مشكلة الهيكل الهرمي

كمال غبريال في السبت ١٤ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

الرؤية المشوهة القاصرة لطبيعة علاقات ومسئوليات الهيكل الهرمي للسلطة، لعنة يبدو أن عقل إنسان الشرق الأوسط يعجز عن الخلاص منها. تصور أن كل ما يحدث عند القاعدة، هو نتيجة تخطيط وتدبير وأوامر تأتي من رأس الهرم، سواء كان هذا الرأس هو القائد السياسي للدولة، أو دولة عظمى مهيمنة على العالم. هذا العماء عن العلاقات العرضية في سائر المستويات، والتي تتم بين عناصر المستوى الواحد، والتي توسعت في هذه المرحلة الحضارية من تاريخ الإنسانية، خصماً من حساب النظام الهرمي في العلاقات. والجهل بأن النظام الهرمي يأتي فيه المستوى الأعلى في الأغلب الأعم، كمجرد نتاج وإفراز للمستوى الأدني، سواء جاء هذا الإفراز بطريقة مباشرة ديموقراطية، أو جاء بطريقة غير مباشرة، ليبدو من حيث المظهر تعسفياً. وأن حدود ونوعية تأثير المستوى الأعلى، محكومة باستعداد وقابلية المستويات الأدنى لهذا التأثير.
ثقافة الإنكار التي تسود عقليات إنسان الشرق الأوسط، ترفض الاعتراف بأن ما يحدث الآن في عموم المنطقة من فوضى، وعصابات ذبح تزلزل أركان الدول، هي أوضح مظهر من مظاهر تراجع الشكل الهرمي التقليدي، القابض على زمام السلطة، لصالح فاعليات عناصر القواعد الجماهيرية. هذا الإنكار هو الذي يعطي زاداً للتشبث بنظرية المؤامرة، التي ترى أن ما يحدث لابد وأن يكون بإرادة رأس مدبر، تتعدد تسمياته وتوصيفاته.
الحقيقة أن التغيرات في طبيعة هرم السلطة، على مدى مسيرة البشر الحضارية، ترتبت على التغير في حجم الهرم، من حيث اتساع قاعدته وارتفاعه. كان النظام الهرمي بسيطاً ومباشراً، في مستويات الحضارة الأدنى مما نحن فيه الآن، قبل تعدد وتعقد العلاقات بين بشر، بالكتل البشرية الضخمة التي تضمها مجتمعات "حضارة الصناعة" وما تلاها، والذي يعني اتساع هائل لقاعدة الهرم، ما أدى إلى تعاظم الدور الذي تلعبه العلاقات العرضية في كافة المستويات. فمع بساطة العلاقات وضآلة حجم المجتمعات أو الوحدات الفاعلة، أي ضيق القاعدة، يسهل على قمة الهرم التحكم في قاعدته، كما يسهل على أفراد متميزين تسلق الهرم حتى القمة، بحدود مسئولية ضيقة على القاعدة، عن وصول هذا أو ذاك إلى قمة السلطة. أما في حالتنا الحضارية الراهنة، مع تعقد العلاقات وتضخم حجم الوحدات أو المجتمعات، فإن سلطة رأس الهرم على "جميع ما يجري بالقاعدة"، تكون أكثر محدودية. كما أن وصوله لموقعه لابد وأن تتحمل مسئوليته القاعدة، بما أنها تتحمل أيضاً المسئولية عن طبيعة النظام القائم، والذي أدى لوصول من يصل إلى رأس الهرم. فالقاعدة المتسعة بأعدادها التي تكون عشرات الملايين، هي التي تحدد إلى حد بعيد، نوعية العلاقات التي تناسب قيادتها، والتي سيسعى من على قمة الهرم لاكتشافها وتبنيها، وإلا سيأتي سقوطه أسرع من صعوده.
أما فيما يخص ارتفاع الهرم، فإنه في المجتمعات البسيطة الحضارة صغيرة الحجم، يكون ارتفاع الهرم صغيراً، من حيث عدد المستويات التي تفصل بين رأس الهرم والقاعدة. فشيخ القبيلة أو عمدة القرية مثلاً، لا يكاد يفصله عن عموم أفراد قبيلته أو قريته، غير مجموعة بسيطة من الوجهاء. وكلما كبر حجم المجتمع، وتعددت وتعقدت أنشطته، كلما تعددت نوعيات ومستويات السلطة. ولنحاول مثلاً إحصاء عدد القيادات التي تفصل العامل البسيط في مجتمع صناعي، عن رئاسة جمهوريته. كلما تعددت تنوعت المستويات القيادية، كلما انخفض تأثير رأس الهرم على مكونات وعناصر القاعدة. لهذا يمكننا الذهاب إلى أن أحد أسباب المأزق الحضاري الراهن لشعوب الشرق الأوسط، هو أنها انتقلت بفعل التطور الحضاري والنمو السكاني، من الحياة في تجمعات صغيرة بدوية أو ريفية، يكون فيها الفرد شبه محكوم ومسيطر عليه تماماً من قبل رأس الهرم، إلى تجمعات كبيرة، زاد فيها عدد مستويات الهرم وارتفاعه، ما أدى لانخفاض قدرة رأس الهرم على السيطرة، لصالح رؤوس المستويات الأدنى، ما يعد أيضاً توسعاً في حجم القاعدة، بالنظر إليها باعتبارها تشمل كل ما هو دون رأس الهرم، بما يعني ازدياد دور عناصر القاعدة والعلاقات العرضية بينها. هكذا يمكن أن نعتبر ما يحدث الآن بالشرق الأوسط وسمي بالربيع العربي، هو إطاحة القاعدة برؤوس الهرم هنا وهناك، لتغرق القاعدة في تخلفها ورجعيتها واقتتالها المتبادل، هذا بغض النظر عن تقييمنا سلبياً أو إيجابياً لرؤوس الهرم التي تم الإطاحة بها.
