المجتمع المملوكى المنحل خلقيا بالتصوف
ج3 / ف 3 : صورة عامة للإنحلال فى القاهرة المملوكية

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٢ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

  كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الثالث : انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف

 المجتمع المملوكى المنحل خلقيا بالتصوف: صورة عامة للإنحلال فى القاهرة

 صورة عامة للإنحلال فى القاهرة المملوكية

مقدمة

الحوليات التاريخية تركز على التأريخ للسلطان أو الخليفة فى عاصمته ، تسجل ما يحدث سنويا أى بالحول فسميت ( الحوليات التاريخية ) . والعادة أن تكون الأجزاء الأخيرة من الحوليات التاريخية هى الأهم لأن المؤرخ يكون فيها شاهدا على العصر . النقص الأكبر فى الحوليات التاريخية أن المؤرخ فى تركيزه على العاصمة وأصحاب النفوذ فيها يتجاهل غيرها من المدن والأقطار . حدث هذا فى العصر العباسى مع الطبرى و ابن الأثير وابن الجوزى فى التركيز على بغداد والعراق ، وحدث هذا أيضا فى العصر المملوكى فى التركيز على القاهرة ، نرى هذا مع المقريزى فى ( السلوك ) وابن حجر فى ( إنباء الغمر ) وابى المحاسن ( النجوم الزاهرة ) و الصيرفى فى (  إنباء الهصر ) وابن اياس فى ( بدائع الزهور ) . بل إن بعض المؤرخين الشوام المقيمين فى الشام التابع للدولة المملوكية كان أيضا يركيز على القاهرة ، كما حدث فى الأجزاء الأخيرة فى تاريخ ابن كثير ، وفى موسوعة النويرى ، وتاريخ ابن الفرات وتاريخ الغزى وتاريخ ابن طولون .

هذه مقدمة نؤكد بها أن ما كان يحدث من انحلال خلقى بأثر التصوف فى القاهرة المملوكية هو مجرد ( عيّنة ) لما يحدث بعيدا عنها . بل ربما فى مجال الانحلال تتفوق المدن الأخرى فى الأطراف وفى الريف عن القاهرة ، إذ تمارس الانحلال بلا رقيب وبلا تسجيل تاريخى . أسعفتنا كتابات المؤرخين المنجذبين للقاهرة وأضواء السلطة المملوكية فوجدنا مادة تاريخية عن القاهرة المملوكية تعطى فكرة عن الانحلال الذى نشره التصوف فى العصر المملوكى والدولة المملوكية الممتدة من غرب العراق الى برقة ، ومن جنوب تركيا الى جنوب الحجاز وشمال السودان . فالقاهرة كانت ــ ولاتزال ــ الوجه المعبر للمنطقة ، فيها مركز الحكم والفكر واهتمامات المؤرخين، وعلى وجهها تنعكس الأحوال الصحية والمرضية للعصر التاريخى الذى تحياه المنطقة .

         1 ــ وفى عصرنا المملوكى يقول الشاعر القاهرى الخفيف الظل البهاء زهير[1]

         تســــابقنــا إلى اللهــــو          ووافـــــينا بتــبكيـــر

         وفــــينا رب مـــحـــراب          وفــــــينا رب مــاخـور

         ومن قـــوم مــســـاتيــر          ومن قـــوم مــسـاخـــير

          والشاعر هنا يعطى صورة للمجتمع المملوكى القاهرى إذ يستيقظ الناس فيه مبكرين يتسابقون إلى اللهو لافرق بين عربى ولا عجمى إلا فى الدرجة فى التبكير، كلهم يتسابقون إلى اللهو منهم رجال الدين( رب محراب ) ومنهم رجال الفساد (رب ماخور ) وفيهم أهل الطبقات الراقية ( ومن قوم مساتير) والعوام ( ومن قوم مساخير).

