً على نفوذه في دولة الظاهر بيبرس وعلى ما أثارته حروب الظاهر بيبرس من حماس ديني ، فهدم كنيسة الروم بالإسكندرية وكانت تعقد فيها ( البتركية ويزعمون أن رأس يحيا بن زكريا عليه السلام فيها ) وصيرها مسجداً وسماها ( المدرسة الخضراء) وأنفق في تعميرها الأموال الكثيرة من بيت المال [2].

2-  سنة 687 وقع بعض وجهاء النصارى في حق النبي عليه السلام وقام في دفع القتل عنه والى البلد فقام ابن ناشئ في ذلك ومشى والعوام خلفه إلى دار الوالي ولم يزل كذلك حتى قتل النصراني[3] .

3-  سنة 723 جاء الشيخ ضياء الدين الدريندي إلى مصر لأنه أولع بشاب في الشام فغاضبه فجاء ليجاهد النصارى في مصر فقتل نصرانياً بالقلعة فدخلوا به للسلطان فظنه جاسوساً فقتله.[4]

4-  حركة البكرى سنة 714 ــ بلغه أن النصارى قد استعاروا من قناديل جامع عمرو شيئاً فهجم على الكنيسة ونكل بالنصارى فيها وعاد إلى جامع عمرو فأهان موظفيه. وعُقد له مجلس أمام السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، فأغلظ البكرى للسلطان فأمرالسلطانبقطع لسانه ، فانهار وانقلب يستغيث بالأمراء حتى رقُّوا له ، وتشفعوا فيه ، فأمر السلطان بنفيه ، وقد كان البكرى يشدد على ابن تيمية عند محنته بالقاهرة ويؤذيه وينال منه [5].

5-  سنة 785: أهان نصارى قرية برما مؤذن المسجد ، فجاء للقاهرة يشكوهم مع بعض مسلمي القرية فسجنهم الأمير جركس الخليلي صاحب الإقطاع  التابع له تلك القرية . فتوجه المؤذن الى الشيخ الصوفي ابن الميلق، فتوجه ابن الميلق للأمير وأغلظ عليه وأعلم السلطان ،فأنكر على الخليلي ، وانتهى الأمر بمقتل المعتدين من النصارى [6]..

6-  وكان البوصيري الشاعر يناصب أهل الذمة العداء ، وطالما هجا الفريقين في قصائد مستقلة أو في أبيات متفرقات [7] رغم أنهم كانوا يداهنونه خوفاً من لسانه ..

7-  سنة 838 ( كائنة الشيخ سليم ) وموجزها أن النصارى جددوا كنيسة لهم في الجيزة، فقام الشيخ سليم وهدمها بأعوانه، فاشتكاه النصارى عند السلطان وسعوا به حتى أهين. فاشتد ألم المناصرين له ،  خاصة وقد أذن  بعض القضاة للنصارى في إعادة بناء ما تهدم [8].

8-  حركة ناصر الدين الطنتاوي : ـ قام في هدم دير العطش الذي تعظمه النصارى وتحج إليه كل عام ويجتمع هناك المسلمون والنصارى للفرجة والتجارة ، مما أثار غيرة الطنتاوي ، لأن ذلك الدير منافس لما يحدث في مولد البدوي في طنتدا، فكتب محضراً يرجو هدم ذلك الدير ، فلم يتفق له ذلك ، إلا أنه لم ييأس ، وعاود سعيه حتى رسم بهدم الدير، فهدم [9]  ..

9-  وكان الشيخ ( النعمان ت 852 نقمة على أهل الذمة فيما يجددون في كنائسهم ، فقام في هدم كنيسة النصارى الملكيين بقصر الشمع حتى صارت جامعاً ، ولم يبق في قصر الشمع ولا في دموة ولا في المدينة كنيسة إلا وقد شملها منه هدم أو بعض هدم )[10]

حركات جماعية

كان شيوخ  الصوفية ينتهزون فرصة الأوبئة والمجاعات لإثارة السلطة على النصارى واليهودبإعتبارهم سبب النكبات ، ويصدقهم السلطان ، فيضيق على اليهود والنصارى في الزى ويشتد في إيذائهم .

وفيما عدا ذلك تذكر دور الصوفية في الإحراق العام للكنائس المصرية سنة 721 .

مؤامرة الشيخ عبد الغفار بن نوح القوصي لحرق الكنائس المصرية:ـ

 وقد خطط لذلك ونفذه أتباعه في وقت واحد عام 721 ، وفى المدن المصرية التي بها كنائس.

 ففي كل مدينة بعد صلاة الجمعة والناس مجتمعون ــــ أي في ساعة الصفر ــــ يقوم مجذوب صائحاً مضطرباً داعياً لحرق الكنائس ، وحين يتوجه الناس إلى الكنيسة يجدونها قد سويت بالأرض، فيتعجبون ويعتبرونها كرامة لذلك المجذوب. وقد ذكر العيني أسماء الكنائس التي هدمت ، وهى ستون كنيسة  مصرية ، ولم يسلم غير الكنيسة المعلقة بارسكندرية . وقد سئل عبد الغفار في ذلك فقال ( كثر فسادهم وزاد طغيانهم فنودى بالانتقام منهم) [11] . وسرت حمى هدم الكنائس بين العوام ، حتى خشي السلطان أن يفسد عليه أمر مملكته ، فأقنعه الأمراء والقاضي بأن ذلك: " أمر الله وإلا فكيف يقع كل هذا في وقت واحد ، وإذا أراد الله أمراً فلا راد لقضائه".

