حقيقة نسب..(إذا صح الحديث فهو مذهبي)..للشافعي

سامح عسكر في الثلاثاء ٢٨ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

في علم الأتيمولوجي Etymology يدرس الباحثون في الأصل التاريخي للكلمات ودلالات الألفاظ ، وهو علم لسانيات شهير يهتم بالتحقق من ظهور الألفاظ زمانياً ومكانيا، ومثيله إذا جرى التحقق من كلمة مشاعة الآن لم تكن قبل 50 عاماً، أو كانت لكن بمعنى آخر، فقد يكون اللفظ له عدة معانٍ مختلفة يستعمله الناس حسب ثقافتهم ، بمعنى أن يكون اللفظ الآن بمعنى لكن بعد 100 عام هو بمعنى آخر.

أو قد يتعدد اللفظ لكن المعنى واحد، كمعنى.."المملوكة أو الأَمَة"..قديماً كانت جواري أو إماء ثم تتطور إلى لفظة.."حريم"..وهي مأخوذة من الحُرمة، بتعبير يشرح وضع المرأة في ثقافة المسلمين والعرب بالخصوص.

أو قد يكون اللفظ معُرّب أو مُعجّم من لغاتٍ أخرى، كمثال كلمة box هي في الأصل لاتينية بمعنى صندوق، لكن استعملها العرب بمعنى.."لكمة أو ضربة"..رغم أن لكمة في اللاتينية لها ترجمات مختلفة ب swipe أو chap ،لكن العجم استعملوا box في وصف الضربة على الأذن، فأخذها العرب لتوصيف كل اللكمات في الوجه أو في البطن.

توجد قاعدة أخرى هي وسيلة وأداة لعلم الأتيمولوجي وهي.."الألفاظ بدلالة استخدامها"..وهي قاعدة تهتم بمعاني الألفاظ، كما قلنا سابقاً أن اللفظ قد يكون واحد لكن المعنى مختلف، أو يُقصد به التورية على شاكلة، من قال لآخر في موضع ذم.."أنت عبدُ رقيق"..وهو يَقصد أنه مملوك وتابع، قد يفهمها المخاطَب على نحو أنت عابد ومهذب، فالرقة من جمال النفس، والعبودية لله، هنا توارى اللفظ عن معناه الحقيقي المقصود..وهو أسلوب يستعمله شُذّاذ الآفاق أو الجُبناء كثيراً.

حسب العنوان هذه الدراسة هي للبحث في حقيقة نسب كلمة.."إذا صح الحديث فهو مذهبي ".. للشافعي ، وهي دراسة تتطلب أولاً معرفة التواريخ حسب علم الأتيمولوجي، ومعرفة أغرب الكلمات في الجُملة أو أهمها أو احتمالية تعدد معاني أحدها، والجملة هنا من خمس كلمات/ حروف/ ضمائر جميعها عربية، فإذا شرطية، وهو إشارة، وحديث يعني كلام ، ومذهب يعني طريق أو سبيل ويُستخدم أيضاً بمعنى معتقد ، وهي كلمة لو صحت للشافعي تعني إيمانه عقدياً وفقهياً بكل ما ورد في الأحاديث الصحيحة .

جميع الكلمات في الجملة قديمة وواردة في القرآن بمعناها عدا.."صحَّ ومذهب".. فكلمة.."صحَّ".. لم ترد في القرآن مطلقاً بمعنى .."صِدق انتساب الخبر"..كما هو المعنى في الجملة، وكلمة.."مذهب"..لم ترد أيضاً في القرآن وإن وردت في مدونات قديمة بمعنى الطريق أو المسلك أو المعتقد، وعليه فمحور الدراسة هو عن كلمة.."صحَّ"..وعن مشتقاتها.."صحَّ – يصح- تصح -أصحّ - صحيح "..

لكن أمامنا إشكاليتين قبل البحث وهما:

1- إذا صحَّ الحديث على مذهب من ؟..وعلى كتاب من ؟..هذا يُدخلنا في دائرة فراغية كبيرة أظن أن الفقهاء عانوا منها وضل منهم كثيرون.