أي نظام للعلاقات، سواء الهيكل الهرمي أم غيره، يتكون من ثلاثة عناصر، أولها شكل أو هيكلية النظام نفسه، ثم العناصر البشرية التي يجمعها النظام، وأخيراً الفلسفة أو الفكر الذي يحكم العمل من خلال النظام. والحقيقة أن هذه العناصر الثلاثة مرتبطة ببعضها البعض، وتستدعي بعضها البعض. فحدود الحرية في انتقاء واحد من هذه العناصر، مرتبط إلى حد ما (وليس كلياً) بطبيعة العنصرين الآخرين. هذا الترابط بين العناصر الثلاثة، هو الذي يؤدي إلى صعوبة وتعقد عملية التغيير. ما قد يتصوره البعض خلال الثوارت، أنه يكفي للتغيير استبدال الأشخاص الموجودين على قمة هرم السلطة، أو بالأكثر امتداد التغيير إلى كيفية نظام الحكم، أو أيضاً فلسفته، دون النظر إلى الدور الذي تلعبه سائر مستويات ونوعيات السلطة، وصولاً إلى القاعدة. فكلما نزلنا بنظرنا إلى أسفل في قمة هرم السلطة والإدارة، كلما صعب علينا تغيير الفكر أو فلسفة العلاقات، واستحال بالطبع تغيير شخوص العنصر البشري، لأننا في هذه الحالة قد نحتاج لمغادرة الشعب محل النظر، إلى شعب آخر، تتناسب أفكاره وطبيعته، مع ما اخترنا تعسفياً من نظم علاقات وفلسفاتها!!
هكذا كان تجاهل دور العلاقات العرضية بين عناصر ومكونات الواقع، والفهم المشوه لطبيعة العلاقات الهرمية، وراء شيوع نظرية المؤامرة، التي تفسر كل هذا الفساد والفشل والاقتتال المتبادل في عموم الشرق الأوسط، بأنه لابد وأن يكون من تخطيط رؤوس مدبرة، تسكن قمة العالم، كما كان آلهة اليونان يسكنون جبل الأولمب. فكان تصور "الصهيونية"، التي لا تتلاعب بشعوب الشرق الأوسط كله فقط، بل أيضاً تسيطر على العالم أجمع، وتحرك قادته وشعوبه، كما تتحرك البيادق على رقعة شطرنج. مع "الصهيونية" أيضاً اشتهرت "الماسونية" كمتهم بالهيمنة، يرافقها "الاستعمار" و"الشيطان الأكبر"، الذي هو الدولة صاحبة الدور الأعظم في حضارتنا المعاصرة.
من ذات المنطلق أيضاً، جاء التركيز على المستوى المحلي، على مسئولية الملك أو الرئيس، ليس فقط عن حدود سلطاته، والتي تحدد بالتبعية دائرة مسئولياته، وإنما عن كل ما يحدث في القاعدة من فشل وفساد سلوك وأفكار. ليكون القاطنون عند القاعدة هنا، مجرد شخوص خشبية بلا حول ولا قوة، تنتظر تحريكها من قوى علوية أو حتى متسامية.
لا يعني ما سبق بالتأكيد، نفي نوعية العلاقات الهرمية تماماً من الواقع المعاصر، ولا نفي دور المستويات الأعلى، في التأثير على تلك الأدنى. فمازالت العلاقات الهرمية موجودة، وإن كان دورها يتضاءل طردياً، مع تقدم المجتمعات والشعوب حضارياً، لحساب تنامي العلاقات العرضية. فالدور المحوري الآن للعلاقات العرضية، الذي تقوم به المنظمات العالمية كاليونسكو والفاو والجات وغيرها، أو علاقات وضغوط الشركات عابرة القومية (متعددة الجنسية)، صار أقوى من أن ينكره أحد. بل ونجد الأخيرة الآن صارت على رأس قائمة الاتهام، لدى أصحاب نظرية المؤامرة. وهذا دليل يأتينا من الهائمين في ضباب " نظرية المؤامرة"، على فاعلية العلاقات العرضية، وتأثيرها العكسي صعوداً إلى قمة الهرم، وليس فقط تلقياً لتخطيطات وأوامر الساكنين في القمة.
قد "تفسد السمكة من رأسها" بالفعل، كما يحلو لنا أن نردد، لكنها أيضاً قد "تفسد بداية من جسدها أو ذيلها". فالتغيير في القاعدة هو الأساس، وإذا ما حدث، فإن انتقاله إلى أعلى، يكون دوماً مسألة وقت، ويحتاج إلى جهد يختلف حجمه ونوعيته باختلاف الحالات. كما أن أي تغيير على قمة السلطة، أو في طبيعة وفلسفة نظامها، لا يمكن أن يأتي بالنتائج المتوقعة منه، ما لم يكن صدى لتغييرات مماثلة عند القاعدة.
kghobrial@yahoo.com
  
  المصدر ايلاف  

اجمالي القراءات 6523