ولم يقتنع النصارى بهذا التفسير ، وفطنوا إلى أن ذلك مخطط نُفّذ بإتقان ، فقاموا بإشعال الحريق في نواحي مختلفة من القاهرة فى المساجد والمؤسسات الصوفية ، ولا يكاد يفرغ الناس من حريق حتى يفاجئهم حريق أخر، واعتقد المسلمون أنها إرادة الله، إلا أنهم فوجئوا بقنبلة كبيرة ملوثة بالنفط قد ألقيت ، كل ذلك مع توالى الحرائق في الجوامع والمدارس، يأتي الحريق من أي منفذ في المبنى بما يلقى من خرق ملفوفة بزيت وقطران ، فاتفقوا على اتهام النصارى.  وضبط بعض الرهبان متلبسين فأقروا ، فأحرق أربعة منهم، وشرع الناس في إيذاء النصارى وبالغوا في ذلك ، فأمر السلطان بتوسيط جماعة كيفما اتفق . وكان منهم بعض المتعممين والتجار ، فشفع في بعضهم وعوقب الآخرون . وقامت الحرائق من جديد وقبض على ثلاثة من النصارى واعترفوا ، فثارت العامة على السلطان، وواجهوه بصيحة رجل واحد بالدعوة لنصر دين الله، فخشع لهم السلطان وسمح بقتل كل من وجد من النصارى ، ثم قيّد ذلك الحكم بمن يلبس العمامة البيضاء ومن يركب دابة من النصارى ، وفرض عليهم ألا يركب أحدهم الحمار إلا مقلوباً ولا يدخلون الحمامات إلا وفي رقابهم جرس ، وألا يتزيا أحدهم بزى أهل الإسلام ، ونودي بعدم استخدامهم إلا إن أسلموا، وصُرف جميع المباشرين من النصارى في الأقاليم..[12]

وقد كان لإحراق الكنائس المصرية ذيولها السياسية التي انعكست على العلاقات الخارجية بالحبشة وعلاقة الحبشة بالإمارات الإسلامية هناك ، ذلك أن ملك الحبشة كان يعتبر نفسه مسئولاً عن حماية الأقباط المصريين لأنه يتبع الكنيسة المصرية مذهباً ، وكانت مصر ترسل له بطريكاً مصرياً للإشراف على الكنيسة الحبشية [13]، وعندما علم ملك الحبشة ( عمد صيهون ) بما حدث من إحراق الكنائس المصرية بعث للناصر محمد باحتجاج شديد اللهجة يهدد فيه باتخاذ إجراءات مماثلة ضد مسلمي الحبشة وتحويل مجرى النيل ليجيع مصر، غير أن الناصر لم يعبأ بهذا الاحتجاج وطرد السفارة الحبشية ، فبدأ عمد صيهون الحرب ضد الإمارات الإسلامية بالحبشة، وتابع خليفته وابنه (سيف أرعد ) أعماله العدوانية ضد التجار المصريين والمسلمين بالحبشة ، واعترض طريق القوافل بين القاهرة وشرق أفريقيا المارة به [14]



[1]
- السلوك 2/ 2 /432 ، 469.

[2]- النويري نهاية الأرب 28/ 120 ، تاريخ ابن كثير 13/165 ، النجوم الزاهرة 7 /162 .

[3]- الطالع السعيد للأدفوي 78، تاريخ ابن الفرات 8/ 73: 74 .

[4]- تاريخ ابن الوردي 2/ 274 ، السلوك للمقريزي 2/1 /241 : 242 عقد الجمان مخطوط حوادث 723 الدرر الكامنة 2/ 418 .

[5]- السلوك للمقريزي 2/ 135 ، الدرر الكامنة 3/4  =2: 215.

[6]- نزهة النفوس 1/67 ـ 69 .

[7]- ديوان البوصيري 1/3/ 12 /36 /45 /46 /49/ 57/ 64/115/ ـ117 .

[8]- أنباء الغمر 3/74ـ 75 .

[9]- أنباء الغمر مخطوط وفيات 841 صفحة 1033 ،1011 ، ظ 968 ، 969 ،تاريخ ابن إياس 2/ 175.

[10]- التبر المسبوك 228 ، الضوء اللامع 1/ 275 .

[11]- عقد الجمان حوادث 721 لوحة 272 إلى 277 ، نهاية الأرب مخطوط 31/ 3، 4 ،8 ،بيبرس الداودار زبدة الفكرة 9/ 474 :475  ، السلوك 2/ 1/ 50 ، الطالع السعيد للأدفوي من 172 : 173 ، لطائف المنن للشعراني 459 ،460 .

[12]- العيني عقد الجمان ــ حوادث سنة 721 لوحة 278 إلى 296 .

[13]- إنباء اغمر مخطوط حوادث 841 ورقة 3008 .

[14]- طرخان . المجلة التاريخية 8/ 52، 56 سنة 1959 .

اجمالي القراءات 8495