2- هل ثبت أن الشافعي قال كلمة.."صحيح"..على أي رواية ؟..أو شاع في عصره تصحيح الأحاديث ؟.....هذا سيكون محور البحث.

مبدئياً فتصنيف كلمة صحيح أو صح أو يصح لم يظهر سوى في منتصف القرن الثالث الهجري على يد البخاري ، هو أول من صنف في كتب الرواية والسنن تحت عنوان.."الصحيح"..كل من كتب في الحديث قبل البخاري أو روى شفاهةً لم ينسب لفظ الصحة على رواياته وإذا كان فليتفضل الشيوخ بإظهاره لنا، بل لدينا أشهر كُتب الحديث قبل البخاري وهو الموطأ لمالك والمسانيد والسنن والمصنفات، كلها كتب حديث قبل زمن البخاري، لم يكن منهج.."التصحيح"..قد نشأ بعد، أو إطلاقه على أيٍ من الروايات.

بينما الشافعي هو مجرد فقيه مجتهد استعان بالسنن والأحاديث الشائعة في عصره لتكوين رأي فقهي مضاد لأهل الرأي، وهو من أشهر مؤسسي علم الحديث واعتباره الحجة الثانية بعد القرآن..

لاحظ تواريخ الوفاة

الشافعي توفى عام 204 هـ

البخاري ولد عام 194هـ ومات عام 256هـ

أي مات الشافعي والبخاري كان طفلاً عمره 10 سنوات، فكيف يأخذ الشافعي معنىً قاله البخاري وانفرد به بعد مماته؟؟!!...التواريخ تقول أن الرجلان لم يلتقيا أبداً كون الشافعي متوفي وقت كان البخاري فيه طفلاً يلعب في مدينة بخارى.

الكلمة أيضاً نسبها ابن عابدين لأبي حنيفة، رغم أن أبو حنيفة كان من أهل الرأي ولم يستعن بالحديث إلا في إطار ضيق، يكفي أن أبو حنيفة رفض أحاديث إنما الأعمال بالنيات ولا وضوء بلا نية ولا صلاة من غير فاتحة، ومذهبه على خلاف ذلك–كما يقول الألوسي في كتاب ..(الآيات البينات في عدم سماع الأموات 1/36)..أي لم ينفرد الشافعي بهذه الكلمة.

وهذا يعني أن ثمة صراع مشابه لما خاضه الشافعية تعرض له الأحناف، لأن كلمة.."إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"..هي كلمة خطيرة وغاية في المطاطية وبسببها أشعلت الحروب الفكرية بين الشافعية وغيرهم، بل بين الشافعية وأنفسهم، فكلما صح حديث على غير مذهب الشافعي -أو على غير هوى المشايخ- لجأوا لتأويله، أو رده بشواهد أخرى مثال ما حدث مع ابن دقيق العيد في رفضه لمن يوجب أو يستحب رفع اليدين بعد الركوع نزولاً لحديث ابن عمر في الصحيحين.." أن النبي إذا قام من الركوع كبر ورفع يديه "..وقال أن الاستدلال بقول الشافعي فيه إذا صح الحديث فهو مذهبي فيه نُظر..(إظهار الحق لابن خليل الهندي 3/98).

فعلى ما يبدو أن ابن دقيق كان يرى أحاديث أخرى ظاهرها عدم الرفع، وهذا يعني أن الشافعي إما لم يبلغه هذا الحديث أو بلغه ورده، لكن في الأم يأخذ الشافعي بالحديث دون إطلاق لفظ .."صحيح"..عليه، وهذا يعني أن مفردة.."صحَّ- يصح- تصح -أصحّ- صحيح "..لم تكن ظهرت في عهد الشافعي ، أو موجودة لكن لم يستدل بها على حجية أثر.

رغم أن كتاب الأم نفسه مشكوك في صحته للشافعي ، فهو منسوب.."للربيع بن سليمان 270هـ"..أي بعد وفاة الشافعي بعشرات السنين.. وأشهر من شكك فيه أيضاً هو الغزالي في الإحياء ، قال أن الكتاب هو من تصنيف.."البويطي (ت231هـ)"..وهو من تلاميذ الشافعي لكن الربيع بن سليمان صنف فيه وحذف وأضاف من عنده، أي أن آراء الشافعي في الكتاب هي منقولة ، علماً أن كتاب الأم حوى معظم آراء ورسائل الشافعي في عصره..