2 ــ وليس الشاعر مبالغا فى شىء وإنما ينقل ماكان يحدث فى الشارع المصرى ورددته المصادر التاريخية ،والمقريزى يقول عن القاهرة ( والفقير المجرد فيها مستريح من جهة رخص الخبز وكثرته ، ووجود السماعات والفُرج فى ظواهرها ودواخلها ، وقلةالاعتراض عليه فيما تذهب إليه نفسه يحكم فيها كيف شاء ، من رقص فى السوق، أو تجريد ، أو سكر من حشيشة أو غيرها ، أو صحبة مردان ، وما أشبه ذلك ، بخلاف غيرها من بلاد المغرب)  . فشوارع القاهرة مليئة بأماكن اللهو والحفلات ، والصوفى يتمتع بحريته ، يرقص كيف يشاء ويدخن الحشيش ويشرب الخمر كما يحلو له ، أو يمارس الشذوذ مع المردان إذا أراد ، ولا اعتراض عليه فيما يفعل ، والمقريزى ينقل وجهة نظر شيخه ابن خلدون حين أتى للقاهرة من المغرب وصدمه واقع القاهرة المنحل وقارنه بما يحدث فى المغرب .

          ثم يقول ( ولا ينُكر فيها إظهار أوانى الخمر ولا آلات الطرب ذوات الأوتار ، ولاتبرج النساء العواهر ، ولا غير ذلك مما يُنكر فى بلاد المغرب) أى كانت القاهرة عاصمة للفن ، و"العواهر" وكل شىء فيها ظاهر للعيان. ثم يقول ( وقد دخلت فى الخليج الذى بين القاهرة ومصر .. فرأيت فيه من العجائب .. وربما وقع قتل فيه بسبب السكر ، وهو ضيق ، عليه فى الجهتين مناظر ، كثيرة العمارة بعالم الطرب والتهكم والمخالفة) . أى زار بعض أماكن الفساد وتعجب مما فيها من مشاجرات ومنازل للهو والمرح .

    ثم يقول عن المصريين فى عهده ( ومن أخلاقهم الإنهماك فى الشهوات والإمعان فى الملاذ وكثرة الاستهتار وعدم المبالاه ، قال لى شيخنا عبدالرحمن بن خلدون : أهل مصر كأنما فرغوا من الحساب ) ، وابن خلدون بحاسته النافذة يشير إلى الأساس الدينى الذى جعل المصريين ينهمكون فى المعاصى أكثر من غيرهم من بلاد المغرب . وهو اطمئنانهم على مستقبلهم فى الآخرة وأمنهم من الحساب والسبب واضح هو أن التصوف أرسى فى عقيدتهم أن الأولياء يشفعون فى العصاة ــ والنبى أيضا ، إذن لا عليهم مهما بلغ انحلالهم الخلقى.  ويقول المقريزى: (  ولقد كنا نسمع أن من الناس من يقوم خلف الشاب أو المرأة عند التمشى بعد العشاء بين القصرين ويجامع حتى يقضى وطره ، وهما ماشيان من غير أن يدركهما أحد، لشدة الزحام واشتغال كل أحد بلهوه ) "[2]. .. والمقريزى فى تلك اللوحة التاريخية الرائعة النادرة يرسم صورة للشارع المصرى فى عصره مليئة ، بالحركة والازدحام والانحلال والصخب حتى تتم ممارسة الزنا والشذوذ فى الشارع وسط الزحام دون خوف أو خجل . والمقريزى يشير الى عدم الاعتراض وإشتغال كل واحد بلهوه ومجونه .

         3 ــ وبازدياد سيطرة التصوف زاد الانحلال وعمَ . وبعد قرنين من الزمان يقول الشعرانى يصف عصره ( ونحن فى زمان وعد الشارع فيه بظهور المعاصى والفتن وكثرة الزنا واللواط والقتل وشرب الخمر وغير ذلك )[3]. ويأبى الشعرانى أن يتخلى عن عقيدته الصوفية وهى أساس البلاء ــ حين يتحدث متحسرا عن شيوع مفردات العصيان من الزنا واللواط والقتل والخمر ( ونحن فى زمان وعد الشارع فيه بظهور المعاصى) أى يعبر عن عقيدة وحدة الفاعل الصوفية التى تجعل المعاصى قضاء إلاهيا لامفرمنه ، ولا مسئولية على البشر من ارتكابه . وفى موضع آخر ينصح الشعرانى الحكام المعزولين بالتوبة ثم يقول ( وكثيرا ماتزول النعمة عن بعضهم بالذنوب التى كان يستهان بها لكثرة وقوعها كشرب الخمر والزنا واللواط والتعاون عند الحكام وإخراج الصلوات عن أوقاتها)[4].ومعناه أن الناس تعودوا العصيان حين أكثروا الوقوع فيه واعتادوه .

4 ــ  إذن اتفقت الصورة عن الشارع المصرى المملوكى حين نقلها شاعر ومؤرخ وشيخ صوفى ، كل منهم عاش فى وقت مختلف فى العصرالمملوكى.

أهل الكتاب فى الميدان :

1 ـ وبشيوع الانحلال فإنّ   أهل الكتاب لم يتخلفوا عن الركب وعن التسابق إلى اللهو ، خصوصا فى الأعياد القبطية كعيد الشهيد والنيروز وشم النسيم ، إذ عرف العصر المملوكى إذابة الفوارق بين جميع الطوائف الدينية والاجتماعية فى ممارسة الانحلال.

 2 ــ  على أن بعضهم لم يكتف بممارسةالانحلال داخل طائفته ، وإنما انفتح على المسلمين يمارس الزنا واللواط بنساء المسلمين وأولادهم ، وبعضهم ضبط فى حالة تلبس فكان مصيره القتل ، وحين قتل استحق الخلود فى سطور الحوليات التاريخية ، ففى حوادث سنة 734( وجد بالقاهرة يهودى مع امرأة من بنات الترك ــ أى المماليك ــ فرجم اليهودى إلى أن مات وصودر ماله ، وحبست المرأة)[5]. وفى حوادث سنة 820 يقول المقريزى( أُمسك بالقاهرة نصرانى قد زنا بمسلمة، فرجم خارج باب الشعرية ، وأحرق العامة النصرانى ودفنت المرأة)[6]. ويقول ابن حجر فى نفس الحادثة ( زنا نصرانى بمسلمة فرجم وأحرق النصرانى ، ودفنت المرأة)[7]. وفى حوادث سنة836 يقول ابن حجر ( ضربت رقبة نصرانى كان قد أسلم خوفا من الوالى لأنه ظفر به مع امرأة مسلمة ، ثم ارتد فقتل ، وأحرقت جثته)[8]. ويقول الصيرفى فى نفس الحادث ( نصرانى وجده رجل مع زوجته فاحتمى عن القتل بإظهار الإسلام بلسانه، وبعد مدة ارتد ، فحكم بقتله)[9].. وواضح أن العقاب للكتابى كان أسرع وأشد ، أما المرأة فكان يخلى سبيلها أحيانا.

3 ــ ويختلف الحال حين يكون الكتابى صاحب نفوذ وليس من العامة ، كما فعله أقارب النشو الوزير النصرانى القوى فى عصر الناصر محمد .

وفى عهد الأشرف برسباى شكا أهل دمياط من ابن الملاح لأنه ( يتجاهر باللواط ، ويستخدم من كان جميل الصورة من أهل البلد) ويبالغ فى إظهار الفاحشة ( حتى أنه ربما قام بحضرة الناس فخلا به الشاب منهم بحيث لايواريه إلا جدار المخدع أو شبهه ، ثم يخرجان على الهيئة الدالة على المراد ، وكثر ذلك منه ، وأنف جماعة من الناس ومنعوا أولادهم من الخدمة عنده ، وهو يفسدهم بكثرة العطية ومعاقرة الخمر والغناء ، مع ماهو فيه من الجاه العريض ، حتى كان والى البلد يقف فى خدمته .. فقعد له مجلس بحضرة السلطان فأنكر ، فقامت عليه البينة ، فبادر وأسلم ونجا من العقوبة ).[10]

        وكان بمقدور الكتابى أن يمارس الرذيلة دون عقاب مع المحترفات ، وأغلبهن مسلمات ، وكانت الدولة المملوكية تأخذ عليهن الضرائب وذلك مايعرف ب( ضمان المغانى).



[1]
ـ ديوان البهاء زهير : 47.

[2]ـ خطط المقريزى ج2/55، ج1/90، ج2/338.

[3]ـ الشعرانى. لطائف المنن 271، 287 ط قديمة.

[4]ـالشعرانى لطائف المنن271، 287ط قديمة

[5]ـ تاريخ الجزرى. مخطوط ج2/292.

[6]ـ السلوك ج4/1/415.

[7]ـ إنباء الغمر ج3/141

[8]ـ نفس المرجع ج3/836.

[9]ـ نزهة النفوس . مخطوط 146ب

[10]ـإنباء الغمرج3/399، 400.

اجمالي القراءات 7741