باختصار: لا يوجد لدينا كتاب بخط يد الشافعي كي نثق في صحة هذه الكلمةـ حتى أقدم وأكبر كتاب منسوب له وهو.."الأم".. خلا هو الآخر من مفردة.."صحيح"..منسوبة للشافعي في سياق الحُكم على الراوية ، قالها الربيع بن سليمان 4 مرات من 107 مرة دون أن ينسبها للشافعي، وهذه قرينة على أن تصحيح الأحاديث لم يكن معروفاً في عصر الشافعي أو ما قبل البخاري بالعموم.

لكن لتدقيق البحث أكثر سنخوض في كتاب الأم المنسوب للشافعي ، وبعد التدقيق تبين الآتي:

أولاً: الكتاب من تأليف الربيع بن سليمان المتوفي عام 270 هـ، أي بعد وفاة الشافعي ب 66 عام، فكيف نسب الفقهاء الكتاب للشافعي وهو لم يكتبه؟؟!

ثانياً: شكك أبو حامد الغزالي في كتاب الأم ، وقال أنه من تصنيف البويطي المتوفي عام 231 هـ، لكن الربيع بن سليمان نسبه لنفسه وإضاف وحذف من عنده كلام البويطي..(إحياء علوم الدين 2/188) ..فما الأشياء التي حذفها وأضافها ابن الربيع؟..بل ما صحة ما رواه البويطي عن الشافعي أصلاً ؟

ثالثاً: ابن النديم في الفهرست قال أن الكتاب إسمه.."المبسوط من رواية الربيع"..وليس الأم..(الفهرست 1/260).. هذا يعني أن تسمية الأم منحولة...فمن أين جاءت هذه التسمية ؟

رابعاً: ابن النديم أيضاً قال أن الكتاب لم يرويه ابن الربيع فقط، ولكن رواه الزعفراني المتوفي عام 260 هـ، لكن الفقهاء لم يأخذوا برواية الزعفراني التي اختلفت روايته قليلاً عن رواية الربيع، فلماذا لم يأخذوا برواية الزعفراني؟..وما المواضع التي اختلفوا فيها؟..وهل يصح نسبها للشافعي أم لا ؟

خامساً: الكتاب به كلمة .."صحيح"..عدد 107 مرة، بها 4 مرات فقط أدمجت مع كلمة حديث، وكلها من كلام الربيع غير منسوبة للشافعي، فهل هذا يعني أن الشافعي لم يكن من مذهبه "تصحيح"..الأحاديث؟

سادساً: ورد في الكتاب كلمة.."يصح"..عدد 71 مرة، بها 3 مرات فقط أدمجت مع كلمة حديث، اثنان منها من كلام الربيع، وواحدة نسبها الربيع للشافعي، وهذه قرينة أخرى أن مفردة.."يصح"..لم تكن في مذهب الشافعي إذ نقلت مرة واحدة مرسلة من 71 مرة.

سابعاً: وردت كلمة.."تصح"..عدد ثماني مرات، لم تأتِ مطلقاً في سياق الحكم على رواية.

ثامناً: وردت كلمة .."صحَّ"..عدد 41 مرة، مرتان فقط أدمجت مع كلمة حديث، أو جاءت في سياق الحكم على رواية، واحدة منسوبة للشافعي والثانية من كلام الربيع، هذا يعني أن الشافعي لم يكن يعرف مذهب التصحيح وإلا انشغل به ونقله التلاميذ في مئات الروايات.

تاسعاً: وردت كلمة.."أصحّ"..عدد 42 مرة، ثلاثة مرات فقط أدمجت مع كلمة حديث ، أو جاءت في سياق الحكم على رواية، واحدة منسوبة للشافعي، والاثنتان الأخريتان من كلام الربيع ، وعلى النقاط السابقة شرحه...

عاشراً: الكتاب يعرض آراء الشافعية في القرن الخامس الهجري ومنهم.."الماوردي".. ، هذا يعني أن الكتاب أعيدت صياغته أكثر من مرة، بما يعني نسب آراء للشافعي لم يقلها بعد وفاته ب300 عام.

لكن الشيخ تقي الدين السبكي المتوفي عام 756 هـ كتب رسالة مشهورة في تحقيق هذه الكلمة ، قال في مقدمتها أن مقولة.."إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي"..هو قول مشهور عن الشافعي لم يختلف فيه أحد ، وهو أسلوب معهود من الفقهاء في ترجيح آرائهم ، أو الاستدلال بقاعدة يلجأون بها فوراً لرفع سلاح الإجماع..إما للاحتجاج بالشافعي وإما الاحتجاج بالحديث ، لكن حجة واحدة على السبكي تنسف الرسالة من وجهين:

الأول: كثرة استدلاله بأحاديث الربيع بن سليمان لإُثبات الكلمة للشافعي، رغم أن كتاب الأم- المروي عن الربيع – لم يذكر فيه الربيع تلك الكلمة مطلقاً .

الثاني: كل مروياته عن الحميدي والأصم وابن أبي حاتم والطبري والبيهقي ودعلج...كلها مرويات مرسلة ليس لها إسناد، يكفي أن ما بينه وبين البيهقي 300 عام والطبري وابن أبي حاتم 400 عام..وهذا يكفي لانقطاع السند.

ما حدث مع السبكي هو مشكلة انتشرت في عصره-عصر المماليك- الذي وصفته قبل ذلك بعصر التقليد الثاني الذي أحيا علوم العصر الأول-عصر البخاري وابن حنبل- بشكل جديد ولكن هذه المرة بالتساهل في الكذب ونسب الروايات دون تمحيص، فكثرت الروايات والخرافات والمدسوسات، وكأن الفقهاء كانوا يتسابقون في الكذب نُصرةً لرأيهم، وهذا طبيعي في عصر مملوكي متخلف علمياً وتقنياً ، فالبديل الجاهز مباشرةً هو الاحتكام للأشخاص لقلّة المعروض.

أما متى ظهرت الكلمة فمن أوائل من نقلها هو القزويني (ت 623 هـ) في شرح مسند الشافعي، ثم صنف لها السبكي رسالة كما سبق، أي أن الكلمة لم تظهر قبل القرن السابع في عصر القزويني، وإن نقل معان قريبة لها ابن أبي حاتم في .."آداب الشافعي ومناقبه"..وابن أبي حاتم متوفي عام 327 هـ، وهذا يعني أن الكلمة بدأت بمعانٍ تقديسية للحديث في القرن الرابع ثم تطورت لهذا المعنى الصريح في القرن السابع، أي أخذت فترة 300 عام حتى استقرت إلى هذا المعنى عند السبكي.

حقيقة ما جعلني أشك في هذه الكلمة هي عموميتها الزائدة، فالأحاديث -حسب المتمذهبين -بها الناسخ والمنسوخ والعام والخاص، والقول إذا صح الحديث يعني تعميم كل الصحيح على أنه مذهب..ولا ينفع معها تأويل الكلمة على شاكلة من أوّل قول ابن حنبل بنفي الإجماع، وكأن الكلمة كانت موجهة لمن يطعن في الأحاديث في عصور السابقين..على ما يبدو أنه صراع فكري حدث في عصور المماليك أدى لتطور هذا المعنى لذلك اللفظ الفاضح.

هذا ما توفر لدي من دراسة ، وهي تُثبت أولاً: أن كلمة.."إذا صحَّ الحديث هو مذهبي"..هي كلمة مدسوسة على الشافعي بقصد الاحتكام لرأي من صنعها، ثانياً: أن الشافعي لا يعلم عن .."كتاب الأم".. شيئاً، وأن أناساً كذبوا عليه بعد وفاته ونسبوا له أقوالاً لم يقلها في وقت كان فيه اختلاف فقهي كبير لجأ فيه المتخاصمون لاختراع هذه الكذبة لترجيح آرائهم.

 

 

اجمالي القراءات 13936